تمهيد
بينما يمضي فن السينما إلى القرن الثاني من عمره، يتجاوز صُنَّاع الأفلام الحدود القومية باتجاه نوعٍ جديد من العالمية؛ فلقد أصبحت الأفلام ذات طبيعة عالمية كما لم يحدث من قبلُ، ودفع هذا الاقتصادَ العالمي الطابع على نحو متزايد وشجعته التغيُّرات في السياسة العالمية، وسهَّلته التقنيات الحديثة، وشكَّله وعيٌ متزايدٌ عابرٌ للثقافات.
يُلبِّي هذا الكتاب حاجةً ماسة بتمكين طلاب السينما من التعرُّف على القوى المعقَّدة المسئولة عن صناعة الأفلام العالمية. وبدلًا من تتبُّع التاريخ الطويل للسينما دولةً دولةً أو منطقةً منطقة، فإنه يستخدم أفلامًا حديثة رائعة مثل: «النمر الرابض والتنين الخفي» («كرواتشنج تايجر، هيدين دراجون»، الصين)، «الزفاف الموسمي» («مونسون ويدينج»، الهند)، «الحلقة» («رينج»، اليابان)، «يوميات الدراجة النارية» («موتورسايكل داياريز، البرازيل»)، كنقاط بداية، ثم يربطها بأفلام أمريكية وأوروبية قابلة للمقارنة بها. يقوم هذا الكتاب على فكرة تقسيم الأفلام إلى مجموعات حسب النوع السينمائي والفكرة الرئيسية. هناك وحدة عن «أفلام البطل المحارب» تتضمن أفلام الكونغ فو من هونج كونج، وأفلامًا عن أبطال الفنون القتالية أو ما يُسمَّى بأفلام الووشيا من بر الصين الرئيسي، وأفلامًا عن فرسان الساموراي من اليابان، وأفلام هوليوودية عن رعاة البقر (أو ما يسمى بأفلام الغرب الأمريكي). أما وحدة «أفلام الزفاف»، فتفحص أفلامًا مثل «مأدبة الزفاف» («ذا ويدينج بانكويت») و«الزفاف الموسمي» و«زفافي اليوناني الكبير» («ماي بيج فات جريك ويدينج»)؛ التي تجسد بنحو درامي المشكلات التي تميز العلاقات التي تجمع بين ثقافات مختلفة في سياق طقوس الزفاف العِرْقية. هناك وحدتان أُخريان عن أفلام الرعب وأفلام الطريق، تستكشفان ما يجده الناس في أماكن أخرى من العالم مثيرًا للرعب، وما الذي يدفعهم للقيام بالرحلات البرِّية. بهذه الطريقة، يتعلم القرَّاء البحث عن الأسباب وراء عوامل التشابُه والاختلاف بين الأفلام، ويفهمون كيف أن أفلام اليوم هي جزء من ظاهرة عالمية ديناميكية تستخدم التقاليد المحلية وعوامل التأثير الأجنبية لإشباع احتياجات ورغبات جمهور ذي وعيٍ عالميٍّ يتزايد تنوُّعه الثقافي.
لم يسبق أن فرضت نظرة مارشال ماكلوهان إلى العالم كقريةٍ صغيرة نفسها على الساحة كما هي الآن؛ فالعالم الذي يبلغ فيه طلاب السينما رشدهم — والذي يساعدون في بنائه — يستدعي فهمًا وتعاونًا عالميًّا بنحو أكبر من ذي قبل. تُعتبَر هذه السمات عواملَ هامة في العولمية الجديدة للسينما، كما أنها مبادئُ قويةٌ دافعةٌ لهذا الكتاب؛ فبدراسة التدفقات الثقافية والتيارات المتداخلة التي تشكِّل أكثر الأنواع السينمائية العالمية شهرةً، فإن طلاب السينما اليومَ يمكنهم تطويرُ تقديرٍ أكبر ليس فقط للأفلام والقصص التي تعرضها، بل أيضًا للناس والمجتمعات والمعتقدات وراء أفكار هذه الأفلام، وهم الناس والمجتمعات والمعتقدات التي سيقابلونها بنحوٍ أو بآخر في حياتهم.
ساهمت كل نقاط الضغط والحركات هذه في المستودع العالمي للقصص وأساليب سردها الآخذ في الاتساع. وباستكشاف هذه القصص والأفكار بنحو يتجاوز الحدود التقليدية للأفلام المحلية، فإن طلاب السينما في كل مكان يمكنهم توسيع رؤيتهم للعالم وزيادة احتمالات انغماسهم في تنوُّعه الغني.
