مقدمة
دراسة السينما هي الانخراط في بعض أعظم القصص في العالم؛ فالأفلام تُقحِمنا في حيواتٍ مختلفة وتنقلنا إلى أزمنة وأماكنَ أخرى وتجعلنا نستكشف أقاصي أنحاء الطبيعة البشرية. ما الذي تخبرنا به الأفلام عن الآخرين وعن أنفسنا: كأمم وكأعضاء في مجتمعات وكأفراد؟ وكيف تعكس هذه الأفلام هويتنا الثقافية وموقعنا وحالتنا في الحياة ومكاننا في عالم متغير؟
مهما كانت رؤيتك للأفلام، فإنه لا غنى عن وجود خريطةٍ جيدة ترشدك عبر دراستك. يقدم الكتاب الذي بين يديك أطلسًا مبدئيًّا للسينما العالمية تضع عليه الأفلام التي تعرفها بالفعل وتلك التي ستقابلها لأول مرة. إن الغرض من هذه المقدمة هو تقديم بعض الإحداثيات والأدوات لمساعدتك في تحديد مكانك وما يجب عليك القيام به تاليًا. خطَّ خبراء وباحثو السينما مساراتٍ عديدةً في مجال دراسة السينما العالمية، بدراسة الأفلام كمشروعٍ تجاري وكعملٍ فني وكمؤسسةٍ اجتماعية، وتتبُّع السياسات الكامنة وراء الإنتاج وتاريخ رد فعل الجمهور؛ وإخضاع الأفلام الفردية لتحليلٍ دقيق والنظر إلى الأفلام بنحو أوسع كصُنَّاع للخرافة في عصرنا.
يتطلب فهم الأفلام انتباهًا شديدًا لعوامل ثلاثة رئيسية: إنتاجها (أو جهة صناعتها)، ومحتواها وشكلها الفني وأسلوبها السينمائي (بناء الفيلم)، واستقبالها (ردُّ فعل الجمهور)، وهي العوامل المتصلة بعضها ببعض بشكلٍ مُعقَّد، وبأمورٍ أخرى ثقافية وتاريخية. ولفهم تاريخ السينما ذاته وكيف تطورت الأفلام بمرور الوقت منذ ظهورها الأول في ثمانينيات القرن التاسع عشر، سيساعد تذكر أن السينما صناعة بنفس قدر كونها فنًّا واختراعًا تقنيًّا ومؤسسةً اجتماعية. هذه الجوانب الأربعة — الاقتصادية والجمالية والتقنية والمجتمعية — متضافرة في نسيج تاريخ السينما. ورغم أنه لا يجب عليك أن تكون اقتصاديًّا أو ناقدًا فنيًّا أو تقنيًّا أو عالم اجتماع للإلمام بالموضوع بالكامل، فسيكون من المفيد معرفة القليل عن كل جانب.
(١) الجانب التجاري للسينما
لوقتٍ طويل، كانت، ولا تزال، صناعة الأفلام تجارةً ضخمة. أدرَك هذا توماس إديسون عام ١٨٩٣ عندما سجَّل براءة اختراع أول «آلة كينيتوسكوب»، وهي صندوق يُتيح للناظر داخله مشاهدة أفلام قصيرة بالتحديق خلال فتحةٍ فيه وإدارة مقبضٍ ما. كانت فكرة إديسون هي تحقيق دخل كبير بدفع كل مُشاهِدٍ خمسةَ سنتات عن كل فيلم يشاهده. لكن وكما اكتشف الأخوان لوي وأوجست لوميير بعد وقتٍ قصير، كان الأكثر إدرارًا للمال هو عرض الفيلم على شاشة كبيرة لجمهورٍ حاشد. افتتح الأخوان الفرنسيان أول دار عرضٍ سينمائي في باريس عام ١٨٩٥. كان اختراعهما، «السينماتوجراف»، هو كاميرا تصوير وعارض في آنٍ واحد، مما وضع مقاييس عالمية للأفلام كوسيطٍ معروض. في عام ١٩٠٢، باع الأخوان لوميير براءات الاختراع المسجَّلة خاصتهما إلى شركة باتيه الفرنسية التي طورت من التقنية وأقامت أستديوهات إنتاج وافتتحت سلسلة من دور العرض امتدت إلى روسيا وأستراليا واليابان. لم يخشَ الأمريكي إديسون اختراع منافسَيه الفرنسيَّين، وأنتج المئات من الأفلام القصيرة في الأستديو الخاص به في ولاية نيو جيرسي الأمريكية والذي كان يسمى «بلاك ماريا»، بل وصنع كاميرا جديدة للتصوير الخارجي. في تلك الأيام المبكرة للسينما، كانت صناعة الأفلام مجالًا فتيًّا وفوضويًّا حيث كان الممارسون لها في الولايات المتحدة وأوروبا يستعيرون الأفكار ويسرقونها بعضهم من بعض بكل حرية. وفي عام ١٩٠٧، ساعد إديسون في تنظيم هذه الفوضى بتأسيس شركة براءات اختراع الأفلام السينمائية والتي كانت تُعرف باسم «تحالف إديسون» والتي جمعت بين كبار شركات صناعة السينما الأمريكية وتحكَّمت في الحلقات الثلاث الرئيسية لسلسلة إنتاج أي فيلم: «الإنتاج» (الصناعة) و«التوزيع» (ترتيب التداول) و«العرض» (التقديم في دور السينما). هذا النظام الثلاثي والذي يسمى «التكامل الرأسي» ضَمِن حدوث تدفُّقٍ سلس وموفر للنفقات للسلع السينمائية من الصانع وحتى المشاهد. وبالنسبة إلى قلةٍ منتقاة من المنتجين، غيَّرت شركة إديسون طبيعة الجانب التجاري للسينما مُحدِثة سوابق أثَّرت على الصناعة لعقود. ربما لا يكون إديسون هو من اخترع السينما، لكنه ترك بصمته عليها كأول رجل أعمال سينمائيٍّ كبير.
وكما سنرى خلال هذا الكتاب، فإن صناعة السينما أعادت اكتشاف ذاتها من خلال وسائل عديدة في العقود التالية. في الولايات المتحدة، وخلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، نجح مجموعة من المخرجين ذوي التفكير المستقل والأسلوب الإبداعي الخاص — الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم الصانعون المبدعون لأفلامهم بالكامل — في اجتذاب جمهور أكثر شبابًا ذي قيم مختلفة عن آبائهم؛ مما غرس بذور صحوة هوليوود من جديد. في باقي أنحاء العالم، كانت الحكومة تموُّل صناعة الأفلام وكان التشريع يحابي السينما الوطنية، مما أدى إلى ظهور حركاتٍ سينمائية جديدة في فرنسا وألمانيا والبرازيل وتشيكوسلوفاكيا وإيران وكوريا، ووصلت إلى ذروتها وامتدت إلى أماكن أخرى. وحتى المناطق التي من دون دعمٍ حكوميٍّ كبير مثل الهند واليابان وهونج كونج، نجحت في الحفاظ على صناعةٍ سينمائيةٍ تجاريةٍ قوية. وحديثًا، وحيث أصبح مصطلح العولمة أحد مفردات حياتنا اليومية، اكتسبت الممارسات التجارية في صناعة السينما طابعًا عالميًّا أكثر وضوحًا. وإذا كانت أستديوهات هوليوود في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين تُدار مثل خطوط تجميع السيارات في مصانع فورد، فإن هوليوود هذه الأيام تعمل مثل صناعة السيارات الحديثة حيث تعهد بجزء من عملية الإنتاج لأماكن أخرى في العالم (كالتصوير في بودابست وإجراء المونتاج في بريطانيا) وأحيانًا تسند إلى دولة أخرى لتنفيذ العملية بكاملها. اليوم، أصبحت هوليوود نظامًا للتجميع المتكامل، وهو ملائم أكثر لعقد الصفقات من صناعة الأفلام.
غيَّرت الاتجاهات الجديدة في التوزيع تدفُّق الأفلام ذاتها تاريخيًّا، فإن الولايات المتحدة هي أكبر مُصدِّر في العالم للأفلام. وقبل عام ١٩١٤ كانت إيطاليا وفرنسا هما أكبر موزعين للأفلام. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، زادت الأستديوهات الأمريكية من صادراتها من الأفلام لما وراء نطاق النزاع — أمريكا الجنوبية وآسيا وأستراليا ونيوزيلندا — مكتسبة ميزةً تنافسية نادرًا ما فقدت قوَّتها. وبعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت القوانين المضادة للاحتكار وصعود التلفزيون في إضعاف سيطرة الأستديوهات الكبرى بالإضافة إلى تناقص أعداد الجمهور الأمريكي، واجهت أوروبا هيمنة هوليوود بالدعم الحكومي ونظام الحصة والتشريعات الحمائية. وفي ثمانينيات القرن العشرين، شجعت السوق الأوروبية المشتركة الإنتاجات الأوروبية المشتركة مما مكَّن المخرج والكاتب وطاقم الممثلين وفريق الفيلم من القدوم من أي دولةٍ عضوة في السوق، مع ذلك، دول قليلة فقط هي اللي استطاعت التفوق على الواردات الأمريكية في عدد الأفلام. إن الإمكانيات الاقتصادية لصناعة السينما الأمريكية، بالإضافة إلى الجاذبية الواسعة لأسلوب هوليوود السينمائي، جعلتا الأفلام الأمريكية تستمر في الظهور على شاشات السينما حول العالم. ويُعتبر حجم سوق هوليوود المحلي عاملًا رئيسيًّا. فرغم أن المشاهدين الأمريكيين لم يعودوا لدور العرض بنفس الأعداد التي كانت تذهب إليها بين عامَي ١٩٣٠ و١٩٤٥، فإن عاداتهم الخاصة بالذهاب للسينما دعمت الميزانيات الكبرى التي حافظت على ارتفاع تكاليف (وإن لم يكن جماليات) الإنتاج في هوليوود. تشير الإحصاءات التي أصدرتها جمعية الفيلم الأمريكي عام ٢٠١١ إلى أن إجمالي عائدات شباك التذاكر للأفلام الأمريكية وصل إلى ٣٢٫٦ مليار دولار، أقل من ثلث هذا المبلغ (١٠٫٢ مليار) جاء من الولايات المتحدة وكندا، وهو ما يعني أن معظم العائدات جاء من العرض في الدول الأجنبية. وهذه الأرقام لا تتضمن الدخل الخاص بمبيعات أقراص الفيديو الرقمية أو تلفزيون الكابل أو الفيديوهات المتدفِّقة أو أي وسائل توزيع أخرى للأفلام.
هناك جانبٌ آخر للاقتصاديات العالمية للسينما وهو «الإنتاج الخارجي» وهو عندما يجري تصوير فيلمٍ أمريكي على أرضٍ أجنبية. كان الغرض الأصلي من هذا تقليل الضرائب والتكاليف المتعلِّقة بالعمالة، إلا أنه كذلك يخدم أغراضًا جمالية. فربما يبدو موقع التصوير في بلغاريا أو جمهورية التشيك كمدينةٍ أمريكية من القرن التاسع عشر أكثر من المدينة نفسها اليوم، أو ربما يوفر جبل في نيوزلندا مسرح الأحداث المثالي لفيلم مقتبس من قصص تولكين الخيالية. على الرغم من ذلك، وفي أغلب الأحوال، فإن صناع الأفلام يختارون بلدًا آخر لأنه أوفر في التكلفة. ورغم أن فيلم «زفافي اليوناني الكبير» تدور أحداثه في مدينة شيكاجو، فإنه صُوِّر في مدينة تورونتو الكندية ولم تحصل ولاية إلينوي على أي عائد منه.
ربما يكون أكثر التطورات البارزة في صناعة السينما حول العالم هو ظهور التكتلات العالمية؛ فقد أصبحت أستديوهات هوليوود الكبيرة، والتي كانت فيما مضى قمة الصناعة المتكاملة رأسيًّا، جزءًا من تكتلات إعلامية أكبر. من بين الأستديوهات الكبرى، ظلت شركة مترو جولدن ماير فقط مستقلَّة حتى عام ٢٠١٠ حين امتلكها مجموعة من مستثمري القطاع الخاص بعد الإجراءات الصعبة لإعلان الإفلاس. أصبحت شركة كولومبيا جزءًا من شركة سوني، بينما أصبحت فوكس جزءًا من شركة نيوز كوربوريشن، وأصبحت باراماونت تابعة لشركة فياكوم وامتلكت فيفيندي يونفرسال شركة يونفرسال وأصبحت وارنر براذرز تابعة لشركة تايم وارنر. وبحلول عام ٢٠١٢، أصبحت شركة ديزني تمتلك أستديوهات إنتاج سينمائي وشبكات تلفزيون وإذاعة وقنوات تلفزيون كابل ودور نشر ومتاجر تجزئة ومصانع ألعاب ومنتجعات ومدنًا ترفيهية حول العالم. ظلت الأسماك الكبرى تلتهم الصغرى، وهي ممارسة مستمرة على طول السلسلة الغذائية الاقتصادية في محيطٍ مستمر في الاتساع.
(٢) الجانب التقني للسينما
من دون التكنولوجيا، لا يمكن أن تُصنَع الأفلام. فكِّر في كل المعدات والآلات المطلوبة لسرد قصة بشكلٍ سينمائي. هناك معدَّات الإضاءة والكاميرات في موقع التصوير، ومعدات تسجيل الصوت، وآلات المونتاج، وأجهزة الكمبيوتر لإضافة الصور الرقمية، وأجهزة عرض آلية أو خدماتٍ إلكترونية لعرض النسخة النهائية من الفيلم على الشاشة، سواء كنتَ تشاهده في مُجمَّعٍ سينمائي أو على هاتفٍ تحمله بكف يدك.
