الأحياء البحرية في القطبين
توجد الأنظمة البيولوجية البحرية المعروفة بازدهارها في البيئات القاسية بالمنطقتَين القطبيتَين الشمالية والجنوبية من كوكب الأرض. تتميز كلتا هاتين المنطقتين بدرجات الحرارة الدائمةِ البرودة، والمحيطات المغطَّاة بالجليد، والتقلُّبات الموسمية العنيفة في مستويات الضوء. غير أنه من نواحٍ أخرى كثيرة، تختلف كِلتا المنطقتين اختلافًا كبيرًا فيما بينهما، وقد تطورَت فيهما أنظمةٌ بيئية بحرية تتمتع بالاختلاف المذهل والتفرُّد.
الحياة البحرية في المحيط المتجمِّد الشمالي
المحيط المتجمِّد الشمالي هو كتلةٌ صغيرة نسبيًّا (نحو ١٥٫٦ مليون كيلومتر مربع)، ومنعزلة من مياه البحر، وذات مساحات شاسعة من الرفوف القارية الضحلة. وهو محاطٌ على مساحة كبيرة بكتلٍ أرضية ذات منفذَين فقط، وهما مضيق بيرينج الضيق للغاية الذي يصل إلى المحيط الهادي والذي يبلغ عمقه ٧٠ مترًا فقط، ومضيق فرام الأوسع بعمق ٤٠٠ متر الذي يصل إلى المحيط الأطلنطي. تصبُّ عدةُ أنهار كبيرة في سيبيريا وكندا في المحيط المتجمِّد الشمالي، مكوِّنةً طبقةً رقيقة من مياه البحر المنخفضة الملوحة بعمقٍ يتراوح من نحو ٢٠ إلى ٥٠ مترًا، تطفو فوق مياه البحر الأكثر ملوحة وكثافة أسفلها. وللمساحات الشاسعة للمحيط المتجمد الشمالي قاعٌ رسوبي ناعم، نتَج عن تصريف كميات كبيرة من الرواسب من هذه الأنظمة النهرية.
يكون سطح المحيط المتجمِّد الشمالي عند نقطة تجمُّد مياه البحر (−١٫٩ درجة مئوية) أو بالقرب منها، معظمَ أيام السنة. ومن ثَم فإن جزءًا كبيرًا من المحيط مغطًّى دائمًا بغطاءٍ عائم من الجليد البحري يتوسَّع ويتراجع مع التغيُّر في فصول السنة. فيكون الغطاء في أقصى درجات توسُّعه في شهر أبريل في نهاية فصل الشتاء القطبي الشمالي ويشهد أقلَّ توسعٍ له في سبتمبر في نهاية الصيف القطبي الشمالي. ويحدث الذوبان الصيفي في الغالب فوق الرفوف القارِّية الشاسعة للمحيط المتجمد الشمالي، بينما تظل معظم الأجزاء الباقية للمحيط مغطاةً بالجليد طَوال العام. فقد قاوم هذا الجليدُ البحري الذي تكوَّن على مدار عدة سنوات الذوبانَ الكامل للعديد من الأعوام، ويبلغ سُمكه من ثلاثة إلى أربعة أمتار. أما الأجزاء الباقية فهي من جليدٍ أرقَّ بعمر العام؛ إذ يبلغ سُمكه من قرابة متر إلى مترين.
قد يتوقَّع المرء أن تكون هذه المساحة الهائلة من مياه البحر المتجمدة خاليةً من الحياة. غير أنها تضمُّ في الواقع مجتمعًا وفيرًا ومتنوعًا من الحياة البحرية، تنفرد بها البحارُ القطبية وحدها، والتي تلعب دورًا أساسيًّا في الحفاظ على الشبكة الغذائية القطبية. يتميَّز الجليد البحري بكونه صالحًا للعيش لأنه عالي المسامية بدرجةٍ كبيرة، على عكس جليد المياه العذبة الصُّلب. وعندما يتشكل الجليد البحري، تمتلئ المسافات الصغيرة بين بلورات الجليد بمحلولٍ عالي الملوحة مقاومٍ للتجمُّد. ومن خلال هذه العملية تتكوَّن داخل الجليد البحري شبكةٌ ثلاثية الأبعاد من قنوات ومساحات المياه المالحة التي تتراوح أحجامها من أحجامٍ مجهرية إلى بضعة سنتيمترات. وتتصل هذه القنوات فيزيائيًّا بمياه البحر تحت الجليد.
