بيولوجيا أعماق المحيطات
البيئة الفيزيائية لأعماق المحيطات
تخلو أعماق المحيطات، فيما عدا بالقرب من حدودها العليا، من ضوء الشمس، الذي تعجز بقاياه الأخيرة أن تخترقَ عمقًا يتجاوز ٢٠٠ متر في معظم أجزاء المحيط العالمي، أو أكثر من ٨٠٠ متر أو نحو ذلك، حتى في أكثر مياه المحيطات صفاءً.
يُشكِّل الضغط الشديد سمةً مميزة أخرى لأعماق المحيطات. فمياه البحر تُعد مادةً ثقيلة، ويمكن لعمودٍ من مياه البحر يبلغ ارتفاعه ١٠ كيلومترات — وهو الارتفاع المعتاد في الأجزاء الأكثرِ عمقًا من المحيط العالمي — أن ينتج عنه ضغط قدره ١٠ آلاف طن لكل متر مربع، وهو ما يعادل وزن ٥٥ طائرة جمبو نفاثة.
باستثناء عددٍ قليل من الأماكن المعزولة للغاية، تتميز أعماق المحيطات بكونها بيئةً باردة طوال العام، حيث تبلغ درجات حرارة البحر عادةً ما يتراوح بين نحو درجتين مئويتَين إلى أربع درجات مئوية. وحيث تقع أعماق المحيطات في الغالب تحت منطقة الحد الأدنى للأكسجين؛ إذ عادةً ما توجد على أعماقٍ تتراوح من نحو ٢٠٠ إلى ١٠٠٠ متر، فإن تركيزات الأكسجين الذائب تكون عادةً أكثرَ من القدْر الذي يمكن أن تعيش فيه الكائنات الحية.
وهكذا فإن الصورة التي تطرأ على الأذهان عن أعماق المحيطات هي أنها ذلك الموئل البارد، والمظلم، والمضغوط بشكل هائل، والمحدود في مغذياته؛ أي تلك البيئة القاسية والشاقة للغاية من منظور الإنسان. إلا أن هذا الموئل الهائل يمتلك تنوعًا كبيرًا في الحياة البحرية المُهيَّئة ببراعةٍ للعيش في ظل هذه الظروف.
سُبل تكيُّف حيواناتِ أعماق المحيطات
في بيئة منطقة البحر المفتوح لأعماق المحيطات، ينبغي أن تكون لدى الحيوانات القدرةُ على الحفاظ على حياتها في العمق المناسب دون إهدار طاقتها في بيئتها الفقيرة بالغذاء. عادةً ما يتحقَّق هذا عن طريق تقليل الكثافة الإجمالية للحيوان إلى كثافة مياه البحر بحيث تكون متعادلة الطفو. لذلك، غالبًا ما تكون أنسجةُ أسماك أعماق المحيطات وعظامها لينةً ومائعة. كما تُهيمن على بيئة منطقة البحر المفتوح في أعماق المحيطات الحيوانات الجيلاتينية مثل قنديل البحر، والسَّحَّاريَّات، والمشطيات، والسالبيات التي تقترب كثافةُ أجسامها من كثافة مياه البحر.
على الرغم من عدم اختراق أي ضوء للشمس لأعماق المحيط؛ فإن هذه الأسماك تتلألأ بفضلِ نوع آخَر من الضوء البيولوجي المصدر، والمتمثل في الوهج والوميض الناتجَين عن ضيائيتها الحيوية. وتَنتُج هذه الظاهرة عن تفاعلٍ كيميائي في أعضاءٍ مُهيَّئة لهذا الغرض تُعرف بالحوامل الضوئية (الفوتوفورات) والموجودة في أجسام العديد من حيوانات أعماق المحيطات بما في ذلك الأسماك، والأخاطب، والحبار، وقنديل البحر، والديدان، والقشريات، ونجوم البحر. تُنتِج الحيوانات بشكلٍ عام الضوءَ بأنفسها، ولكنها في بعض الحالات تطوِّر علاقة تكافلية مع البكتيريا المُضيِئة حيويًّا التي تُنتِج الضوء.
تستخدم العديد من حيوانات أعماق المحيطات خاصيةَ الضيائية الحيوية للدفاع عن أنفسها ضد المفترسات. على سبيل المثال، عندما تقترب من حبار مصاص الدماء سمكةٌ من المفترسات، تُنتِج مجموعة من الومضات تبثُّ الرعب في الكائن المفترس. وإذا زاد الهجوم عليه، يُطلق سائلًا مليئًا بجزيئاتٍ مضيئة تُغلِّف المفترس وتساعد الحبار نفسه على الهروب.