يقدم هذا الكتاب مجموعة كبيرة من الأدوات المفيدة. وبناءً على فرضيةِ أننا نعيش في ثقافة عالمية، فإنه ينظر إلى المخزون العالمي الكبير من الأفلام بصفته مداخلَ لحيواتٍ وبيئاتٍ أخرى. يستخدم الكتاب دراساتِ حالةٍ ووسائلَ مساعدة مرئية وقوائمَ أفلامٍ وقوائِمَ كتبٍ مختارة وأسئلةً موجهة لدفع الطلاب لاختبار افتراضاتهم عن العالم بنحوٍ نشط. إنه يساعدهم في فحص تلك الافتراضات من خلال قراءة فاحصة لأفلام من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا والشرق الأوسط وكذلك لأفلام هوليوودية وأفلام شهيرة ناطقة بالإنجليزية. إنه يساعدهم في تجاوز عقبات النقل والترجمة المرئية ليختبروا الدراما العالمية في هذه الأفلام، وفي نفس الوقت ليدركوا الاختلافات في الثقافة والأسلوب السينمائي. كما يرشدهم خلال الاستكشاف المتطلِّع للسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل نصٍّ سينمائي بإحالاتٍ مستمرة إلى النظرية والبحث.
-
من هم أبطال هذه الأفلام؟ وما حكاياتهم؟ وكيف تؤثر اللغة والمكان على حياتهم؟
-
ما المعتقدات الضمنية في الفيلم؟ وكيف يعمل هؤلاء الأبطال وحكاياتهم على تأكيد الافتراضات الأيديولوجية وتبرير تصرفات بعينها؟ وإلى أي درجة تتغير المبادئ الثقافية والقناعات السينمائية عندما تصبح عالمية؟
-
لماذا تنتمي بعض الأفلام إلى أنواعٍ سينمائية محدَّدة؟ وكيف يمكن تفسير أوجه التشابُه والاختلاف بينها؟
-
ما الذي تُوضِّحه الأفلام عنا بصفتنا أفرادًا وأممًا وأعضاء في المجموعات التي ننتمي إليها؟ وكيف تساعد في تحديد هويتنا الثقافية ومجتمعنا المتخيَّل وموضعنا في عالم متغيِّر؟
-
ما الأهداف الأخرى من وراء الأفلام؟ وإلى أي درجة يكون الفيلم مشروعًا تجاريًّا أو فنًّا أو تعبيرًا عن ثقافةٍ راقية أو خيالٍ شعبي، أو وسيلةً لممارسة السياسة أو المتعة، أو أداةً لعكس أو لإعادة صياغة الخرافات الحديثة؟
-
ما الأساطير المحدِّدة للهوية الوطنية والفردية؟ وما القصص والنصوص الدينية التي تستند إليها؟ وما الذي يجعل أيَّ فيلمٍ صينيًّا أو بريطانيًّا أو أمريكيًّا؟ وما أهمية هذا؟
للمزيد من التوضيح عن كيفية الإجابة عن هذه الأسئلة، انظر التحليل المفصَّل لفيلم «النمر الرابض والتنين الخفي» في قسم «نظرة خاصة على السينما الصينية» في الوحدة الأولى من الكتاب.
(١) بعض الروابط الشخصية
كان تأليف هذا الكتاب عبارة عن رحلة من تكوين الروابط والصلات؛ فقد أنشأ من دون شك رابطة بيني وبين عالمٍ أوسع من الأفلام أكثر من التي كنتُ أدرك وجودها، وساعدني كذلك في صنع روابط جديدة مع زملاء عمل وطلاب، وفي نفس الوقت تقوية الروابط القديمة. لكن أكثر ما فاجأني هو الأُلفة والصلة الشخصية التي نشأت مع كل نوعٍ سينمائي اكتشفته أثناء تأليف الكتاب؛ على سبيل المثال: أفلام الطريق.
في شبابي، كان الطريق السريع يعني الحرية؛ فبمجرد اكتشافي طريقَ فاندربيلت السريع القديم المحاط بالأشجار في جزيرة لونج آيلاند، أصبح طريقَ هروبي من حياة الضواحي الكئيبة. كان صديقي العزيز بيتر، وهو أحد زملائي في المدرسة الثانوية المحلية، يشاركني ركوب الدراجات وهو رفيقي في المغامرات الكبرى على هذا الطريق الأسفلتي. وبمحاذاة هذا الطريق المهجور، اكتشفنا أرضًا زراعيةً مليئة بالأشجار كانت تمثِّل ملاجئَ خضراءَ متناهية الصغر في أرضٍ قفرٍ واسعة من المراكز التجارية الكبرى وساحات الانتظار، وأصبح هذا المكان هو ملاذنا الخاص. اكتشفنا ممرًّا سرِّيًّا في الشمال الغربي يقود إلى مصب لونج آيلاند ساوند حيث كنا نتخيَّل أنفسنا على متن إحدى سفن هيرمان ميلفل لصيد الحيتان أو فرقاطات جوزيف كونراد المتجهة إلى جُزرٍ بعيدة للغاية. وبعد مرور بضع سنوات، عندما استقرَّ أبي في فرنسا، سافر بيتر إلى أوروبا على متن عابرة محيطات؛ حيث كان والده يعمل لصالح شركة كونارد لاينز للنقل البحري؛ مما جعلنا نستأنف رحلاتنا بالدراجات في ريف نورماندي ووادي لوار ومراعي إنجلترا الجنوبية. وبدلًا من سندوتشات زبدة الفول السوداني، كانت سلة الدراجة مليئة بخبز الباجيت المقرمش وزجاجات خمر بوردو. هنا، في قلب التاريخ الحقيقي، كانت القلاع والكاتدرائيات عريقة. فتحت الطرق الرئيسية والفرعية التي تقودنا من قرية فرنسية أو إنجليزية إلى أخرى؛ أعيننا على عالم من الجمال والحيوية كنا نحلم به فقط فيما مضى. أصبح كلانا مُتعلِّقًا بشدة بهذا العالم. وللأبد، أصبح الطريق السريع هو مغويتنا التي تستدرجنا مرةً أخرى إلى وعد بالاستكشاف والإثارة.
