على أبواب بابل!
أنا وقفت على باب العراق سبع سنوات أستجدي الدخول دون جدوى. كان نوري السعيد يحكم العراق ويتحكم فيه، حتى خُيِّل إليَّ أنني لن أدخل العراق في حياتي. وقبل الوحدة بين مصر وسوريا، كان العبد لله في دمشق، وكانت دمشق وقتئذٍ قلب العروبة النابض، والتقيت هناك بعدد من السياسيين العراقيين، أذكر منهم عزيز شريف والدكتور صفاء وعبد القادر إسماعيل وآخرين، وقد حمَّلوني رسالة إلى عبد الناصر. ولما كنت محررًا في جريدة الجمهورية وأنور السادات رئيسًا للتحرير، فقد سلَّمتها إلى السادات ليسلمها إلى عبد الناصر، وبعد أسبوع من تسليم الرسالة فصلوني من الجريدة، وبعد أسبوع آخر جرجروني إلى سجن الواحات، ويعلم الله أني لم أكن أعلم محتويات الرسالة، ولم أقرأ حرفًا مما فيها على الإطلاق، ولكن اكتشفت بعد سنتين من السجن أن الرسالة كانت تحمل إنذارًا إلى عبد الناصر، بأنه إذا أقدم على حلِّ الحزب الشيوعي في سوريا، بعد الوحدة، فإن الأحزاب الشيوعية العربية ستكافح في المستقبل، ولكن في طريق آخر غير طريق الوحدة والقومية.
وأغلب الظن أن الحزب الشيوعي العراقي اعتقد حسب مفاهيمه عن (الانزواء الارتوازي والالتحام الشنكبوري) أنني مندوب عبد الناصر في دمشق. وأغلب الظن أيضًا أن عبد الناصر بعدما قرأ الرسالة، اعتقد حسب تقارير الأجهزة أنني مندوب الحزب الشيوعي في العراق، وهكذا ضاع العبد لله بين سوء فهم الحزب الشيوعي العراقي وسوء تصرُّف أجهزة مصر. ويشهد الله أيضًا أن عمنا أكرم الحوراني كان الوحيد الذي اهتم بأمر العبد لله، فسأل وزير داخلية مصر عن المصير الذي انتهيت إليه، وبعد عشرة أيام — هكذا حكى لي عمنا أكرم الحوراني — أنكر وزير الداخلية وقتئذٍ أن السجون المصرية تضم محمود السعدني أو واحدًا بهذا الاسم.
وهكذا فإن الحزب الشيوعي العراقي مدين لي بعامين كاملين قضيتهما في سجن الواحات الخارجة. وأقول أيضًا إنني في غاية السرور لأن الوزير عامر عبد الله ذكَّرني بالدين، وهو الذي ذكرني في بغداد أخيرًا. وأنا أقول: المسامح كريم، وما يصيب الريش بقشيش! المهم يا سادة يا كرام أنني حاولت بعد خروجي من السجن أن أذهب إلى بغداد، ولكني لم أستطع الحصول على تأشيرة الخروج من القاهرة، ولذلك صرفت النظر نهائيًّا، وقلت لعلَّها حكمة أن أقضي العمر كله ولا أرى بغداد، ولكن شاءت الظروف أن يسقط نظام عبد الكريم قاسم، وأن أجد نفسي فجأة في شوارع بغداد.
والحق أقول: إن بغداد كانت بالنسبة لي كحلم. عاصمة إمبراطورية العرب الثانية بعد دمشق، مقر أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد، وعاصمة السحابة التي تمطر حيث تشاء، فسيأتي إليها خراجها … أعظم عبارة قيلت عن إمبراطورية في كل الأزمان.
هنا في بغداد عاش أبو نواس، يدَّعي الانحلال ويجهر بالدنايا لينجو من قبضة السلطة ويحظى بعطف السلطان. وهنا عاش المتنبي، وأصيب بعقدة حياته حين حاول شراء عدد من البطيخ بدينار، ويحمله المتنبي على كتفه، ورفض البائع وباع البطيخ لآخر بنصف دينار، ويحمله البائع على كتفه. ووقف المتنبي يتأمل البائع وقد خُيِّل إليه أن فيه مسًّا من الجنون، ولكن البائع شرح الأمر للمتنبي، وقال له مستهزئًا: «هذا رجل يملك مائة ألف دينار»، حكمة، أما الغني فيعطى ويُزاد، وأما المتنبي فيؤخذ منه! ولعل هذه الحادثة كانت السبب في أن المتنبي حرص العمر كله بعد ذلك على أن يكون من أغنياء العصر، ولعلَّه مدح الجميع حتى لا يرفض بائع بطيخ آخر أن يبيعه بدينار ما سمح لغيره بأن يشتريه بنصف هذا المبلغ!
