الشيخ لعبوط
ولقد خرجنا من أرض الظلمات بأعجوبة، وقطعناها من مسقط إلى واحة البوريمي على حدود الربع الخالي، صحراء العرب الميتة التي اكتشفها نيابة عنهم عدد من الرواد الأجانب! وكانت البوريمي موضع نزاع لحظة أن وصلنا إليها، الشيخ شخبوط يقول: إنها من أملاكه، والملك سعود يطالب بها أيضًا، وسعيد بن تيمور له حصة فيها ويحمد الله على ذلك! وكان شخبوط حاكمًا من طراز فريد. كان الحاكم القوي في رأيه هو الحاكم الذي يعاقب الرعية، وكانت السياسة عنده هي العناد. ولم يلحظ الشيخ شخبوط عمق التغيير الذي طرأ على العالم. وبالرغم من تفجر الأرض تحت قدميه بالنفط، وبالرغم من امتلاء خزانته بأوراق النقد — ولم يكن هناك أي فرق بين خزانة الدولة وخزانة شخبوط — إلا أن إمارة أبو ظبي ظلَّت على حالها. فالسعيد من أهلها من يجد تمرًا، والمحظوظ هو من يصادف عين ماء، أما من انفتحت لهم طاقة القدر، فقد تمكَّنوا من الهروب من قبضة الشيخ شخبوط!
وعندما نزلت العين (قسم من أقسام البوريمي) كان الشتاء يزحف نحو النهاية، ولكن الجو دافئًا والشمس تلعلع في العلالي، وعيون الماء تجري تحت الأقدام. وثمة مزروعات ولكن قليلة، والناس تهمهم ولا تتكلم. ومقهى واحد ورواد قلائل، ولكن يبدو من المنظر العام أنهم في المقهى وفي أماكنهم منذ مائة عام! ولكني بعد يوم واحد في العين اكتشفت أن هؤلاء البشر الذين تصورت أنهم يغطون في النوم، قوم أذكياء وأنهم عرب، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، فما العمل، والشيخ شخبوط يركب آله الزمن ويطلقها بأقصى سرعة إلى الوراء؟
ولقد ألهمتني هذه الزيارة السريعة مسلسلة إذاعية تحت عنوان (الشيخ لعبوط يتلعبط): قصة رجل ضايع ذهب إلى لندن للعلاج، فألقت القبض عليه مخابرات بريطانيا، ونقلته إلى دار الضيافة، وحددت له موعدًا مع الملكة. ولما حاول الرجل الاستفسار عن سر هذه (العملية) الغريبة، جاءه الجواب بأن مخابرات بريطانيا لا تفوتها واردة ولا شاردة، وأنه مهما حاول التخفي والتنكر فكل شيء يمكن اكتشافه، خصوصًا لدى مخابرات بريطانيا. وأفهموه أنهم عرفوا حقيقته منذ أول لحظة صافحت فيها قدماه أرض لندن، فهو الشيخ لعبوط ولا أحد سواه! وحاول الرجل التخلص من هذه الورطة دون جدوى، فقد وقَّعوا معه معاهدة، وتولى تأليف حكومة، وقدم طلبًا للجامعة العربية، وأصدر بيانًا مشتركًا مع الشيخ فلحوط يدعو فيه إلى السلام العالمي والسلام الملكي والسلام الوطني … والسلام عليكم ورحمه الله! ولقد ذاعت هذه المسلسلة وشاعت في كل أرجاء الخليج، واعتبر كل شيخ أنه المقصود بهذه السخرية المُرَّة. والواقع أنني لم أقصد أحدًا معينًا على الإطلاق! والمنظر الذي رأيته في العين خلال تلك الزيارة القصيرة، التي مرت في حياتي كالحلم، كان حلمًا فظيعًا كالكابوس!