وبينما تستمر التقنيات السينمائية في التطور مع الوقت، فإن العملية الرئيسية لصناعة أي فيلم ما زال يمكن تقسيمها لأربع مراحل: مرحلة «التطوير» تبدأ بفكرة وتنتهي بعرض، وهي المرحلة التي تُفصَّل فيها فكرة الفيلم بما يكفي من التفصيل لإقناع شخصٍ ما بتمويله. ربما يقدم الكاتب الفكرة الرئيسية في ملخص موجز أو عرضٍ سريع للقصة، والذي يمكن أن يتوسَّع لاحقًا إلى معالجة، وهي نسخة أكبر للسرد ربما تحتوي مشاهد وتطورًا للشخصيات وبعض الحوار بنحو يشبه القصة القصيرة. وبعد ذلك، فإن السيناريو أو «النص السينمائي» يعرض الأحداث ويضيف الحوار وربما بعض التوجيهات للكاميرا. أكثر نسخ السيناريو اكتمالًا قبل الإنتاج هي ما يسمى «سيناريو التصوير» والذي يقدِّم مخطط الفيلم لقطة بلقطة. أيٌّ من هذه النسخ يمكن تعديلها بواسطة كتَّابٍ آخرين يمكن أن يُنسَب الفضل إليهم أو لا، تحت مظلة صناعة الكتابة المشتركة الشائكة والمعقدة. وإضافة إلى تطوير السيناريو، هناك عدد من القرارات الرئيسية التي تُتَّخذ قبل الموافقة على أي عرض. في الأستديوهات الكبرى، هناك مختصُّون يعملون على تقدير الميزانية ومسح السوق وتحديد المخاطر القانونية. بوجود هذا الكم من العقبات والاعتبارات أمام التمويل، يتجاوز عدد قليل نسبيًّا من الأفكار مرحلة التطوير إلى مرحلة «ما قبل الإنتاج». في مرحلة «ما قبل الإنتاج»، تنتقل الفكرة المكتوبة على هيئة سيناريو من الموافقة إلى الإنتاج؛ ليكون كل شيء في مكانه الصحيح قبل بدء التصوير الفعليِّ. تُوزَّع الأدوار الرئيسية على الممثلين، وتُستكشَف مواقع التصوير. وفي إنتاج الأفلام الكبرى، ربما يكون هناك اختباراتٌ تمثيلية للممثلين قبل التصوير؛ لتقييم مدى ملاءمتهم لأدوارهم، وأدوات يجب صنعها، ومواقع تصوير معقدة يجب تصميمها وبناؤها. في النهاية، فإن «المنتِج»، الذي يتحمل مسئولية الفيلم النهائي، يوافق على الميزانية و«جدول التصوير»، ويحدِّد المواعيد والمواقع والعاملين في كل لقطة من السيناريو.
بالنسبة إلى العديدين، فإن أكثر المراحل تشويقًا في صناعة أي فيلم هي مرحلة «الإنتاج». فقد أُضيء موقع التصوير، وأُعِدَّت الميكروفونات، واستعدَّ الممثلون للأداء، والكاميرا جاهزة للعمل. الجميع في انتظار إشارة المخرج لبدء التصوير. فالمخرج هو المسئول؛ فهو يوجِّه الممثلين، ويُشرِف على التقنيين الذي يديرون عملية التصوير في الموقع. وقد يتولى «مساعد المخرج» مهامَّ أقل أهمية مثل تخطيط المشاهد التي ستُصوَّر خلال يوم العمل، وإدارة أفراد الكومبارس، وإبعاد المتطفلين عن موقع العمل. أما «مشرف السيناريو» فيُسجِّل التغييرات التي تحدث في الحوار خلال التصوير، بينما يسجل المسئول عن «الترابط» ملاحظاتٍ مثل التغير العَرَضيِّ في ملابس الممثل، أو جثة يتغير موضعها بنحو غير مبرَّر من لقطة إلى أخرى. أما المسئول مباشرة عن عمل الكاميرا وما يتعلق به من مهامَّ أخرى، فهو «المصوِّر السينمائي» أو مدير التصوير. في أطقم العمل الكبرى، هناك مُشغِّل للكاميرا بينما هناك مساعد أو اثنان ربما يُشرِفان على «تركيز بؤرة الكاميرا» وضبط العدسة عندما يتحرك الممثلون أو الكاميرا. هناك أفراد طاقمٍ آخرون يتولَّون تسجيل الصوت (ربما يتولى «مهندس الصوت» المسئولية عن كل الصوت المُسجَّل مباشرة في موقع التصوير)، وضبط الإضاءة («رئيس فنيي الإضاءة» هو المختص الرئيسي بالكهرباء في موقع التصوير؛ ومساعد الإضاءة الأول هو معاونه الأساسي)، ومهامَّ أخرى متنوعة («العمال» وهم من يتولون التعامل مع المعدات والمواقع والأدوات، و«السعاة» الذين يذهبون هنا وهناك لتنفيذ أوامر ومهامَّ محددة). يجب أن يكون كل شيء في محله الصحيح من أجل كل «إعداد»، أي، وضع الكاميرا (الزاوية والموقع) قبل بدء التصوير. أما ما يُصوَّر من الفيلم بتشغيل الكاميرا لمرةٍ واحدة، فيسمى «لقطة». وبما أنه يمكن ألا يكون المخرج راضيًا عن النتائج الأولى للتصوير، فربما تتطلب اللقطة «تكراراتٍ» عديدة. ربما يخطئ الممثل في التفوُّه ببعض السطور من السيناريو أو لا ينتبه إلى «الإشارات» (وهي العلامات الموضوعة على الأرض التي ترشد حركته)، وربما تكون زاوية وضع الكاميرا أو الإضاءة غير كافية؛ لذا عادةً ما تُعدُّ هذه اللقطات والتكرارات وتُسجَّل على لوح «الكلاكيت» (مثلًا: «اللقطة ١٢، التكرار ٣») للرجوع إليها فيما بعدُ. وأفضل تكرار لكل لقطة سيُختَار لاحقًا مما جرى تصويره على مدار اليوم الواحد، وهو ما يُعرَف باسم «المشاهد اليومية أو المشاهد السريعة».
يدخل الفيلم مرحلة «ما بعد الإنتاج» عندما يعلن المخرج انتهاء التصوير وأن الفيلم مُخزَّن بأمان وجاهز للمونتاج. يختار «المونتير» اللقطات المناسبة، وغالبًا ما يكون هذا بالتشاور مع المخرج، ويُشذِّب كل لقطة، ويجمع اللقطات ويُحوِّلها إلى «مشاهد» (أي، لقطات مرتبطة ببعضها زمنيًّا ومكانيًّا) «وتتابعات مشاهد» (أجزاء من الفيلم مكوَّنة من مشاهد من أزمنةٍ أو أماكنَ مختلفةٍ لكن توحدها فكرة عامة). هناك نوعٌ خاص من التتابعات، يسمى أحيانًا «تتابع مونتاج» (أو ببساطة: «مونتاج»)، يدمج بين لقطات خاطفة من مشاهدَ مرتبطةٍ بتتابعٍ سريع ليوضح مرور الوقت أو يعرض فكرةً ما مثل عملية الوقوع في الحب. في فيلم «المواطن كين» (١٩٤١)، استُخْدِم هذا الأسلوب في توضيح تدهور حال زواج كين الأول؛ فبمرور السنوات، زادت الفجوة بين السيد والسيدة كين، وأصبح بينهما طاولة طعام يتزايد طولها باستمرار، وأدوات مائدة باهظة الثمن، وكلماتٌ عدوانية وصلت ذروتها متحولة إلى صمتٍ عدائي. في أول مشهد من تتابع المشاهد هذا (الشكلان ١ و٢) ينظر كلٌّ منهما إلى الآخر في حب من مسافةٍ قصيرة. في المشهد التالي (الشكلان ٣ و٤) هناك لمحة من الشك تتصاعد عبر الورود الموضوعة بينهما. يتزايد الشقاق ويزداد وضوحًا في المشهد الثالث (الشكلان ٥ و٦)، وبحلول المشهد الأخير يجلس كلٌّ منهما في صمت في طرفٍ بعيد من مائدةٍ كبيرة يقرآن صحفيتَين متنافستَين (الشكلان ٧ و٨).
كانت مهمة المونتير فيما مضى مهمةً متعبة جسديًّا، تتضمن مزامنة شريط الصوت المغناطيسي مع شريط السيلولويد الخام للفيلم، وملاءمة النتائج فيما يسمى «النسخة التحضيرية» ثم «نسخة المخرج» الأكثر إحكامًا ثم «النسخة النهائية». اليوم، سهَّل الكمبيوتر كثيرًا من عملية المونتاج؛ فيمكن إضافة المسارات الصوتية من حوار أو موسيقى أو مؤثراتٍ صوتية أو تعليقٍ صوتي بشكلٍ رقمي. وهكذا الحال مع «المؤثرات الخاصة»: مثل محاكاة الانفجارات، وطيران الأبطال الخارقين، و«الانتقال» بين اللقطات مثل «التلاشي التدريجي» (اندماج صورة بأخرى) أو «الخُبُوِّ» (صورة تظهر من الظلام أو تختفي فيه). ربما تتضمن الإنتاجات الكبرى موسيقى أصلية تؤدِّيها أوركسترا، و«دبلجة» (إضافة حوار في مرحلة ما بعد الإنتاج في الأستديو)، أو «مونتاج فولي» (وهو أن يُستبدل بالمؤثرات الصوتية الحية بدائل متزامنة مثل صوت يقطينة تتحطم كمحاكاة لضربة ملاكم). في بعض الأفلام، فإن أكثر العمل الإبداعي يحدث في مرحلة «ما بعد الإنتاج» هذه.
كل ما يحدث وراء الكاميرا وقبل أو بعد التصوير يعتمد على الابتكارات الاستثنائية التي تجعل صنع الأفلام ممكنًا. تمثل أدوات الصناعة هذه عبقرية أفراد يعملون في مجالاتٍ متنوعة ودولٍ مختلفة حيث يساهمون جميعًا بشيءٍ هام في صناعة السينما العالمية. دعونا نلقِ نظرةً سريعة على الآلات التي تصنع الأفلام والعقول التي ابتكرتها.
فكِّر في كاميرا السينما. قبل أن يستطيع أي شخص صنع صورٍ متحركة لحدثٍ حيٍّ، كان يحتاج لطريقة ما لتسجيل الصور بشكلٍ واضح على وسيط ما؛ حتى يمكن تشغيل هذه الصور بتتابعٍ سلس ومستمر. بمعنًى آخر، كان يحتاج لحل مشكلات التصوير والعرض. فكرة الكاميرا كانت معروفة منذ عصر النهضة عندما كان يُدخِل فنانون مثل ليوناردو دافنشي ضوءًا خارجيًّا إلى غرفةٍ مظلمة من خلال ثقبٍ صغير في ستارةٍ نافذة. كلمة «كاميرا» مشتقة من كلمة لاتينية «كاميرا أوبسكيورا» وتعني غرفةً مظلمة. ما رآه أولئك الفنانون (وما يمكن أن يراه أي شخص اليوم) هو صورةٌ مقلوبة من الشارع معروضة على الحائط المقابل. استغرق الأمر عدة قرون قبل أن يقوم رجلٌ فرنسي يُدعى لوي داجير بالتقاط تلك الصورة بوضوح على لوح من النحاس المغطَّى بالفضة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وبدلًا من الغرفة المظلمة، استخدم داجير صندوقًا به ثقب في جانب ولوح في الجانب الآخر. في نفس الوقت تقريبًا، اكتشف رجلٌ إنجليزي يُدعى ويليام هنري فوكس تالبوت كيفية التقاط الصور على ورق معالَج كيميائيًّا بحيث يمكن إعادة إنتاجها من نسخةٍ سالبة. وخلال بضع سنوات، أضيف مصراع متحرك إلى «الثقب» (الفتحة)، وأتاحت الألواح الأسرع للمصوِّرين الفوتوغرافيين التقاط صورة الرياضي أثناء ممارسته الرياضة. لكن كيف يمكن للفعل المستمر نفسه أن يُلتَقَط ويُعرَض كحركةٍ مصورة؟ خلال أوائل القرن التاسع عشر، برهن عدد من الألعاب البسيطة التي كانت بأسماء مُعقَّدة مثل «فيناكيستوسكوب» و«زويتروب» على أنَّ أي تتابع من الرسومات الفردية يمكن تركيبه على عجلة دوَّارة أو أن يُدَار داخل طبلة لإيهام المشاهد بالحركة. كانت تعمل تمامًا مثل اللوح الورقي القلَّاب حيث كانت الصور المتفرقة تندمج في حركةٍ فرديةٍ مستمرة بفضل خداع المخ البشري. في عام ١٨٧٧، قام رجلٌ إنجليزي يعيش في كاليفورنيا ويُدعى إدوارد مايبريدج بالخطوة الكبرى التالية. كان مايبريدج يريد تسوية رهان يخصُّ حصانًا. وليثبت أن الحوافر الأربعة ارتفعت عن الأرض في نقطةٍ ما أثناء عَدْوه، وضع ٢٤ كاميرا على مسافاتٍ متفرقة بطول مسار السباق، عندما مرَّ الحصان بها، تعثَّر في سلسلة من الأسلاك المتصلة بالكاميرات. فاز مايبريدج بالرهان وقضى العشرين عامًا التالية يحسِّن من تقنية التصوير بكاميراتٍ متعددة خاصته واضعًا الصور على أسطوانة دوَّارة من أجل العرض. لم يمر وقتٌ طويل حتى بدأت أعدادٌ كبيرة من المخترعين — إنجليز وفرنسيون وأمريكيون — في ابتكار معداتهم الخاصة وتجربة استخدام لفائف أفلام تصوير مغطاة بالورق والثقوب الموجودة بأعلى وأسفل الأفلام والمصاريع المؤقتة لمزامنة الآليات التي تعمل بها. وعلى الرغم من أن أوائل مخترعي كاميرا السينما وعارض الأفلام ما زالوا موضع جدال، فإن توماس إديسون والأخوين لوميير هم من خرجوا من الأمر رابحين ماديًّا، كما رأينا.
توالت ابتكارات أخرى. وعلى الرغم من أنه عادةً ما يُنسَب إلى فيلم «مغني الجاز» («ذا جاز سينجر»، ١٩٢٧) الفضل في إطلاق عصر السينما الناطقة في الولايات المتحدة، فإن جهود إضافة الصوت المتزامن إلى الأفلام تعود إلى فترة ما قبل ذلك بكثير، بدرجاتٍ متفاوتة من النجاح. في الأساس، فكَّر إديسون في الصور المتحركة كقرين لآلة الفونوغراف الخاصة به، وهو مبدأ تجسَّد لاحقًا في نظام الفيتافون (١٩٢٥) الذي كان يربط بين أسطوانة دوَّارة وعارض. بعد الحرب العالمية الأولى بقليل، طوَّر المخترعون الألمان تقنية «تراي-إيرجون» في أوروبا، التي تحوِّل الصوت إلى ضوء حتى يمكن تسجيل مسارٍ صوتيٍّ ضوئي على شريط الفيلم مباشرة. جرى تحسين طريقةٍ مماثلة في أمريكا بواسطة لي دي فوريست الذي سمى ابتكاره «الفونوفيلم». وبينما كانت أوائل الأفلام تُصوَّر بصورةٍ أحادية اللون (الأبيض والأسود)، والتي غالبًا ما تلوَّن باليد أو بآلة، حققت هوليوود في عشرينيات القرن العشرين تقدمًا كبيرًا في التصوير بالألوان باستخدام تقنياتٍ مثل إيستمان كلر وتيكنيكلر، وعمليات تصوير أفلام أغنى في الألوان وأكثر استقرارًا للتنافس مع التلفزيون الذي كان ما زال يعرض مواده بالأبيض والأسود. ولتأكيد ميزة الشاشة الكبرى للسينما، جرَّب العارضون الأثر المُجسِّم للتقنية الثلاثية الأبعاد وشاشات السينيراما المقوَّسة وشاشات العرض العريضة جدًّا لتقنية السينماسكوب. إن هذه البدع الجديدة لم تستمر لفترةٍ طويلة لكن طرق العرض العريضة، وشاشات الآيماكس وتقنية العرض الثلاثية الأبعاد القطبية المستخدمة اليوم تنحدر منها.