ولكن يا ميت حسرة على بغداد كما رأيتها بعيني رأسي في عام ١٩٦٥م؛ شوارع تشكو من قلة الزفت، وأسواق تشكو من قلة التنظيم، وظلام وخمول، ومدينة فيها من الخرائب أكثر مما فيها من منازل. وتعجبت كيف صرخ المأمون حين رأى مصر وقال متعجبًا: «لعنة الله على فرعون! طغى فقال: أليس لي ملك مصر؟»، إذن ماذا يقول لو رأى ملك بغداد؟! لا بد أن بغداد كانت على زمن المأمون غيرها في عام ١٩٦٥م.
وأغلب الظن أن بغداد دمرها المغول ثم العثمانيون ثم الحكم (الوطني السعيدي) نسبة إلى نوري السعيد. حتى الطرب خلا منه بلد إسحاق الموصلي وابنه ابراهيم. كان القبناجي قد اعتزل ونرجس شوقي هاجرت، ومات عندليب العراق ناظم الغزالي، طيَّب الله ثراه. حتى الشعر أصيب بالسكتة في بلد المتنبي وعلي الجهم، هاجر عمنا الجواهري واختفى بلند الحيدري، وانزوى عدنان الراوي يحتضر، وغاب عبد الوهاب البياتي وعلي الحلي وشفيق الكمالي عن الميدان، أين العراق إذن؟! البلد الذي كان يسكنه أربعون مليون نسمة في زمن العباسيين، وكان حقل الحنطة لإمبراطورية العرب. ومن الذي ارتكب الجريمة؟ فأفرغ العراق من سكانه، وأفرغه من خيراته، ويوشك أن يترك أنفاسه ولا يتركه إلا ميتًا بلا حراك. إنه العهد الملكي السعيدي، الذي اعتبر التمر مصدرًا أساسيًّا للرزق، واعتمد العمالة اتجاها استراتيجيًّا في السياسة، وكرس الإعدام عقوبة لكل وطني أو شيوعي أو بعثي، يرفع علم العروبة، ويطالب بأن تكون بغداد قِبلة للعروبة وليس مقرًّا أو ممرًّا للأحلاف. ولما اطلعت على بغداد في ذلك الزمان وما فيها من غرائب وأضداد، هتفت: «يا رب احمني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم!»
والحق أقول إن معالم بغداد التي انطبعت في نفسي عام ١٩٦٤م وعام ١٩٦٥م هي التي جعلتني لحظة خروجي من مصر عام ١٩٧٤م لا أذهب إلى بغداد، يمَّمت غربًا نحو لندن، وعشت في لندن تسعة أشهر متواصلة أتسكع في شوارعها، وأرتاد نواديها، وأقضي أغلب النهار في مستشفياتها؛ فقد كانت حبيبة قلبي (هالة) طريحة الفراش، لم تنته من إجراء العملية الجراحية بعد. ولأول مرة حقًّا في حياتي أشعر بالضياع. اشتاقت نفسي إلى روائح بلادنا، واشتاقت آذاني إلى سماع الشيخ رفعت والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وبكيت بالدمع لأني لم أجد في لندن رصيفًا واحدًا يتسع لمقعدين، واحد ليه وواحد للعبد الفقير زكريا الحجاوي! نجلس وندردش ونسخر من أنفسنا ومن الناس. ولذلك قررت أن أهجر لندن. فاتجهت إلى بيروت، ومن بيروت إلى الدوحة حيث كان عمنا زكريا الحجاوي يعيش هناك. وقد داخ السبع دوخات قبل أن يتوكل على الله ويموت. ومن الدوحة إلى أبوظبي والكويت. رحلة عذاب متصلة مشيناها على الشوك أحيانًا، وعلى السيف أحيانًا، وعلى أبواب الله في كل حين!