ليس مُستغرَبًا أنَّ حيوانات أعماق المحيطات قد اكتسبَت أساليبَ للتكيف في بيئةٍ شديدة الضغط. لا تؤثِّر هذه الضغوط الشديدة على بِنيات تلك الحيوانات فحسب، بل إن لها أيضًا تأثيراتٍ عميقةً على فسيولوجيتها وكيميائها الحيوية. فالضغط الشديد يؤثِّر على فسيولوجيا أغشية الخلايا عن طريق ضغطها وطرد سوائلها، وجعلها أكثرَ صلادة، ومن ثَم أقلَّ قدرة على توجيه المغذيات والنُّفايات إلى داخل الخلية وخارجها. اكتسبت كائناتُ أعماق المحيطات أساليبَ تكيفيةً عبر كيميائها الحيوية للمحافظة على أداء أغشية خلاياها تحت الضغط، وتشمل هذه الأساليب تعديلَ أنواع جزيئات الدهون (الليبيدات) الموجودة في الأغشية من أجل الحفاظ على سيولة الغشاء تحت الضغط المرتفع. تؤثِّر الضغوط العالية أيضًا على جزيئات البروتين، مما يعوقها في كثيرٍ من الأحيان من الانطواء لاتخاذ الأشكال الأنسب لعملها بكفاءة كأنزيمات أيضية. في ردِّ فِعلها على ذلك طوَّرَت حيوانات أعماق المحيطات سلالاتٍ جديدة من الإنزيمات الشائعة المقاومة للضغط، والتي تُخفِّف من هذه المشكلة.
الهجرة الجماعية من أعماق المحيطات
لا بد أيضًا أن الكائنات المشاركة في هذه الهجرة الجماعية تجني بعض الفوائد الكبيرة من قيامها بهذه الرحلة الهائلة يومًا. والتفسير الأكثر قبولًا حاليًّا هو أن العوالق الحيوانية، مثل مجذافيات الأرجل، تهاجر إلى السطح لتتغذَّى على العوالق النباتية في الليل؛ فمن المفترض أن مجذافيات الأرجل تصبح أقلَّ وضوحًا في الظلام للمفترسات مثل الأسماك، التي تشهد وفرةً أكبرَ في المياه الضحلة. ثم تغادر بعد ذلك الطبقةَ المضاءة خلال النهار لتفادي رؤيةِ المفترِسات لها. وعلى الأرجح أن الأسماك الفانوسية وغيرها من الكائنات المستهلكة الصغيرة الأخرى تقوم بالهجرة كذلك لتجنُّب المفترسات، ولكي تتبع طعامها من العوالق الحيوانية. من شأن هذه الهجرة أيضًا أن تمنح الطاقةَ لبعض الكائنات المشاركة فيها؛ حيث تقضي اليوم في مياهٍ شديدة العمق والبرودة تنخفض فيها معدَّلاتُ التمثيل الغذائي فيمكنها الحفاظ على طاقتها أثناء هضم وجبتها الليلية.
تدفُّق الطاقة في أعماق المحيطات
يأتي جميع غذاء الكائنات الحية في أعماق المحيطات تقريبًا من الإنتاج الأوَّلي في الطبقة المضاءة. يكون هذا الطعام في هيئةِ موادَّ عضوية ميتة تغوص من سطح المحيط كالثلج البحري. ويتكوَّن من كتلٍ، أو مجاميع، لزجة صغيرة من جُسيمات عضوية تشتمل على خلايا عوالق، وعوالق حيوانية ميتة، وكُريات برازٍ تُنتِجها العوالق الحيوانية. تغوص هذه المجاميع ببطءٍ عبر عمود الماء بمعدَّلٍ يتراوح من نحو ١٠٠ إلى ٢٠٠ متر في اليوم. وهكذا يستغرق الأمر منها أسابيعَ للوصول إلى أرضية المحيط العميق. على طول الطريق، تستخلص البكتيريا القيمة الغذائية في تلك المجاميع في عمود الماء؛ ومن ثَم كلما غاصت أعمق، زاد استنفادُ ما بها من موادَّ مغذية. عندما تصل هذه الموادُّ العضوية في النهاية إلى أرضيةِ المحيط، فما يتبقَّى من طاقةٍ غذائية تستخدمه حيوانات القاع. بعضها آكلةٌ للعوالق مهيَّأة لتصفية الجسيمات العضوية المعلَّقة في طبقةٍ من مياه البحر فوق القاع مباشرة. وبعضها الآخر آكلاتٌ للرواسب؛ إذ يمكنها استهلاك المواد العضوية التي تراكمَت على الرواسب السطحية أو في داخلها. أما اللافقاريات القاعية المفترسة فتتغذَّى على آكلات الجسيمات هذه، بينما تقتاتُ أسماك القاع على الحيوانات القاعية.
