نظرة خاصة على السينما الهندية
وفي الوقت الذي كانت فيه صناعة السينما تزدهِر في أنحاء شبه القارة في مراكز كبيرة مثل كلكتا ومَدراس؛ حيث كانت كلٌّ منهما تُنتج الأفلام باللغات واللهجات القومية خاصتها، فإن المركز السينمائي للهند كان مومباي دائمًا (والتي كانت تُسمى بومباي قبل عام ١٩٩٥). يُعتبر أسلوب مومباي المميز في صناعة السينما التجارية، المعروف باسم بوليوود، مزيجًا فريدًا من الميلودراما ونجوم الشباك ومواقع التصوير والأزياء الزاهية الألوان والأغنيات والرقصات المُفعَمة بالطاقة. تُعرَف الأفلام الصادرة من هذا الجزء من العالم أحيانًا باسم «السينما الهندية»؛ لأنَّ معظمها ناطق باللغة الهندية وهي الفرع القائم على السنسكريتية من اللغة الهندوستانية المستخدَمة في شمال غرب الهند رغم أن بعض التعبيرات تتسلَّل إليها من الأردية وهي الفرع القائم على الفارسية من اللغة الهندوستانية الذي يُفضَّل استخدامه في باكستان.
في بلدٍ به نحو ٢٢ لغة «رسمية»، من ضمنها الإنجليزية، وعادات ثقافية متنوِّعة بصورة كبيرة، من الأكثر دقة التحدث عن أنواع السينما الهندية بدلًا من السينما الهندية، لكن ما يعرفه العالم جيدًا بوجه عام هو «بوليوود». أصبحت بوليوود، بأهدافها التجارية الواضحة وأسلوبها الانتقائي، تُمثِّل الهند بالنسبة إلى عامة الجمهور سواء في الهند أو في الأسواق الناشئة أو بين الشتات الهندي الضَّخم. وفي صناعة تتزايد عالميَّتها باستمرار، فإن مُنتِجي ومخرجي ونجوم بوليوود هم من يعرضون صور الهند على ملايين شاشات السينما ليراها الجميع. ظاهريًّا، تُمثِّل هذه الصور في الأغلب خيالات أو عالَمًا سحريًّا من القصص والمناظر؛ حيث كل قصة هي ميلودراما، وتُغرق المناظر التي تحتوي على زيِّ الساري والأغنيات والرقصات التاريخ في النشوة. لكن تحت السطح اللامع، هناك قُوى فاعلة تقوم بعملٍ ثقافي هام. ومع زيادة عالمية بوليوود، فإن هذا العمل اتخذ اتجاهاتٍ جديدة. لفهم ما يتغيَّر وما تعنيه هذه التغييرات، نحتاج للرجوع للوراء خطوة وفحص جزء من تاريخ السينما الهندية.
(١) السينما الهندية الكلاسيكية
كما هو الحال في الصين، كان الغرب يُصدِّر الأفلام إلى الهند منذ وقت مبكر جدًّا؛ فقد عُرِضَت الأفلام القصيرة الأُولى للأخوين لوميير في بومباي في السابع من يوليو عام ١٨٩٦ في فندق واتسون الراقي. وسرعان ما عُرض سحرُ السينما في خيمات ودور عرض مثل مسرح نوفيلتي؛ حيث يُمكِن لمَن ينتمون للطبقتَين المتوسِّطة والدنيا الاستمتاعَ به تحت سقفٍ واحد. وبحلول عام ١٩١٠، كانت الأفلام تُعرَض في قاعات السينما وقصور المسرَح في كل المدن الكُبرى. وعُرضت أفلام أول مخرج هندي وطني وهو هيرالال سين في كلكتا. لكن المؤسِّس الحقيقي للسينما الهندية كان دونديراج جوفيند فالك، وهو ابن باحث في اللغة السنسكريتية. يُقال إنه بينما كان يشاهد فيلمًا اسمه «حياة المسيح» («ذا لايف أوف كرايست»، ١٩١٠)، تساءل ماذا لو استبدل بالمسيح الإله الهندي الشهير، كريشنا. باع بوليصة التأمين على الحياة الخاصة به وسافر إلى لندن وعاد بكاميرا ليَصنع أول فيلم روائي هندي طويل وهو «الملك هاريشتشاندرا» (١٩١٣). حذا آخرون حذوَه في العشرينيات من القرن العشرين مُنتِجين أفلام أساطير وتاريخ وحركة. خلق ظهور الأفلام الناطقة في الثلاثينيات مشكلةً لدولة تحوي العديد من اللغات، لكنه كذلك أفسح المجال للأفلام لتحتويَ على صوتٍ وموسيقى مما زاد من جاذبيَّتها لدى الطبقات الوسطى. شهدت هذه الحقبة ظهور أستديوهات كبيرة مثل «برابهات» الذي تأسَّس عام ١٩٢٩ و«نيو ثييترز» الذي تأسَّس عام ١٩٣١ و«بومباي توكيز» الذي تأسس عام ١٩٣٤، والتي ازدهَرَت مُعتمِدةً على نظام نجم الشباك. وعندما أصبحت الهندية هي اللغة الوطنية، أصبحت بومباي المركز الوطني لصناعة السينما حيث كانت تُقدِّم نجومًا من شمال البلاد بملامح بنجابية جميلة.
التاريخ | التاريخ الوطني | تاريخ السينما |
---|---|---|
٥٦٣–٤٨٣ قبل الميلاد تقريبًا | حياة بوذا. | |
٢٦٨–٢٣٢ قبل الميلاد | أشوكا الأكبر يتولى حكم الإمبراطورية الماورية. | |
٣٢٠–٥٥٠ ميلاديًّا | توحد إمبراطورية جوبتا شبه القارة ويبدأ «العصر الذهبي للهند». | |
القرن الثامن الميلادي | السلاطين المسلمون يدخلون الحكم الإسلامي. | |
القرن السابع عشر الميلادي | تصل إمبراطورية المغول إلى قمَّة سلطتها وثرائها. | |
القرن الثامن عشر الميلادي | بداية الحكم البريطاني. | |
١٨٩٦ | يعرض الأخوان لوميير أول فيلم في الهند في فندق واتسون ببومباي. | |
١٩١٣ | يُخرج داداساهب فالك فيلم «الملك هاريشتشاندرا» (راجا هاريشتشاندرا)، والذي يُعتبَر أول فيلم هندي طويل. | |
١٩١٨ | يضع قانون التصوير السينمائي الهندي نظامًا للرقابة وترخيص دور العرض. | |
١٩٢٠ | يقود المهاتما غاندي حركة عدم التعاون ضد الحكم البريطاني. | |
١٩٢٩ | تأسيس أستديو برابهات. | |
١٩٣١ | تحلُّ شركات إنتاج الأفلام الناطقة محل تلك المنتجة للأفلام الصامتة. | |
١٩٣٤ | تأسيس أستديو بومباي توكيز. | |
١٩٤٧ | تحصل الهند على استقلالها من بريطانيا وتنقسم إلى الهند وباكستان ويُصبح جواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند. | |
١٩٤٧-١٩٤٨ | اندلاع الحرب بين الهند وباكستان بسبب النزاع على كشمير. | |
١٩٤٨ | اغتيال المهاتما غاندي. | |
١٩٥١ | صدور فيلم «المتشرد» لراج كابور. | |
١٩٥٣ | إغلاق أستديو برابهات. | |
١٩٥٥ | صدور فيلم «أغنية الطريق الصغير» (سونج أوف ذا ليتل رود) لساتياجيت راي. | |
١٩٥٧ | صدور فيلم «أمنا الهند» لمحبوب خان. | |
١٩٥٩ | صدور فيلم «ورود من ورق» («بيبر فلاورز») لجورو دوت. | |
١٩٦٤ | وفاة نهرو | |
١٩٦٥ | حرب الحدود الثانية بين الهند وباكستان. | |
١٩٦٦ | تولي ابنة نهرو، إنديرا غاندي، منصب رئيس الوزراء. | |
١٩٧٣ | صدور فيلم «نهر اسمه تيتاس» (أ ريفر كولد تيتاس) لريتويك جاتاك. | |
١٩٧٥ | إنديرا غاندي تعلن حالة الطوارئ. | صدور فيلم «الشعلة» لراميش سيبي. |
١٩٧٧ | صدور فيلم «آمار أكبر أنتوني» لمانموهان ديساي. | |
١٩٨٤ | اغتيال إنديرا غاندي. | |
١٩٩٤ | فيلم «من أكون بالنسبة إليك؟» لسوراج آر بارجاتيا يُصبح أنجح الأفلام في تاريخ السينما الهندية. | |