يوجد مجتمع ميكروبي متطوِّر في الجليد البحري يشبه في آلية عمله الحلقةَ الميكروبية لمنطقة البحر المفتوح في المحيط (انظر الفصل الثاني). فالبكتيريا الذاتية التغذية، إلى جانب البكتيريا الغيريَّة التغذية التي تتغذى على المواد العضوية الذائبة، تأكلها الطلائعياتُ السوطية الوفيرة، التي تصبح بعد ذلك غذاءً للطلائعيات المُهدَّبة الأكبرِ حجمًا.
خلال فصل الصيف عندما تبدأ حافة الجليد البحري في الذوبان، فإن الكائنات التي تقوم بالبناء الضوئي والتي تعيش في الجليد تُطلَق جزئيًّا في مياه البحر، وتُشكِّل نَواةً لإزهار العوالق النباتية تحت الجليد. مع تقدُّم الصيف وانهيار حافة الجليد وتراجعها، يُكوِّن هذا الإزهار منطقةً بعرضٍ يتراوح من ٢٠ إلى ٨٠ كيلومترًا من الإنتاجية الفائقة عند حافة الجليد. وتزدهر أعداد حيوان الفظ، والفقمات، وحَريش البحر، والحوت الأبيض، والحيتان المقوَّسة الرأس في هذه الحدود المحيطية مع الطيور البحرية والدِّببة القطبية. يتبع هذا المجتمع حافةَ الجليد لمئات الكيلومترات أثناء تراجعه شمالًا خلال صيف القطب الشمالي.
تغوص المواد العضوية غير المستهلَكة الناشئة عن هذا الإزهار المكثَّف في القطب الشمالي في قاع المحيط، وتدعم مجتمع قاع القطب. تعيش الكائنات القاعية، مثل مزدوجات الأرجل، والديدان، والحلزونات الصدَفية، ونجوم البحر الهشة على رواسب القاع اللينة أو بداخلها في المحيط المتجمد الشمالي، وهي شائعةٌ بصفة خاصة في الرفوف القارية؛ حيث تتغذَّى على الأسماك التي تتغذى من القاع، أو بالقرب منه، مثل الإيلبوت والإسقلبينينات، وكذلك تتغذى عليها الحيتان الرمادية وحيوانات الفظ التي تبحث عن طعامها في قاع البحر.
نتيجةً لتغيُّر المناخ الذي يتسبب فيه الإنسان؛ تتعرَّض المنطقة القطبية الشمالية للاحترار، وذلك بمعدَّلٍ أسرعَ مما يحدث في بقية الكوكب. ولهذا تأثيرٌ كبير على الغطاء الجليدي في المحيط المتجمِّد الشمالي. فأحد المنعطفات العنيفة هو التناقص التدريجي في السُّمك الإجمالي للجليد البحري حيث انخفض من متوسط ٣٫٦٤ أمتار في عام ١٩٨٠ إلى ١٫٨٩ متر في عام ٢٠٠٨. قبل أواخر سبعينيَّات القرن العشرين، امتد الجليد البحري في القطب الشمالي إجمالًا إلى ما يقرُب من ١٥٫٦ مليون كيلومتر مربَّع في أواخر الشتاء. غير أن أقصى امتدادٍ للجليد البحري في فصل الشتاء شهده المحيط المتجمد الشمالي؛ قد انخفض بمتوسط ثلاثةٍ في المائة في العَقد الواحد منذ عام ١٩٧٩، كما انخفض بمعدَّلٍ أسرعَ بكثير في السنوات الأخيرة؛ إذ نقَص الآن إلى نحو ١٤٫٤ مليون كيلومتر مربع. كما يشهد أدنى امتداد للغطاء الجليدي الصيفي معدَّلاتٍ أسرعَ في الانخفاض. ففي العادة يمتدُّ الجليد البحري في القطب الشمالي ليصل إلى أكثرَ من سبعة ملايين كيلومتر مربع في نهاية الصيف. ولكن على مدار العَقد الماضي، لم يتجاوز أدنى امتدادٍ للجليد البحري المعدَّل من ٣٫٥ إلى خمسة ملايين كيلومتر مربع. بهذا المعدَّل، سيُصبح المحيط المتجمد الشمالي خاليًا تقريبًا أو تمامًا من الجليد لعدة أشهر في السنة قبل عام ٢٠٤٠، وربما خلال العَقد القادم.
