الأرض بتتكلم … هندي!
هناك نكتة مشهورة، وهي أن حكومة أجنبية أرسلت أحد رجالها في بعثة لدراسة اللغة العربية، قبل تعيينه ممثلًا لها في إمارة دبي. وبعدما استكمل تعليمه، وأتقن اللغة العربية، سافر إلى دبي، وبعد أسبوع من إقامته هناك، أرسل برقية هذا نصها: لقد حدث خطأ ما، لا أحد هنا يتكلم العربية إلا الحاكم! وهذه النكتة صحيحة رغم كل شيء؛ فعندما دخلت دبي من الناحية الغربية، تصورت أنني في أصفهان، وعندما دخلت قسمها الشرقي تصورت أنني في مدينة من مدن الهند. وعليك لكي تتفاهم في دبي أن تتقن الهندية أو الفارسية، أما العربية فستحتاج إليها إذا كنت ستقابل الأمير.
ولقد فوجئت حقًّا لحظة دخولي دبي؛ فهذه مدينة حقيقية، فيها مظاهر عمران، وتقدم كل الخدمات. وهي شديدة الشبه ببيروت في الخمسينيات، وفيها إدارة ذكية وحازمة ونشطة. وليس في الإمارة نفط، ولكنها استغنت عن النفط بنظام تجاري مفتوح يسمح بالتهريب والتهليب، ولكن وفقًا لخطة موضوعة. وتستطيع أن تشتري في دبي كل شيء، الذهب والسلاح والحشيش وجواز السفر. فلا شيء هنا ممنوع ما دمت تدفع الثمن، وما دام التاجر يدفع النسبة المطلوبة. الشيء الممنوع هنا، هو أن تكون نصابًا أو شحاتًا، أو جيوبك خالية من النقود. وميناء دبي الذي يبعد بضع ساعات عن ميناء بندر عباس، مفتوح كأبواب جهنم لاستقبال ألوف الوافدين من كل مكان، من إيران والهند وأفريقيا وباكستان.
وستجد في دبي قرًى هندية بأكملها، وستجد أحياء إيرانية بأكملها، وأسواقًا كاملة ليس فيها سوى صنف البلوش! ولكن أخطر من ذلك أن أغلب الذين يرتدون الدشداشة والعقال ويتاجرون بالملايين ويتكلمون العربية بفصاحة، هم في الأصل ليسوا عربًا، وليس فيهم من العروبة إلا الزي واللسان، وهؤلاء يحاربون أي محاولة للوحدة، ويقفون في وجه أي خطوة نحو التقارب الحقيقي بين الإمارات. إن التمزق هو ضمان بقائهم الوحيد، وأي وحدة حقيقية فيها تهديد مباشر لمصالحهم، وهي بداية النهاية بالنسبة إلى وضعهم المميز والفريد.
ذات يوم ذهب صحفي عربي يعمل في جريدة تصدر في إمارة قريبة، والتقى بمسئول كبير في دبي، وعندما وجه إليه سؤالًا محرجًا، نظر المسئول إلى الحراس، فقاموا بجرِّ الصحفي من رجله إلى الشارع، وتركوه في وحل الطريق بلا سؤال ولا كلام!
وذات مرة هبط الإمارة شاعر أرزقي مغمور من لبنان، وطلب مقابلة مسئول كبير، وعندما جلس الضيف أمام المسئول، فتح حقيبته الأنيقة، وأخرج منها قصيدة عصماء في مدح صفات المسئول وكرمه وعظيم أخلاقه، فما كان من المسئول إلا أن انتزع القصيدة من يدي الشاعر ومزقها، وقال له: ظننت أن معك مشروعًا تجاريًّا تريد أن تبحث تفاصيله معي، أما والأمر كذلك، فأنت محبوس حتى تغادر هذه البلاد! فالقاعدة في دبي … التجارة أولًا ثم الصحافة والشعر والفن والكلام الفارغ!
كانت تلك هي الحال في دبي عام ١٩٦٧م حين صافحت قدماي أرضها أول مرة، ولكن … لأن قوانين الطبيعة لا تخطئ، ولأن كل فعل له رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه، فقد التقيت بحركة ثورية في دبي … تصوروا حركة ثورية؟! وهي حركة ثورية حقيقية عمادها بعض الشباب العرب، وهي تشارك مشاركة فعلية في الأحداث، ولها صوت مسموع رغم أنها تعمل في الخفاء، وتركز همها على قيام دولة الاتحاد.