١٩٩٥ | صدور فيلم «الشجاع يفوز بالعروس» (بريف هارت ويل تيك ذا برايد) لأديتيا تشوبرا. | |
١٩٩٨ | صدور فيلم «أحيانًا تحدث أمور» لكاران جوهر، بينما تمنح الحكومة صناعة السينما صفة رسمية. | |
٢٠٠١ | الولايات المتحدة ترفع العقوبات عن الهند بعد دعمها للحرب على الإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. | ترشيح فيلم «لاجان: ذات مرة في الهند» («لاجان: وانس آبون آ تايم إن إنديا») لأشوتوش جواريكر لجائزة الأوسكار. |
٢٠٠٢ | صدور فيلم «صحبة» («كامباني»)، وهو فيلم إثارة وجريمة لرام جوبال فارما وتحقيقه لنجاح كبير في الهند وخارجها. | |
٢٠٠٤ | موجات تسونامي في المحيط الهندي تقتل ٢٣٠ ألف شخص في ١٤ دولة، من بينهم ١٨ ألفًا في الهند. | |
٢٠٠٨ | اتهام مسلحين من باكستان بتنفيذ هجمات في مومباي. | |
٢٠٠٩ | صدور فيلم «مصنع هاريشتشاندرا» («هاريشتشاندراتشي فاكتوري») لباريش موكاشي، وهو فيلم باللغة المراثية عن ميلاد السينما الهندية، وفوز فيلم «المليونير المتشرد» («سلامدوج مليونير») للمخرج البريطاني داني بويل ومساعده الهندي لافلين تاندان، المستوحى من السينما الهندية والمكتوب ثلث السيناريو خاصته باللغة الهندية، بثماني جوائز أوسكار. |
شكَّلت الأربعينيات والخمسينيات ما يُسمى بالعصر الذهبي للسينما الهندية؛ حيث قدَّم بعضٌ من أفضل مُخرجي البلاد أفضل أعمالهم في تلك الفترة، ومنها محبوب خان وراج كابور وجورو دوت وبيمال روي. قدَّم فيلم «أمنا الهند» (١٩٥٧) لمحبوب خان المُمثلةُ المشهورة نرجس كفلَّاحة فقيرة تُمثِّل حياتُها الصعبة صراعَ الأمة الجديدة من أجل الاستقلال ومُواكَبة العصر. صورها محبوب هي والقرويين بواقعية تجعلنا نتعاطف معها بشدَّة، لكنه كان كذلك قادرًا على صنع أفلام بالأسلوب الهوليوودي الكلاسيكي مثل «أسلوب» («أنداز»، ١٩٤٩) ويحكي قصة رجلين يقعان في غرام نفس الوريثة الثريَّة العَصرية (والتي قامت نرجس بدورها كذلك). استعار راج كابور شخصية الصعلوك الصغير لتشارلي تشابلن وحوَّله إلى بطل هندي حضري في فيلم «المتشرد» (١٩٥١) و«شري ٤٢٠» (١٩٥٥). يقوم راج كابور بدور راجو، البطل الذكر، في كلا الفيلمين أمام نرجس. إن تتابع مشاهد الحلم المفصل في فيلم «المتشرد» بهندسة المعبد المعمارية والسلَّم اللولبي والتماثيل الهندوسية وتصوير باسبي بيركلي والمزج بين الرقص الكلاسيكي والقَبَلِي يُمثِّل البراعة الانتقائية التي استقاها كابور من عدة مصادر ليَروي القصة. ومثل محبوب خان، فإن كابور أظهر مشاعر حقيقية تجاه المُضطهَدين، رغم أن تصويره للمشردين من ساكني الشوارع في فيلم «شري ٤٢٠» كمجتمع مترابط كان مليئًا أكثر بالحيوية والتفاؤل. أما أفلام جورو دوت فهي بعيدة كل البُعد عن أن تكون مُتفائلة. فإذا كان كابور دائمًا رجل الاستعراضات، فإن دوت كان فنانًا سوداويًّا على الدوام. يُقدِّم فيلمه «الظمآن» («ذا ثيرستي وان»، ١٩٥٧) القصة الحزينة لشاعر عاشق مرفوض. كما يُقدِّم فيلم «ورود من ورق» (١٩٥٩) قصة أخرى باعثة على الكآبة؛ حيث يعرض قصة مخرج سينمائي مُتعطِّش للحب والشُّهرة يقع في غرام نجمة أفلامه بلا أمل. يُعتبَر الفيلم الذي يتميَّز بالعاطفية والحساسية والتشاؤم الشديد، الآن، سيرةً ذاتية وخاصَّةً بعد العثور على مخرجه ميتًا بجرعة زائدة من المنوِّمات عام ١٩٦٤.
من بين هؤلاء المُخرجين الثلاثة، كان راج كابور هو فقط من عاش بعد انتهاء الستينيات، عندما قدَّم مخرجان شابَّان موهوبان من جزءٍ آخَر من الهند وهو منطقة البنجال رُؤية سينمائية مُختلِفة ومُميَّزة. ترتبِط أفلام ساتياجيت راي وريتويك جاتاك بحركة السينما الجديدة التي ظهَرت في الستينيات والسبعينيات والتي يُشار لها أحيانًا بالسينما المُوازية، وهي موجة من الأفلام ذات الميزانيات المُنخفِضة صنَعها مخرجون مُدرِكون لحالة المجتمع كانوا يعملون بشكلٍ مُوازٍ للسينما التجارية الهندية. يُعتبَر ساتياجيت راي هو الأشهر إلى حدٍّ بعيد من بين كل هؤلاء المخرجين الهنود أصحاب الأسلوب الخاص. بدأ صنع الأفلام في الخمسينيات بثلاثية «آبو» التي تتضمَّن «أغنية الطريق الصغير» (١٩٥٥) و«الذي لا يُقهر» («ذا أنفانكويشد»، ١٩٥٦) و«عالم آبو» («ذا وورلد أوف آبو»، ١٩٥٩). صُوِّرت هذه الثلاثية في منطقة البنغال التي وُلِد فيها وتضمُّ مُمثِّلين وأشخاصًا عاديِّين يتحدَّثون البنغالية في مواقع تصوير واقعية (شكل ٢-١٩). كان راي مُخرجًا صاحب أسلوب خاص وفنانًا مستقلًّا طوَّر أساليبَ لتُناسب الرسائل الجادة التي يريد توصيلها، لكن بينما كان اسمه معروفًا في المهرجانات الدولية وقاعات العرض حول العالم، فإن جمهوره في الهند دائمًا ما كان صغيرًا رغمَ أنه استعان بأشخاص وأماكن وأحداث وطنية في أفلامه. بعد ثلاثية «آبو» الشهيرة، استمرَّ راي في صُنع مجموعة من الأفلام الرائعة مجرِّبًا أساليب جديدة لتُناسب أفكارًا جديدة. ومع ازدياد استيائه من الحالة القومية في البلاد، تخلَّى عن الواقعية واتَّجه إلى التعبيرية وأشكال سينمائية أخرى، ربما تُوصِّل على نحو أفضل الظروف الصعبة التي ميَّزت زمنه؛ مثل البطالة المُتفشِّية في المناطق الحضرية والتي جسَّدها في فيلم «المدينة الكبيرة» («ذا بيج سيتي»، ١٩٦٣)، والمجاعة المُميتة في البنغال عام ١٩٤٣ والتي صوَّرها في فيلم «الرعد البعيد» («ديستانت ثاندر»، ١٩٧٣).
أما ريتويك جاتاك الذي وُلد في شرق البنغال، فعانى بشدة عندما فرق الانفصال السياسي للهند عن باكستان بينه وبين وطنه، ومثَّل الألم الشخصي الخاص بهذا الانفصال والاجتثاث الثقافي القُوَّة الدافعة وراء أعماله. كانت أفلامه السياسية المتطرفة رائعة، لكنها متفاوتة في الأغلب؛ حيث كان يُنجز لحظات من القوة العاتية من خلال أساليب سينمائية غريبة. كان جاتاك دائمًا ما يسعى للعثور على طرُق جديدة لعرض الحياة الداخلية لشخصياته بتأطير المشاهِد بصورة غير معتادة أو استخدام ظلال مُنذِرة بالشؤم أو موسيقى تصويرية مشوَّهة، بينما تعاني تلك الشخصيات من انهيار العائلة (كما في فيلم «نجم مُغطًّى بالسُّحُب» («كلاود كابد ستار»، ١٩٦١)) أو خسارة القرية (كما في فيلم «نهر اسمه تيتاس» (١٩٧٣)). في آخِر أفلامه، «مناقشات وقصة» («أرجيوميتنس آند آ ستوري»، ١٩٧٤)، لعب جاتاك نفسه دور البطولة؛ حيث قدَّم شخصية مُفكِّر سكِّير، كما لو كان يتنبأ بموته المفاجئ عام ١٩٧٦.