مؤخرًا، لم تغيِّر التكنولوجيا فقط كيفية عرض الأفلام، لكن أين تُعرَض كذلك. عقدت هوليوود صلحًا مع التلفزيون بالتوحيد بين قواهما، مستخدمة تقنية البث، وتلفزيون الكابل لاحقًا، لتحويل أجهزة التلفزيون إلى مراكز عرض للأفلام. وبحلول تسعينيات القرن العشرين كان معظم البيوت الأمريكية يمتلك أجهزة تسجيل فيديو وتلفزيونات؛ مما سمح للعائلات بمشاهدة الأفلام على شرائط فيديو. وبحلول عام ٢٠٠٢، فاقت مبيعات أقراص الفيديو الرقمية أشرطة الفيديو المسجَّلة سلفًا. إن الفارق بين «نظام الفيديو المنزلي» (في إتش إس) و«قرص الفيديو الرقمي» (دي في دي) في الأساس هو الفارق بين التقنية التناظرية والتقنية الرقمية. المعلومات التناظرية متذبذِبة ومتَّصلة وتشبه الموجة بشكلٍ كبير، تُسجَّل الصور والأصوات على أشرطة نظام الفيديو المنزلي كأنماط من الإشارات المغناطيسية المتغيرة في شدتها، أما المعلومات الرقمية، فهي متفرقة ومتقطِّعة مثل مفتاح الضوء الذي يمكن ضبطه على وضعَي التشغيل أو الإيقاف. الأفلام على أقراص الفيديو الرقمية تُشفَّر على هيئة أجزاءٍ ضئيلة للغاية من المعلومات التي تمثل الأصوات والصور التي يمكن أن يقرأها ضوء الليزر ويحوِّلها إلى لغة الكمبيوتر الثنائية التي تتكون من الصفر أو الواحد، تشغيل أو إيقاف. وبما أن المعلومات الرقمية مستقلة عن وسيط التخزين الخاص بها، فإن أي فيلم رقمي يمكن نقله للقرص الصلب الخاص بالكمبيوتر أو يُبَث خلال الإنترنت من دون فقدانٍ كبير للجودة. هذه المرونة والمتانة تساعدان في تجاوز الكثير من القيود الخاصة بشريط السيلولويد والشريط الممغنط اللذين يتآكلان بمرور الوقت ومن الصعب التحكم فيهما. يمكن القيام بمونتاج الأفلام الرقمية بشكلٍ إلكتروني بواسطة الكمبيوتر دون الحاجة للآلات الثقيلة، كما يمكن نسخها على نحوٍ سريع ومضغوط، دون الحاجة لصنع نُسخٍ ضخمة وباهظة من الأفلام من مقياس ٣٥ مليمترًا من النسخ السالبة (النيجاتيف)، وتكون كل نسخةٍ رقمية في نفس وضوح ونقاوة النسخة الأولى.
غيَّرت الثورة الرقمية عملية صناعة الأفلام بالكامل من البداية وحتى النهاية، بل والصناعة نفسها من أعلى لأسفل. أصبحت أجهزة الكمبيوتر تُستخدَم في كتابة النص السينمائي والتصوير والمونتاج بل والإنتاج والتوزيع وعرض الأفلام. غيَّرت التطورات التي حدثت في الصور المنشأة بالكمبيوتر وجه صناعة أفلام الرسوم المتحركة، وسمحت لشخصياتٍ رقمية بالتعامل مع ممثلين حقيقيين؛ مما جعل الفروقات بين الممثلين الواقعيين والمتخيَّلين، وبين الأفعال الحقيقية والافتراضية، تصبح مبهَمة وغير واضحة. ينتُج قدرٌ كبير من السحر في أفلام هاري بوتر من هذا الدمج بين التقنيات. وهذا مجرد جزء من اتجاهٍ أكبر للدمج الرقمي وهو اتجاهٌ يدمج بين أنواعٍ كانت منفصلة فيما سبق من النصوص (المكتوبة والمنطوقة والمرئية) والأنواع الفنية (المسلسلات الكوميدية والوثائقيات والروايات والأفلام الروائية وألعاب الفيديو) وأنظمة العرض (التلفزيون ودور العرض السينمائي وشاشات الكمبيوتر وأجهزة الكمبيوتر اللوحية). ساعدت الثورة الرقمية في دفع اتجاهٍ آخر كذلك، ألا وهو الاتجاه نحو اقتصادٍ عالمي بشكلٍ متزايد. فكِّر في التكتلات الإعلامية الدولية التي تتحكم في شركات تلفزيون الكابل وأستديوهات صنع الأفلام ودور النشر والمدن الترفيهية حول العالم؛ إنه انتشار عالمي سهَّلته التكنولوجيا.
(٣) الجانب الفني للسينما
إذا كانت السينما تجارة وتقنية، فهي كذلك نوع من اللغة؛ بمعنى أنها توصِّل المعاني من خلال نظام من الشفرات والأساليب التي يجب أن تُعرَّف. على الرغم من أن مشاهدة أي فيلم ربما تبدو أمرًا هينًا كمشاهدة الحياة وهي تمرُّ بنا، فهي أمرٌ يحتاج قدرًا معينًا من التفسير؛ فكيف يمكننا أن ندرك أن الفم الضخم الذي يشغل الشاشة في فيلم «المواطن كين» يمثل لقطة مقرَّبة من شفاه كين وهو ينطق كلمته الأخيرة وليست شفاه مارد عملاق؟ كيف نعرف أن قصة كين تسير للخلف في الزمن عندما تذوب صفحةٌ بيضاء من دفتر اليوميات تدريجيًّا لتصبح مشهدًا يملؤه الثلج في كولورادو؟ مشاهد الاسترجاع (الفلاش باك) واللقطات المقرَّبة وحالات التلاشي التدريجي تُعتبر أساليب أو أجزاءً من الشفرة التي تساعدنا في فهم الفيلم. يدرك معظمنا معنى هذه الشفرات بمرور الوقت عن طريق مشاهدة الكثير من الأفلام وتركيز معظم انتباهنا على الشخصيات وعلاقاتها والعواطف الموجودة في كل مشهد. ربما ننخرط بشدة في القصص، أي ما يحكيه الفيلم، حتى إننا نفقد إدراكنا للخطاب؛ أي كيفية روايته للقصة. ربما لا نلاحظ وضع الكاميرا أو إضاءة المشهد أو أين تنتهي لقطة وأين تبدأ أخرى، لكننا عندما تثير قصة غير تقليدية حيرتنا، وعندما يُشتِّت انتباهنا أسلوبٌ غير معتاد لفيلمٍ تجريبي أو أسلوب غريب لفيلم من الصين، ربما نبدأ في التركيز على الخطاب السينمائي، متذكِّرين أن الأفلام هي تركيبات.
لمساعدتنا في فهم الخطاب السينمائي وتقدير كيف تعمل لغة الفيلم كنظام من الصور والأصوات، من المفيد أن نفهم مصطلحات مثل «الضوء الرئيسي» و«لقطة المنصة المتحركة» و«القطع المونتاجي المفاجئ». هذه المفردات التقنية تمكننا من التعرف على الاختيارات التي تُتَّخَذ وراء الكواليس لنرى بوضوحٍ أكبر كيف أن التكنولوجيا وفن السينما لا يفترقان.
تتضمن عُدَّة صانع الفيلم كاميرات وأدوات إضاءة ومعدات صوت وآلات مونتاج. تعمل «عدسة» الكاميرا كعينٍ زجاجية لتركيز أشعة الضوء الوارد على نوعٍ معين من وسيط التخزين (عادةً ما يكون شريط فيلم أو شريط فيديو أو مستشعر إلكتروني). تُصنَّف العدسات حسب «البعد البؤري» الذي يحدد حجم الصورة والمؤثرات البصرية الأخرى. يعطي البُعد البؤري للعدسة التقليدية (٣٥–٥٥ مليمترًا) أقل تشويه ممكن للصورة. تلتقط «عدسة الزاوية العريضة» (أو عدسة البعد البؤري القصير) مجال رؤية أوسع وتجعل الأشياء تبدو أبعد؛ مما يخلق وهمًا بوجود عمقٍ أكبر. تمتلك «عدسة التيليفوتو» (أو عدسة البعد البؤري الطويل) مجال رؤية أكثر ضيقًا، و«عمق مجال» (المنطقة الموجودة في بؤرة التركيز) أقل؛ مما يجعل الأشياء تبدو أقرب. إذا كان مُشغِّل الكاميرا يريد تكبير وعزل نافذة على بُعد، فيمكنه استخدام عدسة التيليفوتو، وإذا كان يريد وضع المبنى بكامله في تركيز بؤرة العدسة، فيمكنه استخدام عدسة الزاوية العريضة، وإذا كان يريد نقل الانتباه بين النافذة والمبنى بكامله، فيمكنه استخدام عدسة الزوم التي تمزج بين ميزات الأبعاد البؤرية المختلفة في عدسةٍ واحدة. يؤدي تحريك العدسة في اتجاهٍ ما (نحو وضع الزاوية العريضة) إلى الابتعاد عن النافذة، بينما يؤدي تحريكها في الاتجاه الآخر (وضع عدسة التيليفوتو) إلى الاقتراب منها.
بدلًا من ذلك، ربما يقرر المصور السينمائي تحريك الكاميرا، تسمى الحركات الرأسية لأعلى أو أسفل في المكان لقطات الذراع أو لقطات الرافعة بسبب أن الكاميرات القديمة الثقيلة كانت تُوضَع في الأساس على رافعات أو أذرعٍ متحركة. أما الحركات الأفقية للكاميرا على الأرض فتسمى لقطات «المنصة المتحركة» أو «لقطات المتابعة» بسبب أن الكاميرا كانت تتحرك على عجلات أو مسارات. إذا تحرينا الدقة، فإن اللقطات البانورامية الأفقية التي تمسح الأفق من موقعٍ ثابت؛ لا تُعتبر تحركًا بالكاميرا؛ لأن الكاميرا تدور على محورها أفقيًّا. نفس الأمر ينطبق على اللقطة المائلة التي تدور فيها الكاميرا على محورها صعودًا وهبوطًا أثناء محاولتها لفت انتباهنا من نافذةٍ سفلى إلى أخرى عليا. في كل هذه اللقطات، تُثبَّت الكاميرا في الأساس بمنصات بعجلات أو رافعاتٍ متحركة، على عكس اللقطات الجوية التي ربما تطير فيها الكاميرا فوق ما تُصوِّره بمساعدة مروحية أو طائرة. بالطبع، فإن الكاميرات الأخفَّ وزنًا يمكنها أن تتحرك بشكلٍ أكثر حرية بالعديد من الطرق، جامعة بين لقطات الرافعة والمتابعة واللقطات المائلة في حركةٍ واحدةٍ سلسة. يحافظ جهاز «الستيدي كام»، الذي اختُرِع عام ١٩٧٥، على مستوى الكاميرا خلال أي تحرك؛ مما يتيح التقاط لقطاتٍ متابعةً سلسةً للغاية ومتنوعة بكاميرا محمولة باليد.
يحرص المخرجون والمصوِّرون السينمائيون على «تأطير» ما يصوِّرونه ووضع عناصر كل لقطة داخل مستطيل مجال رؤية الكاميرا بحرص. تملأ «اللقطات المقرَّبة» معظم الإطار بجسمٍ واحد مثل وجه الممثل أو مسدس الشخصية الشريرة بالفيلم. وتكشف «اللقطة المتوسطة» جزءًا أكبر من جسم ما يُصوَّر؛ ربما تُظهِر الممثل من الكاحل أو الركبتين أو الخصر إلى أعلى. أما «اللقطة البعيدة» فتُظهر جانبًا أكبر من الخلفية، ويمكن أن تتنوَّع بين «لقطةٍ كاملة» للجسم تُظهر جسد إنسان بالكامل، ولقطات أبعد تُظهر العديد من الممثلين في غرفة، أو «لقطات بعيدة جدًّا» تُظهِر أفق السماء بمدينة بالكامل. يستخدم فيلم «المواطن كين» لقطةً مقربة جدًّا عندما يتفوَّه كين بكلمته الأخيرة «البرعم» (شكل ٩) ولقطةً بعيدة جدًّا ليُظهر كل الأشياء التي لا نفع لها التي تركها وراءه بعد موته (شكل ١٠). الزوايا هامة أيضًا في التصوير. ربما تظهر «لقطة بزاوية علوية» تصوِّر الطفل من أعلى صغيرًا ومغلوبًا على أمره كما يظهر في شكل ١١ عندما يحتفل الطفل تشارلي كين لأول مرة بأعياد الميلاد بعيدًا عن المنزل، أما «لقطة الزاوية المنخفضة»، فربما تُظهر الشخص مثيرًا للخوف أو قاسيًا كما يظهر في شكل ١٢ عندما ينظر تشارلي إلى وصيٍّ متعجرف. لكن في معظم الأحوال، يُصوَّر الممثلون بشكلٍ مباشر باستخدام «لقطة مستوى البصر» والتي تُمثِّل كيفية مواجهة بعضنا لبعض في الحياة اليومية.
بالإضافة إلى هذه الجوانب الخاصة بعمل الكاميرا — الحركة والمسافة والزاوية — فإن قدرًا كبيرًا من العمل يُبذَل في تصميم أي مشهد. يستخدم الخبراء والباحثون والمخرجون مصطلحًا فرنسيًّا وهو «ميزانسين» لوصف طريقة تصميم المشهد. إن اختيار الموقع والأثاث والأدوات وتعبيرات وجوه الممثلين والإيماءات والحركات والمكياج والأزياء الخاصة بهم؛ كل هذا يُسهِم في تحديد جو المشهد وتركيبه وطابعه العام. وكذلك الإضاءة؛ فعندما يُغمَر المشهد بإضاءة مُبهِرة ويكون المصدر الأساسي للضوء («الضوء الرئيسي») قويًّا (في الموضع والشدة) فإن الأثر العام (والذي يسمى «الإضاءة القوية») يمكن أن يكون مرحًا ومبهِجًا كما في مشهد الحفل في فيلم «المواطن كين» (شكل ١٣). أما عندما يكون المشهد مُضاءً بشكلٍ خافت وغارقًا في الظلال («الإضاءة الخافتة»)، فيمكن أن يكون المزاج العام كئيبًا أو غامضًا كما في شكل ١٤.