من الواضح أن المحيط المتجمد الشمالي كما عرَفناه على وشْك أن يختفيَ مع الآثار الجسيمة التي تلحق بالحياة البحرية فيه. على سبيل المثال، سيزداد إجماليُّ الإنتاج الأوَّلي بشكل كبير؛ لأن تقلُّص حجم الغطاء الثلجي والجليد يعني زيادةً في عمق الطبقة المضاءة، كما سيختفي جزءٌ كبير من المجتمع الميكروبي في الجليد البحري في فصل الصيف. من شأن هذه التغييرات وحدها أن تؤثِّر جذريًّا على الشبكة الغذائية في القطب الشمالي. علاوةً على ذلك، ستُصبح الفقمات والدببة القطبية بوجهٍ خاص، التي ترتبط حياتها ارتباطًا وثيقًا بالجليد البحري، أكثرَ تضررًا حيث سيتقلص حجمُ موائل غذائها وتكاثرها بشكل كبير.
كما تغيب حاليًّا مصايد الأسماك التجارية عن المحيط المتجمد الشمالي بسبب صعوبة تشغيل سفن الصيد في البحار التي يُغطيها الجليد. إلا أن المحيط المتجمد الشمالي سيصبح أكثرَ جاذبيةً لأساطيل الصيد التجاري مع الزيادة في تقلص الغطاء الجليدي، ولا سيما أن ارتفاع درجة حرارة المحيط يؤدي إلى حركة بعض أصناف المخزون السمكي المهمة، مثل سمك القد والهلبوت، شمالًا إلى مياه القطب الشمالي. إلا أنه من المُبشِّر أن دول الاتحاد الأوروبي إضافةً إلى تسع دولٍ أخرى قد وافقَت مؤخرًا على وقف الصيد في الكثير من مناطق القطب الشمالي حتى عام ٢٠٣٤ على أقلِّ تقدير. سيُتيح ذلك الوقتَ لفهمٍ أفضل من جانب علماء الأحياء البحرية للتغيُّر في النظام البيئي البحري بالقطب الشمالي، ويؤمل أن يُسهم في تقديم توجيهات بشأن الإدارة المستدامة لمستقبل المنطقة. ستكون أفضلُ نتيجةٍ لذلك هي التوصل إلى اتفاقٍ آخرَ لإعلان المحيط المتجمد الشمالي محميَّةً بحرية دائمة.
الحياة البحرية في المحيط المتجمد الجنوبي
يمكن النظر إلى النظام البحري في المحيط المتجمد الجنوبي باعتباره المقابلَ الجغرافي للنظام البحري في المحيط المتجمد الشمالي. وذلك لأنه على عكس المساحة الشاسعة المحاطة باليابسة في القطب الشمالي، فإن المحيط المتجمِّد الجنوبي يحيط بالكتلة اليابسة للقارَّة القطبية الجنوبية، ويتصل مباشرةً بكلٍّ من المحيط الأطلنطي، والهندي، والهادي. وفي حين أن للأنهار وما تجلبه من موادَّ بالغَ الأثر على المحيط المتجمد الشمالي؛ تخلو القارة القطبية الجنوبية من الأنهار؛ ولذلك تشيع أرضية المحيط ذات القاع الصُّلب في المحيط المتجمد الجنوبي، ولا توجد فيه طبقةٌ سطحية منخفضة الملوحة كما في المحيط المتجمد الشمالي. إضافةً إلى ذلك، فعلى عكس المحيط المتجمد الشمالي ذي الرفوف القارية الشاسعة والضحلة؛ تتميز الرفوف القارية في القارة القطبية الجنوبية بالضيق والانحدار الشديدَين.
