طعام المحيطات
لا يزال البشر يحصدون الطعام من المحيطات منذ آلاف السنين. كادت بداية الأمر تُنبئ بأنه سيكون صيدًا على نطاق صغير لكسب العيش الكفاف في المياه الساحلية، إلا أنه مع المزيد من الخبرة وزيادة عدد السكان تطوَّر إلى مشروعٍ تجاري واسع النطاق. فالآن يجري الصيد في المحيطات في جميع أنحاء العالم على نطاقٍ صناعي ويُزوِّد البشر بآخرِ أهم مصادر الأغذية غير المستزرعة. تجوب اليوم المحيطاتِ أكثرُ من ٤٫٦ ملايين سفينة صيد، ونحو ٢٫٨ مليون منها مزوَّدة بمحركات، كما يعمل أكثر من ٤٠ مليون شخص في قطاع الصيد البحري الأوَّلي. تتجاوز قيمة تفريغ حمولات الأطعمة البحرية غير المستزرعة ١٣٠ مليار دولار أمريكي سنويًّا وتمثل الأطعمة البحرية عنصرًا مطلوبًا في النظام الغذائي لملياراتٍ عديدة من الناس في جميع أنحاء العالم، حيث يُزودهم بمصدرٍ عالي الجودة من البروتين. ولكن من المؤسف أن المصيد العالمي للأطعمة البحرية قد بلغ ذروته في منتصف تسعينيَّات القرن العشرين وهو الآن في حالةٍ من الركود أو التراجع، كما يتعرض ثلث مخزون الأسماك بالكامل للصيد الجائر ويواجه انهيارًا في كميته. للصيد الجائر أثرٌ شديد الخطورة ليس فقط على الأنواع المستهدفة، ولكن أيضًا على التنوُّع البيولوجي وعلى آليات عمل العديد من الأنظمة البيئية البحرية.
التوسُّع في حصاد الأطعمة البحرية عبر التاريخ
غالبًا ما يُفترَض أن أعداد المصيد من الأطعمة البحرية كانت محدودةً في العصور القديمة بسبب انخفاض أعداد السكان وبساطة مُعدات الصيد والسفن المتاحة، وأن مخزون الأطعمة البحرية لم يكن ليُستهلك إلا بالقدْر الضئيل حتى عهدٍ قريب. ولكن على العكس من ذلك، فقد استُنتِج من الدراسات التاريخية للبيئية البحرية أن البشر كانت لهم تأثيراتٌ كبيرة على الموارد البحرية آلافَ السنين. يشكِّل البحر الأبيض المتوسط مثالًا جيدًا على الضغط البشري الطويل الأمد على الموارد البحرية.
سكن البشر شواطئ البحر الأبيض المتوسط على نحوٍ مستدام قرابة ٥٠ ألف سنة. وقد وُجِدت مجتمعات الصيد هناك منذ ١٠ آلاف عام على أقل تقدير، ولطالما كانت الأطعمة البحرية مصدرًا مهمًّا للبروتين لدى شعوب البحر الأبيض المتوسط منذ العصرَين الإغريقي والروماني على أقل تقدير، بدايةً من نحو ٩٠٠ سنة قبل الميلاد. شملت الأنواع المصيدة الدلافين، والسلاحف البحرية، وأسماك القرش، والشِّفنِينِيَّات، والتونة، والسردين، والبَلَم، والبوري، والهامور، والسمك المفلطح، والمحار، وبلح البحر، والحلزون الصدفي، والأسقلوب. استُنفِدَ بعضٌ من هذه الأنواع في العصر الروماني وبحلول القرن الأول الميلادي كانت المياهُ الساحلية حول إيطاليا قد طالها الصيدُ الجائر إلى حدٍّ كبير وانتشر الحصاد في الجزر البحرية مثل صقلية وكورسيكا. وقد أدَّى انهيار الإمبراطورية الرومانية على الأرجح إلى تخفيف بعض الضغط على الموارد البحرية، إلا أن استئناف النمو السكاني بأعداد هائلة في القرن الخامس عشر قد أدَّى إلى استنفاد الموارد البحرية في المناطق الساحلية مجددًا. في أواخر القرن التاسع عشر، شهدت قدراتُ الصيد تطورًا كبيرًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط مع زيادة أعداد السكان أضعافًا مضاعفة. وخلال أوائل القرن العشرين ومنتصفه، مُدَّت أساطيل الصيد بالمحركات وتوسَّع الصيد الصناعي في جميع المياه الساحلية للبحر الأبيض المتوسط. الآن، وبعد ١٠٠ عام من ضغوط الصيد المكثفة، انخفضت تقريبًا جميع أنواع الطعام البحرية التقليدية في البحر الأبيض المتوسط إلى أقل من ٥٠ في المائة من كمية وفرتها الأصلية، وأصبح نحوُ ثلث الأنواع الآن شديد النُّدرة عِلاوةً على انقراض العديد من الأنواع وظيفيًّا. ظهر التأثير الأكبر في المفترسات العليا، التي كانت أول ما استهدفه الصيادون.