ويبدو أن السماء قد استمعت إلى دعائي، فقد أطاح الشيح زايد بالشيخ شخبوط وتولى السلطة مكانه، وقالت الناس: شيخ آخر جديد! وما الذي يمكن أن يفعله زايد في هذه الرقعة الضيقة من الأرض، وبين هذا العدد القليل من الناس؟! ولكن — والحق أقول — زايد كان شيئًا آخر مختلفًا. ولقد اكتشفت السلطة الجديدة شيئًا لا يمكن أن يصدقه عقل، ففي خزانة الشيخ شخبوط عثر الشيخ زايد على أوراق نقد، كل ورقة تحمل رقم مليون دينار، وقد تم طبع هذه الأوراق في بنك إنجلترا، وبطلب خاص من الشيخ شخبوط. وكانت هذه الأوراق هي ثمن بواكير النفط الذي بدأ يتدفق من أرض الإمارة! ولم يكن شخبوط يعلم أن للنقود وظيفة سوى دفنها في الخزائن! وقيل إنه كان يفتح الخزينة المتخمة بملايين الدينارات ويهتف صائحًا: «غري غيري»! فقد كان يعتقد أيضًا أن آبار البترول هي ملك خاص به، وأنها هدية السماء له هو شخصيًّا! أما شعب الإمارة، أما شعب الإمارات، أما شعب العرب، فلكل فرد منهم رب يحميه!
ولقد قُدِّر لي أن أعود مرة أخرى إلى الخليج، ولم تكن قوات بريطانيا قد تخلَّت عن قواعدها بعد. ولما كان حصول العربي العادي على تأشيرة دخول إلى الخليج شيئًا دونه ضرب الرقاب، فما بالك بتأشيرة دخول للعبد لله؟! ومن سجنني هناك دخل الجنة وعلى رأسه قنديل، ومن قتلني دخل الجنة وعلى رأسه قنديلان … والله أعلم؟! ولكني استطعت، بالرغم من كل شيء، دخول الخليج ووضعت اسمي في طلب تأشيرة دخول جماعية لفريق كرة قدم مصري كان في طريقه إلى لعب بعض المباريات مع أبناء الخليج. وضم الكشف أسماء أمهر لعيبة كرة القدم في مصر: شحتة وأبو جريشة ورفعت الفناجيلي ومصطفى رياض والعربي ومحمود السعدني … وآخرين! وهكذا عدت إلى إمارة أبوظبي صحفيًّا في ملابس كرة القدم!
وفي الليل جاءني المستشار الصحفي السابق للشيخ زايد، رجاء مكاوي، وقال: الشيخ زايد في انتظارك. وتصورته لقاء عاصفًا بين الشيخ الجديد والصحفي الذي هاجم أخاه، ولكني اكتشفت، بعد أول دقيقة من اللقاء أن كل ما تصورته كان وهمًا، فها هو الشيخ زايد جالس على الأرض يحدق في وجهي طويلًا، ثم يقول: أنت هاجمت الشيخ شخبوط، ولكن أنا خلعته! وراح الشيخ زايد يتحدث عن أحلامه، أو أوهامه — كما تصورت! — ها نحن الآن — والحديث لزايد — نضع أقدامنا على أول الطريق، وسنبني أبوظبي، ليس من أجل أبوظبي ذاتها، ولكن من أجل قيام دولة واحدة كبرى من جميع إمارات الخليج، دولة تضم حتى البحرين وقطر وإمارات ساحل عمان المتصالحة. وجهودنا لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستكون هذه الدولة مجرد نواة لدولة الوحدة التي نحلم بها جميعًا، والتي تمتد من طنجة إلى صنعاء، ومن كركوك إلى جوبا. وراح يتحدث عن أبوظبي التي يحلم بها، أبوظبي المدارس والمساكن والشوارع والساحات والمستشفيات والجامعات والموانئ والمطارات. وشد الشيخ زايد على يدي، وقال هو يودعني: أرجوك أن تعود إلينا بعد بضع سنوات ثم احكم لنا أو علينا، إننا سنعمل على مهل وفي تؤدة، لأن المثل العربي يقول: «الحصان القوي يتأخر في بداية السباق»، والمثل العربي يقول أيضًا: «المليح يبطئ»!
ولقد جرى هذا اللقاء مع الشيخ زايد ذات مساء في أواخر ١٩٦٧م، ولم يكن في أبوظبي كلها فندق، ولم يكن فيها معالم، حتى مباراة كرة القدم التي جرت بين الفريق المصري والفريق الظبياني جرت على أرض خراب! وقلت في نفسي: كيف سيتمكَّن الشيخ زايد من تحقيق أحلامه مهما أوتي من حسن النية وعلو الهمة؟ صحيح النوايا طيبة، ولكن الواقع مرٌّ! وصحيح الحصان الجيد يتأخر في أول السباق، ولكن أين هو السباق؟!