كانت أوائل الأفلام تُصوَّر وتُعرَض مباشرة بكل بساطة. جعل إديسون المصوِّر الخاص به يصوِّر فيلم «عطسة فريد أوت» («فريد أوتس سنيز»، ١٨٩٤) مرةً واحدة، واستطاع مرتادو صالونات العرض الخاصة به مشاهدة العطسة كاملة في فعلٍ واحدٍ مستمر بإدارة مقبض آلة الكينيتوسكوب. صوَّر الأخوان لوميير وعرضَا فيلم «وصول قطار» («أريفال أوف آ ترين»، ١٨٩٦) بنفس الطريقة إلى حدٍّ بعيد. لكن روادًا مثل الساحر الفرنسي جورج ميلييس والأمريكي إدوين إس بورتر سرعان ما اكتشفا كيفية تقطيع المشاهد إلى لقطات وإعادة ترتيبها لإحداث الأثر الدرامي؛ ففي فيلم «رحلة إلى القمر» («آ تريب تو ذا مون»، ١٩٠٢)، قسَّم ميلييس الحدث في الفيلم إلى ما يقرب من ٣٠ لقطةً متفرقة توضح كل منها مشهدًا، وأخذ ينقل القصة من مكان لمكان، وكانت الكاميرا تتوقف من حين لآخر وسط الحدث لتسمح للممثلين بالاختفاء، كما يحدث في العروض السحرية. استخدم بورتر انتقالًا أكثر تعقيدًا بين المشاهد في فيلم «سرقة القطار الكبرى» («ذا جريت ترين روبري»، ١٩٠٣)، حيث كان أحيانًا يغير وضع الكاميرا داخل المشهد الواحد؛ مما يوحي بحدوث أفعالٍ متزامنة (هروب اللصوص في لقطة بينما تفك البطلة قيد والدها في أخرى). اكتشف ميلييس وبورتر ميزات المونتاج وهو عملية اختيار وقص وإعادة تجميع المادة المصوَّرة في تتابعٍ مستمر.
في الولايات المتحدة، قدَّم ديفيد وارك جريفيث (١٨٧٥–١٩٤٨) ربما أكثر مما قدمه أي صانع أفلام آخر لصياغة وتطوير فن المونتاج خلال مسيرته الفنية الطويلة في السينما الصامتة. حسَّن جريفيث من أسلوب «القطع المتداخل» أو «المونتاج الموازي» الذي يتنقل بين أفعالٍ متزامنة في أماكنَ مختلفةٍ. في فيلم «مُشغِّل لونديل» («ذا لونديل أوبريتور»، ١٩١١) عندما تتنقل بين قطارٍ مسرع وبطلة في مأزق، فإن الإيقاع الديناميكي بين المشهدين كان يزيد من التوتر الدرامي. لاحقًا، عندما كانت البطلة تصدُّ اللصوص بسلاح كانت تخفيه، ندرك أن سلاحها هو في الحقيقة مفتاح براغي. تُكشَف خدعتها بلقطة مُقرَّبة على المفتاح. في مواضع أخرى، يستخدم جريفيث «اللقطات المُقحَمة» (وهي لقطات تُقحَم داخل مشهد؛ مما يكشف تفاصيله) وكذلك «اللقطات الاعتراضية» (التي تنتقل لأجسام بعيدة عن الشاشة مثل طائر يطير في السماء) و«لقطات رد الفعل» (التي تُظهر رد الفعل العاطفي للناظر) للمساعدة في سرد القصة. إن استخدامه السلس «للقطع التوفيقي» (الذي يساعد في استمرارية الحدث من لقطة إلى الأخرى) يدفع القصة إلى الأمام بشكلٍ متواصل. هذه البراعة في «مونتاج الاستمرارية» (وهو أسلوب يصنع إحساسًا بالتدفُّق المتواصل خافيًا أساليب المونتاج نفسها) أصبحت السمة المميزة للسينما الأمريكية. بمرور الوقت، تطورت مثل هذه الممارسات لتصبح نوعًا من التقليد الذي له قواعد وأساليب؛ فقد أصبح من المعتاد افتتاح الفيلم «بلقطةٍ تأسيسية» أو تعريفية لتوجيه المشاهدين، كما في اللقطة التي توضِّح أفق مانهاتن قبل أن تقترب الكاميرا لتوضِّح حياة شخص من سكان نيويورك. عندما تنظر شخصية إلى شيءٍ ما غير ظاهر على الشاشة، فإن ما يتبع هذا عادة يسمى مطابقة «اتجاه النظر»، وهي لقطة اعتراضية توضِّح ما تراه الشخصية. إن هذه اللقطات جزء من مبدأ أكثر عمومية يسمى «مونتاج وجهة النظر» والذي يهدف لإغراقنا في عالم الشخصيات بعرض الأشياء من وجهة نظرهم. هناك أسلوبٌ آخر وهو «قاعدة اﻟ ١٨٠ درجة». هذه «القاعدة»، والتي تُلاحَظ في الأيام الأولى للسينما بنحوٍ أكبر، تحافظ على الكاميرا على جانبٍ واحد من خطٍّ خياليٍّ مرسومٍ خلال الفعل حتى يظل الممثلون في علاقةٍ متَّسِقة بعضهم مع بعض. إن الأسلوب التقليدي ﻟ «تتابع اللقطة/اللقطة المعكوسة» الذي يتناوب في عرض منظورَي شخصيتين تتحدثان إحداهما إلى الأخرى هو أحد أمثلة مونتاج وجهة النظر. وإذا لم نلاحظ هذه الأساليب في المونتاج، فإن هذا يرجع إلى أنها مصمَّمة لتُبقينا داخل الفيلم وليس الاطلاع على كيفية صناعته. إن «الأسلوب الهوليوودي الكلاسيكي» في المونتاج الخفي يُبقينا مشغولين بالقصة ومُركِّزين انتباهنا على الشخصيات حتى نتوق إلى معرفة ما سيحدث بعد ذلك. يفضل هذا الأسلوب الوضوح والوحدة والتقدُّم. يتقدم الفعل أو الحدث للأمام من خلال سلسلة من الأسباب والنتائج المرتبطة على نحوٍ واضح بعضها ببعض؛ ليصل إلى حل ما لنزاعٍ دائر.
كان عقد العشرينيات من القرن العشرين عصر التجريب الفني في أوروبا؛ ففي ألمانيا، أكمل صناع الأفلام جهود المخرج روبرت فِينَه التي قدَّمها في فيلم «كابينة الدكتور كاليجاري» («ذا كابينيت أوف دكتور كاليجاري»، ١٩٢٠) لتصوير حالات عقلية متطرفة للشخصيات من خلال تصميم المشاهد. أصبح استخدامهم للإضاءة الخافتة الغريبة ومواقع التصوير المصمَّمة على نحوٍ عجيب والتصوير المثير للإرباك والحيرة لتقديم حقائق ذاتية (داخلية) بدلًا من تقديم الواقع الموضوعي يُعرف باسم التعبيرية. في فرنسا، جرب رواد الابتكار الفني (رواد الحركة الطليعية) الانطباعية (وهي تكثيف التجربة النفسية من خلال أساليب مثل التراكب والحركة البطيئة للكاميرا والصور غير الواضحة المعالم) وكذلك السريالية (وهي إعادة إنتاج المنطق الغريب للأحلام على الشاشة). في ثلاثينيات القرن العشرين، وعشية الحرب العالمية الثانية، اتجه المخرجون الفرنسيون نحو أسلوبٍ أكثر واقعية يُعرف باسم الواقعية الشعرية مُركِّزين على تقديم أبطال من الطبقة العاملة تحيط بهم قوًى اجتماعية لا تلين. هذه الحركات الفرنسية الثلاث ممثلة على التوالي في أفلام «كلب أندلسي» («آن أندلوسيان دوج»، ١٩٢٩) للويس بونويل وسلفادور دالي، و«سقوط منزل آشر» («ذا فول أوف ذا هاوس أوف آشر»، ١٩٢٨) لجان إبشتاين، و«سفينة أتلانتا» («لاتلانت»، ١٩٣٤) لجان فيجو.
بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، اتخذ صناع الأفلام الإيطاليون خطوةً إضافية نحو التصوير الواقعي للمشكلات الاجتماعية. وبمواجهتهم للموارد المتضائلة لاقتصاد ما بعد الحرب، اصطحب مخرجون مثل روبرتو روسيليني (في فيلمه «روما: مدينة مفتوحة» («روم: أوبن سيتي»، ١٩٤٥)) وفيتوريو دي سيكا (في فيلمه «سارقو الدراجة» («بايسكل ثيفز»، ١٩٤٨)) كاميراتهم إلى الشوارع مستخدمين الضوء المتاح وممثلين هواة للتركيز على حياة الأشخاص العاديين. هذا الأسلوب شبه الوثائقي أصبح يُعرَف على نطاقٍ واسع باسم «الواقعية الجديدة» وهو من أكثر أساليب السينما تأثيرًا بسبب أنه ملائم بسهولة للمناطق حول العالم التي يقلُّ فيها التمويل ويزيد فيها الدافع لرواية القصص المحلية. ألهمت الواقعية الجديدة الإيطالية حركات مثل «سينما نوفو» (السينما الجديدة) في البرازيل و«السينما الثالثة» في الأرجنتين وحركات سينمائية جديدة، من إيران إلى دول أفريقيا السوداء جنوب الصحراء الكبرى. تظهر بعض سمات الواقعية الجديدة الإيطالية فيما يُعرف بالموجة الجديدة للسينما الفرنسية في ستينيات القرن العشرين عندما سعى صنَّاع أفلام شباب بميزانياتٍ صغيرة وأفكار كبرى مثل فرانسوا تروفو وجان لوك جودار لإعادة إحياء تراث بلادهم السينمائي بأفلام مثل «٤٠٠ ضربة» («ذا فور هندريد بلوز»،١٩٥٩) و«منقطع الأنفاس» («بريثليس»، ١٩٦٠). بين الحين والآخر، تظهر «موجةٌ جديدة» في مكان ما في العالم مثل السينما الألمانية الجديدة (من أواخر الستينيات وحتى الثمانينيات) والموجة اليابانية الجديدة (والمسماة «نوبيرو باجو» من الخمسينيات وحتى أوائل السبعينيات) أو السينما الكورية الجديدة (من الثمانينيات وحتى بداية الألفية الثالثة) والتي لكل منها أسلوبها المميز.
(٤) الجانب الاجتماعي للسينما
كل الإبداع الفني والبراعة التجارية والتقدم التقني للسينما لا يكون ذا قيمة كبرى إذا لم يجد أيُّ فيلم جمهورًا يشاهده؛ فالمشاهدون هم من يعطون الفيلم قيمته النهائية، مفسرين معانيه ومقيِّمين جدارته. طرح الباحثون نظرياتٍ عدةً لتفسير كيفية تجاوب الجمهور مع الأفلام؛ فأصحاب «النظريات الماركسية» مثل فالتر بينجامين (وهو ألماني) ولوي ألتوسير (وهو فرنسي) نظروا إلى الأفلام كأدوات دعايةٍ سياسية أو تغييرٍ اجتماعي مؤكدين على قوة وسائل الإعلام مثل الأفلام لإعادة إنتاج رسائل أيديولوجية للاستهلاك العام. إنهم يرون أن شبكة القيم لأي مجتمع (أي: «أيديولوجياته») تُنسَج داخل كل نصٍّ سينمائي (أي: النسيج الكامل لقصة الفيلم وشخصياته وتصميم المشاهد وقواعد المونتاج الخاصة به) مما يساعد في تشكيل رؤية المشاهد للعالم ولذاته؛ لذا فإن فيلمًا مثل «الجنس والمدينة» («سيكس آند ذا سيتي»، ٢٠٠٨) ربما يشجع سلوكياتٍ معينةً تجاه النساء، والنزعة الاستهلاكية، رغم أنه يقدِّم نفسه كسرد لقصة حب. شكك أصحاب النظريات الثقافية مثل ستيوارت هول (وهو إنجليزي) في صحة فكرة أن المشاهدين يتجاوبون مع ما تُقدِّمه الأفلام بشكلٍ سلبي. يرى هول أن الأفراد يُفسِّرون ما يرونه على الشاشة من خلال خلفيتهم الثقافية وتجاربهم في الحياة، مفسرين المعاني والأحكام التقديرية من خلال نوع من الحوار مع الفيلم والأيدولوجية الرئيسية القائم عليها.
ابتعد النقاد النسويون وخلفاؤهم، مؤخرًا، عن التحليل النفسي الذي وجدوه غير مناسب لتفسير النطاق الكبير للاختلاف الكبير في الاندماج السينمائي لمختلف المشاهدين في مختلف الأوقات. وبينما يميل علماء النفس (الذين يدرسون البشر كأفراد) إلى تعميم أو «تأصيل» هذه التجارب باعتبارها سماتٍ مميزةً لمجموعاتٍ معنية، فإن علماء الاجتماع والإثنوجرافيا (الذين يدرسون البشر كجماعات) يدرسون الاختلافات بين هذه المجموعات. إن جميع النساء لا يشاهدن الأفلام بنفس الطريقة. على سبيل المثال، فإن النساء الأمريكيات الزنجيات والكوريات والسحاقيات ربما يستجبن بنحوٍ مختلف تجاه نفس الشخصية النسائية أو النجمة السينمائية. ولفهم كيفية اختلاف استجابة مختلف المشاهدين لنفس الفيلم، لجأ بعض دارسي السينما المعاصرين إلى علم الاجتماع وعلم الإثنوجرافيا كنماذجَ بحثيةٍ. أكاديميات مثل تشارلوت برندسون ومويا لاكيت وديان نيجرا وهيلاري رادنر وجاكي ستيسي وشيلي ستامب مهتمات بالسياقين التاريخي والثقافي؛ لذا، في الوقت الذي تبنَّت فيه ماري آن دون رؤية نظرية للمشاهدة قائمة على التحليل النفسي بشكلٍ كبير، فإن ستيسي تتبنى رؤية تاريخية قائمة على البحث للجماهير الحقيقية. وخلاف الجيل السابق من النسويين، فإن هذا الجيل الثالث من النسويين أو «ما بعد النسويين» كما يسمَّون أحيانًا، يسمح بمساحةٍ أكبر لمتع الزواج والعائلة؛ فهن يرين أنه لا داعي لإنكار وهجر الأمومة أو الأنوثة أو حتى النزعة الاستهلاكية؛ فيمكن أن تلد النساء الأطفال وترتدي الأحذية ذات الكعب العالي وتظل قوية.