بوجه عام، لم يعبُر أحدٌ الخطوط الفاصلة بين السينما الموازية والسينما التجارية في الهند. أصبحت الأفلام البوليوودية في الستينيات أكثر زخرفة وميلًا إلى الغرب وابتعادًا عن جذورها الوطنية؛ ففي الفيلم المرِح «الطابق الثالث» («ذا ثيرد فلور»، ١٩٦٦) لراج كابور، يقوم شقيق راج الأصغر شامي بدور روكي وهو شبيهٌ بجيمس دين وإلفيس بريسلي. أما القصة المعقَّدة لفيلم «هاري راما هاري كريشنا» (١٩٧١) لديف أناند، فتُقدِّم أخًا وأختًا تفرَّقا عند مولدِهما. يكتشِف الأخ أن أختَه قد أصبحت من الهيبيز وأدمنت المخدِّرات. أما عن أشهر الأفلام الهندية في السبعينيات فهو «الشعلة» أو «الجذوات» (١٩٧٥) لراميش سيبي، والذي استعار بعض عناصرِه من أفلام الغرب الأمريكي مثل «عربة الجياد» لجون فورد، وأفلام الاسباجيتي لسيرجيو ليوني (أحيانًا ما يُوصَف الفيلم بأنه «فيلم غرب أمريكي بنكهة هندية»)، وتُعرِّف من خلاله الجمهور على المُمثل العظيم أميتاب باتشان. بدأ الفيلم موجةً من أفلام الانتقام العنيفة وتحوَّل باتشان إلى نوعٍ جديد من البطل المخالف للعرف؛ حيث أصبح يُمثِّل الشاب الهندي الغاضب؛ ففي فيلمَي «الحائط» («ذا وول»، ١٩٧٥) و«آمار أكبر أنتوني» (١٩٧٧)، قدم باتشان شخصيتَين تلجآن إلى حياة الجريمة كردِّ فعلٍ على تخلِّي الأبوَين عنه. إنَّ أحداث كلا الفيلمين تدور بشكلٍ بارِز حول أشقاء يختار كل منهما طريقًا مُختلفًا في الحياة. في فيلم «الحائط»، ينضمُّ باتشان لعالم الجريمة بينما يُصبِح شقيقه رجل شرطة. أما في فيلم «آمار أكبر أنتوني»، فإن باتشان وأشقاءَه يتفرَّقون عند مولدِهم. يتبنَّى أولهم مسلم، ويتبنَّى الثاني هندوسيٌّ، بينما يتبنى باتشان قسٌّ مسيحي. بالنظر إلى تلك الحِقبة، يُميِّز باحثو السينما نمطًا في هذه القصص يتمثَّل في الأشقاء الذين فرَّقت بينهم الحياة ودافِع الانتقام والخارجون عن القانون المُضطرِبون، حيث ينظرون إليها كردِّ فعل مُتأخِّر للأحداث التاريخية. وقبل فحص مثل هذه الروابط بين السينما الهندية وتاريخ الهند، سيكون من المفيد تقديم عرض موجز لماضي الهند الحديث.
(٢) التاريخ والسياسة والسينما الهندية
تعرَّضت الأرض التي نَعرفها اليوم بالهند وباكستان وبنجلاديش، على مدار بضعة الآلاف من السنين الأولى من تاريخها، للاحتلال على يد سلسلة من الغزاة؛ وهم الآريُّون والفُرس والإغريق والمسلمون، أو التوحيد بواسطة حكام وطنيين مثل تشاندراجوبتا وأشوكا اللذين أسَّس كلٌّ منهما إمبراطورية قوية. في الأزمنة الأحدث، سيطرت بريطانيا على هذه الأرض عن طريق التحكُّم في التجارة من خلال شركة الهند الشرقية في القرن الثامن عشر، وتلا ذلك تعزيز السلطة السياسية من خلال نظام الراج البريطاني في القرن التاسع عشر. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حصَدت حملة موهانداس «المهاتما» غاندي السلمية للوصول إلى الاستقلال زخمًا شعبيًّا، مما أدَّى في النهاية إلى خروج بريطانيا من الهند في عام ١٩٤٧، وأصبح جواهر لال نهرو، رئيس المؤتمر الوطني الهندي، أول رئيس وزراء للهند. لكن الخلافات الطويلة الأمد بين الهندوس والمسلمين، والتي تفجَّرت في عنف مروِّع أفسدت استقلال الهند. وبينما نادى غاندي بالتسامح بين كل الأديان، فإن قائد العصبة الإسلامية، محمد علي جناح، نادى بتقسيم الهند إلى دولتَين مُنفصلتَين على أساس الدين. أدَّى التقسيم الذي أخرج للنور باكستان عام ١٩٤٧ إلى ترك الملايين من الأقليات الهندوسية والمسلمة محاصَرين في أرضٍ مُعادية. وأثناء فرار هذه الجماعات الكبرى، كلٍّ إلى البلد الذي تنتمي إليها من حيث الدِّين؛ حيث لجأ الهندوس إلى الهند والمسلمون إلى باكستان، حدثت صدامات عنيفة بينهما أدَّت إلى سقوط نصف مليون قتيل. كما أدى اغتيال غاندي عام ١٩٤٨ إلى تأجيج الوضع بشكلٍ أكبر. وبعد موت نهرو عام ١٩٦٤، خلَفه لفترة قصيرة لال بهادور شاستري الذي انخرَط في حرب مع باكستان بسبب منطقة كشمير المتنازَع عليها، ثم تلاه ابنة نهرو، إنديرا غاندي التي تولَّت منصب رئيسة الوزراء عام ١٩٦٦. وبعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية، ووسط اتهامات بالفساد، أعلَنَت غاندي حالة الطوارئ في البلاد عام ١٩٧٥، مُعلِّقةً الحقوق المدنية لمدة غير مسبوقة وصلت إلى ١٨ شهرًا. ثم اغتيلت غاندي بيَدِ أحد أفراد طائفة السيخ عام ١٩٨٤ بعد أن شنَّ جنودُها هجومًا دمويًّا ضد مُتطرِّفي السيخ في المعبد الذهبي الذي يُعتبَر أقدس مقامٍ ديني لديهم. اتَّسمت الأعوام الخمسة والعشرون التالية بالعداوات المستمرَّة مع باكستان (في الأغلب بسبب النزاع على كشمير)، والمزيد من النزاعات العرقية (والتي ضمَّت نمور التاميل في سريلانكا)، واغتيال آخر (راجيف، ابن إنديرا غاندي، بيدِ المتعاطِفين مع التاميل)، وكوارِث طبيعية (مَوجات تسونامي العاتية عام ٢٠٠٤ وزلزال عام ٢٠٠٥)، وهجمات إرهابية على مومباي (بواسطة مُسلَّحين من باكستان) في عام ٢٠٠٨. لكن في نفس الوقت، وبينما سيطرت الأخبار السلبية على عناوين الأخبار، بدأت الهند تتمتَّع بنموٍّ اقتصادي ثابت منذ عام ١٩٩٠ تسبَّب فيه جزئيًّا تدفُّق رأس المال الأجنبي وتعهيد الخدمات التقنية من دول أخرى، وزيادة مثيرة في الطبقة الوسطى في الهند.
في تلك الأثناء، اجتمَعَ عدد من الشعراء ونشطاء المسرح وصنَّاع الأفلام الموهوبين الساعين لصُنعِ سينما جماهيرية، تحت راية جمعية مسرح الشعب الهندي والتي ترتبِط بالحزب الشيوعي الهندي. كان كيه إيه عباس، كاتب سيناريو فيلمَي «المتشرد» و«شري ٤٢٠» عضوًا في هذه الجمعية. وكان مخرجون مثل راج كابور وريتويك جاتاك ومحبوب خان (الذي اتَّخذ من الرمز الشيوعي للمطرقة والمنجل رمزًا له) مُتعاطِفين مع القضية التي تتبنَّاها الجمعية. وبعد استقلال الهند، قام نهرو بخُطوات لجعل السينما عنصرًا فاعلًا للتغيير. وكقائد لأمَّة جديدة، وبشكلٍ مُضادٍّ لغاندي، كان نهرو يؤمن بأن الأفلام أهم من الصحف والكتب مجتمعَين. واتساقًا مع هذا المعتقَد، اتخذ خطوات لدعم صُنع سينما وطنية جيدة.
عكسَت شاشات دُور العرض في الهند السياسة الهندية بطُرُق عديدة. وأحيانًا كانت غائبة بشكل واضح. وخلال السنوات التي سبَقَت الاستقلال، انتقل معجم الصور في تعريفِه لمُصطلَح «الهوية الهندية» من الأسطورة والخرافة إلى رُؤى أكثر واقعية للقرويين والعمَّال. أصبحت صور النساء وخاصة الأم التي تُعاني في صبر في إشارة إلى الهند، تُمثِّل الأمة ككل. واندمَجَت أشهَر ثلاثة أنواعٍ سينمائية — الأساطير والتاريخ والحركة — لتكوِّن نوعًا سينمائيًّا واحدًا وهو الأفلام الاجتماعية والتي تتركَّز حول العائلة الهندية. وخلال سنوات حكم جواهر لال نهرو، انهارت الآمال العظيمة للأمة الهندية، وتحوَّلت في النهاية إلى رماد مرير. انعكس في البداية إيمان نهرو بأن العلم الحديث والتخطيط الحضري سيبنيان اقتصادًا قويًّا للأمة الجديدة في شكل نوع سينمائي فرعي جديد مُتمثِّل في أفلام المدينة، والتي من أمثلَتِها «سائق التاكسي» («تاكسي درايفر»، ١٩٥٤) و«السوق السوداء» («بلاك ماركت»، ١٩٥٦). أقام راج كابور، والذي كان صديقًا شخصيًّا لنهرو، أحداثَ فيلمه «شري ٤٢٠» في بومباي، حيث يصِل بطل الفيلم، راج، إلى المدينة الكبيرة الصاخبة من مدينة الله آباد التقليدية (محل ميلاد نهرو) بآمالٍ عالية في الحصول على وظيفة لائقة. لكن لا يمرُّ وقتٌ طويل قبل أن يصطدم تفاؤل راج بالتشاؤم المنتشر بين سكان بومباي. ينصحُه أحد الغرباء بأن الأشخاص الصادقين دائمًا ما يكونون عاطلِين عن العمل، وأن صغار المُجرِمين جميعهم في السجن، وأن كِبار المُحتالين هم فقط من يعيشُون في أحسن حال؛ فهم من يُدير المدينة. وبعد فشل راج في العثور على عمل، يُحاول الانضمام إلى مجموعة من المشرَّدين الذين ينامون على الأرصفة، لكن حتى هؤلاء يُريدونه أن يدفع إيجارًا للعيش معهم. في النهاية، يتبع راج نصيحة الغريب حيث يُقايض أسماله البالية بالثروة الآتية بطُرُق غير شرعية ويهجُر أثناء ذلك فتاةً طيبة تُسمَّى فيديا (وهي كلمة تعني «الحكمة») من أجل فتاة لَعوب تُسمى «مايا» (وهي كلمة تعني «الوهم»). رغم ذلك، ما يُدركه في النهاية هو أن الرُّوح البسيطة للفقراء أفضل من الغُرور والخيانة لصَفوة المجتمع في بومباي. يعود في النهاية إلى فيديا وينتهي الفيلم برؤية «نهروية» متعلِّقة بالحصول على إسكان شعبي ميسور التَّكلِفة. لم يكن من المفاجئ أن «شري ٤٢٠» حقَّق نجاحًا كبيرًا في الاتحاد السوفييتي بينما أصبح فيلم «المتشرد» لراج كابور الفيلم المفضَّل للزعيم الصيني ماو تسي تونج.