وأتاحت لنا الرحلة العجيبة اختبار أمة العرب على الطبيعة، وخرجنا باكتشاف مهم، وهو أنه لا عرب هناك ولا يحزنون، وإنما نحن عرب في الإذاعة وأعداء في الواقع، وأننا عرب باللسان وقلوبنا شتى، وأن أي إنجليزي أو أي أمريكي أو أي هندي أو أي إيراني، له في بلاد العرب السلام والضيافة، وللعربي المهانة والمذلة والحظ التعيس!
ومن أجل سلاطة قلمنا وجارح كلماتنا، طُردنا من بلد عربي باللطافة، ومن آخر بالتهديد، ومن ثالث بالعنف! وهكذا وجدت نفسي أخيرًا في بغداد. وبعد عام من إقامتي في بغداد، سألني عربي من إياهم — وكان يجلس معي في فندق دار السلام — عن الفرق بين بغداد وعواصم عربية أخرى؟ فقلت للأخ العربي إياه المتبلطن بالفرو، والمتدفئ بأوراق النقد: «بالنسبة إليَّ شيء واحد في بغداد أفضل منه في أي مكان آخر، وهو أنني في بغداد أعيش وأشعر وأعامَل كمواطن عراقي»، وكانت هذه حقيقة لا تقبل الجدل. فأنا على طول ما لفيت، وعلى طول ما نطيت، لم أشعر منذ غادرت مصر، وفي أي بلد عشت فيه وسكنت، أنني مواطن، إلا في بغداد.
ولم تكن المعاملة مقصورة على العبد لله باعتباري من المشتغلين بالكتابة والسياسة، أو لأنني كنت شهيرًا في بلادي يومًا ما. ولكن هذه هي المعاملة التي يلقاها كل عربي في بغداد. مرحبًا بالجميع ما داموا عربًا. لهم ما للعراقيين من حقوق، وعليهم ما على العراقيين من واجبات. شهادة حق على أن الشعار المرفوع (وطن واحد) ليس للتجارة وليس للاستهلاك المحلي أو العربي، ولكنه شعار وُجِد للتطبيق، وأنه إيمان لدى كل فرد في الحزب الحاكم، من أحمد حسن البكر إلى آخر عضو في الخلية الحزبية في الأهوار. ويكفي أن تكون عربيًّا حقًّا لكي تجد مكانًا لك في بغداد. الجواسيس فقط والخونة هم الممنوعون من الإقامة. ولذلك ستجد الجميع هناك في أول تجربة من نوعها في الوطن العربي: الشيوعي والبعثي والناصري والليبرالي والوطني الذي يقاتل ضد المصالح الأجنبية والاستعمار. ولو نجحت التجربة — وأعتقد أنها ستنجح — ستمهد الطريق لصياغة علمانية جديدة في الوطن العربي (التجربة فشلت للأسف الشديد).
وإذا كانت هذه هي بغداد السياسة، فبغداد الشارع آخر حلاوة وآخر جمال. والعراقي العادي طيب، فيه من المصري ثقته الشديدة في كل من يلقاه، وهدم الحواجز بينه وبين كل من يلقاه من الناس. وإذا كان المصري على استعداد للموت في سبيل صديقه الذي لم يتعرف عليه إلا منذ بضع ساعات، فإن العراقي يمكن أن يدخل معركة الهول من أجلك، خصوصًا إذا كنت عربيًّا وغريبًا في بغداد. وإذا كان العراك مع ليبي في ليبيا، سينتهي بموت الغريب، فالعراك في العراق مع عراقي، سينتهي بموت العراقي. لأن العراقيين الذين سيوجدون لحظة العراك، سيقفون لا محالة إلى جانب الغريب. وإذا عشت في العراق فستنسى بلادك وستنسى أصدقاءك، لأن كل العراق سيصير بلدك وكل العراقيين سيصبحون أصدقاءك. عندما سكنت داري أول يوم في (المنصور)، انهالت علينا الأطعمة من البيوت المجاورة؛ لأنه هكذا يُعامَل السكان الجدد في العراق.