النسويون والماركسيون، وغيرهم من أصحاب النظريات الذين اتجهوا إلى القيام ببحث إثنوجرافي عن الجمهور يستند أكثر على الحقائق، يأخذون في الاعتبار الاختلافات الثقافية والتاريخية. إنهم يسعون لسرد قصة السينما باعتبارها مؤسسةً اجتماعية، قوةً تعكس وتُشكِّل في نفس الوقت المجتمعات في أزمنةٍ معينة وأماكنَ معينة. وخلال السنوات العشر الأولى من عمر السينما في الولايات المتحدة، من ١٨٩٥ حتى ١٩٠٥، جذبت السينما نفس جمهور الطبقة الوسطى الذي عادةً ما كان يحضر عروض المنوعات الحية. ثم بدأت دور العرض الصغيرة، التي تستوعب مائتي شخص بمشقة، في الانتشار عبر البلاد. كانت تلك الدور تسمى «النيكل أوديون» بسبب أن ثمن تذكرة الدخول كانت نيكلًا واحدًا فقط أو ما يساوي خمسة سنتات، وجذبت الجمهور من طبقة العمال والطبقة المتوسطة الدنيا الذين كان يمكنهم دفع ثمن التذكرة. وأصبحت الأفلام وسيلة لدمج المهاجرين الجدد في الثقافة الأمريكية؛ مما ساعد في خلق مجتمعٍ متجانس. وعندما زاد عدد الأمريكيين الذين انتقلوا من الريف للعيش في المدن الكبرى في العقد الأول والثاني من القرن العشرين، بنى عارضو الأفلام دور عرض أكبر. إن «قصور العرض» الكبرى هذه، المزيَّنة بالزخارف الرومانية والفرعونية غير المألوفة، كان يمكنها استيعاب الآلاف، سامحة للمواطنين العاديين بالعيش كأباطرة أو فراعنة، على الأقل خلال مدة عرض فيلمين صامتين ومقدمةٍ موسيقية أوركسترالية وعرض التسلية الحي الذي كان عادةً ما يصاحب كل عرض. بذل العارضون جهودًا خاصة لاستمالة النساء، موفِّرين خدمات رعاية للأطفال، وأماكنَ مريحة لخلق علاقات اجتماعية مع الآخرين، وعروضًا مُتقنة للمنتجات المتعلقة بالفيلم في الردهة؛ من نسخٍ مطبوعة من القصة إلى مجلات المعجبين. في أي مكان آخر حول العالم، كانت الطرق التي تُعرَض وتُشاهَد بها الأفلام تتلاءم مع العادات الاجتماعية المحلية، وتنعكس التقاليد في صالات السينما الصاخبة في الهند ودور العرض المتنقلة في ريف أمريكا اللاتينية. وبمرور الوقت، ومع ظهور تغيرات مثل ظهور المجمعات السينمائية ذات شاشات العرض المتعددة ونظام الفيديو المنزلي وتقنيات الإنترنت، فإن أشكال استقبال الجمهور للأفلام تغيَّرت كذلك. ربما يقول بعض أصحاب النظريات إن الاختلافات المحلية أفسحت الطريق لممارسات أكثر توحيدًا في المشاهدة؛ مما يعكس الميل الكبير نحو العولمية.
(٥) إعادة رسم الخارطة السياسية
العديد من التغييرات الحديثة في صناعة السينما حول العالم تنبثق من التغيُّرات الحادثة في عالم السياسة. ولفهم التحالفات الاقتصادية والثقافية الجديدة التي تشكل الأفلام التي نشاهدها، سيكون من المفيد مراجعة بعض القوى السياسية العامة التي شكلت هذه التحالفات؛ فخلال الخمسين عامًا الماضية، تلاشت حدودٌ قديمة ورُسِمت حدودٌ جديدة ووُضِعت خطوطٌ جديدة لا يمكن تجاوزها.
من أكبر هذه التغيرات سقوط الشيوعية السوفييتية؛ فخلال «الحرب الباردة» (منذ حوالي عام ١٩٤٥ وحتى ١٩٩٠)، كان معظم دول العالم متحالفًا سياسيًّا مع واحدة من أكبر قوتَين سياسيتَين في العالم (انظر شكل ٢١). في أوروبا، كان هناك ستار حديدي وهمي يفصل بين شرقها وغربها؛ تحالفت الديمقراطيات الغربية مع الولايات المتحدة، وكانت الدول الشرقية التابعة للكتلة السوفييتية مرتبطة بالاتحاد السوفييتي، أما ألمانيا التي قسَّمتها المعاهدات بعد الحرب العالمية الثانية وحائطٌ حقيقي بعد عام ١٩٦١، فكانت مقسَّمة إلى دولتين، لكلٍّ منهما صناعتها السينمائية وأيديولوجيتها الخاصة بها. هذه التقسيمات والتحالفات انعكست على أماكن أخرى من العالم. مدَّ السوفييت نفوذهم إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، غالبًا باستخدام الأفلام لنشر رسائلهم الأيديولوجية، وتدرَّب صنَّاع أفلام أفارقة — مثل: عثمان سمبين من السنغال، وسليمان سيسيه من مالي — في موسكو، وعادوا إلى بلادهم في أفريقيا محمَّلين بمعرفة عملية عن آيزنشتاين وبودوفكين. وتحت حكم فيدل كاسترو، قامت كوبا بدور فعَّال في الترويج لقضية النضال الطبقي وتشجيع التضامن بين صنَّاع الأفلام في العالم الثالث في السبعينيات والثمانينيات.
لكنَّ أكبرَ موصل للرسائل السينمائية داخل الاتحاد السوفييتي السابق والدول النامية حول العالم كان الهند. تتمتع الهند بصناعة سينما قوية منذ أيام السينما الصامتة، التي ازدهرت في الأربعينيات التي كانت العصر الذهبي للسينما الهندية. خلال الحرب الباردة، وصلت الهند، بمساعدة تحالفها مع السوفييت، إلى جمهورٍ كبير في مناطق داخل نطاق نفوذ الاتحاد السوفييتي، ومنها أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي الفسيح ذاته ودولٌ نامية كانت تبحث عن بديلٍ للقيم الغربية. فمن رومانيا وحتى ماليزيا، ومن هاييتي وحتى العراق، ما زالت القصص السينمائية الهندية والنجوم الهنود يسيطرون على شاشات السينما المحلية. كما يردد الأطفال في نيجيريا وغانا والمغرب أغنيات بالهندية مع أصدقائهم؛ حيث حفظوا كلماتها عن ظهر قلب من أحدث أفلام بوليوود. وعلى الرغم من أن معظم الأفلام الهندية غرضها التسلية أكثر من إثارة الجدل، فإنها وفَّرت بديلًا ثقافيًّا وسياسيًّا مقبولًا لملايين الناس الذين يفضِّلون الإفصاح عن حاجاتهم العاطفية في معبد الرغبة الهندي بدلًا من مصنع هوليوود للأحلام.
في نفس الوقت الذي تستمر فيه هوليوود كأقوى موصِّل للقيم الغربية، ساعية بكل قوة للسيطرة على شاشات السينما حول العالم، تركت نهاية عهد سيطرة موسكو كقوةٍ مركزيةٍ موحدة جانبًا كبيرًا من الإمبراطورية السوفييتية مفكَّكًا (انظر شكل ٢٢). وعنى هذا أن دولًا مستقلة جديدة مثل أوكرانيا وكازاخستان كانت حرة في تطوير السينما الخاصة بها. وفي يوغوسلافيا السابقة، أعلن صناع الأفلام عن هويتهم كصرب أو بوسنيين أو كروات أو مقدونيين. كما صوَّت شعب تشيكوسلوفاكيا لانفصال جمهورية التشيك عن جمهورية سلوفاكيا. لكن في أماكن أخرى في العالم، كانت القوى العالمية توحِّد الناس بدلًا من أن تفرِّق بينهم؛ فعندما انهار حائط برلين عام ١٩٨٩، احتفل الألمانيون الشرقيون والغربيون باتحادهم بتحويل منشآت شركة ديفا للإنتاج السينمائي، التي كانت مملوكة لحكومة ألمانيا الشرقية، إلى أستديو بابلسبِرج الذي أصبح مركزًا جديدًا للإنتاج السينمائي والتلفزيوني الأوروبي يموِّله تكتُّل فيفيندي العالمي. وبشكلٍ أكثر شمولًا، فإن الاتحاد الأوروبي وحَّد بين دول شرق وغرب أوروبا كما لم يحدث من قبلُ؛ مما مهَّدَ الطريق للتعاون والإنتاج المشترك العابر للحدود القومية.
كما وحدت التطورات في حافة المحيط الهادي بين دول وصناعات سينمائية كانت منفصلة فيما مضى. وعلى عكس روسيا الشيوعية، فإن الصين الشيوعية حافظت على قوَّتها السياسية، وفي نفس الوقت سعت لتنفيذ سياسةٍ قوية للنمو الاقتصادي؛ مما حول جمهورية الصين الشعبية إلى اقتصاد سوق من خلال تخطيطٍ مركزيٍّ دقيق بدلًا من ترك الأمر ليحدث من تلقاء نفسه. إن القوى السياسية والتاريخية التي تقسم بين الصين وبين هونج كونج وتايوان أثبتت حتى الآن أنها أقل أهمية من الدوافع الاقتصادية التي تدفع الجمهوريات الصينية الثلاث لصنع تحالفٍ سينمائيٍّ هائل. عندما كانت هونج كونج مستعمرةً بريطانية، ازدهرت ماليًّا خلال القرن العشرين؛ مما جعلها ملاذًا آمنًا للرأسماليين الصينيين خلال الحرب الأهلية الصينية في عشرينيات القرن العشرين والغزو الياباني للصين في الثلاثينيات. في هذه البيئة الاقتصادية الصحية، ازدهرت هونج كونج لتصير في سنواتِ رواجِها الاقتصاديِّ (في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين) ثالثَ أكبرِ اقتصادٍ في العالم، بعد الولايات المتحدة والهند. كان هناك نزوحٌ مماثل للمواهب والمال إلى تايوان؛ حيث لاذ بها الملايين هربًا من الشيوعيين في الأربعينيات. قدرٌ كبير من صناعة السينما في شنغهاي انتقل إلى تايوان بعد عام ١٩٤٩؛ مما وفر البنية الأساسية لسينما تايوانيةٍ قوية. وعلى الرغم من أن هونج كونج ظلت إلى حدٍّ كبير مستقلةً ماليًّا بعد عودتها الرسمية إلى الصين عام ١٩٩٧ («بلدٌ واحد ونظامان»)، واستمرت تايوان في الدفاع عن استقلالها السياسي بشراسة، فإن شركات إنتاج الأفلام في كلٍّ من هونج كونج وتايوان كانت تستثمر بقوة في الصين بحلول أوائل الألفية الثالثة، لاجئةً إلى الصين لنجومها ومواقع تصويرها وجمهورها.
هناك مخاوفُ مماثلةٌ عُبِّر عنها في أمريكا اللاتينية؛ فبينما تظهر موجاتٌ جديدة قوية من الصناعة السينمائية المبتكرة من وقتٍ لآخر، مثل سينما نوفو في البرازيل، ومخرجين مثل فرناندو سولاناس وأوكتافيو خيتينو في الأرجنتين وأمبرتو سولاس وجوتيريز أليا في كوبا؛ يظهر اتجاهٌ حاليٌّ يفضِّل أفكارًا وأنواعًا سينمائية ستعبر الحدود وصولًا إلى دور العرض والمهرجانات الموسرة في أوروبا والولايات المتحدة. فأفلام مثل «مدينة الرب» («سيتي أوف جود»، ٢٠٠٢)، و«يوميات الدراجة النارية» (٢٠٠٤) من البرازيل، و«تسع ملكات» («ناين كوينز»، ٢٠٠٠) من الأرجنتين، و«أموريس بيروس» (٢٠٠٠) من المكسيك، كلها مُوِّلت ووُزِّعت من خلال شراكات عالمية. في بعض الأحيان، يعبُر صناع الأفلام أنفسُهم الحدود، أحد الأمثلة الحديثة هو المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون الذي أدى نجاحُ فيلمه «وأمك أيضًا» («أند يور ماذر تو»، ٢٠٠١) إلى تعاقده مع شركة وارنر براذرز على صناعة أفلام ذات ميزانياتٍ كبرى مثل «هاري بوتر وسجين أزكابان» («هاري بوتر آند ذا بريزونر أوف أزكابان»، ٢٠٠٤). إن البرازيليَّيْن فرناندو مييريليس ووالتر ساليس أيضًا عبرا حدود اللغة بأفلامٍ مثل «البستاني المخلص» («ذا كونستانت جاردنر»، ٢٠٠٥) و«مياه مظلمة» («دارك ووتر»، ٢٠٠٥)، وكلاهما باللغة الإنجليزية.
تُعَدُّ إيران من أبرز المناطق القليلة في العالم التي ما زالت غير متأثرة نسبيًّا بصفقات السينما العالمية. بعد الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩، أدت سياسات الشاه الليبرالية إلى زيادة الشعور المناهض للغرب بنحو كبير، وهُوجِمت دور العرض ودُمِّرت. في إحدى الحوادث الشهيرة، أُغلقت دار عرض ريكس في مدينة عبدان وأُحرقت والمشاهدون بداخلها؛ ما أدى إلى موت ما يقرب من ٤٠٠ شخص حرقًا. على الرغم من ذلك، وبعد وقتٍ قصير، أعلنت الحكومة الجديدة برئاسة آية الله الخميني أنها ليست ضد السينما في حدِّ ذاتها، بل ضد الانحلال الأخلاقي. عرض الخميني فكرة «السينما الإسلامية» التي دعمتها الحكومة والتي تعكس القيم التقليدية لدين الدولة. وفي أواخر تسعينيات القرن العشرين، كانت صناعة السينما التي أُعِيدَ إحياؤها مزدهرةً في إيران، رغم الرقابة الشديدة — أو ربما بسببها. كانت النساء في السينما، كما في المجتمع الإيراني، يجب عليهن ارتداء الشادور، وهو رداءٌ أسود فضفاض يُخفي الجسد، أمام الناس. وكان يجب على الممثل والممثلة غير المتزوجَين ألَّا يلمس أحدهما الآخر على الشاشة. أما الجنس والعنف والنقد السياسي، فقد كانت موضوعاتٍ محظورة. لكنَّ عين الرقيب اليَقِظة أحيانًا ما تستفزُّ الفنانَ المؤمن بما يقوم به ليُخرِج أفضلَ ما لديه؛ فمخرجون مثل عباس كياروستامي وجعفر باناهي ومحسن مخملباف تعلَّموا التحايُلَ على هذه العقبات. ابتكر هؤلاء نصوصًا رمزية، عادةً ما تستخدم ممثلين أطفالًا وحبكاتٍ بسيطةً على نحوٍ مُضلِّل لتوصيل رسالتهم بشكلٍ غير مباشِر، ثم أرسلوا أفلامَهم لمهرجانات سينمائية أجنبية خارجَ البلاد حيث فازوا بعددٍ غير مسبوق من الجوائز. كما أشاد النقاد حول العالم بأعمالهم واعتبروها أكثرَ تطوُّرات السينما إثارةً للاهتمام منذ الموجة الفرنسية الجديدة في الستينيات. وفي عالم تتصدر فيه الأصوليةُ الإسلامية المشهد، فإن السينما الإسلامية في إيران ظاهرةٌ هامة يجب متابَعتُها.
(٦) العولمة والعولمية والسينما العالمية
في هذا الفصل حتى الآن، تتبَّعنا قصة السينما العالمية كما لو كانت مكوَّنة من عدة جوانب: اقتصادي وفني وتقني واجتماعي. وخلال ذلك، أضفنا الجانب السياسي. كل جانب من القصة متداخل مع الجوانب الأخرى، وبتقدُّم السرد التاريخي يتشابك على نحوٍ متزايد مع مصطلحات مثل التهجين والكونية والعولمية والعولمة. يُعتبر هذا المقام مناسبًا لشرح هذه المصطلحات والفكر الكامن وراءها.