لكن على الأغلب كانت الأفلام التجارية في ذلك الوقت غير سياسية. لم يكن هناك تقريبًا أيُّ ذكر للتقسيم والعنف بين المسلمين والهندوس لما يقرُب من عشرين عامًا. اعتبر البعض هذا «مؤامرة صمت». كما أن بوليوود لم تنتبِه كثيرًا لقمع إنديرا غاندي لحركة الناكسال المتطرفة في الستينيات أو فرضها لحالة الطوارئ في السبعينيات. بدأت الندبات العاطفية لهذه الأحداث في الطفو على السطح، حتى لو كان هذا بصورة غير مباشرة، خلال السبعينيات والثمانينيات. فمِن خلال العنف المُنتشِر الذي لا يرحم في فيلم «الشعلة» (انظر قسم «لقطة مقربة: الشعلة») وكذلك قصص «الفقد والاستعادة» في فيلمَي «الحائط» و«آمار أكبر أنتوني»، يرى النقاد قصصًا رمزية عن الهند الضائعة التي مزَّقها الصراع الديني وتقطيع الأَوصال السياسي. إنَّ الغضب الذي يملأ الشاب الغاضِب الذي يُمثِّله أميتاب باتشان تُغذِّيه الذكريات التي لا يُمكِن تجاهُلها.
(٣) المفاهيم الجمالية الهندية
إنَّ الوفرة الكبيرة في أفلام بوليوود وحيوية نجومها غير الاعتياديِّين وانغماسها في المُتَع العاطفية والطاقة الشديدة التي تُميِّز موسيقاها — كل هذه هي السِّمات المُميزة لجماليات السينما الهندية الجماهيرية. إنَّ انتقاد بوليوود لكونها سطحية أو غير واقعية أو تجارية، كما يقولُ البعض، لهو تطبيق للمعايير الجمالية الخاطئة؛ إذ يجب أن يحكم على بوليوود من خلال شروطها الخاصة؛ أي على أساس جمالياتها المحلية.
(٤) الغناء والساري والرقص والنجوم
توفُّر الأغاني والرقصات المميزة لبوليوود الإيقاع في الميلودراما. من الصعب تخيُّل فيلم بوليوودي من دون أغنية وفقرة راقصة. القليل جدًّا، إن وجد، من بين ما يُقدَّر عدده ﺑ ٢٨ ألف فيلم جماهيري صُنِعت في الهند خلال آخر سبعين عامًا لم يحتوِ على أي شكل من أشكال الرقص أو الغناء. ويأتي قدرٌ كبير من عوائد الأفلام الهندية اليوم من موسيقاها (موسيقى الأفلام مسئولة عما يزيد عن نصف مبيعات سوق شرائط الكاسيت والأقراص المدمجة)، كما يطلُب مقدِّمو تلك الموسيقى الآن أجورًا مُرتفعة. بعض «مُغنِّي البلاي باك» هؤلاء، وهم المُطربون الخفيُّون الذين تُسجَّل أصواتُهم سلفًا ويُحاكيها المُمثِّلون لاحقًا بشفاههم أمام الكاميرا، في نفس شُهرة نجوم السينما أنفسهم في الهند. يُقال إن المُغنية لاتا مانجيشكار وشقيقتها الصُّغرى آشا بوهسلي سجَّلت كلٌّ منهما أغنيات لما يزيد على ألف فيلم هندي.
دائمًا ما كانت الموسيقى عنصرًا أساسيًّا في الثقافة الهندية وهي غير مُقتصِرة على الأداء الغنائي الرسمي، بل موجودة في كل مكان في إيقاعات الحياة اليومية. فمنذ زمن سحيق، وعلى سبيل المثال لا الحَصر، كان الهواء في الهند ينبِض بالباهاجان (الأغنيات الدينية الهندوسية)، والقوالي (الأغاني الصوفية التعبُّدية)، وأغاني النوتيين، وكذلك موسيقى الأنابراسان (الاحتفال بتناول الأطفال للحبوب لأول مرة)، أو الموندان (الاحتفال بحلاقة شعر الطفل لأول مرة)، أو الهولي (مهرجان الألوان). كما خُلِّد النصَّان الكبيران الرئيسيان في الهندوسية، الرامايانا والمهابهاراتا، وربما جُسِّدت أحداثهما، بالغناء.
تشتهر الأفلام الهندية بطول مدَّتها، وجُزء كبير من هذا يعود إلى فقرات الغناء والرقص الروتينية. هذه الفواصل دائمًا ما تعوقُ سردَ القصة. أحيانًا يبدأ الأبطال في الغناء والرقص في تناغُم. وأحيانًا تُقحَم الفقرات الغنائية كتتابُع في حلم أو مجموعة مشاهد في خيال أحد العشاق. وربما تبدأ الأغنية في الهند وتستمر في ألمانيا أو سويسرا وتنتهي في الهند مجددًا. في الماضي، كانت هذه الفَواصل الغنائية غالبًا ما تكون عن الشوق والحب والأُلفة، وكانت تروقُ رغبات الجمهور الجنسية بطُرُق لم تكن تستطيع القصة أن تُوفِّرها أبدًا. مؤخَّرًا، أصبح الغناء والرقص مُرتبطَين أكثر بالنصِّ السينمائي؛ فهما يُكمِّلان السرد ويدفعان الأحداث وفي نفس الوقت يكشفان الشخصيات ويضبِطان الاتجاه العام للفيلم.
اقتبَسَت بوليوود نظام نجم الشباك خاصَّتها من هُوليوود ثم تفوَّقت عليها. وحتى أربعينيات القرن العشرين، كان المُشاهد الهندي الذي ينتمي للطبقة المتوسِّطة يعرف عن ممثِّلين مثل تشارلي تشابلن ودوجلاس فيربانكس الأب أكثر مما يعرفه عن المُمثِّلين الهنود. وبعد استقلال الهند، استبدل بهذه الرموز الأمريكية أخرى وطنية مثل نرجس وديليب كومار وديف أناند. كان مُخرجون مثل راج كابو وجورو دوت يقومون ببطولة أفلامهم بانتظام. وأدَّت شُهرتهم كمُخرجين إلى تعزيز مكانتِهم كنجوم. وفي السبعينيات، قدَّم أميتاب باتشان صورة جديدة لرجل الشارع، البطل القوي المُخالِف للعُرف الذي يمتلِك عينَين حزينتَين، وأصبح أكبر نجوم الهند في تاريخها. كما خضعَت نجومية المُمثلات كذلك لتغيير في السبعينيات وأوائل الثمانينيات عندما قامت ريخا ببطولة الأفلام، مما غيَّر صورة البطلة الهندية من صورة الأم الصبورة المُضحية التي كانت تُمثِّلها نَرجس إلى بطلة شيطانية مُخالفة للعُرف، ترتدي الساري الأسود وعاقدة العزم على الانتقام. نجوم اليوم، ذكورًا وإناثًا، أكثر رشاقةً ورياضية من أسلافهم. بالنسبة إلى النِّساء، فإنَّ الطريق الحالي للنجومية لا يمرُّ بأستديو المُمثل بقَدرِ ما يمرُّ بمدرسة الموضة ومُسابقات ملِكات الجمال. تميلُ النجمات إلى أن يكنَّ أصغر سنًّا وأكثر حداثة ويمزِجنَ الحوار الهندي بجُمل إنجليزية، لكن يجب عليهنَّ أولًا الظهور كنجمات وليس كمُمثِّلات يُؤدِّين أدوارًا واقعية. هؤلاء النجمات يبدون كما لو كنَّ يغمزنَ بأعيُنِهنَّ لنا من السماء اللاتي يسكنَّها.
(٥) مسألة التأثير
يُغنِّي كابور هذه الكلمات بينما يقومُ بدور راج، المتشرد المُهاجِر، الذي يترُك الريف المليء بالغجَر وثعابين الكوبرا والأفيال متَّجهًا نحو مدينة بومباي الحديثة (شكل ٢-٢٠). هنا في الشوارع المزدحمة، يشهد انتشار السيارات الأجنبية ولافتات الكوكا كولا على الطبيعة العالَمية للحداثة. ومثل ملابس راج، ربما تكون بوليوود مزيجًا من العناصر المقتبَسة من هنا وهناك لكنَّها تبقى هندية في جَوهرها.