وكان الرجل الثاني الذي التقيته في أبوظبي شابًّا عربيًّا حتى النخاع، ذكَّرني بهؤلاء الرجال الأوائل الذين قامت على أكتافهم دولة العرب في الزمان الخالي. كان محدثي هو أحمد خليفة السويدي، وكان يشغل منصب رئيس الديوان الأميري، ولم يكن هناك ديوان بالمعنى المعروف، ولكن بعض الموظفين وبعض الأوراق. وكان السويدي يحلم هو الآخر بدولة تمتد من البحرين إلى رأس الخيمة، وقال في هدوء شديد وبلا أي انفعال: نستطيع أن نقيم مثل هذه الدولة في عهد زايد، فهو من هذا الطراز من الرجال الذين ينظرون إلى بعيد، وهو حاكم بالموهبة ووحدوي بالفطرة. وهو عربي من أصلاب عربية يحلم دائمًا بدولة العرب الكبرى حيث الراية الواحدة والجيش الواحد الذي يزحف في كل اتجاه لتكون كلمة الله هي العليا، وكان هذا هو الجانب المشرق في إمارة أبو ظبي.
وعلى الناحية الأخرى، كانت هناك جماعات أخرى مشغولة باغتراف كنوز الذهب التي لا تنضب، ولسان حالها يردد: «هذا من نفط ربي»! كانت بواكير الثراء قد ظهرت على البعض، وجنون النفط يسري في الإمارة الصغيرة كالنار في الهشيم. وكان على الشيخ زايد أن يقاتل في كل الجبهات: الإنجليز المستعمرين، والوافدين الطامعين، ونماذج من أهل البلاد تريد الاستئثار بالثروة والسلطة معًا. ولكن شابًّا عربيًّا من فلسطين قال لي وهو يفرك يديه سرورًا: سينتصر زايد في النهاية. وكان الشاب الفلسطيني العربي يخطو خطواته الأولى على أرض أبوظبي، وقد افتتح لنفسه مقهى على الشاطئ، ونثر بعض المقاعد على الرمال، وبدأ يستقبل بعض الرواد في أمسيات الصيف الخانق. قال لي (أبو طافش): الشيخ زايد عربي أصيل، ولذلك ستتحقق أحلامه. لقد جاء إلى هنا وجلس على هذا المقعد (وأشار إلى مقعد غير بعيد) ولما عرف أنني عربي من فلسطين، شجعني بكلمات حلوة وبمبلغ من المال، وقال لأفراد حاشيته: «عاونوه جميعكم وذلِّلوا له العقبات، إنني أريد للإمارة وجهًا عربيًّا حقيقيًّا، وأي عربي هنا هذه بلاده. إن الخطة الجهنمية لأعدائنا هي تعريب الحكم وتدويل الشعب، ولكننا عازمون على تعريب الحكم والشعب معًا.»
وقضيت أسبوعًا في إمارة أبوظبي أتنقل بين كثبان الرمال والجرافات الضخمة تعمل بلا هوادة لتمهيد الأرض، وأنوار المراكب التي ترسو بالقرب من الشاطئ — ولا أقول من الميناء، فلم يكن ثمة ميناء بعد — تقيم مدينة كبرى داخل الخليج. وبعض العمال من بلاد بعيدة غريبة ينحنون على الأرض في عمل دائم، وأموال كالماء تنساب على الرمل. ولما أبديت ملاحظة حول ضخامة الأموال التي تُنفق، همس مرافقي في أذني: هذا على أي حال خير من كنزها في خزائن من الصلب.