اعتدتُ حزم حقائبي باتجاه المحيط الأطلسي مسافرًا بطلب توصيلات بالمجان على الطريق في البداية، ثم مستقلًّا الحافلات أو القطارات متى توافر معي ثمن التذكرة. أخذتني إحدى رحلات الصيف عبر أوروبا الشرقية إلى روسيا لألقي نظرةً على الستار الحديدي الغامض. أصبح المرادف الروسي للطريق «دروجا» هو صيحة الحرية الجديدة الخاصة بي، هذا إلى جانب كلمات «أوتوسترادا» و«أوتوبان» و«كامينو» و«دروموس» وغيرها الكثير، أصبحت اللغة طريقًا آخر إلى المغامرات والاستكشاف.
كان هذا في ستينيات القرن العشرين حيث كان جيلٌ كامل من الشباب في حالة حَراك. في أوروبا، كان من هُمْ في سنِّي يرتدون ملابس بألوانٍ زاهية، وكانوا يسافرون بطلب توصيلات بالمجان على الطريق إلى ميونيخ وفلورنسا وبرشلونة وأماكن بعيدة في بُعد أفغانستان أو الهند. لم أكن واحدًا من الهيبيز، وكانت الملابس التي آخذها معي تضم سروالَيْن من الجينز وقميصَيْن أحدهما أبيض، وكانت حقائبي تحتوي على عُدَّةِ طبخٍ ومصباحٍ وسكينِ كشَّافة. لكن معظم ما كنتُ أحمله كان كتبًا للجيب انتقيتها من المناطق المخصَّصة للطلاب في كل مدينة. من الغريب أني لم أقرأ لجاك كيرواك أو كين كيسي؛ إذا كنتُ أحد أفراد الحركة الكبرى للأدباء الأمريكيين الرومانسيين الرُّحَّل، بدايةً من والت ويتمان وجيل البيت إلى الهيبيز والمسافرين متناولي عقاقير الهلوسة من عشاق ألبوم «ماجيك باس» لفرقة الروك الإنجليزية «ذا هو»، فإن هذا سيكون مفاجئًا بالنسبة إليَّ. كان كل ما أعرفه هو أنني في سعيٍ شخصي، أبتدع خطَّ سيري أثناء ترحالي.
وأيًّا ما كنتُ أبحث عنه — سواءٌ هروب أو إثارة أو هُوِيَّة أو تهرُّب — فإن السفر كان محرَّرًا من القيود. كان المشيُ في شوارع غريبة وتذوُّقُ أطعمةٍ جديدة ونطقُ كلماتِ لغاتٍ أخرى مثلَ تجربةٍ شخصيةٍ جديدة تمامًا؛ إذ يمكنني أن أصبح فرنسيًّا أو ألمانيًّا أو إيطاليًّا. بالتخلُّص من عبء التعليم في الضواحي ولهجة بروكلين، كان يمكنني ابتكار نسخٍ مختلفة مني وتجربة كل نموذج جديد منها. لا عجب أن فلسفة سارتر الوجودية راقتني؛ فكل مفترق في الطريق كان دعوة لاختيار جَوْهَر كَيْنُونتي لحظةً بلحظة، وطريقًا بطريق.
لكن إذا كان الهروب أو استكشاف الذات هو دافعي آنذاك، فما الذي يمثل لي دافعًا الآن؟ في عمري الآن، أنا أدرك من أنا، وأستمتع بالمكان الذي أدعوه بيتي. ما الذي يدعوني إذن للسفر على الطريق مرةً أخرى إلى الصين أو أفريقيا؟ وما الذي ينشئ رابطةً بيني وبين رحلاتٍ سينمائية في أفلام مثل «الراكب البسيط» (إيزي رايدر) و«يوميات الدراجة النارية»؟ هذا جانب من الأسئلة التي طرحتها على نفسي عند كتابة هذا الكتاب؛ وأتمنى أن تطرح، عزيزي القارئ، أسئلةً خاصة بك وأن تبحث عن روابطَ شخصيةٍ بينك وبين كل نوع سينمائي وكل فيلم.
يمكننا مشاهدة هذه القصص السينمائية وإدراك قيمتها كجزء من التاريخ الثقافي أو سجل لأمةٍ ما أو أشخاصٍ رُحَّل متنقِّلين. لكن يمكننا أيضًا العثور على جزء من كلٍّ منها: من كُنَّا، ومَن نريد أن نكونه، ومَن أصبحنا عليه الآن.