دائمًا ما كان القلب الهندي المُفعَم بالعَواطف التي يُعبَّر عنها علانية من خلال العاطفة الدرامية والاستعراض هو القلب النابض للسينما الهندية. لا تتعلَّق شخصية بوليوود المميزة بالاستقلال الاقتصادي فقط. فمَن يعملون في صناعة السينما الهندية يفخرون بأن أفلامهم عاشت لعقود بسبب قوة الجمهور المحلِّي ووجَدَت لها أتباعًا مُخلِصين في العالم غير الغربي. وإذا كان المِصريُّون والنيجريون والرُّوس وحتى الأمريكيون ينجذبون إلى هذه الأفلام، فهل يرجع هذا إلى أنها تُخاطب حاجات عالَمية؟
مؤخرًا، بدأت السينما الهندية الجماهيرية في صنع موجات سينمائية وإلهام مقلِّدين في الغرب؛ فقد رُشِّح فيلم «لاجان» لأُوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية عام ٢٠٠١، بعد مرور أكثر من أربعة عقود على ترشيح فيلم «أمنا الهند» لنفس الجائزة. وفي نفس العام، أرجع باز ليرمان الفضل لبوليوود في فيلمِه «الطاحونة الحمراء» («مولان روج») بأسلوبه البصري الزاخِر وغَزارة العَواطف والرَّقصات الاستعراضية المُبالَغ فيها. في العام التالي، أحضر أندرو لويد ويبر بوليوود إلى منطقة ويست إند بلندن (وبرودواي لاحقًا) بمسرحية «أحلام بومباي» («بومباي دريمز»). وفي عام ٢٠٠٨، حقَّق فيلم «المليونير المتشرد» لداني بويل نجاحًا كبيرًا حول العالم واكتَسَح حفل توزيع جوائز الأوسكار والتي حَصَد فيها ثمانيَ جوائز.
(٦) بوليوود في التسعينيات: فيلم «من أكون بالنسبة إليك؟» وأفلام الزفاف العائلية
كسَرَ فيلم «من أكون بالنسبة إليك؟» والمعروف باسمه الهندي «هام آبكي هاين كون …؟» كلَّ أرقام إيرادات شبَّاك التذاكر في الهند؛ فبعدَ سنوات من مبيعات التذاكِر الضَّعيفة، اجتذَبَ الفيلم ملايين من مُشاهِدي التلفزيون مرةً أخرى إلى دُور العرض، وحَصَد أرباحًا ضخمةً وصلت إلى ٢٠٫٨ مليون دولار. أحد أسباب شعبية الفيلم غير المسبوقة هو تركيزُه على الدراما العائلية؛ فبنمطٍ مُضادٍّ للقصص العنيفة التي ميَّزت الأفلام الهندية في السنوات السابقة على صدور هذا الفيلم؛ فإنه يدور حول العلاقات العائلية. وحتَّى عندما يخرج الفيلم خارج البيئات الضيِّقة للمنزل والمدرسة، فهو ينتقِل إلى معسكر صيفي وَهمي منفصل انفصالًا تامًّا عن الواقع. لا يُوجد في الفيلم خصمٌ أو عدو أو مُجرم شرِّير أو بيروقراطية لا مُبالية؛ فقط توجد حادثة مؤسفة. السؤال الرئيسي ليس «مَن سيَنتصِر: الخير أم الشر؟» بل «ما عَلاقتي بك؟» حسبما يُمكِن ترجمة العنوان الهندي.
يشتهر فيلم «من أكون بالنسبة إليك؟» ببساطة قصته. هناك زواج مرتَّب بين راجيش (موهنيش بال) وبوجا (رينوكا شاهاني)، وكلاهما من عائلة ثرية. هناك صداقة قديمة بين والد راجيش، رجل الأعمال الناجح، ووالد بوجا، الأستاذ الجامعي، منذ أيام الجامعة، وتقضي العائلتان الكثير من الوقت في تخطيط المراسم الخاصة بالزواج، والاستمتاع بزفاف ضخم، والهُيام بأول طفل للزَّوجَين. في نفس الوقت، يقع شقيق راجيش الأصغر، بريم (سلمان خان) في حبِّ شقيقة بوجا الصُّغرى، نيشا (مادهوري ديكسيت) ويتعاهد الاثنان سرًّا على ألَّا يُفارِق أحدهما الآخر. لا يبدأ النِّزاع الرئيسي حتى مرور جزء كبير من مدة الفيلم يصِل إلى ساعتَين، عندما تموت بوجا فجأةً وتُقرِّر العائلتان أنه يجب على راجيش أن يتزوَّج مرةً أخرى — من أجل طفلِه — من شقيقتِها، نيشا. يُقاطِع فاصل من النزاع والشِّقاق التناغُمَ العائلي؛ حيث تتصادَم إرادة الآباء والواجب العائلي مع عاطفة الحب الصادق. يجب أن يُحَل النزاع الخاص بزواج نيشا طبقًا للعلاقات العائلية. هل سيظلُّ بريم شقيق زوج نيشا أم سيُصبِح زوجَها؟ هذا سؤال ملحمي في الهند، حيث تدور كل القصص تقريبًا عن العائلة التي تُعتبَر نسخة مصغرة من الأمة الهندية ككل.
ينظر من ينتقدون الفيلم والأفلام العائلية الأخرى التي ألهمَتْها كأفلام «مهتمَّة بالمظهر على حساب الجوهر» أو «بسيطة بصورة زائدة عن الحد» أو «مُصمَّمة لجمهور معين». ربما تبدو هكذا للوهلة الأولى بالنسبة إلى المُشاهد الغربي أو للهنود المُولَعين بالكلاسيكيات. لكن من أجل غرض الكتاب، سيكونُ من الأفضل تجاوز هذه التقييمات الصارمة لفهم أسباب نجاحِها الشديد ومكانتِها في تطوُّر السينما العالَمية تجاه أفلام أكثر تجاوُزًا للحدود القومية مثل «الزفاف الموسمي» و«عروس وهوًى». سنَطرح مرةً أخرى أسئلة رئيسية عن الشخصيات والقصة والنوع السينمائي والجماليات والفكرة العامة في سياق عَولَمي. من هم أبطال هذه الأفلام وما هي قصصها؟ ومن أين تُقتَبس هذه القصص وكيف تُروى، وما الذي تقولُه لنا، ولماذا لها أهمية؟ وفي النهاية، ما الذي تُساهم به بالنسبة إلى السينما العالَمية؟
يبدو أبطال الفيلم أشخاصًا عاديِّين. من المؤكَّد أنهم محظوظون، حيث يتمتَّعون بالتعليم ووظائف ناجِحة وإمداد لا ينتهي من البضائع الاستهلاكية. يعيش أبطال الفيلم في بيوت كبيرة مُزيَّنة بسخاء، ويقودُون سيارات باهظة الثمن، ويلعبون الكريكيت في مرج المنزل. لكن يهتمُّ بعضهم بحقٍّ بأمر البعض، ويمتلكُون قلوبًا صادقة. يُعتبر راجيش وبوجا الطفلَين البكرَين المسئولين لأبوين مهنيَّين. سيَفتَتِح راجيش مصنعًا بينما تجاوَزت بوجا امتحان شهادة البكالوريوس. يُعتبَر بريم ونيشا الشقيقَين الأصغرَين المرِحين. بينما يعيش بريم حياةً مُريحة في منزله، تتزلَّج نيشا بالزلاجات ذات العَجَلات حول غُرفة المعيشة. في معظم الوقت، يتصرَّف الأبطال كما قد تتصرَّف أي عائلة اعتيادية من الطبَقة الوُسطى تتطلَّع للانضمام إلى الطبقة العُليا في ظُروف مثالية. يرمق الفِتيانُ الفتياتِ بنَظرات غرامية، وتختلِس الفتيات النظرات إلى الفِتيان. يستَمتِع الأب بالطبخ بصُحبة ابنته في المطبخ، بينما تتدخَّل الخالة بحَماس في شئون الجميع. هناك قدرٌ لا بأسَ به من المقالب السخيفة الودود، التي تتضمَّن وسائد الأصوات الضاحِكة والبرطمانات المكسورة والأحذية المسروقة. لكن مُزِجت رموز هندية تقليدية بكل هذا اللهو والصخب المعاصر. يمتلك والد بوجا تمثالًا للإلهة في مكتبِه، وعندما تسأله زوجتُه عمَّن كسر البرطمان، يسرد لها قصة خرافية عن قَوس الإله شيفا المكسور. تحدُث اللقاءات المرتَّبة بين راجيش وبوجا في رامتيك، وهو موقع لمعبد قديم مقدَّس. يرتبِط رامتيك بقصة الإله راما وزوجتِه سيتا وشقيقه لاكشمان التي تحتفي بها ملحمة الرامايانا. يُمكِن عقد المزيد من المقارنات بين العلاقات الأُسرية في الملحمَة السنسكريتية العظيمة وعلاقات الشقيق/الزوج والزوجة/أخت الزوجة والشقيق/أخو الزوج في فيلم «مَن أكون بالنِّسبة لك؟» لهذا، يُمكن النظر إلى أبطال الفيلم الذين يصل عددهم إلى العشرين كتجسيدات حديثة لأبطال الهند القُدامى. يؤكِّد الفيلم على الأعراف الاجتماعية القديمة. فربما تكون بوجا حاصلة على درجة البكالوريوس، لكنَّها تُغنِّي في زفافها: «زوجي هو إلهي الآن» (شكل ٢-٢١). وبين هدايا الزفاف التي تتضمَّن ماساتٍ وسيارةً مُستورَدة وجهاز فيديو، هناك نسخة من الرامايانا. وبينما تُقدَّم الشخصيات الأبوية غالبًا كشخصيات مرِحة مُسالِمة، فإن بريم ونيشا مُستعدَّان للإذعان لأحكام الكبار حتى عندما تعوق حبَّهما السِّرِّي. في النهاية، يُصالح سيناريو الفيلم بين الزيجات المُرتَّبة والحب الحقيقي الصادق المتنافسين بجَعل الكبار يرون ما بقلوب أولادهم، ويمنحونهم في النهاية مباركتَهم لعقد زواج قائم على الحب الصادق. وبالنسبة إلى الجمهور الهندي المشتَّت بين التقليدية والحداثة، يُقدِّم الفيلم حلًّا وسطيًّا مُرضيًا.