والعراقي العادي بسيط للغاية، يضحك من الأعماق، ويبكي من الأعماق، ويسيل رقة، ويهتز غضبًا. لذلك أحذرك من العراقي إذا غضب، ولا يغضب العراقي إلا لكرامته، وما عداها فكل شيء يهون. وإذا كنت قد حرصت على أن أكرر كلمة العراقي (العادي)، فأنا أقصدها؛ لأن هناك عراقيًّا آخر هو صنف الموظفين في دوائر الحكومة القديمة، في الجمارك والجوازات والتربية والتعليم. هناك حيث اللوائح التي وضعها السلطان عبد الحميد والنصوص التي وُضِعت لإرضاء السلطان رشاد، ستجد صنفًا آخر من العراقيين، ولذلك إذا أردت أن ترى وجه العراق المشرق، فلا تذهب إلى الجمارك، لأنك ستدوخ دوخة الأرملة، وستبكي بكاء الخنساء، وستذهب قصتك في الأجيال ولا قصة النبي أيوب! ولما اطَّلعت على سلوك رجال الجمارك، هتفت: «يا رب يا حفيظ، نجنا من هذا السلوك المغيظ!»
والحق أقول إن الهيكل الوظيفي ورثته ثورة العراق من عهود سابقة. ولأن البشر لا يتغيرون بسهولة ولا بالسرعة المنشودة، فأغلب الظن أن الأمل سيكون في الأجيال الجديدة. وأنا أقول الآن بعدما عشت في العراق عامين: إن العراق سيتحول تحولًا جذريًّا إلى الأفضل والأرفع لو ساد فيه هذا الاستقرار الذي يشهده الآن، وهذا لم يحدث في تاريخه الحديث من قبل. نعم، تحتاج بغداد إلى عشرين عامًا على الأقل لكي تصبح شيئًا مختلفًا عما كانت عليه من قبل، شيئًا باهرًا وجميلًا. لأنه في السنوات العشر الأخيرة تحوَّلت بغداد مثلًا إلى حديقة كبيرة. وتستطيع أن تقيم الآن في بغداد وأنت آمن حتى ولو كانت أبواب دارك مفتوحة.
وأقول أيضًا وأنا أمسك الخشب: إن مشكلة المشاكل في العالم — التضخم — لم تدق أبواب العراق بعد. صحيح السيولة متوافرة وموجودة، ولكن البضائع أيضًا متوافرة وموجودة. ولعل العراق هو البلد العربي الوحيد — بعد ليبيا — في رخص الأسعار. وتستطيع لو كنت في بغداد، وإذا كنت أعمى مثل حالي، أن تصنع نظارة طبية في محلات القطاع العام بثلاثة دنانير، وثمنها في لندن مائة جنيه بالتمام والكمال. وكيلو التفاح بعشرين قرشًا، وكيلو الخيار في الصيف بدرهم، وكيلو اللحم بدينار. ولكن الذي يحتاج إلى وقفة طويلة هو عملية الاستهلاك. إذا نزلت أي كمية من التفاح إلى الأسواق، اختفت في ظرف ساعة، وإذا عرضت محلات (أروزدي باك) أي شيء، اختفى هذا الشيء تمامًا في ساعة. وهناك موضة جديدة في بغداد اسمها (المجمدة)، وأنت لا تملك مجمدة، فأنت لست عراقيًّا، مع أنها بلاد زراعية، والأشياء متوافرة فيها على مدار السنة، وكل شيء حاضر وموجود وممكن زراعته حتى في الحدائق. والعراقي يشتري دون رغبة في الشراء، ويشتري لأن الفلوس حاضرة والشيء موجود.