عادةً ما يُعد الحدُّ الشمالي التقريبي للمحيط الجنوبي هو خطَّ عرض ٦٠ درجة جنوبًا. ولأن حافة القارة القطبية الجنوبية تقع تقريبًا عند ٧٠ درجة جنوبًا، فإن المحيط الجنوبي عبارةٌ عن حلقةٍ من محيطٍ يمتدُّ على نحو ١٠ درجات من خط العرض، نحو ١١٠٠ كيلومتر.
يغطي القارةَ القطبية الجنوبية صفحةٌ جليدية سميكة تمتد خارجيًّا باتجاه السواحل، ثم إلى المحيط لتُشكِّل كتلةً عائمة شاسعة بسُمك ١٠٠ متر من الجليد الدائم تُسمى الرفَّ الجليدي. وباتجاه البحر من الرف الجليدي يتجمَّد المحيط بشكلٍ موسمي.
يشهد المحيط الجنوبي تقلباتٍ موسميةً هائلة. ففي بداية فصل الشتاء في نصف الكرة الجنوبي، يبدأ البحر في التجمُّد، وتتحرك الجبهةُ المتجمِّدة للخارج بسرعةٍ بمعدَّلات من عشرات إلى مئات الكيلومترات كلَّ يوم. بنهاية الشتاء في نصف الكرة الجنوبي، يصبح ما يصل إلى ١٨ مليون كيلومتر مربع من المحيط مغطًّى بالجليد البحري. على عكس المحيط المتجمد الشمالي؛ فإن هذا الجليد البحري سيذوب كله تقريبًا خلال الصيف، ولن يتبقى منه سوى مساحةِ ثلاثة ملايين كيلومتر مربع. ولأن معظم الجليد البحري في المحيط الجنوبي لا يتعدى عمره العامَ الواحد؛ فهو أرقُّ نسبيًّا مما هو عليه في المحيط المتجمد الشمالي؛ إذ يبلغ سُمكه عادةً من مترٍ إلى مترين.
تتميَّز مياه القطب الجنوبي بثرائها الفائق في المغذيات، حيث يخصِّبها التيار الصاعد الدائم لمياه البحر القادم من الطرف الآخر للكوكب. فكما أوضحنا في الفصل الأول، تغوص مياه البحر الباردة الكثيفة المتكوِّنة في شمال المحيط الأطلنطي — المياه العميقة لشمال الأطلنطي — وتتدفق ببطءٍ نحو الجنوب بالقرب من قاع حوض الأطلنطي؛ لتظهر بعد مئات السنين قبالةَ ساحل القارة القطبية الجنوبية. هذا التدفُّق المستمر لمياه البحر الباردة والغنية بالمغذيات، إضافةً إلى يوم الصيف الطويل في القارة القطبية الجنوبية، يُهيئ ظروفًا مثالية لنمو العوالق النباتية، التي تقود إنتاجية المحيط الجنوبي.
كما هي الحال في القطب الشمالي، يوجد مجتمعٌ ميكروبي شديد التطور في الجليد البحري. تتميز الكائنات التي تقوم بالبناء الضوئي هنا بأنها أكثرُ وفرةً وإنتاجية عنها في المحيط المتجمد الشمالي؛ لأن الجليد البحري أرق، وهكذا فإن ثمة المزيدَ من الضوء اللازم لعملية البناء الضوئي. فطحالب الدياتوم يمكن أن تشهد وفرةً خاصة، وعندما يتفكَّك الجليد البحري وينحسر في الربيع، يُطلق في المياه المفتوحة عند حافة الجليد ويُشكِّل نواةً لإزهارٍ ضخم في طحالب الدياتوم.