يُمكِن عَزوُ قدرٍ كبير من جاذبية الفيلم إلى براعة صُنَّاعه في المزج بين القيَم الهندية الرئيسية والأَعراف المُتغيِّرة للعالم الحديث. هذا التأليف بين العناصر المحلية والعالمية ينعكس في جماليات الفيلم. تُذكِّرنا مواقع التصوير المنزلية المُوسِرة بأفلام الميلودراما الخاصة بدوجلاس سيرك في خمسينيات القرن العشرين. تبدو طاولات الشاي المُزخرَفة والسلالم الكبيرة والديكور الداخِلي ذو اللونَين الأبيض والوردي كنُسَخ هندية من عالم السيرك المُغلَق الخاص بالطبقة الوسطى. تُشبه أصوات جوقة المُغنِّين التي تُصاحب مشاهد شارة البداية افتتاحيةَ فيلم «مكتوب على الريح» («ريتين إن ذا ويند»، ١٩٥٦). وهناك إشارات ضمنية أخرى ساخِرة مُدرَكة على نحو أكبر للأفلام الأمريكية. فقبْل الزفاف يقتحِم بريم مأدُبةً تقليدية للنساء فقط مُتنكِّرًا كامرأة، ويقفِز حتى يصل إلى الشرفة ثم يتعلَّق بنجفةٍ مثل دوجلاس فريبانكس مغنِّيًا: «يا إلهي، إنه عصر الفتيات!»
أما الزفاف نفسُه فهو تقليدي بشكلٍ صارخ. لطالَما كانت مشاهد الزفاف جزءًا ثابتًا من الأفلام الهندية. على سبيل المثال، يبدأ فيلم «أمنا الهند» بزِفاف قروي مُفصَّل؛ حيث يتبادَل عرض لقطات بعيدة لعربات تجرُّها الماشية ولقطات مقرَّبة مُتكرِّرة للعروس المزينة بالمُجوهَرات بوفرة، وقد لوَّنت جسدها بالحناء الحمراء. مُعظم طقوس الزفاف التقليدية تظهر في فيلم «من أكون بالنسبة إليك؟» بشكل بارز لدرجة أن الفيلم اعتُبِر على نحو ساخر دليلًا للمُستهلك لحفلات الزفاف الهندية.
يبدأ حفل الزفاف البنجابي التقليدي بلقاء في بيت العروس المُستقبَلية (روتا) حيث تتبادَل العهود مع زوجها المستقبَلي، بعدها يُصبِح لدَيهما الحرية في تودُّد كلٍّ منهما إلى الآخَر. لاحقًا، تحتفِل العائلتان بحفل الخطوبة بالهدايا (وهو تقليد يُسمى تشوني تشادانا) ويُجرى تبادُل الخواتم (ساجان). يُدعى أفراد العائلة والأصدقاء المُقرَّبون إلى مناسَبة خاصة (سانجيت)، حيث يُغنُّون أغاني الزفاف التقليدية ويرقُصون. تُرسِل والدة العريس صبغة الحنَّاء الخاصة بالجسد (ميهندي) لتَدهن بها العروسُ جسَدَها. وفي صباح يوم الزفاف، يمنح خالُ العروس مجموعةً من الأساور الحمراء المصنوعة من العاج للعروس لتَرتديها في مِعصمها (احتفالية تشودا)، بينما يمنح والد العريس ابنه تاجًا من الورود يضعه فوق عمامته (سيهراباندي). يسير العريس وأفراد عائلته في موكب (بارات) من منزلهم وحتى مكان الزفاف؛ حيث يُستقبلون رسميًّا بالورود والأحضان (ميلني). ربما يرأس الزفاف نفسه كاهن هندوسي (بانديت) في مكان مقدس (مانداب) عبارة عن منصة مرتفعة يعلوها فسطاط. عادةً لا يتحدَّث الزوجان أبدًا. يُؤكِّد على عهد كلٍّ منهما تجاه الآخر تبادُلُ أكاليلِ الزُّهور (الفارمالا)، وهو المُعادل غير اللفظي لكلمة «أُوافق» في مراسم الزواج المسيحي. بعد الزفاف، تستمتع العائلات بوجبة ضخمة. ربما تُلقَى بعضُ الكلمات أو المواعظ والصَّلوات الرسمية (البوجا) والدوران حول نار مقدَّسة (جرَتِ العادة أن يكون هناك سبع خطوات (سابتا بادي) كلٌّ منها ترمز إلى تعهُّد كلٍّ من الزَّوجين تجاه الآخر من أجل المستقبل) ونشاطات أكثر مرَحًا مثل ربط العروسَين معًا بقِطعةٍ من القماش (تشوني) أو سرقة حِذاء العريس حتى يجب عليه شراؤه مرةً أخرى من عائلة عروسه. هذه اللعبة التي تتضمَّن الحذاء، والتي تستغرِق مشهدًا طويلًا في فيلم «من أكون بالنسبة إليك؟» تعكس الانشغال بالأحذية في العديد من أفلام الزفاف حول العالم.
يدعو الفيلم كذلك إلى تحديد أوجُهِ التشابُه والاختلاف بينه وبين الأفلام الرومانسية الأخرى فيما يخصُّ «النظرة». حدَّدنا سابقًا نوعَين من النظرة السينمائية؛ النظرة المتلصِّصة المرتبطة بالأفلام الغربية (حيث يرى فيها الجمهور شخصًا يختلس النظر إلى شخصٍ آخر، عادةً ما يكون امرأة)، ومفهوم الدارشان الهندي (التحديق المتبادَل بين الإله وتابعه مما ينقُل البرَكة للمُشاهِد). هناك لحظات من الفيلم يُستخدَم فيها كلا النوعَين. فقُربَ بداية الفيلم، تُحدِّق الشقيقتان في الشقيقَين من وراء حائط المطبخ. وبعد دقائق يتلصَّص بريم ونيشا على راجيش وبوجا من خلال النوافِذ المُغلَقة بالمصاريع. قارن بين هذه النَّظرات الفردية وبين لحظة قُرب نهاية الفيلم التي تُظهر الدكتور لالو يُصلي أمام تمثال الإله كريشنا طلبًا لمُعجزة. يريد الطبيب منع حدوث الزَّواج المخطَّط بشكلٍ سيِّئ بين راجيش ونيشا. تقترِب الكاميرا من وجه كريشنا، ثم تقترِب من وجه كلب العائلة توفي. تنتقِل الكاميرا ذهابًا وجيئةً بين الإله والكَلب، وتقترِب من كلَيهِما شيئًا فشيئًا كما لو كان يوجد فهم مشترك بين أعيُنهما. ثم يركض توفي لأعلى ليَجد عِقد بوجا ويُسلِّمه حتى يستطيع بريم ونيشا الزَّواج. إنه تدخُّل إلهي من خلال توفي؛ مددٌ إلهي من خلال الكلب.
بعد فيلم «من أكون بالنسبة إليك؟» صدَر المزيد من أفلام الزفاف المتركِّزة حول العائلة والتي حقَّقت نجاحًا أكبر. يُعتبَر فيلم «بريف هارت ويل تيك ذا برايد» أو «الشجاع يفوز بالعروس» من الأفلام الباعِثة على التفاؤل؛ حيث يدور حول شبابٍ هُنود يجُولون العالم، ويبدأ في بريطانيا وينتهي في الهند مبيِّنًا كيف أنه من المُمكن الاستمتاع بثمار الرأسمالية العالمية، وفي نفس الوقت البقاء كهندي في صميم القلب. كان الفيلم أنجح أفلام عام ١٩٩٥، وأصبح أطولَ الأفلام البوليوودية فيما يتعلَّق بفَترة عرضِه في دُور السينما في وقتِه. في عام ١٩٩٨، كان فيلم «أحيانًا تحدُث أمور» هو أكثر الأفلام حصدًا للإيرادات، وهو يُناقش مسألة الزَّواج الثاني؛ إذ يُواجِه رجلٌ شابٌّ ماتت زوجته الأولى بعد الولادة فرصةَ الزواج من امرأة كانت من أعزِّ صديقاته في الجامعة. في نفس الوقت يرتدي المُمثِّلون ملابس غربية ويُمازِح بعضُهم بعضًا بالإنجليزية، ويقُودون سيارات جيب بيضاء، بينما يُحافِظون على تقاليدِهم الهندية؛ مثل ممارسة العبادات في المعبد والتبذير المميَّز لحفلات الزفاف البنجابية. مرةً أخرى، فإن القصة تُعتبَر تأكيدًا على «الديسي ديل» أو القلب الهندي.