انتشر استغلال الموارد الغذائية البحرية إلى خارج أوروبا انتشارًا مذهلًا في بداية التاريخ. فمنذ وقتٍ مبكِّر يرجع إلى عام ١٠٠٠ ميلادية، كان الفايكنج يستغلُّون مخزون الأسماك الغني حول أيسلندا وجرينلاند وربما في بحار شمال كندا. وبعد قرابة ٢٠٠ عام، كان صيادو الباسك يحصدون أيضًا مخزونَ الأسماك في شمال المحيط الأطلنطي وربما كانوا يمارسون الصيد قبالة سواحل أمريكا الشمالية قبل رحلة كولومبوس في عام ١٤٩٢. ولكن بحلول أوائل القرن السادس عشر، كان الصيادون الباسكيون، والفرنسيون، والبرتغاليون يصطادون بانتظامٍ سمك القد من منطقة جراند بانكس الضحلة قبالة ساحل جزيرة نيوفندلاند لبيعه في السوق الأوروبية. بحلول عام ١٦٠٠، كانت تُستخرج أكثر من ١٥٠ حمولة سفينة من سمك القد في السنة من البحار الكندية. كان المصيد يُحفَظ بالتجفيف أو التمليح، وهو الشكل الذي كان يُمكِّن من تخزينه عدة سنوات وتوفير مصدر جاهز للبروتين للأوروبيين. يمثل الاستعمار الدائم لأمريكا الشمالية الذي بدأ في القرن السابع عشر بدايةَ استغلال مخزون الأسماك قبالة الساحل الشرقي للولايات المتحدة، بما في ذلك سمك الحفش، والشاد، والسلمون، والألويف، والمحار. بحلول أوائل القرن التاسع عشر، كانت مخزونات الأسماك في الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية تظهر عليها علاماتُ التدهور الخطِر.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، خلق التمدُّد الحضري السريع والنمو السكاني العالمي طلبًا متزايدًا باستمرارٍ على الأطعمة البحرية. ارتبط هذا بالتحسينات في نقل المصيد وحِفظه، مما كان يعني أن مخزون الأسماك البحرية يمكن استغلاله بسهولةٍ أكبر، وإمدادُ الأسواق البعيدة به. وقد زاد الحصاد البحري بمعدَّلٍ غير مسبوق في الحجم والحيز الجغرافي مباشرةً عقب الحرب العالمية الثانية، مع توسعٍ شاسع في أسطول الصيد العالمي والتحسينات التي تحققَت في معدات الصيد وبدء معالجة المصيد على متن السفن. كان هذا بمنزلة بداية التحول الصناعي الواسع النطاق لعملية استخراج الطعام من البحار. زاد الصيد بشكل كبير في المياه الساحلية في معظم أنحاء العالم وبدأت أساطيل الصيد في استغلال الموارد البحرية في المياه العميقة أسفل المنحدرات القارية، وبشباك الجر في مناطق الجبال البحرية، واستهداف أنواع المحيطات المفتوحة مثل التونة، وذلك في جميع المحيطات. بحلول عام ٢٠٠٠، تكثَّف الصيد في جميع المناطق حول العالم تقريبًا وخاصة في آسيا، حيث تُسجل الصين الآن أكبرَ إجمالي في العالم للمصيد البحري على الإطلاق.
من منظور القرن الحادي والعشرين يكاد يكون من المستحيل تصوُّر الوفرة التي كانت عليها الأسماك في المحيطات في الماضي. ولكن روايات المستكشفين والمستوطنين الأوائل، إلى جانب المقالات والصور من الصحف والمجلات القديمة، وإحصائيات مصايد الأسماك في القرن التاسع عشر، والسجلات التاريخية لمسابقات الصيد، ترسم صورةً للوفرة المدهشة في أحجام الأسماك مقارنةً بالوقت الحاضر.
طرق الصيد التجاري وتأثيراتها
أتاح ظهور سفن الصيد المزودة بالمحركات صيدًا فائقَ الكفاءة للأطعمة البحرية باستخدام شِباك الجر. وهي شِباك كبيرة مخروطية الشكل تُقطَر خلف سفينة صيد، رافعةً معها الأسماك والكائنات البحرية الأخرى. يمكن لأفواه شِباك الجر الكبيرة أن تكون بعرض ملعب كرة قدم، وبارتفاع مبنًى من ثلاثة طوابق.