لقد قُدِّر للعبد لله أن يرى الحياة وهي تنشأ على أرض الإمارة، ولقد واصلت النشوء رغم العقبات والمعوقات والمؤامرات في الداخل والخارج، وبالرغم من جندي الحدود الذي استوقفني على بُعد أربعين كيلومترًا من قصر الشيخ زايد ليفتح حقائبي ويتفحص جواز سفري ويلقي على وجهي نظرة مريبة، فقد كنت في طريقي إلى إمارة دبي، وهتفت من شدة الغيظ: «يا رب الجنود، متى تهلك هذه الحدود؟»
•••
ويبدو أن الله قد استجاب لدعائي، فبعد سنوات قليلة انهارت الحدود والسدود بين الإمارات السبع، وكان ذلك في مصلحة التجارة وحركة المال، وصارت الطرق سالكة بين أبوظبي ودبي، وعجمان وأم القوين، والفجيرة ورأس الخيمة، وبينها جميعًا والشارقة. وصار زايد أميرًا للدولة الجديدة، وراشد بن مكتوم نائبًا للرئيس، وجميع الحكام أعضاء في المجلس الأعلى الذي يحكم الدولة. وتسابق المهاجرون إلى الدولة الجديدة التي تحولت في سنوات تُعَد على أصابع اليد إلى واحدة من أهم الدول العربية. وصار الشيخ زايد حاكمًا محبوبًا لدى الجماهير العربية، فهو لم يشترك في أي مشاكل عربية، وهو دائمًا حاضر معهم بالمدد في حروبهم، وبشخصه في مشاكلهم. وانشقَّت الأرض في دولة الإمارات عن ثلاث مدن جميلة: أبوظبي ودبي والشارقة. وامتدت الحدائق واتسعت، وصارت أبوظبي — للعجب — أكثر اخضرارًا من تونس الخضراء. وعندما زرتها آخر مرة في عام ١٩٨٥م وقفت مبهورًا لا أصدق ما أرى، لقد صارت الأرض المهجورة أجمل مدينة على اتساع الوطن العربي!
ولكن مأساتنا نحن العرب أننا نبدأ المشاوير، ثم ينتابنا الملل فنتوقف، مشروع الوحدة في دولة الإمارات، صار وحدة في (الشكل) أكثر منها وحدة في (المضمون)، وتضخمت المشاكل بسبب أطماع الحكام وضيق أفق بعض المسئولين وشراهة بعض المستفيدين، فتوقف الاتحاد عند فتح الحدود وتوحيد مناهج التعليم، وفيما عدا ذلك، فكل إمارة لها جيشها الخاص وإعلامها المستقل!
وفي أبوظبي مثلًا تليفزيون ومحطة إذاعة، وفي دبي تليفزيون ومحطة إذاعة، والشارقة تستعد لافتتاح محطة تليفزيون، مع أن المسافة بينها وبين دبي، كالمسافة بين مهبط الطائرات في أي مطار وموظف الجمارك! وأشهد أن الصحافة في الإمارات متقدمة، وتُعتبَر من أنشط الصحف العربية، ولكن في أبوظبي أربع جرائد يومية وسبع مجلات أسبوعية، وفي دبي جريدة يومية، وفي الشارقة جريدة يومية، مع أن عدد القراء في الإمارات لا يزيد على خمسين ألف قارئ في عموم دولة الاتحاد! ولهذا السبب أُهدِرت أموال كثيرة، وتبددت جهود ضخمة.
وحتى الأسعار اختلفت من إمارة إلى أخرى، وفي بعض الأحيان وصل إيجار الشقة في أبوظبي مائة ألف درهم في العام، ووصل إيجارها في دبي ستين ألف درهم، وفي الشارقة وصل إيجار الشقة ثلاثين ألف درهم، وتستطيع أن تستأجر نفس الشقة في عجمان بعشرة آلاف درهم … لا تزيد! ولكن يبقى الشيخ زايد وسط هذا الهم كله متمسكًا بالاتحاد، حريصًا عليه، إلى درجة أن أغلب ميزانية الاتحاد من جيبه الخاص. وبالرغم من المتاعب والمشاكل في دولة الاتحاد، إلا أنه سعيد الحظ من العرب من يقيم في دولة الاتحاد، وأسعد منه من يزورها في الشتاء!
وإذا كان عمنا ابن خلدون قد التفت إلى ملاحظة هامة للغاية في مقدمته الشهيرة، عندما قال: «وآفة العرب حب الرئاسة»، فإن هذه الملاحظة الذكية ستجد لها تطبيقًا عمليًّا على أرض دولة اتحاد الإمارات، وثبت أننا — نحن العرب — لا نستطيع أن نتوحد حتى في رقعة من الصحراء ليس فيها إلا سبع مدن جميلة وشعب طيب!