وعلى الرغم من حبكات تلك الأفلام المعزولة عن الواقعِ ورُؤاها المجمِّلة للهند، من المُمكِن رُؤية التلميحات غير المباشرة الموجودة فيها للواقع الأكثر قسوةً للحياة في البلاد. ومثلما يُمكِن النظر إلى أفلام العنف وأفلام «الفقد والاستعادة» في السبعينيات على أنها ردود أفعال على التقسيم وتوابِعِه الدموية، فإن أفلام الدراما العائلية في التسعينيات يُمكن النظر إليها كاستعارات أو كنايات عن السياسة في البلاد. على سبيل المثال، ربما نرى صورة العلاقة المُضطربة بين الهند وباكستان من خلال فكرة الحبِّ الممنوع المتكرِّرة بالإشارة إلى أن الحبيبَين سيِّئا الطالع لا يستطيعان التعبير عن مشاعرِهما بحُرية إلا في بيت شخصٍ آخر في بلدٍ كإنجلترا أو الولايات المتحدة. يُعتبَر التوجُّه نحو تصوير بعض المشاهد في سويسرا مثالًا آخر مُعبِّرًا عن ذلك. دائمًا ما كان الموقع المثالي لقضاء شهر العسل في الهند هو كشمير، لكن بما أنَّ الجبال بين الهند وباكستان أصبحت الآن أرضًا محظورة، نقَلت أطقمُ تصوير الأفلام كاميراتهم إلى جبال الألب. وهكذا تُصبح كل أغنية تُؤدَّى في سويسرا في أيِّ فيلم هندي تذكرةً غير مُباشِرة بالنعيم المفقود في الوطن.
(٧) فيلم «عروس وهوًى»: الشتات الهندي وما وراءه
زادت التكنولوجيا من قوة الحبل السري؛ فبالإضافة إلى دُور العرض المُتخصِّصة في عرض الأفلام الهندية في الأحياء التي يعيش فيها جمهور الشتات الهندي؛ فإنه يُمكنه الآن التواصُل مع الهند من خلال قنوات تلفزيون الكابل والأقمار الصناعية وشرائط الفيديو وأقراص الفيديو الرقمية والإنترنت. تُرسِل مواقِع المُشاهَدة عبر الإنترنت آلاف الأفلام عبر العالَم إلى العائلات التي تتجمَّع حول شاشة تلفزيون المنزل لتُشاهد فيلمًا يحتوي على نكهة الوطن القديم. إنَّ ما يرونه بالطبع هو نسخة مُجمَلة للوطن، أو ما يظن صنَّاع الأفلام في مومباي أن هذه العائلات تُريد مشاهدته. تتعرَّف الصناعة على توجُّهها من المُستهلِكين مثل آل باتيل وآل موخرجي الذين يعيشون في حي جاكسون هايتس في نيويورك، ويُريدون أن يتعلم أبناؤهم كيف يبدو الزفاف الهندوسي وكيف يتصرف الهنود على نحو حسن، ولماذا تُعدُّ العائلة شيئًا مهمًّا؛ ففي بلادٍ قد تبدو فيها الثقافة المحلية خطيرة وغريبة، يُعدُّ هذا التركيز على العائلة شيئًا أساسيًّا.
تنتمي المُخرجة الهندية جوريندر تشادا إلى صُنَّاع الأفلام الهنود المُتزايدة أعدادهم والمتجاوِزين للحدود القومية، الذين يستهدفون ما وراء المجتمع المتحدِّث بالهندية. يُوسع فيلمها «عروس وهوًى» (٢٠٠٤) من نطاق التلميحات ليَشمل عملًا أدبيًّا إنجليزيًّا كلاسيكيًّا. ورغم أن فيلم تشادا تجاري بنحو واضح، فإن المقارَنات التي يعقدها بين أفكار بوليوود التقليدية ورواية «كبرياء وهوًى» لجين أوستن التي صدَرَت عام ١٨١٣ ملائمة بشكلٍ لافت؛ ففي أعقاب صدور أفلام مثل «من أكون بالنسبة إليك؟» و«الشجاع يفوز بالعروس» و«أحيانًا تحدث أمور»، من المنطقي جدًّا أن تُجسَّد قصة آل بينيت، بفتياتها الخمس المُناسبات للزواج والأم المهووسة بتحسين مكانة العائلة الاجتماعية من خلال الزواج، في مجتمع الطبقة الوسطى الهندي. تتحوَّل افتتاحية رواية «كبرياء وهوًى» الشهيرة بكل سهولة إلى اللغة الهنجليزية العامية بالمزج بين العَواطِف الهندية والقيم الإنجليزية: «كل الأمهات يقُلن إنَّ أي رجل أعزب يمتلِك الكثير من الأموال لا بدَّ وأنه يبحث عن زوجة.» ورغم كل عيوب الفيلم والمرح البسيط الذي يملؤه، فإنه يُعتبر مثالًا مهمًّا فيما يخصُّ تجاوُز الحدود القومية في صناعة الأفلام، والذي يحتفي ويسخر بلطف في آنٍ واحد من ظاهرة النزعة الاستهلاكية العالمية.
ومثل ميرا ناير، فإنَّ تشادا مؤهَّلة جيدًا لصُنع أفلام مُوجَّهة وعن الهنود المغتربين. وُلدت تشادا في كينيا عام ١٩٦٠ ونشأت في ساوثول في لندن، وتزوَّجت أمريكيًّا من أصل ياباني، وانتقَلَت للعيش في لوس أنجلوس حيث تقود مسيرة ناجحة في السينما. ولكونِها مُراسِلة ومخرجة أفلام وثائقية سابقة لشبكة بي بي سي، فقد استخدَمَتِ الوسيط السينمائي لدراسة موضوعات مثل حفلات الزِّفاف المُتعدِّدة الثقافات والنظرة العالَمية لأدوار النساء. يُركِّز ثاني أفلام تشادا الروائية الطويلة بعنوان «ما الذي يحدث؟» («واتس كوكينج؟» ٢٠٠٠) على أربع عائلات — فيتنامية وأمريكية مكسيكية ويهودية وأمريكية أفريقية — أثناء احتِفالهم بعيد الشُّكر في نفس الحي بلوس أنجلوس. ومثل أفلامها الأخرى، يستكشف الفيلم موضوعات تتعلَّق بالتقاليد والاستيعاب الثقافي بلمسة لطيفة، وقد فاز بجوائز عدَّة. كان فيلم «ما الذي يحدث؟» موجهًا إلى عامة الجمهور، لكن لم تحصل تشادا على نجاحها الجماهيري الأول إلا بفيلم «اثنِها مثل بيكام» (٢٠٠٣). يُقدِّم الفيلم كل مكونات القصة الحديثة الموجَّهة إلى الهنود المغتربين. تدور قصة الفيلم حول جيس، الابنة الصُّغرى لعائلة بنجابية من الطبقة الوسطى تعيش في ساوثول بلندن ويتوقَّع أن تحذو حَذو شقيقتِها الكُبرى المخطوبة لشابٍّ هندي لطيف. لكن جيس تحبُّ كرة القدم وانضمَّت سرًّا إلى فريق نسائي. تُعقَد المُقارَنات المرحة باستمرار بين عائلة جيس التقليدية وبين الأبوَين الإنجليزيَّين غريبَي الأطوار لأعز صديقاتها، جولز. يُناقش الفيلم موضوعات مثل رهاب المِثلية وتمرُّد المُراهقين والاستيعاب الثقافي والهُوية ومكانة النساء في مجال الرياضة. تتسلَّل جيس للمشاركة في مباراة كبرى لفريقها، وينتهي الفيلم بزفاف ضخم. حقَّق الفيلم رقمًا قياسيًّا في مبيعات شباك التذاكر في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة أصبح أنجح فيلم يُناقش فكرةً هندية.
بالنسبة إلى فيلمٍ متعدِّد الجنسيات، أرادت تشادا الاستعانة بطاقم ممثِّلين مُتعددي الثقافات؛ فبالإضافة إلى المُمثِّلين الهنود، استعانت بمارتن هندرسون من نيوزلندا، ودانيال جيليز من كندا، ونيتين تشاندرا جاناترا (المولود في كينيا)، ونافين أندروز (المولود في لندن)، والعديد من الممثِّلين الأمريكيين (مثل أليكسيس بليدل ومارشا ماسون). كما شاركت في الفيلم المغنية أشانتي، والمولودة باسم أشانتي شيكويا دوجلاس في لونج آيلاند بنيويورك، وتنحدر من أصول أفريقية وأمريكية وإسبانية وصينية. كانت كل جلسة تصوير تبدو كاجتماع في الأمم المتحدة.