في مناطق الصيد الكثيف، يمكن لسفن الجر القاعية أن تصيد في الأجزاء نفسِها من أرضية المحيط عدة مرات في السنة. يسبِّب مثلُ هذا الصيد المكثَّف بشِباك الجر ضررًا تراكميًّا كبيرًا في أرضية المحيط. فشِباك الجر تكشط وتدمِّر موائل القاع التي تتميز بالثراء والتعقيد، والتي كوَّنَتها على مدى قرونٍ كائناتٌ حية مثل الديدان الأنبوبية، ومرجان المياه الباردة، والمحار. تتضاءل هذه الموائل في نهاية المطاف لتصبح امتداداتٍ متشابهة من الأنقاض والرمل. فيلحق بهذه المناطق تغييرٌ دائم ويشغلها مجتمع مختلف وأقلُّ ثراءً إلى حدٍّ بعيد يتكيف مع الاضطرابات المتواترة. يمكن لشِباك الجر القاعية أيضًا أن تَصيد كمياتٍ كبيرةً من أنواع الأسماك واللافقاريات غير المرغوب فيها وغير المستهدفة، والمعروفة بالصيد العرضي، التي غالبًا ما تُلقَى مجددًا في البحار. علاوة على ذلك، يمكنها أيضًا أن تصطاد عن غير عمدٍ السلاحف، والدلافين، والفقمات التي تغرق في الشِّباك. لهذه الأسباب تُعد شِباك الجر القاعية شكلًا بالغَ التدمير من أشكال الصيد، وقد حُظِر استخدامها في مناطقَ واسعة من المحيطات في جميع أنحاء العالم. أما الصيد في منطقة البحر المفتوح بشباك الجر فأقلُّ تدميرًا لأنه لا يتعرض للقاع. ولكن لا تزال مشكلة الصيد العرضي قائمة معه أيضًا.
من طرق الصيد الشائعة الأخرى الصيدُ بالخيوط الطويلة، الذي يكون عن طريق سُفنٍ تجرُّ خيوطًا معلَّقة فيها صناراتٌ مزوَّدة بطُعم. يمكن تعليق أكثر من ٢٠٠٠ صنارة من خيط يبلغ طوله عدة كيلومترات. ويمكن استخدام خيوط الصيد الطويلة لصيد أسماك منطقة البحر المفتوح أو أسماك القاع، حسب الأنواع المستهدفة. تؤدي طريقة الصيد هذه إلى اصطيادِ أنواعٍ غير مستهدفة من الأسماك، وكذلك الثدييات البحرية، والسلاحف، والطيور البحرية. يمكن الحدُّ من هذه المشكلات باستخدام خيوط الصيد الطويلة ليلًا لتجنُّب اصطياد الطيور البحرية التي تعتمد في صيدها للأسماك على الرؤية أثناء النهار، باستخدام خيوط طويلة ذات ثُقل لتغطس في الماء سريعًا، واستخدام صنارات خاصة لا تصطاد الأنواع غير المستهدفة بسهولة.
تُستخدَم الشِّباك الجرافة المحوطة في المحيط المفتوح لصيد أسماك مثل التونة، والسردين، والسلمون، والماكريل. في هذه الطريقة، تُحاط أسراب الأسماك بستارةٍ عمودية من الشباك، يُسحب قاعها وينضم بعضُه إلى بعض ليحوط الأسماك. لا تؤثِّر الشباك الجرافة المحوطة على قاع المحيط، إلا أن من شأنها التقاطَ الأنواع غير المستهدفة، والأسماك الصغيرة، والثدييات البحرية، مثل الدلافين.
أما الصيد بالشِّباك الخيشومية فيكون بإدلاء ستارةٍ من الشِّباك لإيقاع الأسماك بها. لا يوجد في هذا النوع من الصيد عادةً مساسٌ بالقاع، ويمكن تعديل حجم الشِّباك للحدِّ من صيد صغار الأسماك. إلا أن الصيد بالشِّباك الخيشومية ينطوي على خطر الصيد العرضي وصيد الأنواع المحميَّة، مثل الدلافين. ولكن يمكن تزويد الشِّباك بجهاز «أزاز» (جهاز يبعث نبضات صوتية) لإبعاد الدلافين.
الأنواع البحرية المستغلَّة تجاريًّا
أكبرُ مصايد الأسماك البحرية في العالم هي مصايد البَلَم أو مصايد البَلَم البيروفي («إنجراوليس رينجنز») التي يمكن أن تمثل نحو ثمانية في المائة أو أكثر من المصيد البحري العالمي من الأطعمة البحرية في أي سنةٍ بعينها. أسماك البَلَم هي أسماك صغيرة (يصل طولها إلى نحو ٢٠سم) سريعة النمو، وتتغذى بالترشيح على العوالق النباتية والعوالق الحيوانية في مناطق التيارات الصاعدة الغنية بالمغذيات قبالةَ سواحل بيرو. وتميل للتجمع في أسرابٍ كبيرة وكثيفة الأعداد، مما يُمكِّن من صيدها بكفاءة وبأعداد كبيرة باستخدام الشِّباك الجرافة المحوطة، وسفن الجرِّ في منطقة البحر المفتوح.