في ربيع القطب الجنوبي، يزحف الكريل تحت الجليد البحري ويتغذَّى على العشب الوافر للكائنات الدقيقة التي تقوم بعملية البناء الضوئي. وعندما يتكسَّر الجليد البحري، يترك الكريل الجليد ويبدأ في التغذية المباشرة على كتلة الإزهار الضخمة لطحالب الدياتوم الطليقة، وذلك باستخدام زوائد التغذية بالترشيح. ومع توفُّر الكثير من الطعام، ينمو ويتكاثر سريعًا، ويبدأ في التجمُّع بأعداد كبيرة، غالبًا بكثافةٍ تزيد على ١٠ آلاف فرد في كل متر مكعب، وهي كثافة كافية لإكساب مياه البحر باللون البُني المحمر.
يوجد الحوت الأزرق، والحوت الحقيقي، والحوت الزعنفي بكثرةٍ في المحيط الجنوبي خلال فصل الصيف. لهذه الحيتان صفائحُ بالينية شبيهة بالمنخل في أفواهها تستخدمها لالتقاط كميات كبيرة من الكريل. فهي ترتشف كميات كبيرةً من مياه البحر المليئة بالكريل، ثم تستخدم ألسنتها لدفع مياه البحر للخروج عبر مناخل البالين، التي تحتفظ بحيوانات الكريل.
جميع أنواع الحيتان في المحيط الجنوبي هي من الحيتان المهاجرة، وتتغذى في المحيط الجنوبي خلال فصل الصيف في نصف الكرة الجنوبي، ثم تسبح مسافاتٍ طويلة إلى المياه الشمالية الدافئة لتتكاثر خلال أشهر الشتاء. وفي ربيع نصف الكرة الجنوبي، ترجع إلى الجنوب متتبعةً حافة الجليد المتراجعة.
تعتمد كذلك الفقمات الآكلةُ السرطان، على الرغم من اسمها، على الكريل كمصدرٍ للغذاء. وتتمتَّع هذه الفقمات، التي تعيش على قطع الجليد الطافية، بأسنانٍ خاصة تكيَّفَت لجذب الكريل مباشرةً من المحيط. ومثلها في ذلك مثلُ الحيتان البالينية إلى حدٍّ بعيد، ترتشف ملء أفواهها جرعةً من ماء البحر وتلفظه عبر أسنانها التي تحتفظ بحيوانات الكريل. ليس من المستغرب أنه بفضل الحجم الهائل لمخزونها الغذائي، فإن الفقمات الآكلةَ السرطان تتمتَّع بوفرةٍ كبيرة على الرغم من أن التقديرات الدقيقة لأعدادها لا تزال صعبةَ المنال. يُعتقد حاليًّا أن هناك سبعةَ ملايين حيوانٍ منها على أقل تقدير، وهو ما يجعلها أكثرَ أنواع الفقمات وفرةً على الكوكب.
تعتمد البطاريق في القطب الجنوبي أيضًا في غذائها على الكريل. وأكثر أنواع البطاريق وفرةً في القارة القطبية الجنوبية هو بطريق آديلي. فهناك نحو مليونَين ونصف المليون زوجٍ من أفراده القادرة على التكاثر، والتي تتغذى على الكريل والأسماك الصغيرة. وبإمكانها الغوص إلى أعماقٍ تصل إلى مئات الأمتار بحثًا عن الطعام. تعتمد البطاريق الصغيرة بصورةٍ خاصة على الكريل، وإذا قلَّت أعداد الكريل في أي سنة بعينها، يرتفع معدَّلُ وفَيَات الصغار.
تنتشر المفترسات البحرية الضخمة في المحيط الجنوبي. فالفقمات النمرية هي آكلات لحوم شرهةٌ مزوَّدة جيدًا بالقدرة على التغذية على الفرائس الكبيرة؛ مثل البطاريق، والفقمات آكلة السرطان، وفقمات الفراء. غير أنه يمكنها أيضًا أن تتغذى على الكريل المنتشر في القطب الجنوبي، كما أن بعض أسنانها معدَّلة للعمل مِصفاةً للكريل، مثلها في ذلك مثلُ الفقمات الآكلة السرطان. الحيتان القاتلة، أو الأُوركا، هي نوعٌ شائع آخرُ من مفترسات القطب الجنوبي، وتتغذى على الأسماك، والبطاريق، والفقمات، والحيتان الأخرى، ولكن حتى حيتان الأُوركا تتغذى على الكريل.