نظرًا إلى أن المواد العضوية تتراكم في القاع على مدار فترات شديدة الطول، تحتوي رواسبُ أعماق المحيطات على نسبةٍ كبيرة من المواد العضوية في شكلِ موادَّ عضوية ذائبة ومواد عضوية دقائقية، تُشكِّل الأساسَ للشبكة الغذائية الميكروبية، حيث تستهلك البكتيريا والعتائقُ الوفيرة هذه الموادَّ مصدرًا للغذاء. تحتوي الرواسب أيضًا على أعدادٍ غير عادية من الفيروسات، نحو مليار لكل جرام من الرواسب. وهذا يخلق حلقةً فيروسية عن طريق إصابة البكتيريا والعتائق التي تُطلِق موادَّ عضوية ذائبة وموادَّ عضوية دقائقية مرةً أخرى في الرواسب وعمود المياه عند موتها. يبدو أن قدرًا كبيرًا من هذه الطاقة يُعاد تدويره بسرعةٍ داخل الحلقة الفيروسية، ولا يتوفر الكثير منها للكائنات الأكبر مثل الطلائعيات والعوالق الحيوانية الأكبر.
تنوُّع حيوانات القاع في أعماق المحيطات
مجتمعات المَنافس المائية الحرارية والمسارب الباردة
الفكرة القائلة بأن جميع الأطعمة الموجودة في أعماق المحيطات تأتي من السطح ليست صحيحةً تمامًا. فهناك بعض المواقع المميزة للغاية في أرضية المحيط العميق يتكون فيها الطعام في مكانه. وهذا شكلٌ من أشكال الإنتاج الأوَّلي الذي لا تُحركه الطاقة المستمَدة من ضوء الشمس، وإنما الطاقة الموجودة في المرْكبات الكيميائية. فالمَنافس المائية الحرارية الغائصة تُمثل أحد الأمثلة على الحياة في أعماق المحيطات التي تُديرها الطاقة الكيميائية.
تنشأ المَنافس المائية الحرارية عندما تتسرَّب مياهُ البحر إلى أرضية أعماق المحيطات حيث تتفاعل مع الصخور الساخنة لتُشكِّل سائلًا فائقَ التسخين مُحمَّلًا بالمواد الكيميائية. يخرج هذا السائل في حالات الضغط المرتفع إلى المحيط عبر الشقوق كما في فوَّارة مياهٍ حارة. في الغالب تتجمع العديد من تلك الفوَّارات معًا لتُشكِّل حقولًا من المنافس التي تتراوح أحجامها من حجم طاولة بلياردو إلى حجم ملعب تنس.
يتطلب هذا الشكلُ من أشكال التمثيل الكيميائي الأكسجينَ لإدارة العملية، من ثَم يُعرف باسم التمثيل الكيميائي الهوائي. فهو يرتبط في الأساس بضوء الشمس؛ لأن البناء الضوئي هو مصدر الأكسجين على الكوكب. من ناحيةٍ أخرى، لا تحتاج الكائنات الدقيقة التي تقوم بالتمثيل الكيميائي، الذي يستخدم الهيدروجين أو الميثان من فوهات الدخان البيضاء مصدرًا للطاقة، إلى الأكسجين، وهي العملية المسمَّاة بالتمثيل الكيميائي الهوائي. علاوةً على ذلك، فإن الهيدروجين والميثان اللذين تستخدمهما للحصول على الطاقة يمكن توليدهما عبْر عمليات جيوكيميائية بحتة تُجرى تحت أرضية المحيط. وهكذا، فإن هذا الشكل من أشكال الإنتاج الأوَّلي عبر التمثيل الكيميائي يدعم شكلًا أخَّاذًا وقد يبدو غريبًا إلى حدٍّ ما من أشكال الحياة التي لا تربطها صلةٌ بالشمس والبناء الضوئي المعتمد على الضوء.