ثاني أكبر مصايد الأسماك في العالم هي مصايد البولوق الألاسكي، وهو نوعٌ من أسماك القاع ينتشر على نطاق واسع في شمال المحيط الهادي. ويُصطاد باستخدام شِباك الجر في منطقة البحر المفتوح التي تلامس القاع أحيانًا ولكن ضررها عليه أقلُّ مقارنةً بضرر شِباك الجر القاعية. يبلغ متوسط المصيد حاليًّا نحو ثلاثة ملايين طن في العام. يُستخدم هذا النوع على نطاقٍ واسع في صناعة الوجبات السريعة. وخلال سنوات ظاهرة النينيو، يمكن أن يَزيد مصيد البولوق الألاسكي على مصيد البَلَم.
ثالث أكبر المصايد هي مصايد التونة الوثابة، التي تنتشر بوفرةٍ في المناطق الاستوائية للمحيط الأطلنطي، والهادي، والهندي، وهي النوع الرئيسي المُستخدَم في التونة المعلَّبة. غالبًا ما تُصطاد بالشِّباك الجرافة المحوطة، ويبلغ متوسط المصيد نحو ٢٫٦ مليون طن سنويًّا.
لا يحظى البَلَم وبعض الأسماك الزيتية الأخرى باستحسانٍ كبير في الاستهلاك المباشر لدى البشر، ولكن محتواها العالي من الزيوت يجعلها مثاليةً لإنتاج مسحوق السمك وزيت السمك، الذي يُعد كلٌّ منهما من السلع القيِّمة. يُصنع مسحوق السمك بطهي السمك، وتجفيفه، وطحنه، ويُستخدم مكمِّلًا بروتينيًّا مدمجًا في الأعلاف التجارية للأسماك المستزرعة، والدواجن، والخنازير. أما زيت السمك فيُعصر من السمك المطبوخ ويُستخدم بشكلٍ أساسي في إنتاج الأعلاف للأسماك المستزرعة، ولكنه يوضع أيضًا في كبسولات كمكمل غذائي لصحة الإنسان. يُحوَّل تقريبًا مصيد البَلَم البيروفي بأكمله إلى مسحوق السمك وزيت السمك، ويُمثل نحو ثلث الإنتاج العالمي من هذه المنتجات.
لطالما كان إدخال منتجات الأسماك غير المستزرعة في الأعلاف المستخدَمة في استزراع الأطعمة البحرية؛ مثارًا للجدل الشديد لأن التحليلات أظهرَت وجودَ خَسارةٍ كبيرة في الطاقة الغذائية في هذه العملية، مقارنةً بالأسماك التي نستهلكها مباشرةً. غير أنه ثمَّة تقدمٌ مُحرَز في معالجة هذه المشكلة، وانخفاضٌ في كمية الأسماك التي تُحوَّل إلى مسحوق السمك وزيت السمك. في تسعينيَّات القرن العشرين، كان نحو ثلث المصيد العالمي بأكمله من الأسماك يُحوَّل إلى هذه المكونات بدلًا من أن يستهلكه البشر مباشرةً، ولكن في عام ٢٠١٦ حُوِّل نحو ١٥ مليون طن، أو نحو ١٩ في المائة من المصيد البحري المُسجَّل، إلى مسحوق السمك وزيت السمك. يُنتَج قدرٌ أكبرُ بكثير من هذه المكونات الآن من المنتجات الثانوية للأسماك، مثل فضلاتها وهياكلها، التي غالبًا ما كان يُتخلص منها في الماضي، وتُستخدم بشكل أكثرَ انتقائيةً في أعلاف الأسماك. أظهرت بعض الدراسات الأخيرة أنه في ظل الممارسات الحاليَّة لاستزراع الأسماك البحرية فإن إدخال كيلوجرام واحد من المكونات المستخرجة من الأسماك غير المستزرعة في علف الأسماك يُنتِج في المتوسط نحو كيلوجرامين من الأسماك المستزرعة، مما يعني أنه في تلك الحالة يؤدي استخدامُ المكونات من هذه الأسماك غير المستزرعة إلى إنتاج مزيدٍ من الطعام للبشر. ولكن في حالة استزراع السلمون، على وجه التحديد، فإن هذه النسبة أقلُّ تبشيرًا بنجاح الأمر، نحو ١ : ١، ولكنها تتحسَّن بمرور الوقت مع اعتماد الممارسات المُحسَّنة.