ينتشر كذلك العديد من أنواع الحبَّار المختلفة في المحيط الجنوبي، وتُعد مصدرًا غذائيًّا مهمًّا للغاية للحيوانات البحرية الكبيرة، بما في ذلك الحيتان المسننة، مثل حيتان العنبر، والطيور البحرية. يعيش أحد أكبر اللافقاريات على هذا الكوكب، وهو الحبار الضخم، في المياه العميقة للمحيط الجنوبي. وحتى وقتٍ قريب لم تكن تُرى عينةٌ كاملة من هذا الحيوان؛ فلم يكن يُعرَف سوى من خلال فُتاته الذي كان يُعثر عليه في مَعِدات حيتان العنبر التي كانت تصطادها سفنُ صيد الحيتان. ولكن في عام ٢٠٠٧، جُلب أحد الحبارات الضخمة إلى السطح من عمق نحو ٢٠٠٠ متر في شبكة صيد لإحدى سفن الصيد في أعماق المحيطات آتية من نيوزيلندا. كان طوله ١٠ أمتار ووزنه يقارب ٥٠٠ كيلوجرام. تُظهِر تحليلات المَعِدة أن الحبار الضخم هو الفريسة الرئيسية لحيتان العنبر في المحيط الجنوبي. وقد وُجِد في العديد من حيتان العنبر ندوبٌ على أجسامها، يبدو أنها قد تسبَّبَت فيها الخطافاتُ الحادة الموجودة في أطراف لوامس التغذية الطويلة لدى الحبار الضخم، وهو ما يُمثل دليلًا على الصراعِ القويِّ بين المفترس والفريسة في الأعماق السحيقة الباردة للمحيط الجنوبي.
ومن الأنواع الشائعة الأخرى في القارة القطبية الجنوبية مجموعة غير مألوفةٍ من السمك، وهو السمك الجليدي. هذا النوع من الأسماك، الذي يعيش باستمرارٍ في مياه البحر التي على وشْك التجمُّد، لديه كمية قليلة جدًّا من الصبغة الحمراء الناقلة للأكسجين، الهيموجلوبين، في مجرى الدم، حيث ينتقل الأكسجين في أجسامه في محلولٍ عبر بلازما الدم. ويمكن لهذا النوع من الأسماك الحصولُ على ما يكفي من الأكسجين بهذه الطريقة؛ بفضل البرودة الشديدة للسوائل في أجسامه، حيث تزداد كمية الأكسجين في المحلول مع انخفاض درجة الحرارة. كما يتمتع بقدراتٍ أخرى على التكيف تمنع أجسامه من التجمُّد. على سبيل المثال، تحتوي السوائلُ في أجسامه على بروتينات وسكريات معقَّدة توفر نوعًا من الحماية ضد التجمد عن طريق خفض الدرجة التي يتجمد عندها الجسم.
تنتشر في المحيط الجنوبي مجموعةٌ واسعة من الطيور البحرية، بما في ذلك القطرس، والمازور، وكاسر العظام، وتتغذَّى على الكريل، والحبار، والأسماك. ربما يكون قطرس جوال («ديوميديا إكسولانس») أبرزَ مثال على الطيور البحرية في المحيط الجنوبي. إنه أكبر طيور القطرس، حيث يبلغ طول امتداد جَناحَيه ثلاثة أمتار أو أكثر، ويقضي معظم حياته في الطيران، مُستقِلًّا نظامَ الرياح في المحيط الجنوبي. تنتشر طيور القطرس على مدى آلاف الكيلومترات المربعة من المحيط بحثًا عن الطعام ويمكنها أن تسافر مسافةً تصل إلى ١٠٠٠ كيلومتر في اليوم. وتعود طيور القطرس إلى اليابسة للتكاثر، غالبًا في الجزر تحت القطب الجنوبي.