وقال لي أحد زعماء الحركة العربية الثورية في دبي: إننا نعمل هنا على أرض صلبة، فكل العرب في هذه الإمارة معنا، صحيح أنهم أقلية، ولكنهم الرأي العام! أما الأغلبية الأجنبية فهي ليست معنا، كما أنها ليست ضدنا، لأنها تعمل في وادٍ آخر معزول. أما الأعداء الحقيقيون، فهم الأجانب الذين استعربوا، وهؤلاء ليسوا ضدنا نحن فقط، ولكنهم ضد العرب بوجه عام وضد أي اتحاد بين الإمارات، كما أنهم ضد أي اتصال بالوطن العربي! وقال لي الشاب العربي الثائر، ونحن نجلس ذات مساء على شاطئ الخليج: تصوَّر، لقد فتشوا أمتعتك وأنت في طريقك إلينا من إمارة أبوظبي، وسيفتشونك مرة أخرى وأنت في طريقك من هنا إلى إمارة الشارقة، رغم أن بيننا وبين الشارقة خمسة عشر كيلومترًا لا تزيد. وسيفتشونك بعد ذلك بين كل إمارة وأخرى رغم أن عجمان تبعد عن الشارقة ثلاثة كيلومترات! هل يتصور أحد أن وضعًا مثل هذا يمكن أن يستمر؟ ولذلك فنحن واثقون من النجاح رغم الصعوبات والأخطار.
•••
ولقد خرجت من دولة دبي، أو إمارة دبي إلى دولة الشارقة على مرمى حجر … تصوروا؟! وعلى الحدود راية مختلفة، وعساكر شرطة، ورجال جمارك، مع أن الجميع يتكلمون العربية ويدينون بالواحد القهار، ويؤمنون بالعروبة، ويهتفون للوحدة اللي ما يغلبها غلاب! والحق أقول إن معاملة عساكر الشارقة كانت ودية، والناس في الشارقة أكثر طيبة، لأنهم أقل اشتغالًا وانشغالًا بالمكاسب والتهليب والتجارة.
كانت الشارقة لحظة دخلتها قرية متواضعة، وأحوال سكانها أكثر تواضعًا من القرية، وأميرها الشيخ خالد أكثر تواضعًا من القرية ومن الناس. ورغم كل شيء كانت الشارقة نقطة مضيئة في بحر السواد الشامل، فأغلب أهلها تلقَّوا قدرًا متفاوتًا من التعليم. والبنت الشارقية لا تختفي في عباءة، وهي تذهب إلى المدرسة وتعمل أحيانًا، وهي تقرأ وتكتب في جميع الأحوال. ولم يكن في الشارقة أحد من صنف الهنود أو الفرس، وكان بعض أبنائها يحاولون العمل في الصحافة، ولكن في الكويت، وكان أشهر هؤلاء تريام عمران وشقيقه.
ولكن الذي أسعدني في الشارقة هو وجود زراعة هناك، وهم يزرعون بعض الخضراوات لتكفيهم ذل انتظار ما تأتي به السيارات من خارج الحدود، وهذه السيارات قد تأتي أحيانًا ولكنها غالبًا لا تأتي.
ولقد عشت في الشارقة ثلاثة أيام ونزلت في قصر كان يطل على البحر، ونمت في الحجرة ذاتها، التي نام فيها جلالة الملك حسين. ودخلت القاعدة البريطانية التي كانت مصدر الرزق لأغلب السكان، ثم قررت بعدها ألا أتقدم خطوة أخرى على ساحل عمان، وأن أكتفي بهذا القدر، وأن أعود أدراجي … وكفى الله المؤمنين شر التجوال! وتعجبت وقتئذ كيف تدهورت الأحوال في هذه الإمارات إلى هذا الحد الرهيب؟! وكيف تحوَّل أشهر بحارة العرب، وأشهر صيادي اللؤلؤ إلى مجرد مخلوقات تعيش على ما يجود به المستعمر من مساعدات؟! وخرجت بنتيجة غريبة، إنه الحظ السيئ والظروف التعيسة، وبعض المشايخ الذين عقدوا المعاهدات مع حكومة بريطانيا، ونصُّوا فيها على أنها سارية المفعول (حتى يشيب الغراب)! أما الحظ السيئ، فهو وقوع الإمارات في طريق الهند، وكانت بريطانيا الإمبراطورية مستعدة للتفريط في كل شيء إلا طريق الهند.