سنبدأ بتوضيح الاختلاف الرئيسي بين العولمية والعولمة. «العولمية» يمكن فهمها على أنها نظرة إلى العالم أجمع كشبكةٍ معقَّدة من العناصر المتصلة فيما بينها — اقتصاديات ومعلومات وبشر وثقافات — بنحوٍ يتجاوز الحدود القومية ويمتد ليشمل قاراتٍ كاملة، أما العولمة فتشير إلى العملية التي يتسارع بها هذا الاندماج العالمي بمرور الوقت. في دراسات السينما، استُخدمت كلمة «عالمي» بصورةٍ أكبر من مصطلحاتٍ أخرى معتادة أكثر مثل «دولي» (الذي عادةً ما يشير إلى التفاعلات بين دولتين) أو «متعدد الجنسيات» (الذي يشمل دولًا عدة) أو حتى «عابر للحدود القومية» (أي، الممتد ما وراء تلك الحدود)، في الوقت الذي يزداد فيه النظر إلى العالم كشبكة من الكيانات المستقلَّة بدلًا من مجموعة من الدول الفردية. في خمسينيات القرن العشرين، وافقت أستديوهات يونفرسال في هوليوود وأستديوهات هامر في لندن على المشاركة في إنتاج أفلام عن وحوشٍ أيقونيةٍ شهيرة لتحقيق الفائدة المشتركة، وهو مثالٌ على التعاون الدولي بين الولايات المتحدة وبريطانيا. في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، عندما بدأت شركة سوني بيكتشرز اليابانية في شراء أستديوهات أجنبية لصناعة أفلام في هوليوود والهند وروسيا وأماكن أخرى، أصبحت شركة إنتاج متعددة الجنسيات تمتد فروعها في دولٍ عديدة. أما مفهوم السينما العابرة للحدود القومية، فهو أكثر تعقيدًا وما زال محل نقاشٍ كبير بين الباحثين؛ فهو أحيانًا ما يُستخدَم لدحض فكرة «السينما المحلية» (التي تركز على الأفلام بلدًا فبلدًا) أو لتصحيح مفهومٍ ملحوظ للتحيز «الأوروبي المركزي» (الناظر للعالم من منظور أوروبيٍّ محدود)، لكنه يشير على نحوٍ عامٍّ أكثر إلى ممارسات صناعة الأفلام (التمويل والإنتاج والتوزيع) غير المقيَّدة بالحدود القومية.
من المهم كذلك لهذا الفهم مبدأ السيادة القومية. في الحديث العادي، تعني كلمة «أمة» البلد الذي يتشارك سكانه أرضًا واحدة في ظل حكومةٍ واحدة، لكن ربما تشير الكلمة كذلك بصورة أوسع إلى جماعة من الناس بلغة وثقافة وتاريخٍ مشترك بعيدًا عن الحدود المادِّية. لكن ما يُشكِّل الهوية القومية بالضبط يظل موضع نقاش كالمسائل السياسية الأخرى. هل يمكن النظر إلى الدول التي تتحدث لغتَين رسميتَين مثل كندا وبلجيكا على أنها تُشكِّل أمةً واحدة مثل الدول التي لها لغةٌ رسميةٌ واحدة؟ ماذا عن الصينيين الذين يتشاركون نفس اللغة والعرق لكنهم يعيشون في أراضٍ مختلفة في ظل حكومات مختلفة؟ ولماذا يُعتبر أيٌّ من هذا ذا صلة بدراسة السينما العالمية؟
من وجهة نظر تاريخ العالم، فإن الدول القومية أمرٌ مستحدَث؛ لم يكن الفرنسيون يعتبرون أنفسهم جزءًا من دولةٍ ذات سيادة إلا بعد أن قامت الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ وأزاحت المملكة الفرنسية، لم تصبح ألمانيا وإيطاليا دولًا قومية إلا في القرن التاسع عشر. وبما أن السينما ابتُكرت في عصر الدول القومية، فإن معظم تاريخ السينما تاريخ صناعات سينما قومية. التسميات التي نطلقها على حركاتٍ سينمائية مثل التعبيرية الألمانية والواقعية الجديدة الإيطالية والموجة الجديدة الفرنسية تعكس هذا المنظور. لقد دعمت صناعاتُ السينما التي تموُّلها الحكومات وسياسات الإعلام القومية ممارساتِ صناعة السينما في نطاق الحدود الوطنية كنوع من التجارة، بالإضافة إلى ذلك، فإن القواسم المشتركة القوية للغة والتاريخ والثقافة كلها لها دور في تحديد أساليب السينما وطرق السرد القومية. لكن إذا كانت هذه الدول «مجتمعاتٍ مُتخيَّلة»، كما يقول أندرسون، أو شيئًا تصوَّره الوعي، فما صور الهوية الثقافية التي ستُبنى في عصر العولمية؟ يقول بعض المنظِّرين إننا نشهد تغيرًا كبيرًا في الوعي، وإن سرعة وكمية المال والبشر ووسائل الإعلام والأفكار التي تتدفَّق عبر الحدود القومية غيَّرت الكفة لصالح هويةٍ عالميةٍ مشتركة على نحوٍ فريد. وبسبب الحد الذي تُغذِّي به خيالَنا الثقافي الجمعي صورٌ لا تنتهي من التلفزيون والمجلات والأفلام التي تُنتجها وتُسوِّقها التكتلات الدولية، هل تحولنا إلى ما نستهلكه؟ وهل ستحلُّ ثقافة جماعية موحَّدة، كما يخشى البعض، محل الخصائص الغنية والمميزة للهويات القومية والتقاليد المحلية؟
(٧) تحليل الفيلم
كثيرًا ما يُنظر إلى عملية قراءة الكتب والنصوص الأخرى المطبوعة كحوار من ثلاثة أجزاء بين المؤلف والنص والقارئ (انظر شكل ٢٣). ببساطة، فإن المؤلف يخلق نصًّا والقارئ يفسره، وبالطبع، فإن هذه نادرًا ما تكون عمليةً مباشرة لنقل المعلومات من الكاتب إلى القارئ من خلال دفق من الكلمات المكتوبة؛ فالمؤلفون يضعون جميع أنواع الأشياء في النص، بعضها متعمَّد والآخر لا، وربما تختلف النصوص نفسها من نسخة إلى أخرى، كما يرشح القراء ما يقرءونه خلال شبكة من التجارب الثقافية والشخصية. وبالنسبة إلى دارسي السينما، فإن عملية «قراءة» الأفلام عملية أكثر تعقيدًا (انظر شكل ٢٤). أحد الأسباب هو أن صانع الفيلم ليس فردًا بل فريق من الكتاب؛ فالمخرجون والمنتجون وكتاب السيناريو والمصورون والقائمون بالمونتاج وفنِّيو الصوت ومصممو المواقع والممثلون ومجموعة من مختصِّين في مجالاتٍ أخرى؛ يساهمون في إنتاج أي فيلم. فكرة «الصناعة المشتركة» هذه يمكن توسعتها بنحوٍ أكبر لتشمل تلك الجوانب من صناعة السينما التي تؤثر على ما يُقدَّم في أي فيلم؛ جوانب مثل الميزانية والتسويق، التي قد تُحدِّد أي نوع من الأفلام يُصنَع والممثلين الذين سيُختارون وأين سيُصوَّر الفيلم وحتى ما سيُستبعد من السيناريو. إذا كان نص أي عملٍ أدبي مكونًا في الأساس من كلمات، فإن «نص الفيلم» نسيجٌ متعدِّد الجوانب يتكوَّن من كلماتٍ وصور وأصوات. توسِّع دراسة السينما فكرة النص لتشمل «عناصر الأسلوب» السينمائي مثل التصوير والإضاءة والحوار والموسيقى والمونتاج، وكذلك المحتوى السردي (ما تحويه القصة) والشكل (نوع القصة التي يجري سردها). أما بالنسبة إلى الجمهور (مَن يشاهدون الفيلم ويفهمون رسالته) فإن دارسي السينما يتعلَّمون أخذ العديد من العوامل النفسية والاجتماعية في اعتبارهم: أين يرى المشاهدون أنفسهم داخل الفيلم؟ ومع من يتماهون؟ وكيف يحكمون على الشخصيات والجماعات أثناء تقديمها على الشاشة؟ وما الفرق بين مشاهدة الفيلم في دار عرض أو على شاشة التلفزيون أو على جهاز محمول؟ إن طرح هذه الأسئلة عن الهوية والتمثيل والتقنية يكون أكثر إثارة للاهتمام من منظورَي التاريخ والثقافة. فكيف يمكن مشاهدة نفس الفيلم خلال حقبٍ مختلفة وفي بلادٍ مختلفة وبواسطة جماعاتٍ عرقية مختلفة؟ وهل من الممكن أن تدخل لمشاهدة الفيلم مرتَين؟
إذن، يتطلب فهم أي فيلم انتباهًا دقيقًا لثلاثة عوامل رئيسية: الصناعة (الإنتاج) والمحتوى والشكل والأسلوب السينمائي (نص الفيلم) واستقبال الفيلم (رد فعل الجمهور)، وهي كلها عواملُ مرتبطة بعضها ببعض وبالمسائل التاريخية والثقافية. يبدأ أحد أساليب فهم الأفلام بقراءةٍ فاحصة لنص الفيلم بالتركيز على عناصر تصميم المشاهد والمونتاج الخاصة بها مشهدًا فمشهدًا. يصبح إذن هذا «التحليل الشكلي» أساسًا لصنع ملاحظات أشمل حول الإنتاج واستقبال الجمهور والتاريخ والثقافة.
لننظر إلى مشهد الاسترجاع أو الفلاش باك من فيلم «المواطن كين» حيث يلعب الصبي تشارلي كين في الثلج بالقرب من كوخٍ خشبي. داخل الكوخ، هناك ثلاثة أشخاص بالغون يناقشون مستقبله. لقطة خاطفة للافتة فوق الباب توضِّح أن الكوخ هو نُزلٌ تمتلكه السيدة كين (شكل ٢٥). تبدأ اللقطة التالية بلقطةٍ واسعة للصبي وهو يرمي كرات ثلج تجاه رجل ثلج صائحًا: «هيا يا رفاق. ليحيَ الاتحاد للأبد.» فجأة، يدخل شخص المشهد من اليسار ويصيح بقلقٍ أمومي: «احذر يا تشارلز. لف الوشاح حول رقبتك.» تميل السيدة كين من نافذة حيث تنظر إلى طفلها أثناء لعبه (شكل ٢٦). نعلم هذا — حيث تتراجع الكاميرا إلى الخلف في لقطة متابعة مُطوَّلة — لأننا نرى النافذة من الداخل، حيث تقع السيدة كين داخل إطار المشهد على اليسار ورجلٌ مهندم الملابس على اليمين (شكل ٢٧). يخبرنا الحوار بين هذين الشخصين أن الرجل، السيد ثاتشر، وهو مصرفيٌّ من نيويورك، أتى ليأخذ الصبي بعيدًا عن أمه. تظل الكاميرا تتراجع حيث تتجه والدة كين نحونا مما يحجب السيد ثاتشر، لكن جسدًا آخر يظهر وراءها إلى اليسار، إنه والد تشارلز (شكل ٢٨). وبينما تجلس السيدة كين إلى طاولة، يجلس السيد ثاتشر إلى جانبها ويبدأ في القراءة بصوتٍ عالٍ لعقدٍ قانوني يخول البنك الذي يعمل به التحكمَ المالي في منجم كين مقابل تعليم ورعاية تشارلي. «تركيب اللقطات» هنا يوضِّح العلاقات القوية للدراما داخل إطار المشهد: الشخصان اللذان يسيطر وجودهما على المشهد ويوقِّعان العقد هما أقرب الشخصيات لنا. يقف السيد ثاتشر بعيدًا ويبدو صغيرًا في الحجم ويتعرض للتجاهل الواضح. تشارلي، الذي يُحدَّد مصيره في هذه اللحظة، مجرد ذرةٍ ضئيلة تقف في الثلج خارج الكوخ. وبما أنه على وشك مفارقة عائلته، فإن كلماته السابقة عن الاتحاد، والتي ربما تُلمح إلى الحرب الأهلية الأمريكية، تصبح نوعًا من المفارقة التهكُّمية (شكل ٢٩). عندما تنهض السيدة كين، بعد توقيع الوثائق، ترتفع الكاميرا معها وتتبع خطوتها الرشيقة الواسعة عابرة الرَّجلَين متجهة إلى النافذة (شكل ٣٠) التي تفتحها (والتي أغلقها زوجها قبل ذلك بلحظات في فعل له دلالة) قبل أن تقطع الكاميرا لوضعٍ آخر خارج النافذة ونرى وجهها وهي تناديه بصوتٍ يحطم الفؤاد (شكل ٣١). وراءها نرى الرَّجُلَين، لكننا كذلك نرى السقف الخشبي والمصباح الزيتي والموقد الذي يستخدم الخشب كوقود وهي قطع الأثاث الهزيلة — لكنها معتنًى بها بحرص — والتي سيقايضها تشارلز بحياة الرفاهية في المدينة. كل هذه الأشياء والممثلون واضحون للمُشاهد بفضل استخدام ويلز أسلوب التصوير ذي «التركيز البؤري العميق» (وهو أسلوب استخدمه ببراعة المصورُ السينمائي جريج تولاند) والذي يحافظ على التركيز الشديد على مقدمة وخلفية المشهد. يُعتبر شكل ٣٢ مثالًا جيدًا آخر على التصوير ذي التركيز البؤري العميق.
اللقطة بالكامل (أشكال ٢٦ و٢٧ و٢٨ و٢٩ و٣٠) تتحرك للخلف بداية من النافذة وحتى داخل الغرفة، ثم تتوقف من أجل إظهار التوقيع، ثم تتوجه للأمام مرةً أخرى تجاه النافذة بصحبة السيدة كين، وهو ما يستغرق دقيقتَين كاملتَين، وهي مدةٌ طويلة لأي فيلم. هذا يتيح لنا الوقت لاستيعاب تصميم المشاهد الغني والقوي وكيف رُتِّب كل شيء داخل اللقطة بحرص. بالإضافة إلى التصوير، ربما نلاحظ تفاصيل الأداء والملابس والإضاءة وتصميم المواقع والصوت. نلاحظ هنا الياقة المرتفعة التي ترتديها السيدة كين التي تدل على التزمُّت، وشعرها الملتفَّ على نحوٍ مشدود، والضوء الذي يُبرز وجهها الذي يبدو كما لو كان منحوتًا من الصخر، ومعطف ثاتشر المبطَّن بالفراء، ونظراته المتعجرفة للسيد كين. نرى السقف الخشبي والبساط المصنوع يدويًّا على الأرضية، وهي تفاصيل تُميِّز حياة تشارلي في كولورادو، وتُكسب المشهد نوعًا من الأصالة. بالنظر إلى ما وراء هذه اللقطة الديناميكية لمشهد كولورادو بالكامل، ربما نلاحظ أن المشهد مكوَّن من خمس أو ست لقطات. هناك لقطةٌ واسعة أخرى تتحرك الكاميرا خلالها خارجة من الكوخ ومتجهة نحو تشارلي عندما يحاول الأب والأم والسيد ثاتشر إيصال الخبر إليه. بينما يدفع الصبي المضطرب السيد ثاتشر بمزلجته للوراء، تدور الكاميرا لليسار مصاحبة لدفعته. ثم عندما تخبره والدته بالسبب المفاجئ لقرارها، هناك قطعٌ توافقيٌّ مفاجئ بلقطةٍ مقرَّبة لوجه السيدة كين ووجه الطفل. ينتهي المشهد بإحلالٍ تدريجيٍّ بطيء من المزلجة المغطاة بالثلج إلى ورقةٍ بيضاء تُستخدم في تغليف الهدايا. تُمزَّق هذه الورقة كاشفة عن مزلجةٍ جديدةٍ لامعة، وهي تُعتبر بوضوح تعويضًا هزيلًا عن خسارة تشارلي الكبيرة. بمرور الوقت، ربما نلاحظ المزيد من القرارات الإخراجية مثل استخدام ويلز للمونتاج لتقديم القصة كأحجية من وجهات نظر مختلفة أو استخدامه الجمل الموسيقية (وهي مقاطعُ موسيقيةٌ قصيرة مرتبطة بشخصيات أو أحداث أو أفكار بعينها) للربط بين أجزاء الفيلم ككل.