الاتجاهات في صيد الأطعمة البحرية عالميًّا: تجاوز حد الاستغلال
النطاق | النسبة من المحيط | متوسط الإنتاجية (بالجرام من الكربون لكل متر مربع في السنة) | إجماليُّ الإنتاج الأولي (بالمليار طن من الكربون في السنة) | عدد المستويات الغذائية | نسبة الكفاءة | الإنتاج السمكي (بالطن من الوزن الطازج) |
---|---|---|---|---|---|---|
محيطي | ٩٠٫٠ | ٥٠ | ١٦٫٣ | ٥ | ١٠ | ١٫٦ مليون |
ساحلي | ٩٫٩ | ١٠٠ | ٣٫٦ | ٣ | ١٥ | ١٢٠ مليونًا |
التيارات الصاعدة | ٠٫١ | ٣٠٠ | ٠٫١ | ١٫٥ | ٢٠ | ٢٤٠ مليونًا تقريبًا |
الإجمالي | ٢٤٠ مليونًا تقريبًا |
الخطوة التالية هي تقدير عدد المستويات الغذائية داخل الشبكات الغذائية في كل نطاق. من المنطقي تقسيمُها إلى ما متوسطه خمسة مستويات غذائية بين الكائنات المنتجة الأولية والأسماك المستهلكة في الشبكات الغذائية المعقَّدة في المحيط المفتوح (انظر الفصل الثاني). بالمقارنة بين النطاقات المختلفة، نجد الشبكات الغذائية في مناطق التيارات الصاعدة بسيطةً للغاية. وتُعد مصايد البَلَم مثالًا على ذلك؛ حيث يتغذى سمك البَلَم في هذه المناطق مباشرةً على العوالق النباتية أو العوالق الحيوانية، ومن ثَم يغيب مستوًى غذائيٌّ واحد أو مستويان من مستويات الكائنات المنتجة الأولية. بذلك، يمكن تقسيم المنطقة بين الكائنات المنتجة الأولية والأسماك إلى مستوًى ونصف من المستويات الغذائية. أما عن النطاق الساحلي، فيمكن اعتباره ذا طبيعة انتقالية بين المحيط المفتوح ومناطق التيارات الصاعدة ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة مستويات غذائية.
يمكن إذن تقديرُ كفاءة انتقال الطاقة بين كل مستوًى غذائي في كل نطاق. تقلُّ كفاءة انتقال الطاقة في الشبكات الغذائية المعقَّدة والمتفرقة في المحيطات المفتوحة ويمكن تقدير نسبتها بعشرة في المائة. وعلى النقيض من ذلك، تزداد كفاءة انتقال الطاقة بكثيرٍ في الشبكات الغذائية البسيطة والمركَّزة في مناطق التيارات الصاعدة، ويمكن تقدير نسبتها بعشرين في المائة. ومن ثَم يمكن تقدير نسبةٍ متوسطة هي ١٥ في المائة للنطاق الساحلي.
إحدى الرُّؤى المستمَدة من تحليل أبرشية رايثر المدنية هي الأهمية الفائقة للمناطق الساحلية ومناطق التيارات الصاعدة في إنتاج الأسماك نظرًا إلى إنتاجيتها الأولية العالية وشبكاتها الغذائية الأكثر بساطةً وكفاءة. يُستخرج من النطاقَين معًا جميعُ إنتاج الأسماك تقريبًا في المحيط العالمي. أما المحيط المفتوح، فعلى الرغم من حجمه الهائل، لا يأتي منه سوى القليل من الإنتاج السمكي. يتَّسق هذا مع الحقائق المعروفة؛ إذ إن أكبر مصايد الأسماك التجارية — لأسماك الكلوبيويد، والقديات، والأسماك المفلطحة — توجد كلها في مناطق التيارات الصاعدة والمناطق الساحلية من المحيط العالمي.
الاستثناء من ذلك هو مصايد المحيطات المفتوحة لأنواعٍ مثل التونة والماكريل، وهي المفترسات العليا في النظام المحيطي الشاسع.
ليس كلُّ الإنتاج السمكي السنوي الذي يُقدر ﺑ ٢٤٠ مليون طن متاحًا للصيد. فإذا استُغِل بالكامل كل عام فسينفد مخزون الأسماك بسرعة ليصل إلى مستويات غير مستدامة. كما يجب مشاركة القدْر الكبير من هذا الإنتاج السمكي مع المفترسات العليا الأخرى إلى جانب البشر — مثل الثدييات البحرية، وأسماك القرش، والطيور البحرية — ومن المستحيل تحديدُ موقع جميع مخزونات الأسماك واستغلالها بالمستويات المثلى في جميع الأوقات. على هذا الأساس، فمن المعقول افتراضُ أن حدًّا أقصى بمقدار نحو ١٠٠ مليون طن من الأسماك سيكون متاحًا لاستهلاك البشر على أساسٍ مستدام كل عام.