ومائدة العراقي دسمة، وهو أيضًا كريم، وستجد عليها كل أنواع الطيور واللحوم والأسماك، ولكن عدوي الوحيد في العراق هو (الكبة)، والكبة هي الطعام الوطني في العراق. والعبد لله وإن كان عراقيًّا بالمزاج، إلا أني لست عراقيًّا بالمعدة. وأجمل شيء في بغداد هو المطاعم الصغيرة المنتشرة على عربات اليد في شوارع المدينة، وأجمل منها زبائنها الذين يترددون عليها كل يوم. وستجد من بينهم شعراء وأدباء وفنانين، لهم في دنيا الفن صيت، ورجال أعمال ورجال طريق، ولا أحد منهم يستنكف الوقوف على الرصيف ليتناول طعام العشاء. عندما نزلت بغداد أول مرة، قادني عبد الرحمن الخميسي إلى مطعم صغير في (الكرادة)، وهتفت وأنا ألتهم الطعام كالغول: «يا مرحبًا بغداد». ولكن علي بلوط قادني في مرة أخرى إلى مطعم آخر، وجعلني أبكي على العمر الذي انقضى قبل أن أمضي إلى هذا اللحَّام. أغرب شيء أن الولد الذي يشوي اللحم قال لي ذات مرة: لقد عرفت الرجل الذي كان معك. إنه علي بلوط رئيس تحرير (الدستور). لقد رأيت صورته في إحدى المجلات، ولم أكن أعرف أنه هو الشخص الذي اعتاد أن يأتي إلى هنا كلما جاء لزيارة بغداد. ومرة أخرى ضحك الولد وهو يقف خلف النار، وقال هو يغمز بعينه: أنت محمود السعدني. أنا رأيت صورتك وقرأت لك في (ألف باء).
وهذه الحادثة تقودنا إلى ظاهرة عجيبة في بغداد، وهي أن العراقيين مدمنون على القراءة، وهم على معرفة بكل إنتاج الأدب العربي، حتى هؤلاء الذين نستخف أحيانًا بشأنهم، أو نقلل من قيمة إنتاجهم. والعراقي أيضًا قارئ حساس جدًّا وغضوب جدًّا. فقد انهالت على العبد لله مرة عشرات الخطابات تعاتبني كلها على عبارة (العالم العربي) التي وردت لي في مجلة (ألف باء): كيف تقول (العالم العربي) إذا كنت بالفعل تؤمن بالوحدة؟ إن (العالم العربي) عبارة مبهمة كعبارة (العالم الغربي). وعندما نقول عبارة (العالم الغربي) فهي تشمل شعوبًا مختلفة وأممًا شتى، ولكن قد يجمع بينهم رباط واحد، وهو أنهم جميعًا من العالم الغربي، ولكن العرب شيء آخر مختلف. وبلاد العرب اسمها (الوطن العربي)؛ لأنها بالفعل بلد واحد مزَّقه أعداء العرب لأمر في نفس يعقوب. وبعض الناس العاديين في العراق يحتفظون بكل أعداد (صباح الخير) في الخمسينيات والستينيات، وبعضهم يحتفظ بأعداد (روز اليوسف) منذ أن ظهرت. والعجائز منهم يذكرون بالخير عمنا الدكتور زكي مبارك، الذي عاش فترة طويلة في بغداد، وتعلَّق قلبه بليلى المريضة بالعراق. والحق أقول إنه كان للدكتور زكي مبارك فضل على أبناء جيلي، لأنه عرَّفنا بالعراق، وجعلنا نعيش فترة صبانا المبكر في أجواء بلد علاء الدين والسندباد.
وإذا كنت تريد حقًّا معرفة العراق والغوص في أعماقه، فاذهب إلى (الشواكة) و(علاوي الحلة) و(الشيخ معروف). إنك هناك ستكتشف العراق الحقيقي، وستتعرَّف على أعمق أعماق العراق. ولست أدري لماذا تُذكِّرني تلك الأماكن بمصر أيام زمان؛ مصر الحلوة الطيبة السخية، ومصر القديمة قبل أن يمسخ وجهها أبطال الانفتاح، وشوَّهوا روحها قرود الطبقة الجديدة. وستجد في الشواكة وعلاوي الحلة نماذج من أبناء البلد الطيبين. واحد منهم تعرَّف عليَّ، وكان يعرف بطبيعته الأصيلة أنني هارب ولاجئ من مافيا الانفتاح. وأقسم الرجل ألف يمين ألا أبرح مكاني قبل أن نأكل معًا عيشًا وملحًا، وكانت أكلته (مسجوف) أكلناها على رصيف الشارع في الشواكة.
ولكن ماذا عن ليلى المريضة في العراق؟ وماذا جرى لها بعد عمنا الدكتور زكي مبارك؟ هل ما زالت مريضة؟ أم أنها نهضت من فراش المرض بالسلامة وأصبحت آخر صحة وآخر جمال؟ أنا شخصيًّا لما اطَّلعت على أحوالها هتفت: «يا عالِم الواردة والشاردة، احفظها من كل عين باردة!»