تدعم البكتيريا والعتائق التي تقوم بالتمثيل الكيميائي والموجودة في بيئات المَنافس مجتمعًا حيوانيًّا مذهلًا يضم الحلزونات الصدفية العملاقة، وبلح البحر العملاق، وأنواعًا مختلفة من سرطانات البحر، والبطلينوس، وشقائق النعمان البحرية، والديدان، والجمبري، ومزدوجات الأرجل، وبرنقيل الأوز، والأخاطب، والأسماك. لم تكن معظم الأنواع الموجودة في المَنافس معروفةً في السابق قبل اكتشاف المَنافس، وليس لها وجودٌ في مكانٍ آخرَ إلا في أنظمة المَنافس.
تُعرف المَنافس المائية الحرارية بكونها إحدى سمات أعماق المحيطات غير المستقرة وقصيرة الأجل. فالمشاهدات المتكرِّرة لأنظمة المنافس تُظهر أن معدَّل التدفُّق والتركيب الكيميائي للسوائل المنبثقة من شأنه أن يختلف على مدى أشهر، وقد لوحظت مَنافس نافقةٌ تحيط بها بقايا مجتمعات من المنافس. يُرجَّح أن مدة عمر المَنافس النموذجية في حدود عَقد إلى قرن. ونظرًا إلى أن العديد من حيوانات المَنافس لا يمكنها العيش إلا بالقرب من المَنافس، وأن المسافة بين أنظمة المنافس يمكن أن تبلغَ مئات أو آلاف الكيلومترات؛ فمن المحيِّر كيف تهرب حيوانات المَنافس من المَنافس المحتضرة وتستعمر منافسَ بعيدة أو أخرى تكونَت حديثًا. من المعروف أن بعض حيوانات المَنافس تنمو بسرعة كبيرة ويمكن أن تصل إلى أحجامٍ كبيرة وإلى النضج الجنسي قبل نُفوق المَنافس. على سبيل المثال، يمكن للدودة الأنبوبية العملاقة أن تنموَ إلى مترين في العام الواحد. ونظرًا إلى حجمها الكبير، يمكن للعديد من حيوانات المنافس أن تُنتج أعدادًا كبيرة من اليرقات العوالقية لدرجةِ أن تيارات أعماق المحيط البطيئة الحركة قد تتشتَّت على مسافات طويلة، مما يسمح لها باستعمار مواقع المَنافس الأخرى. في بعض الأنواع، قد ترتفع اليرقات إلى السطح حيث تنتشر بسرعةٍ أكبرَ مع تيارات السطح قبل أن تغوص مرةً أخرى في أرضية المحيط حيث تجد موقعَ مَنافسَ مناسبًا لاستعماره.
المَنافس المائية الحرارية ليست المصدرَ الوحيد للسوائل المحمَّلة بالمواد الكيميائية التي تدعم المجتمعات الفريدة القائمة على التمثيل الكيميائي في أعماق المحيطات. فكبريتيد الهيدروجين والميثان يتسرب أيضًا من قاع المحيط في العديد من المواقع بدرجاتِ حرارة مماثلة لمياه البحر المحيطة. ومنذ عام ١٩٨٣ اكتُشف العديد من هذه «المسارب الباردة» المنتشرة على طول الحافات القارية لجميع محيطات العالم على أعماقٍ من منطقة المد والجزر إلى أكثرَ من ٧٦٠٠ متر. تشبه المجتمعاتُ المرتبطة بالتسربات الباردة إلى حدٍّ كبير مجتمعاتِ المَنافس المائية الحرارية، مع وجود العديد من الحيوانات على علاقة وثيقة ببكتيريا التمثيل الكيميائي. فيمكن أن يوجد الحلزون الصدفي، وبلح البحر، والإسفنج، وسرطان البحر بوفرةٍ كبيرة، جنبًا إلى جنب مع أجماتٍ كثيفة من الديدان الأنبوبية. يبدو أن المسارب الباردة مصادرُ أكثر استدامةً للسوائل، مقارنةً بمَنافس الماء الساخن ذات الطبيعة المؤقتة. وهكذا، فعلى عكس مجتمعات المنافس المائية الحرارية، يمكن أن تمتلك مجتمعاتُ التسربات الباردة أنواعًا بطيئةَ النمو وطويلةَ العمر. على سبيل المثال، يُقدَّر أن بعض الديدان الأنبوبية في المسارب الباردة قد تبلغ أعمارها ٢٥٠ سنة أو أكثر.