توفِّر هذه الطرقُ وغيرها من الطرق المماثلة دعمًا نظريًّا لتقدير كمية الأطعمة البحرية التي يمكن للبشر توقعُ الحصول عليها بشكلٍ مستدام من المحيط العالمي استنادًا إلى المبادئ البيئية. وأهمُّ ما في الأمر هو أن المصيد العالمي الفعلي من الأطعمة البحرية، والذي يُقدَّر حاليًّا بنحو ١٢٠ مليون طن، يتجاوز الحدود النظرية. علاوةً على ذلك، يشهد المصيد العالمي الآن ركودًا أو تراجعًا تدريجيًّا على الرغم من الزيادة الإجمالية في جهود الصيد من حيث أحجامُ أساطيل الصيد وكفاءتها. وهذه إشاراتٌ واضحة على أن مصايد الأسماك البحرية على مستوى العالم تشهد الآن استغلالًا مفرطًا. لذلك، لا يوجد سوى قدرٍ ضئيل، إن وُجد، من سقف الزيادة الممكنة في كمية الأطعمة البحرية غير المستزرعة التي تأتي من المحيطات لإطعام الزيادة السكانية المزدهِرة في ظل طرقِ إدارتنا الحالية للمصايد.
يدعم هذا الاستنتاج الوضعَ غير المستقر على نحوٍ متزايد لموارد مصايد الأسماك البحرية العالمية. فالمعلومات الأخيرة من الفاو تُظهر أن ٦٠ في المائة من جميع مخزونات الأسماك مستغلة بالكامل؛ حيث يصل مصيدها الحالي إلى أقصى مستويات إنتاجيتها المستدامة ولا يوجد مجالٌ لمزيد من التوسع. ثمة نسبة ٣٣ في المائة أخرى من مخزونات الأسماك تتعرض للصيد الجائر وتشهد أعدادها انخفاضًا أو تدهورًا (مقارنةً بنسبة ١٠ في المائة في عام ١٩٧٤)، ولا تتعدى النسبة غير المستغلة من المخزونات السبعة في المائة. يرسم هذا صورةً قاتمة عن حالة مصايد الأسماك البحرية في العالم والتساؤل الفعلي المطروح الآن لا يتعلق بما إذا كان بإمكاننا صيدُ المزيد من الأسماك من المحيطات، ولكن يتعلق بما إذا كان بإمكاننا التعامل مع كمية الأسماك التي نصطادها حاليًّا على نحوٍ مستدام ومسئول، حيث تُمثل هذه الكمية مصدرًا حيويًّا لغذاء الإنسان. من الواضح أن نسبة الزيادة في الغذاء التي مقدارها ٧٠ في المائة أو نحو ذلك اللازمة لإطعام نحو ٩٫٨ مليارات شخص يجب أن تأتيَ من مكانٍ آخر. تساعد حاليًّا الزراعة المائية البحرية على تلبية الطلب على الأطعمة البحرية؛ ففي عام ٢٠١٦ أُنتِج ما مجموعه ٢٩ مليون طن من الأطعمة البحرية المستزرعة بالإضافة إلى الكمية التقريبية من الأطعمة البحرية غير المستزرعة، والتي تبلغ ١٢٠ مليون طن.