إذا تركنا نص الفيلم وركَّزنا على إنتاجه، فربما ندرك شيئًا عن صراعات ويلز الشهيرة مع المنتجين أو ابتكاراته الفنية والتقنية في موقع التصوير، ربما توضح لنا بعض القراءة عن حياة المخرج المبكِّرة بعض الأمور الموازية لطفولة تشارلي كين. إن النظر إلى استقبال الجمهور للفيلم — المجهودات التي بُذِلت لمنع إصداره وأولى المراجعات النقدية لها وإعادات التقييم اللاحقة — يسلط المزيد من الضوء حول إمكانية أن يصبح أي فيلم مثيرًا للجدل عملًا كلاسيكيًّا هامًّا يُحتَفى به. كل خيط من البحث عما وراء الكواليس ربما يقودنا إلى مفاتيح جديدة ربما توسع فهمنا للمشهد وتزيد تقديرنا لمميزاته الفنية.
(٨) مشاهدة الأفلام الأجنبية
كانت أوائل الأفلام الصامتة تحتاج إلى قدر ضئيل من الترجمة أو لا تحتاج إليها على الإطلاق، معظم ما يحدث على الشاشة كان قابلًا للتفسير حتى دون اللوحات الداخلية التي تبين جمل الحوار مثل «نحن مراقبون» أو «قبِّلني، يا أحمق». وبما أن هذه اللوحات كانت تُقحَم بين اللقطات، فيمكن كتابتها وقراءتها بأي لغة من دون التنافس مع الصورة للحصول على انتباه المشاهد. أدى ظهور الصوت في أواخر العشرينيات من القرن العشرين لحدوث مشكلاتٍ خاصة بالنسبة إلى السوق العالمية. فإذا كانت الأفلام الناطقة الجديدة يتحدث أبطالها بالإنجليزية، فكيف يمكن للجمهور في فرنسا أو أمريكا الجنوبية فهم الحوار؟ كان أحد الحلول هو صنع نسخٍ متعددة من الفيلم، كل نسخة بلغةٍ مختلفة. صُنِع فيلم «دراكولا» (١٩٣١) بالإنجليزية ثم الإسبانية مشهدًا وبممثلين مختلفين في كل مرة. فيلم «الملاك الأزرق» («ذا بلو إينجل»، ١٩٣٠) صُوِّر بالألمانية ثم بالإنجليزية بممثلين يمكنهم التحدُّث باللغتين. لكن صنع هذه «الأفلام المتعددة اللغات» كان أمرًا معقدًا وشائكًا وكان مقتصرًا في أفضل الأحوال على لغاتٍ قليلة. ظهرت استراتيجيةٌ أخرى وهي دبلجة فيلم بعد الانتهاء من تصويره خلال مرحلة ما بعد الإنتاج. في «الدبلجة»، تُستبدَل بالأصوات الأصلية أصواتٌ بلغةٍ أخرى؛ فيُكرِّر مُتحدِّثٌ إسباني جُمل جون واين ويحاول تقليد صوته ومزامنة الكلام مع حركة شفاه واين. في الوقت الذي تسمح فيه هذه الطريقة للجمهور الأجنبي بمشاهدة الفيلم دون الحاجة لقراءة ترجمةٍ مرئية أسفل شاشة السينما، فإن لها العناصر المشتتة الخاصة بها؛ حيث يُختار الممثل جزئيًّا بسبب صوته، ومن النادر أن ينجح مؤدي الدبلجة في إظهار الفروق الدقيقة التي لا تُدرَك في صوت الممثل الأصلي أو صنع التزامن بشكلٍ مناسب. وفي أغلب الأحوال، فإن النسخة المدبلجة تبدو جوفاء ومصطنعة ومنفصلة عمن يظهرون على الشاشة؛ لهذا يفضِّل العديد من المشاهدين الترجمة المرئية. وعلى الرغم من أن جزءًا من انتباههم مركَّز على تلك الجمل البيضاء أو الصفراء التي تظهر أسفل ما يحدث على الشاشة، فإنهم يحصلون على المزيد من طابع حديث الممثل؛ تلك التوقفات والتصرفات التي لا يمكن تحويلها ببساطة إلى كلمات. إن قراءة ترجمة الأفلام المرئية ربما تبدو أمرًا غير مريح في البداية، لكن أغلب المشاهدين يتعوَّدون عليها بالقليل من الممارسة. وبمقارنة النسخ المدبلجة والمترجمة من فيلم مثل «النمر الرابض والتنين الخفي» (٢٠٠٠) لآنج لي، أو فيلم «بطل» («هيرو»، ٢٠٠٢) لجانج ييمو، سرعان ما سيلاحظ الجمهور فائدة الحفاظ على المسارات الصوتية الصينية الأصلية في الخلفية.
إن الاختلاف الموجود في الأفلام الأجنبية لا يتعلق باللغة فقط؛ فأمورٌ مثل عادات التودد إلى النساء وأدوار الجنسين وطريقة اللبس عادةً ما تختلف تمامًا من مكان لآخر، وهذا هو السبب الذي يمثِّل مشكلة للأمريكيين في فهم فيلم مثل «العروس السورية» («ذا سِريان برايد»، ٢٠٠٤)، وفي نفس الوقت فإن الدعابة في فيلم «متطفِّلو العرس» («ويدينج كراشرز»، ٢٠٠٥) غريبة على بعض الجمهور في الشرق الأوسط. تُعتبر أفلام الزفاف بشكلٍ خاص أمثلةً جيدة للالتقاء وسوء التفاهم الثقافي، وذلك كما سنرى عند النظر عن قرب إلى مشهد المأدبة في فيلم «مأدبة الزفاف» (١٩٩٣) لآنج لي.
يبدأ المشهد بعدد من الضيوف الذين يصلون إلى قاعة الوليمة، هؤلاء الضيوف آسيويون وقوقازيون وجميعهم يرتدون الملابس المناسبة للحدث الكبير، الرجال في حُللٍ غربية والنساء في ملابسَ ملونةٍ. يصوُّرهم لي من اليمين ومن اليسار؛ مما يصنع الانطباع بوجود إثارة واهتياج، يوقِّع بعضهم في قوائم الضيوف المزخرفة بالورود، تضع إحدى السيدات طفلها على سرير العروسين، قائلة: «هيا اقفز على السرير، يا صغيري، ليأتيا بصبيٍّ مثلك.» يصفق الجميع احتفاءً بهذا التوقُّع الطقسي المتعلق بالخصوبة (شكل ٣٣). بعد قليل، تعرض الكاميرا العروسين وتتحرك معهما من خلال الحشد السعيد وصولًا إلى طاولة التشريف. تُظهِر لقطةٌ بعيدة الغرفةَ الفسيحة المليئة بالناس والديكورات الاحتفالية (شكل ٣٤). اللون الأحمر هو اللون المسيطر على ألوان الستائر والمصابيح الورقية ومفارش الطاولات، يبدو هناك أكثر من اثنتي عشرة طاولة منتشرة في أنحاء المكان، كل واحدة منها معَدَّة بعناية لعشرة أفراد، هذا الشكل والرقم، كما نفترض، لا بد أنه جزء من طقس الزواج. تركز الكاميرا الآن على والد العريس الذي يرتدي ثوبًا صينيًّا تقليديًّا بلونٍ أرجوانيٍّ غامق. يصعد الرجل إلى المنصة المزيَّنة بالشرائط الحمراء ويقبع في الخلفية تنينان ذهبيان وزوج من الصور الرمزية الصينية التي تقول: «سعادة مزدوجة» (شكل ٣٥). حتى لو كنا لا نعرف الصينية أو الدلالة الرمزية للتنينين وهذا القدر من اللون الأحمر، فيمكننا تخمين أن هذه التفاصيل الثقافية علامات على الاحتفال البهيج والحظ السعيد. ندرك أن الخُطَب المطوَّلة هي تقليدٌ آخر قديم لأنه بمجرد أن يبدأ والد العريس خطابه. تنتقل الكاميرا إلى طاهٍ في المطبخ ينحت طيورًا للزينة من الخضراوات في المطبخ، وعندما يخبره النادل بهوية المتحدث، يرد الطاهي: «أمامي أربعون دقيقة.» (شكل ٣٦). على الجانب الآخر، يُقدَّم العشاء في قاعة الاحتفال، يعاني الضيوف الغربيون من تناول الطعام بالعصيِّ، وتستخدم إحدى الضيفات العصي لتنقر بها على كأسٍ زجاجية، ولا يمر وقتٌ طويل حتى تمتلئ الغرفة بصوت النقر. العريس، الذي عاش في الولايات المتحدة ما يكفي لأن يعرف ما يجري، يهمس بأمرٍ ما في أذن عروسه ويُقبِّلها بلطفٍ على وجنتها. لكن الحشد يريد المزيد؛ يريد قبلةً حقيقية؛ يهتف أحدهم: «قبِّلها بحرارة!» ما لا يعرفه الحضور هو أن العريس مثليُّ الجنس وأن العرس كله ما هو إلا احتفالٌ زائف ليُرضي والديه. عندما يحتضنها مرةً أخرى، بحرارةٍ مفرطة هذه المرة، تعرض الكاميرا ردَّ فعلها في لقطةٍ مقربة (شكل ٣٧)، كما تعرض كذلك رد فعل شريكه المثلي في لقطةٍ أخرى (شكل ٣٨). ما يتلو هذا مزيج من تقاليد الزفاف الغربية والآسيوية، بعض الطقوس، مثل نقر الكئوس، معروفة جيدًا للجمهور الأمريكي: يمازح العريس شريكه في السكن أيام الجامعة، وترمي العروس باقة الورود إلى مجموعة من الفتيات العزباوات اللاتي يأملن في الزواج، ويقطع العروسان كعكة عرس بيضاء مكونة من عدة طوابق. هناك عادات أخرى ربما تبدو مثيرة أكثر لحيرة الجمهور غير الصيني. ما هذا المخلوق الغريب المجنَّح الذي يتدلى بين العريس وعروسه ليأكلاه باعتباره نوعًا من «العقاب»؟ (شكل ٣٩) لماذا ترتدي العروس فستانًا مختلفًا في منتصف المأدبة؟ ما كل هذه الأطباق الصينية؟ لماذا كل هذا الضجيج وتناول الشراب على نحوٍ صاخب؟ وكما لو كان نوعًا من الاعتراف بوجود هذه التساؤلات، يصيح أحد الضيوف الغربيين قائلًا: «كنتُ أظن أن الصينيين شعبٌ هادئ ووديع وعباقرة في الرياضيات.» يميل إليه رجل صيني من الخلف مفسرًا: «ما تشاهده هو نتيجة خمسة آلاف عام من الكبت الجنسي.» هذا الرجل الصيني هو المخرج آنج لي (شكل ٤٠).
يدرك لي أن مشاهدي الفيلم من كلا جانبَي المحيط الهادي لن يفهموا كل تفاصيل الحفل، لكنه يريد أن يروق فيلمه لكلٍّ من الغربيين والآسيويين على حدٍّ سواء. إن حوار الفيلم بلغتَين وهما الإنجليزية والماندارين الصينية، والاحتفال نفسه احتفالٌ هجين. وكما يلاحظ أحد الضيوف: «هذا حفل عابر للثقافات، كل شيء مباح.» لا نحتاج إلى أن نفهم كل طقس أو نتعرف على كل نوع من الطعام لتقدير المزاج الاحتفالي ولحظات الانزعاج العابرة. يقدم لي الكثير من اللقطات البعيدة ليُبِّين لنا الصورة الكبرى متنقِّلًا بين اللقطات المتوسطة والمقرِّبة حتى نرى ردود فعل العريس والعروس ورفيق العريس والأبوين والضيوف. على الرغم من ذلك، إذا بحثنا قليلًا، فربما نكتشف طبقات من المعلومات الثقافية الموضِّحة التي يقدمها المشهد بشكلٍ ضمني. على سبيل المثال، ربما نكتشف أن الطاولات الدائرية ترمز لاجتماع الشمل والاتفاق. وبما أن الصينيين يستخدمون العصيَّ في تناول الطعام ويمدون أيديهم للحصول على الطعام من منتصف المائدة، فإن الشكل الدائري يُسهِّل من مشاركة الجميع للوجبة المشتركة. يعطي الصينيون كذلك دلالةً خاصة للكلمات المتشابهة في نطقها والمختلفة في المعنى. كما أنهم يتجنَّبون الرقم ٤ لأنه يشبه في نطقه كلمة الموت في لغة الماندارين، لكنهم يقدرون الرقم ٨ الذي يشبه في لفظه كلمة الرخاء. في المعتقد الصيني، دائمًا ما تأتي الأمور الحسنة في أزواج وهو ما يفسر ملصق «سعادة مزدوجة» على الحائط والأماكن المعدة لعشرة أفراد (خمسة أزواج) في كل طاولة. بعد انتهاء المأدبة، عندما يذهب العروسان إلى غرفة الزفاف، جرت العادة أن يقوم أصدقاؤهما بتنفيذ بعض المقالب لإكساب ليلتهما الأولى معًا بعضًا من الدفء. كما أن تناول كئوس النخب في كل طاولة يزيد من الألفة بينهما. أما بالنسبة إلى فستان العروس، الذي عادةً ما يكون عباءةً واحدة في العرس التقليدي، فإن العادة في بعض حفلات الزفاف الهجينة هو ارتداء زيٍّ تقليدي لطقوس الزفاف ثم يُستبدل به زيٌّ غربي في المأدبة.