سقوط الحيتان وغيرها من الثروات الغذائية في أعماق المحيطات
على الرغم من أن أعماق المحيطات تُمثِّل إحدى أكثر البيئات محدوديةً في غذائها على الكوكب، تصل حزمٌ كبيرة من الطعام إلى القاع، وتُكوِّن واحةً غذائية محلية لجمعٍ غفير من حيوانات أعماق المحيطات. جثث الحيوانات البحرية الكبيرة التي سرعان ما تغرَق في حالةٍ سليمة هي مصدرٌ لتلك الوفرة الغذائية.
أول ما تصل هذه الجثثُ الكبيرة التي يبلغ وزنها من ٣٠ إلى ١٦٠ طنًّا إلى أرضية المحيط، تَعرف مجموعاتٌ كبيرة من آكلات الجيف المتنقلة مواقعَها من رائحتها خلال أيام، مثل أسماك الجريث، والراتيل، والقرش، وسرطان البحر، ومزدوجات الأرجل التي تُزيل بلا هوادة الكثيرَ من المواد اللحمية على مدار أشهُر إلى سنة، وذلك حسَب حجم الحوت. بعد ذلك، يستعمر عظام الحوت وكذلك الرواسب حول جثة الحوت، التي تُثريها موادُّ متكونةٌ من اللحم المتحلل، أعداد هائلة من الديدان، والقشريات، واللافقاريات الأخرى التي تستهلك على مدار العامين التاليَين الدهونَ والزيوت الموجودة في العظام والرواسب. ويشمل هذا الديدانَ المتخصصة، وتسمَّى الديدان العظمية، التي تمدُّ هياكلَ شبيهة بالجذور إلى داخل عظام الحوت. تحتوي هذه «الجذور» على بكتيريا تساعد على هضم الدهون ونقل العناصر الغذائية للديدان. في المرحلة النهائية التي تستمر عقودًا، تستخدم بكتيريا التمثيل الكيميائي والحيوانات المَضيفة لهذه البكتيريا، مثل الحلزون الصدفي وبلح البحر، كبريتيدَ الهيدروجين المتسرِّبَ من المواد العضوية المتحللة في العظام والرواسب؛ مصدرًا للطاقة. ومن المثير للاهتمام أن العديد من أنواع الحيوانات التي تستعمر المرحلة الأخيرة من تحلُّل سقوط الحيتان عُثر عليها أيضًا في المَنافس المائية الحرارية والمسارب الباردة. لذلك، فمن الممكن أن تعمل بقايا سقوط الحيتان المتناثرة في أرضية المحيط بمنزلة «مَواطئ أقدام» ذات مسافات قصيرة فيما بينها، تُمكِّن هذه الأنواعَ من الانتشار بسهولةٍ أكبرَ عن طريق مراحلِ يرقاتها العوالقية عبر المسافات الكبرى التي تفصل بين مجتمعات المَنافس المائية الحرارية والمسارب الباردة.
الجبال البحرية: أنظمة بيئية فريدة في أعماق المحيطات
تُمثل الجبال البحرية مواقعَ لنشاطٍ بيولوجي كبير في أعماق المحيطات. فقد يمتد ارتفاعها المفاجئ من أرضية المحيط وقممها إلى آلاف الأمتار تحت سطح المحيط. وعلى عكس السهول السحيقة المسطحة ذات القاع الناعم المحيطة، توفِّر الجبال البحرية منصةً صخرية معقَّدة تدعم وفرةً من الكائنات الحية التي تختلف عن قاعيات أعماق المحيطات فيما حولها.
تقود الدافعَ وراء الإنتاجية العالية لمجتمعات الجبال البحرية عدةُ عوامل تختلف باختلاف عمق الجبل البحري وأنماط تيارات المحيط بجواره. فيمكن للجبال البحرية ذات القمم القريبة نسبيًّا من السطح أن تعيق طبقةَ التشتُّت العميقة التي تمتاز بالهجرة إلى الأسفل، مما يؤدي إلى محاصرةِ أعداد كبيرة من العوالق الحيوانية وتركزها كلَّ ليلة. يوفر هذا مصدرًا للغذاء للمستهلِكات العالقة الوفيرة والأسماك التي تتغذى على العوالق. من شأنِ الجبال البحرية أيضًا أن تتأثر بالتيارات الأفقية التي تتدفق عبْرها وأن تُعدِّل فيها. يمكن أن يؤديَ هذا إلى تكوُّن «أعمدة تايلور»، أو دوامات من مياه البحر الدوارة التي تبقى فوق قمة الجبل البحري. ويمكن أن يؤديَ هذا أيضًا إلى الإبقاء على العوالق الحيوانية وتركيزها حول قمة الجبل البحري وجوانبه.