لا يدمِّر الصيد الجائر الأنواع المستهدفة فحسب، بل يؤثِّر أيضًا على آلية عمل الأنظمة البيئية البحرية التي هي جزءٌ منها، الأمر الذي يحدُث في كثيرٍ من الأحيان بطرقٍ غير متوقَّعة. يُشكِّل تدهور مصايد أسماك القد في شمال غرب المحيط الأطلنطي مثالًا جيدًا على التأثيرات الهائلة للصيد الجائر على بقية الشبكة الغذائية. فقد كانت أسماك القد وفيرةً في الساحل الشمالي الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية ولكن المصايد تدهورت بسبب الصيد الجائر في أوائل تسعينيَّات القرن العشرين. وذلك لأن سمك القد هو أحد المفترسات الرئيسية للكركند ومع إزالته من النظام البيئي تفاقمَت أعداد الكركند. لا يوجد حتى الآن أيُّ مؤشر على استعادة مصايد سمك القد، ومن ثَم يبدو أن هذا التحوُّل إلى نظامٍ بيئي يهيمن عليه الكركند هو وضع جديد طويل المدى. يستفيد صيادو الكركند في الوقت الحاليِّ من أعداده الكبيرة، ولكن تجمُّعه بأعداد كبيرة، إضافةً إلى الإجهاد المرتبط باحترار المحيطات، يجعله عرضةً للمرض الذي أهلك مخزون الكركند في مناطقَ أخرى. ومن الأمثلة الأخرى على تأثيرات الصيد الجائر على النظام البيئي مصايد أسماك السردين والبَلَم قبالة الساحل الجنوبي الغربي لأفريقيا. تدهورت مصايد الأسماك هذه في سبعينيَّات القرن العشرين نتيجةَ مزيجٍ من الصيد الجائر والتغيرات في الظروف البيئية. وسرعان ما حل محلَّ السردين والبَلَم أعدادٌ كبيرة من أسماك الفصيلة القوبيونية وقناديل البحر، التي هي أقلُّ في قيمتها الغذائية بكثير. نتيجةً لذلك، قلَّت أعداد الحيوانات الأخرى في النظام البيئي، التي كانت تتغذى في السابق على أسماك السردين والبَلَم ذات القيمة الغذائية العالية، ويشمل ذلك البطاريق وطيور الأطيش بالإضافة إلى العديد من أنواع سمك النازلي التي كانت مصايدها مزدهرةً في الماضي. يبدو هذا أيضًا تحوُّلًا طويلَ الأجل إلى نظام بيئي جديد أقلَّ تنوعًا وإنتاجية. تُظهر هذه الأمثلةُ أن المسئولين عن إدارة مصايد الأسماك لا يتعيَّن عليهم فحسب أن يتعاملوا مع الأنواع المستهدفة، بل عليهم أيضًا اتخاذ نهجٍ أوسعَ نطاقًا «يستند إلى الأنظمة البيئية» لإدارة مصايد الأسماك التي تتطلب فهمًا أكبرَ بكثير لكيفية التأثير المتبادل بين جميع الكائنات الحية في مختلف المستويات الغذائية في النظام البيئي.
مستقبل مصايد الأسماك البحرية: آخر الأطعمة غير المستزرعة
ثمَّة بعض التقدُّم المُحرَز في الآونة الأخيرة في إعادة تكوين مخزونات الأسماك التي تعرضَت للصيد الجائر، ولا سيما في البلدان المتقدمة التي تتمتَّع بأنظمة إدارة مُحسَّنة. على سبيل المثال، زادت نسبة الاستدامة في صيد مخزونات الأسماك في المياه الأمريكية من ٥٣ في المائة في عام ٢٠٠٥ إلى ٧٤ في المائة في عام ٢٠١٦، وفي المياه الأسترالية من ٢٧ في المائة في عام ٢٠٠٤ إلى ٦٩ في المائة في عام ٢٠١٥. ولكن الإفراط في الصيد في تزايد في البلدانِ الأقلِّ نموًّا بسبب محدودية المراقبة، والإدارة، والقدرة على إنفاذ القوانين. إن عكس هذا الاتجاه وإعادة تكوين المخزونات المستنفدة هو مشروعٌ مهم للغاية للحفاظ على تنوُّع الأنظمة البيئية البحرية وسلامتها والإبقاء على آخرِ مصدرٍ مهم للبشر من الأطعمة غير المستزرعة.
دَور المحميَّات البحرية في إدارة مصايد الأسماك
توفِّر المناطق البحرية المحمية «المحظورة» مساحةً لا يمكن أن يصيد فيها الصيادون الأسماكَ واللافقاريات لأغراض ترفيهية وتجارية. يساعد هذا الأنواعَ على تزايد أعدادها داخل المحمية البحرية، وعلى العيش مُددًا أطول، والوصول إلى أحجام أجسام أكبر. ويمكن للحيوانات الأكبر حجمًا أن تُنتِج أعدادًا أكبرَ من البيض، في حين أنه كلما طالت حياة الحيوان، زادت مرَّات تكاثره. لذلك، تُنتِج الحيوانات المُعمِّرة ذاتُ الأجسام الكبيرة التي تعيش في المحميات البحرية كمياتٍ كبيرةً من البيض واليرقات التي تشقُّ طريقها خارج المحمية وتُعزز نشاط المخزونات المستنفَدة في المناطق المجاورة. كما أن للمحميات البحرية تأثيرًا «غير مباشر». فمع نموِّ أعداد الأنواع المتنقلة، مثل الأسماك والكركند، تتشبَّع المنطقة المحمية بها في نهاية المطاف، وتبدأ في الانتشار في المناطق غير المحمية حيث تدعم المصايد الترفيهية والتجارية. ليس مستغربًا إذن، كما لاحظ الكثير من الصيادين، أن أفضلَ عمليات الصيد تكون في كثيرٍ من الأحيان بجوار المحميات الطبيعية القائمة.