أما الظروف التعيسة، فهي خلو البلاد من أي مصدر للرزق، فلم يكن النفط قد تفجر من الأرض بعد، والزراعة نادرة كأنها مشاتل للتجارب، أكثر منها مزارع للاستغلال، وأكثر السكان رحلوا إلى السعودية، وإلى الكويت، وإلى قطر، وبعضهم ذهب بعيدًا إلى عمان وإلى الهند.
وأما بعض المشايخ، فقد كانوا مجرد موظفين في معسكرات الإنجليز، وكانت مهمتهم تنحصر في تأديب المخالفين والتفاهم مع السكان وإبلاغهم تعليمات الإنجليز والفصل في المنازعات بين القبائل، وحضور قعدات الشاي والبخور في الليل، وتربية الصقور لزوم الفشخرة والقنص.
وبلغ تدهور الأحوال حدًّا جعل نشرة الأخبار في إذاعة المعسكر الإنجليزي يتصدرها خبر وصول سيارة الشحن رقم كذا من إمارة أبوظبي مثلًا إلى إمارة دبي، ويعلن المذيع في صوت وقور أن شاحنة وصلت بأمان الله وعليها شحنتها كاملة! ذلك لأن الطرق لم تكن طرقًا بالمعنى المعروف، ولكنها كانت مدقات في رمال الصحراء، وإذا نجت السيارة من الرمال خطفها قطاع الطرق، فإن نجت من قطاع الطرق فلن تنجوَ من قطعان الذئاب الجائعة أو السيول المدمرة. ولذلك فوصول الشاحنة يعتبر خبرًا يستحق أن يتصدر نشرة الأخبار. ولم تكن هذه إذاعات بالمعنى المعروف الآن، ولكن كانت توجد في كل معسكر إنجليزي محطة إذاعة خاصة به، وكان يذيع نشرات الأخبار باللغة الإنجليزية وموسيقى راقصة وبعض الأوامر والتعليمات، ثم كان يخصص ساعة واحدة كل مساء لإذاعة برنامج باللغة العربية لسكان الإمارة.
أين ذلك كله مما يحدث الآن هناك؟ وفي دولة الإمارات الآن ست محطات إذاعة كل منها قادرة على تغطية المنطقة العربية كلها، وست محطات تليفزيون ملونة، وثلاث محطات للأقمار الصناعية. لدرجة أن إمارة رأس الخيمة تستطيع الاتصال مباشرة هاتفيًّا بأي ركن على سطح الأرض، مع أن عدد أجهزة الهاتف فيها لا يزيد على ألف جهاز، كما أن عدد سكانها لا يزيدون على خمسة عشر ألف نسمة، وكان في استطاعتهم أن يتنادوا عبر النوافذ! ولكن سبحان مغير الأحوال، من الضنك الشديد إلى الإسراف الشديد، ومن الفرجة على خيال الظل مرة كل عيد إلى مشاهدة المباريات الهامة والاستعراضات العالمية حية وعلى الهواء.
ولكن أغرب شيء وأخطر شيء هو وجود خلية من الشباب اجتمعتُ بهم في الشارقة ذات مساء، شباب في عمر الورد يعملون في السر وفي صمت، ويؤمنون بالقومية وبعبد الناصر وبالوحدة من الخليج إلى المحيط. ولست أذكر الأسماء الآن، فقد أصبح بعضهم وزراء ومسئولين في الدولة الجديدة، وقد غيَّر بعضهم مواقعه وتلاءم مع الوضع الجديد … أو تلاءم عليه، وبعضهم صار مليونيرًا يربح عشرات الألوف من مكالمة تليفونية، وينفق عشرات الألوف في سهرة واحدة … حمراء أم زرقاء!
ولقد كانت الوحدة بين الإمارات حلمًا فصارت حقيقة، وإن كانت حقيقة مشوهة، إلا أنها حقيقة واقعة على كل حال. واستطاعت رغم كل شيء أن تقدم بعض الإنجازات؛ فلم تعد الإذاعة تذيع نبأ وصول الشاحنة رقم كذا، لأن طابور الشاحنات لا ينقطع ليل نهار على الطرق الحديثة التي تربط الإمارات، وأزيز الطائرات لا ينقطع لحظة في جو الإمارات، وصوت الإذاعات لا يتوقف، وصور التليفزيونات لا تختفي.
لقد هبَّت الحياة فجأة واقفة على قدم وساق في ساحل عمان الميت، وبدأت الوحدة زحفها، ولن يستطيع أحد وقفها، لأنه لم يُخلق بعدُ هذا الذي يستطيع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
وقبل أن أغادر الإمارات، صرخت من أعماقي: «يا كاشف الغمة … ساعد أصحاب الهمة!»