تدور أحداث فيلم «عروس وهوًى» في الهند ولندن ولوس أنجلوس. ينتقل بيت آل بينيت من لونج بورن إلى مدينة أمريتسار المقدسة، ويتحوَّل آل بينيت إلى آل باكشي، وهم عائلة هندية من الطبقة الوسطى تتطلَّع إلى الانضمام إلى الطبقة العليا. تتحوَّل السيدة بينيت المشتتة إلى السيدة باكشي الساذجة المهووسة بفكرة العثور على عريس غني لكل بنت من بناتها الأربع (اللاتي ينقُص عددهنَّ عن القصة الأصلية ببنت واحدة)؛ جايا ولاليتا ومايا ولاكي. تُعتبر لاليتا هي البطلة (وتحل محل إليزابيث بطلة الرواية)، وتقوم بدورها الممثلة أيشواريا راي (ملكة جمال العالم سابقًا). تُقَدم نسخة حديثة من شخصية دارسي، المالك المتكبِّر لمزرعة إنجليزية كبيرة في الرواية، في شكل شخصية ويليام دارسي (ويقوم بدوره مارتن هندرسون)، وهو أمريكي مُدمن للعمل، تمتلك عائلته سلسلة عالمية من الفنادق الفاخرة. عندما يزور دارسي أمريتسار بصحبة صديقِه بالراج، وهو هندي مُغترِب يعيش في لندن، تكرهه لاليتا فورًا. وفي الوقت الذي يتَّسم فيه بالراج بالتهذيب والجاذبية، ويُمكن اعتباره العريس الهندي المثالي، فإن تعليقات دارسي عن الهند («إنها مكان فَوضوي. أين بحق الجحيم قد أتيتَ بي؟») والهنود («الزواج باتفاق الأهل عادة رجعية نوعًا ما، ألا تظن هذا؟») تتَّسم بالعجرفة والتكبر. الأسوأ من هذا أنه لا يُتقن الرقص.
كرَّس الفيلم قدرًا كبيرًا من الوقت لإظهار الجهل الأمريكي بالحياة في الهند. يُحوِّل سيناريو تشادا الصراع الطبقي لإنجلترا في زمن أوستن إلى سوء تفاهُم ثقافي. تُمثِّل والدة دارسي المتغطرسة المناوِرة نموذجًا أمريكيًّا كلاسيكيًّا بغيضًا. عندما تفكر قائلة: «بوجود اليوجا والتوابل وأفلام ديباك تشوبرا والأشياء الشرقية الجميلة هنا، لا أظن أن هناك داعيًا للسفر إلى الهند بعد الآن.» لكن لاليتا ترد قائلة: «لم يتوقَّف البشر عن الذهاب إلى إيطاليا بسبب وجود مطاعم بيتزا هت بالقُرب من بيوتهم.» لكن حكم لاليتا على دارسي يُثبت أنه متسرع؛ فهي تفشل في فهم دوافعه أو إدراك طيبة قلبه. إلى جانب ذلك، فإن تحامُل دارسي الأَوَّلي على عائلة بينيت غير قائم بالكامل على أوهام. تُعتبر مادية السيدة دارسي الصارخة أحد الأهداف الرئيسية للفيلم، رغم تناولها، وكذلك العقلية الاستهلاكية التي تُميِّز طبقتها الاجتماعية بنحو مرِح. أما أكثر الكوميديا فجاجةً فهي محفوظة لخولي، وهو هندي يعيش في لوس أنجلوس ويُعتبَر أكثر ابتذالًا وسوقية من أي مواطن أمريكي وُلد في هذا المكان. تختلط ثرثرته التي لا تتوقَّف عن الجاكوزي والطائرات النفَّاثة بضحكات عالية مُثيرة للضيق. يُمثِّل خولي النازح غير المُخلِص لوطنه، والذي يخجل من جذوره، وكل «أولئك الجهلاء من سائقي سيارات الأجرة الصغيرة والعاملين في متاجر سيفين إليفين.» يسأله السيد باكشي: «لماذا عدتَ إلى الهند إذن؟» ليجيبه بنحو عارض أنه يريد الزواج من امرأة هندية مضيفًا: «لا حياة من دون زوجة.»
يصطحب فيلم «عروس وهوًى»، اتساقًا مع النوع السينمائي الفرعي الذي ينتمي إليه شخصياته في رحلة، هذه المرة إلى لوس أنجلوس، يتوقف خلالها في لندن. إن لندن هي عاصمة إنجلترا التي تحمل البطاقات البريدية صورَها دائمًا؛ فهي أرض جسر البُرج والملكة، لكنها كذلك موطن لمجتمع الشتات (وتضم نفس شارع ساوثول الذي يظهر في فيلم «اثنِها مثل بيكام»)، وموقع مطارَدة خلال مدينة ترفيهية على ضفة النهر. تصبح مدينة لوس أنجلوس خلفية رومانسية لعلاقة دارسي ولاليتا اللذَين نراهما في مجموعة من مشاهد الوقوع في الحب، تتضمَّن خطوط الأفق التي تصنعها مباني المدينة الزجاجية ونافورات مُنيرة وراكبي أمواجٍ راقصين ومُغنِّي ترانيم دينية على الشاطئ. بل هناك كذلك تتابُع لمَشاهد خيالية من سويسرا عندما يتحوَّل حلم لاليتا الريفي بالزواج من ويكام في كنيسة في الجبال إلى كابوس يحوي وجهَ دارسي.
معظم الفقرات الراقصة الكبرى هي مشاهد احتفالية. تتحوَّل الحفلة الأرستقراطية في رواية جين أوستن إلى استعراض بوليوودي زاهي الألوان؛ حيث تقف الفتيات في الشرفات يُشاهدن الفِتيان الذين يستعرضون مهاراتهم في الرقص. تُترجم شقيقة بيلراج كلمات الأغنيات بينما ترقص الفتيات أثناء نزولهن السلم الضخم: «هؤلاء الفتيات الجميلات يخفقن بنحو فاتن مثل الطائرات الورقية من دون خيوط.» لكن العديد من الرقصات تُؤدَّى بأسلوب غربي بصورة أكبر. تُبرز الألعاب النارية المُميِّزة لحفلات الروك أداءَ أشانتي المثير على الشاطئ. عندما تغني الشقيقات من عائلة باكشي «لا حياة من دون زوجة» وهن يرتدين البيجامات، فإن حركاتهن هي إشارات متعمَّدة إلى الفيلم الأمريكي «جريس» (١٩٧٨). لكن نهاية الفيلم الكبرى هي زفافٌ بنجابيٌّ ضخم. يقام الزفاف في الهند حيث تسير فرقة موسيقية في الشارع مُصدِرة صخبًا عاليًا، وتصل عائلة العريس في سيارة فضية اللون، بينما يقرع دارسي الطبول في فرقة شعبية هندية. يُعانق دارسي لاليتا بينما ترتفع الكاميرا نحو السماء عارضةً لقطة جوية للشارع، بينما يغني مجموعة من المحتفلين المحتشدين: «الحياة رائعة، دعونا نحتفل بالاتحاد المقدَّس لروحَين.» إنها فوضى على الطراز البوليوودي (شكل ٢-٢٢). لكن الفيلم مُلتزم كذلك بتقاليد الكوميديا الأدبية الإنجليزية، والتي غالبًا ما تنتهي بالصداقة والمرح والزواج.
(٨) بوليوود العالمية وأسطورة الزفاف
قراءات إضافية
-
Barnouw, Erik and Subrahmanyam Krishnaswamy. Indian Film. Oxford University Press, 1980.
-
Bhaskar, Ira and Richard Allen. Islamicate Cultures of Bombay Cinema. Tulika Press, 2009.
-
Desai, Jigna. Beyond Bollywood: The Cultural Politics of South Asian Diasporic Film. Routledge, 2004.
-
Dwyer, Rachel and Divia Patel. Cinema India: The Visual Culture of Hindi Film. Rutgers University Press, 2002.
-
Ganti, Tejaswini. Bollywood: A Guidebook to Popular Hindi Cinema. Routledge, 2004.
-
Gopalan, Lalitha. Cinema of Interruptions: Action Genres in Contemporary Indian Cinema. British Film Institute, 2002.
-
Jolly, Gurbir, Zenia Wadhwani, and Deborah Barretto, eds. Once Upon a Time in Bollywood: The Global Swing in Hindi Cinema. Tsar, 2007.
-
Kaur, Raminder and Ajay Sinha, eds. Bollywood: Popular Indian Cinema through a Transnational Lens. Sage Publications India, 2005.
-
Kumar, Dudrah Rajinder. Bollywood: Sociology Goes to the Movies. Sage, 2006.
-
Lai, Vinjay and Ashis Nandy. Fingerprinting Popular Culture: The Mythic and the Iconic in Indian Cinema. Oxford University Press, 2006.
-
Mishra, Vijay. Bollywood Cinema: Temple of Desire. Routledge, 2002.
-
Pendakur, Manjunath. Indian Popular Cinema: Industry, Ideology and Consciousness. Hampton Press, 2003.
-
Rajadhyaksha, Ashish and Paul Willemen, eds. Encyclopedia of Indian Cinema. British Film Institute, 1995.
-
Ramdya, Kavita. Bollywood Weddings: Dating, Engagement, and Marriage in Hindu America. Rowman & Littlefield, 2010.
-
Thoraval, Yves. The Cinemas of India. Macmillan India, 2000.
-
Vasudevan, R., ed. Making Meaning in Indian Cinema. Oxford University Press, 2000.