تدعم الجبالُ البحرية تنوعًا كبيرًا من أنواع الأسماك، بما يقرُب من ٨٠٠ نوع سُجِّل عيشها حول الجبال البحرية. ففي ستينيَّات القرن العشرين، بدأت سفن الصيد في أعماق المحيطات التي تبحث عن مخزونٍ جديد من الأسماك في الصيد في مناطق الجبال البحرية واكتُشفت تجمعات كبيرة من الأنواع المهمة تجاريًّا. أدى هذا إلى تكوُّن مصايد جديدة للأسماك تُركِّز على مناطق الجبال البحرية. فشِباك الصيد القاعية تُسحَب من القمة نزولًا إلى جوانب الجبال البحرية لاصطياد الأسماك. وتشمل أنواع الأسماك التجارية المستهدفة السمك الخشن البرتقالي، وسمك الأوريو، والفونسينو، والجراند، والسمك المسنن. لا تعيش هذه الأسماك بشكلٍ دائم عادةً في الجبال البحرية ولكنها تتجمع في الجبال البحرية في أوقاتٍ معينة من السنة للسَّرْء، أو للتغذِّي على الحبار والأسماك الصغيرة، أو لمجرد الراحة. وتتميز بالبطء الشديد في نموِّها، وبأعمارها الطويلة، وبنضجها في عمرٍ متقدم؛ ومن ثَم بانخفاض قدرتها على التكاثر. من الأمثلة الجيدة على ذلك السمكُ الخشن البرتقالي المعروف بأنه يعيش مدةً تزيد على ١٢٠ عامًا وبوصوله إلى مرحلة النضج في عمر الثلاثين تقريبًا، وبإنتاج إناثه أعدادًا قليلة نسبيًّا من البيض. يشيع مثلُ هذا المسار في حياة العديد من أنواع أسماك أعماق المحيطات.
كثيرًا ما توصف مصايد الجبال البحرية بأنها عمليات تنقيب وليست مصايدَ مستدامة للأسماك. فعادةً ما تنهار مصايدُ الأسماك في غضون سنوات قليلة من بدء الصيد؛ ومن ثَم تنتقل شِباك الصيد إلى الجبال البحرية الأخرى غير المستغَلَّة للحفاظ على المصايد. ستكون استعادةُ مصايد الأسماك المحلية حتمًا بطيئةً للغاية بسبب انخفاض قدرة هذه الأنواع من أسماك أعماق المحيطات على التكاثر.
إن تدمير مخزون الأسماك ليس مبعثَ القلق الوحيد المرتبط بالصيد في مناطق الجبال البحرية. فالصيد في الجبال البحرية يتسبَّب في أضرارٍ واسعة النطاق للمجتمعات المرجانية الهشة؛ إذ لا تحصد شِباكُ الصيد الأسماكَ فحسب، بل تحصد كذلك أعدادًا كبيرة من المرجان الصخري، والمرجان الأسود، والحيوانات القاعية الأخرى التي تعيش على الشعاب المرجانية. كما يمكن أن تصبح كثافةُ الصيد على الجبال البحرية عاليةً للغاية، حيث تُجر عادةً مئات إلى آلاف الشِّباك في منطقة الجبل البحري الواحدة. بذلك يمكن حصدُ عشرات الأطنان من المرجان في شبكة واحدة، وفي أحد المصايد الجديدة في الجبال البحرية قُدِّر أن ما يقرُب من ثلث إجمالي ما تصطاده الشِّباك هو من الصيد العرضي المرجاني. وقد أظهرَت بوضوحٍ المقارناتُ بين الجبال البحرية «المَصِيدة» و«غير المَصِيدة» مدى الضرر الذي لحِق بالموائل وفقدانها للتنوُّع في الأنواع الناتج عن الصيد بشباك الجر، مع تحوُّل موائل المرجان الكثيفة إلى أنقاضٍ في معظم المناطق التي فُحِصَت.