بالنسبة إلى المشاهدين غير المعتادين على الأفلام العالمية، فإن هذا النوع من المعلومات العامة يمكن أن يساعد في تفسير ما يشاهدونه. سيقدم هذا الكتاب قدرًا مناسبًا من التفاصيل التاريخية والثقافية التوضيحية، كما سيساعد أيضًا على إدراك أن الأُطر العريضة للشخصيات والقصة، وخصوصًا في الأفلام المقدَّمة في هذا الكتاب، يدركها الجمهور مهما كان موطنه. وفيما يخص قيود الترجمة المرئية، فإنه من المريح أن ندرك أن اللغة العالمية لما يظهر على الشاشة عادةً ما تقول أكثر مما تقوله تلك الجمل المكتوبة أسفل الشاشة. وإلى جانب هذا، فإن قراءة هذه الترجمة، والتي تشبه قراءة الصور، مهارة تُكتسب بمرور الوقت؛ والوحدات التالية في الكتاب مصمَّمة لتطوير مهارتك في كلا الحقلين.
(٩) دراسة الأنواع السينمائية
تثير مناقشة أفلام الزفاف أو أفلام الرعب موضوع «النوع السينمائي»، وهو موضوع له أهميةٌ رئيسية في هذا الكتاب، بعبارةٍ بسيطة، فإن مصطلح النوع السينمائي يشير إلى أسلوب في تصنيف الأفلام وجمعها في فئاتٍ تتشارك نفس السمات. تمثل أفلام الرعب نوعًا سينمائيًّا يهدف لإخافة الجمهور بقصصٍ عن الوحوش ومشاهدَ تُسبِّب الرعب أو الاشمئزاز. أما أفلام الزفاف فعادةً ما تُركِّز على حفل الزفاف وطقوس الزواج والنزاعات العائلية والوعود الرومانسية والإحباطات. لكن كمعظم الموضوعات التي تخضع للدراسة، فإن النوع السينمائي يمكن أن يكون مصطلحًا معقَّدًا ومراوغًا عندما يُفحَص تحت ميكروسكوب التحليل الدقيق. على سبيل المثال، فإن فيلم «أبوت وكوستيلو يقابلان فرانكنشتاين» («أبوت آند كوستيلو ميت فرانكنشتاين»، ١٩٤٨) يستدعي معظم الوحوش التي ظهرت به من فيلم «فرانكنشتاين» (١٩٣١) إنتاج أستديوهات يونفرسال. لكن هل يمكن أن يُقال إنه فيلم رعب إذا كان يسعى لإضحاك الجمهور أكثر من إخافته؟ وهل يجب تصنيف فيلم «العروس السورية» باعتباره فيلم زفاف بجانب فيلمَي «مأدبة الزفاف» أو «متطفِّلو العرس» إذا كان يتعلق على نحوٍ أكبر بالأمور السياسية في الشرق الأوسط بدلًا من طقوس الزواج أو القصص الرومانسية؟ قبل البدء في الوحدات الأربع التي تُكوِّن هذا الكتاب، يجب أن نستعدَّ لطرح بعض الأسئلة الرئيسية عن الأنواع السينمائية: كيف تُعرَّف؟ وكيف تُستخدَم؟ وما الهدف منها؟ ومتى وأين تظهر؟ ولماذا تستحق الدراسة؟
هذه العلاقات العائلية تُعتبر سمةً هامة لمشاهدة الأفلام المنتمية لأنواعٍ سينمائيةٍ معينة. ولتشكيل أي نوعٍ سينمائي، يجب صنع وعرض وفهم عددٍ كبير من الأفلام المتماثلة بأسلوبٍ منتظم. يتعلم معجبو أي نوعٍ سينمائي إدراكَ وتوقعَ قواعدِه؛ لذا فإن أي فيلم غرب أمريكي أو رعب جديد لا يُشاهَد فقط كنصٍّ سينمائيٍّ فردي بل يُشاهَد كذلك من منظور علاقته بأفلام الغرب الأمريكي أو الرعب الأخرى. جزء من متعة المشاهدة يتمثل في إدراك الرموز واللحظات المألوفة للنوع السينمائي: النزال في الحانة أو الوحش الذي يختبئ في القبو، وجزء من متعة المشاهدة يكمن في مواجهة اختلافاتٍ مفاجئة في الوصفة: حامل المسدس الذي يتضح أنه امرأة، أو الوحش الذي يظهر فجأة من وراء الأريكة. هذا المزج بين ما هو تقليدي وما هو جديد هو ما يحافظ على عودة الجمهور إلى مشاهدة المزيد من هذا النوع السينمائي، وهو ما يدفع صناعة السينما للحفاظ على استمراريته.
ينظر هذا الكتاب إلى الأنواع السينمائية في هوليوود كنقاط بداية، لكنه ينظر إلى ما وراء حدود صناعة السينما الأمريكية ليضم أفلام الووشيا من الصين، وأفلام الزفاف من الهند، وأفلام الرعب من اليابان، وأفلام الطريق من أمريكا اللاتينية، والكثير غيرها. سنطرح أسئلة عن كيفية تحديد هذه الأنواع السينمائية في أجزاءٍ مختلفة من العالم، وكيف تشبه أو تختلف عن نظيراتها في دول أخرى، وما الذي تخبرنا به هذه الفروقات عن الثقافات وراء هذه الأنواع السينمائية.
سنلاحظ كيف أن الأنواع السينمائية تتغير وتتمازج أثناء انتشارها حول العالم، وسنتعرف على كيفية ارتباط الاتجاهات الحديثة نحو الأنواع السينمائية الهجينة وانعكاسها المُدرَك ذاتيًّا بظاهرة العولمة في عصر ما بعد الحداثة.
(١٠) الأبعاد الأسطورية للأفلام
إذا أردت فهم أي شعب فاستمع إلى القصص التي يرويها ويعيد روايتها، وتكمن في أفعال أبطال تلك القصص، والتغيرات والانعطافات في شخصياتها وحبكاتها، مفاتيح لما يعطيه رواتها قيمة ويؤمنون به. فعندما بدأ الشاعر الإغريقي هوميروس في رواية ملحمة «الإلياذة»، كان يعرض ما هو أكثر من تاريخ حرب طروادة؛ نسج هوميروس داخل قصيدته الملحمية مخاوف وتطلعات مجتمع بالكامل، وطقوسه وممارساته اليومية ونظرته إلى العالم. وعندما روى شاعر قصيدة بيوولف معارك بطله في مواجهته لجريندل وأمه والتنين، فإنه نسج أيديولوجية إنجلترا الأنجلوساكسونية في كل مشهد. ويمكن النظر إلى الحكايات الشعبية والأدب والأساطير الباقية الخاصة بأي أمةٍ كمرايا تعكس من هم أفرادها وما يؤمنون به.
اليوم، من المرجح بنحوٍ أكبر أن نعرف حقائق ما عن حرب طروادة وأم جريندل من أفلام مثل «طروادة» («تروي»، ٢٠٠٤) للمخرج وولفجانج بيترسن، وفيلم «بيوولف» (٢٠٠٧) للمخرج روبرت زميكيس، وهي أفلام تكشف الكثير عن عصرها بنفس القدر الذي تكشف به عن عصور اليونان القديمة أو إنجلترا في القرن التاسع الميلادي. إننا نتعرف في الأساس على الأبطال المعاصرين ومحيطهم الاجتماعي — من الرجل الوطواط والأميرة ليا وحتى هاري بوتر وإيلي وودز — من خلال الأفلام والتي تقوم بقدرٍ كبير بدور الراوي الذي قام به شعراء وروائيون وكُتَّاب دراما فيما مضى. يمكن القول إن أفلام الأنواع السينمائية مناسبة خصيصًا لهذا الغرض؛ لأنها تعرض قصصًا يوافق عليها جمهورٌ لا حصر له على مدار الوقت ويقوِّيها السرد المتكرِّر.
في كتاب «البطل ذو الألف وجه»، قارن جوزيف كامبل بين أبطال الثقافات في الخرافات والأساطير من جميع أنحاء العالم، وجد كامبل عناصرَ مشتركةً في تلك القصص والتي تمثل أساسًا لقصةٍ أساسية سمَّاها «الأسطورة الأحادية». وصف كامبل هذه القصة الأسطورية بأنها رحلة تمتدُّ عبر مراحل مختلفة. يتلقى البطل دعوة للقيام بمغامرةٍ بعيدًا عن حياته التقليدية، ويعبر حدًّا ليدخل عالمًا غريبًا يواجه فيه — وأحيانًا تواجه — مِحَنًا وأعداءً تختبر جدارته وكفاءته. بعد النجاة من هذه المحن، ربما يكون هذا بمساعدة مُعلِّم أو مرشد، يحقق البطل هدفًا كبيرًا أو يحصل على جائزةٍ ما، ويعود في النهاية إلى عالمه بالجائزة وهي إكسير لحياته اللاحقة ولشعبه. ومثل غيره من دارسي الأساطير المقارنة، يؤمن كامبل بأن رحلة البطل تمثل حقائقَ أساسيةً مُتجذِّرة في النفس البشرية. إن نسخة من نفس القصة الأساسية تُروَى وتُعَاد بمئات اللغات حتى في مجتمعاتٍ لا يرتبط بعضها ببعض بأي شكل، وهذا يرجع إلى أن الناس حول العالم يتشاركون افتراضاتهم الضمنية تجاه الحياة.
شارك كارل يونج الاهتمام بهذه الأساطير العالمية، ومثل زميله سيجموند فرويد، كان يؤمن بأن معظم النشاط العقلي والعاطفي للجنس البشري يحدث تحت حد الوعي، في عالم «اللاوعي». لكن في الوقت الذي قصر فيه فرويد تحليله النفسي على الأفراد وتجاربهم اللاواعية الشخصية، فإن يونج افترض وجود لاوعي جمعي وهو نظامٌ مشترك من النماذج العالمية والمجردة سمَّاها «الأنماط الأولية». هذه الأنماط الأولية تتضمن بعض مراحل وشخصيات ضمن رحلة البطل لدى كامبل، بجانب نطاقٍ واسع من اللحظات الأخرى (طقوس الاستهلال والتودد والزواج والموت) والشخصيات (الأم العظيمة والأب والشيطان) والأفكار المتكرِّرة (الخلق والطوفان).
على سبيل المثال، في سلسلة أفلام «حرب النجوم» (١٩٧٧–٢٠٠٥)، يمكن النظر إلى شخصية لوك سكايووكر كنمطٍ أصلي للبطل الذي يأخذه سعيه وراء «القوة» خلال طقوس انتقال مألوفة: النداء للمغامرة (رسالة الأميرة ليا)، وعبور العتبة (على كوكب تاتوين الصحراوي)، والتدريب (بسيف الليزر)، ومصائب عديدة، وإغواء (من جانب الجانب المظلم)، وطقوس الاستهلال (انضمامه لفرسان الجيداي)، والجائزة (تدمير نجم الموت والانتصار على الإمبراطورية الشريرة)، والعودة المظفَّرة (على متن سفينة الفضاء «ملينيام فالكون» كفارس جيداي مكتمل النضوج). خلال رحلته، يقابل متحوِّلين ومُحتالين (هان سولو وسي-ثري بي أو) وحكيم (يودا) والرجل العجوز الحكيم (أوبي-وان كينوبي الذي يحلُّ محلَّ الأب) والظل (دارث فيدر وهو نسخة أكثر شرًّا من الأب) ومبدأ الأنيما الأنثوي (الأميرة ليا التي تجمع صفات الأخت والأم وشريكة الحياة والإلهة). في ضوء هذه القراءة، فإن صراع لوك سكايووكر مع القوة المظلمة يُمثِّل صراع الإنسان مع شياطينه الداخلية والنوازع التي يسميها يونج جانب الظل داخلنا.
ينظر الناقد الأدبي نورثروب فراي لهذه الأنماط الأولية كمتغيراتٍ معقَّدة لها معانٍ عديدة تربطها بالأسطورة والطقس. بالنسبة إلى فراي، فإن الأسطورة في الأدب مشابهة للفن التجريدي — الذي يرسم القصص برموز أنماط بدائية — على عكس الواقعية الأدبية التي تطمح لنسخ الطبيعة بنفس الطريقة التي يفعلها الفن التمثيلي. ينظر فراي إلى الطقوس باعتبارها أفعالًا متكررة تُعبِّر عن رغبات ومخاوف المجتمع المُلحَّة؛ فتمثِّل طقوس الحصاد رغبة في الحصول على الوفرة والخصوبة، بينما تجسِّد طقوس الطرد مخاوف التلوث عن طريق التضحية بكبش فداء. ومثل الأحلام المتكررة، فإن الطقوس تتيح المجال لثقافةٍ ما لحلِّ نزاعات الحياة اليومية على نحوٍ رمزي، وهي نزاعات يُعبَّر عنها في القصص الأسطورية.
صناع الأفلام دائمًا ما كانوا مهتمين بشكلٍ خاص بأعمال يونج وكامبل. رأينا كيف أن المخرج جورج لوكاس استعان بأدوات شخصيات وحبكة الأسطورة الأحادية من أجل أفلام «حرب النجوم». كتب كريستوفر فوجلر كتابًا شهيرًا باسم «رحلة الكاتب» وهو يُستخدَم الآن على نطاقٍ واسع بواسطة كُتَّاب السيناريو ككُتيِّب إرشادي لنصوصهم السينمائية. وفي كتاب «الأسطورة والأفلام»، يوضح ستيوارت فويتيلا، أحد تلاميذ فوجلر، كيف أن شخصيات وحبكات كامبل الأولية تظهر في عشرات الأفلام، بداية من «الباحثون» («ذا سيرشرز»، ١٩٥٦)، و«الأب الروحي» («ذا جودفاذر»، ١٩٧٢) وحتى «سارقو التابوت المفقود» («ريدرز أوف ذا لوست أرك»، ١٩٨١)، و«صِبية في الحي» («بويز إن ذا هوود»، ١٩٩١). هذه الكتب تشير إلى كيف يمكن أن تكون أفلام الأنواع السينمائية مصدرًا غنيًّا بالقصص لدراسة الموضوعات المشتركة لدى البشر حول العالم. وبتحديد نقاط التشابُه والاختلاف في الطريقة التي يُعامَل بها أي نوعٍ سينمائي ضمن صناعات السينما القومية المتعددة، يمكننا معرفة الكثير عن الثقافات المحلية وتداخل القيم العالمية، وما الذي يجعل كل مجتمع من المجتمعات المختلفة حول العالم له ميزته الخاصة، وما الذي نشترك فيه معًا كأفراد.
لذا، نرى أنه يمكن دراسة الأفلام كصناعة وكفن وكتقنية وكقوةٍ اجتماعية. إن الأفلام لها تاريخ متجذِّر في سياسات وأيديولوجيات العالم. ويمكن تحليل الأفلام على نحوٍ فردي، مشهدًا بمشهد أو على نحوٍ جماعي كأنواعٍ فنية، وحتى كمستودع للأساطير المعاصرة. وبتحوُّل الحياة المعاصرة إلى العولمة على نحوٍ أكبر، في ظل التقاء وتداخل آليات صناعة السينما وتنافس بعضها مع البعض، من المهم أكثر من أي وقتٍ مضى فهم موقعنا داخل الصورة الكبرى. وبامتلاك هذه المناظير والأدوات المفاهيمية، سنكون مستعدِّين لمدِّ الخريطة وبدء استكشاف الأنواع السينمائية حول العالم.