التساؤل الأساسي المطروح هو عن قدْر المساحة من المحيط العالمي اللازم حمايتُها لتحقيق استعادةٍ مُجدية للأنظمة البيئية للمحيطات في كوكبنا وإتاحة الفرصة لإعادة تكوُّن المخزونات السمكية لتصل إلى الكميات التي توفِّر بها عائداتٍ تجاريةً مستقرة لصناعة صيد الأسماك وإمدادًا مستدامًا وآمنًا للبشر من الأطعمة البحرية غير المستزرعة. يُجمِع علماء الأحياء البحرية بشكلٍ متزايد على أن وجوب إنشاء شبكة من المحميات البحرية المحظورة تغطي أكثرَ من ٣٠ في المائة من مساحة المحيط العالمي وإدارتها على النحو الأكمل لتحقيق ذلك، غير أن بعض علماء البيئة يعتقدون الآن أن نصف مساحة الأرض ومن ثَم نصف مساحة المحيطات يجب حمايتها من التدخل البشري لوقف الخسارة في التنوُّع البيولوجي لكوكبنا.
يُعد إنشاءُ مثلِ هذه الشبكة من المناطق المحمية البحرية وإدارتها أمرًا عاليَ التكلفة، غير أن فوائده المتوقعة من شأنها تحقيقُ عائدٍ أعلى، بما في ذلك زيادة في إنتاجية مصايد الأسماك التجارية، وخلق عدد كبير من فرص العمل، وزيادة الدخل عبر زائري تلك المحميات. على سبيل المثال، في حالة إتاحة الفرصة لإعادة تكوُّن جميع المخزونات البحرية التي أُفرِط في صيدها ثم صِيدَت بطرقٍ مستدامة، يمكن أن يزيد المصيد العالمي بنحو ١٦٫٥ مليون طن سنويًّا وفقًا لتقديرات علماء مصايد الأسماك.
في عام ٢٠١٥، تبنَّت الأمم المتحدة خطةً للتنمية المستدامة للمحيطات من أجل «الحفاظ على المحيطات والبحار والموارد البحرية واستخدامها على نحوٍ مستدام». أحد أهداف الخطة هو أنه يجب حماية ١٠ في المائة على أقلِّ تقدير من المناطق الساحلية والبحرية بحلول عام ٢٠٢٠. وتوفِّر شهريًّا منصةٌ على الإنترنت، وهي منصة «بروتيكتيد بلانيت»، التي يديرها المركز العالمي لرصد الحفظ التابع للأمم المتحدة، إحصائياتٍ مُحدَّثةً عن تغطية المحميات البحرية على مستوى العالم. وتُظهر بياناتها أن تغطية المناطق المحمية البحرية في عام ٢٠٠٠ لم تتجاوز مليوني متر مربع، أو ٠٫٧ في المائة من مساحة المحيطات. منذ ذلك الحين، شهدت النسبة زيادةً بأكثر من ١٠ أضعاف مع إنشاء أكثرَ من ١٥ ألف محمية بحرية في جميع أنحاء العالم تغطي ٢٧ مليون كيلومتر مربع أو نحو ٧٫٥ في المائة من مساحة المحيطات. يُعد هذا تقدمًا جيدًا، لكنه لا يزال أقلَّ بكثير من الحد الأدنى المطلوب، وهو ٣٠ في المائة. علاوةً على ذلك، فإن التغطية غيرُ متكافئة، حيث يُغطَّى أقلُّ من ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، أو نحو ١١ في المائة من إجمالي التغطية، في أعالي البحار. يرجع هذا إلى الصعوبات القانونية التي ينطوي عليها حاليًّا إنشاء المناطق البحرية المحمية في المياه الدولية. من المشكلات الأخرى أنه بسبب نقص الموارد، لا يحظى العديد من المحميات البحرية بالإدارة الجيدة، ومن ثَم يستمر الصيد فيها كما كان قبل تخصيصها للحماية. استجابةً لذلك، يُعِدُّ الاتحاد الدولي لحفظ البيئة «قائمةً خضراء» بالمناطق البحرية المحمية التي تتحقَّق فيها معاييرُ الإدارة المطلوبة لتقديم نتائج واقعية لجهود الحفاظ على البيئة.
بالطبع لن تُعالج المناطق البحرية المحمية جميعَ مشكلات المحيطات، وما هي إلا إحدى الأدوات لإدارتها بكفاءة. وبعيدًا عن الصيد الجائر، تتعرَّض الأنظمة البيئية البحرية لضغوط من التلوث وتأثيرات تغيُّر المناخ من احترار المحيطات والتحمُّض، وكلها أمورٌ تتجاوز حدودَ المحميات البحرية وتعمل بشكلٍ متآزر للحد من قدرة الأنظمة البيئية البحرية على العمل بشكل طبيعي. يستلزم الأمر استجاباتٍ وأدوات أخرى لمعالجة هذه القضايا.