على الرغم من البرد القارس، فمن شأن المجتمعات القاعية في المحيط الجنوبي التميزُ بثراءٍ استثنائي. في المياه الضحلة التي يقلُّ عمقها عن نحو ١٥ مترًا، يجرف جليد القاع أرضيةَ المحيط باستمرار. تغيب هنا الحيوانات البحرية العالقة، وتحتلُّ القاعَ خلال وقتِ خلوِّه من الجليد حيواناتٌ قادرة على الحركة؛ مثلُ نجوم البحر، وقنافذ البحر، والديدان الخرطومية الكبيرة التي تغزو المنطقة متى تمكَّنَت من ذلك؛ لتتغذى على طحالب الدياتوم التي تنمو على أرضية المحيط، وللنبش عن الحيوانات الميتة والمحتضرة.
في المياه العميقة، تنتشر الحيوانات القاعية العالقة مثل شقائق النعمان البحرية، والمرجان، والإسفنج بأعداد كبيرة. وفي بعض المناطق، تُعد كثافة حيوانات أرضية المحيط هذه من بين الأكبر في معدَّلاتها في أي بيئة بحرية على هذا الكوكب.
لطالما تعرضَت الثدييات البحرية في المحيط الجنوبي لاستغلالٍ مفرط في الماضي. فقد بدأ صيد فقمات الفراء القطبية الجنوبية في أواخر القرن الثامن عشر، وبحلول عام ١٨٣٠ تعرَّضت معظم مستعمرات فقمات الفراء للإبادة أو تقلصَت أحجامها في الأماكن التي لم يَعُد فيها مواصلةُ صيدها أمرًا مُربحًا. وقد أُعلِنت من الأنواع المحمية في عام ١٩٦٤، ويبلغ عددها الآن أكثرَ من خمسة ملايين فرد، وهو ما ربما يكون عددًا أكبرَ مما كانت عليه في بداية استغلالها.
بدأ صيد الحيتان في المحيط الجنوبي في أوائل القرن العشرين، وقد استهدف في البداية الحيتان الحدباء، ثم انتشر سريعًا بين الأنواع الأخرى، بما في ذلك الحوت الحقيقي الجنوبي، والحوت الأزرق، والحوت الزعنفي، وحوت ساي، وحوت العنبر. في السنوات التي سبقَت الحرب العالمية الثانية، كانت عشرات الآلاف من الحيتان تُصاد سنويًّا، وقد سُجِّل نفوق ٦٣١٥١٨ حوتًا في الآونة ما بين عامَي ١٩٥٦ و١٩٦٥. وقد انهارت تلك الصناعة في ستينيَّات القرن العشرين عندما أصبح من غير المُربح اصطيادُ ما تخلَّف من جماعاتها الباقية. بحلول ذلك الوقت، كانت أعداد الحوت الحقيقي الجنوبي والحوت الأحدب قد انخفضَت إلى ما يقرب من ثلاثةٍ في المائة من حجمها الأصلي، كما انخفضت أعداد الحيتان الزرقاء إلى نحوِ خمسة في المائة، والحيتان الزعنفية وحيتان ساي إلى نحو ٢٠ في المائة. دخل وقفُ الصيد التجاري للحيتان حيِّز التنفيذ في عام ١٩٨٧، ولا تُصاد الحيتان حاليًّا فيما عدا في بعض الحالات في اليابان؛ حيث يُعد صيدها ذا قيمة علمية.
لم يسلَم حتى الكريل في المحيط الجنوبي من الاستغلال البشري. فقد اصطِيد الكريل بشباكٍ تصل إلى عمق ٢٠٠ متر. وقد بدأ صيد الكريل في القطب الجنوبي في سبعينيات القرن العشرين، وبحلول أوائل الثمانينيات بلغ حصاده السنوي نصف مليون طن. ثم انخفضَت حصيلة الصيد بدايةً من أوائل التسعينيات إلى ما يقرُب من ١٠٠ ألف طن سنويًّا؛ حيث تخلَّت معظم الدول عن مصايد الأسماك بسبب ارتفاع تكلفة تشغيلها في المحيط الجنوبي. غير أن الطلب على الكريل يتزايد من جديد، ومنذ عام ٢٠١٠ أصبحَت حصيلة الصيد تتراوح بين ٢٠٠ ألف طن إلى ٣٠٠ ألف طن في السنة تقريبًا. تُعالج أعدادٌ كبيرة من الكريل بهدف تحويلها إلى وجبةٍ للأسماك، فيصبح أحد مكونات الأعلاف الصناعية المستخدَمة في المزارع السمكية. وفي الآونة الأخيرة، زاد الطلب على الكريل مصدرًا للمُكملات الغذائية الصحية، مثل زيوت أوميجا ٣.
شهدَت أعداد الكريل انخفاضًا ملحوظًا في بعض أجزاء المحيط الجنوبي منذ سبعينيَّات القرن العشرين، ربما بنسبةٍ تصل إلى ٨٠ في المائة. يبدو أن هذا قد حدث نتيجةً لارتفاع درجات حرارة الهواء في القطب الجنوبي؛ مما يتسبَّب في اتجاه حجم الجليد البحري نحو الانخفاض الشديد في بعض المناطق. يعتمد الكريل على الجليد البحري لتوفير المأوى والغذاء خلال أشهر الشتاء، وقد لوحظ أنه في السنوات التي ينخفض فيها حجم الجليد البحري يكون الكريل أقلَّ وفرةً في السنوات اللاحقة. كما يبدو أيضًا أنه عند انخفاض مخزون الكريل تزداد أعداد السالبيات. والسالبيات هي حيوانات جيلاتينية تقوم بعملية البناء الضوئي، ويمكنها العيش في مياهٍ أكثرَ دفئًا وأقلَّ إنتاجية من المياه التي يعيش فيها الكريل.
ينفي الاستغلال الطويلُ الأمد للموارد البحرية في القطب الجنوبي والآثار المتزايدة لتغير المناخ؛ المفهومَ الشائع القائل بأن المحيط الجنوبي يمتلك أحدَ آخِر الأنظمة البحرية البِكر على الكوكب. فقد أخرجَت التأثيرات البشرية بلا شك النظامَ البحري للمحيط الجنوبي عن توازنه الطبيعي على الرغم من صعوبة توثيق التغييرات الواقعة بسبب بُعد المنطقة، وغياب المرجعية التاريخية لما كان «طبيعيًّا» في المحيط الجنوبي، ونظرًا إلى التعقيد الذي تتسم به التفاعلات بين الأنواع.
من الخطوات الأولى المهمة التي اتُّخِذَت في سبيل حماية النظام البحري واستعادته في المحيط الجنوبي؛ تلك التي شهدها عام ٢٠١٧ مع تأسيس محميَّة بحر روس. يحتوي الآن بحر روس، وهو خليج عميق في المحيط الجنوبي، على أكبرِ محمية بحرية في العالم بمساحة ٢٫١ مليون كيلومتر مربع. فلا يُسمح بالصيد في مساحة ١٫١ مليون كيلومتر مربع من هذه المحميَّة. غير أنه من المؤسف أن الاتفاقية الخاصة بمنع الصيد ستنتهي خلال ٣٥ عامًا، ومن ثَم فهو ليس محميةً بحرية دائمة بعدُ. في عام ٢٠١٨، أعاقت روسيا والصين والنرويج محاولةَ أعضاء لجنة حفظ الموارد البحرية الحية في منطقة القطب الجنوبي إنشاءَ محمية بحرية أكبرَ في منطقة بحر ويديل بالمحيط الجنوبي، كما رُفض في عام ٢٠١٩ اقتراحٌ بإنشاء محمية بحرية قبالة الساحل الشرقي للقارة القطبية الجنوبية. من الواضح أنه لا يزال أمامنا طريقٌ طويل قبل أن تحظى مساحةٌ كافية من المحيط الجنوبي بالحماية ضد الاستغلال المستقبلي كما ينبغي السماح باسترداد هذه البيئة البحرية المهمة.