يا عيني على طنجة!
رحلة العبد لله بدأت في قلب العواصف، كانت قمم الجبال في الجزائر تشتعل بالنار، وكان الملك محمد الخامس عائدًا لتوِّه من المنفى، وتونس على عتبة عصر الاستقلال، وكانت شعارات القومية مرفوعة، ورايات الثورة خفَّاقة، وطبولها تدق في كل مكان.
ولقد بدأت رحلتي من القاهرة إلى روما، ومن روما إلى مدريد، ومن مدريد إلى طنجة، لأنه كان صعبًا علينا نحن العرب أن نخترق أرض العرب، ففي ليبيا كانت هناك ثلاثة جيوش أجنبية: إنجليزية وفرنسية وأمريكية، والحدود بين مصر وليبيا مقفولة، وفي ليبيا خائن اسمه المشلح، أو المتشلح، أو الشلحاوي، يشرف على بناء سور مثل سور برلين يعزل مصر عن ليبيا؟ وكان دخول ليبيا بالنسبة للمصري أصعب من دخول إبليس الجنة، وكان على العبد لله إذا أراد الذهاب إلى المغرب أن يمر عبر أوروبا … وهكذا كان.
وانتظرت شهرًا في مدريد للحصول على تأشيرة دخول للمغرب، وكنت محظوظًا لأنني كنت أول بني آدم في العالم يحصل على التأشيرة رقم ١ لأول حكومة بعد الاستقلال في المغرب، وطرت في الليل من مدريد على متن طائرة إسبانية، طائرة مبطوحة ومجروحة وكما لعبة الأطفال، راحت تتأرجح وتتمرجح، وخُيِّل إليَّ وأنا في الجو أتشقلب وأتمقلب، أنني أخطأت التقدير، وبدلًا من أن أركب طائرة بمحرك واحد ركبت طائرة بجناح واحد، ولولا العيب والفضيحة لوقفت وسط الطائرة ألطم الخدود وأشق الجيوب على طريقة ستات الجاهلية! المهم … نزلنا طنجة في الليل وخرجنا من المطار سبهللة، فلا تأشيرة ولا تكديرة، فقد كانت طنجة مفندقة، وأبوابها مفتوحة على جهنم الحمراء، وفيها سبع حكومات وسبعة حكام، وخمسون ألف عربي ومائة ألف أجنبي كلهم جواسيس! وفي طنجة مائة نوع من العملة، وعشر لغات، والكل فرحان وسعيد وقابض مسرور، إلا صنف العرب … آخر فقر وآخر بهدلة! عندما ذهبت إلى فندق المنزه على شاطئ المضيق، نظر موظف الفندق إلى العبد لله باحتقار، وقال: لا توجد أماكن هنا، وعندما بدا على سحنتي أنني لم أفهم، أعاد عليَّ الكلمات بغلظة، فلمَّا كلمته بالإنجليزية انحنى كرقم ٦، وضرب تعظيم سلام، وقال: عفوًا سيدي ظننتك من أهل البلاد، وخصص لي غرفة فاخرة على البحر، وحمل حقائبي بنفسه إلى الغرفة.
كانت طنجة تضيق بكل البضائع من كل أنحاء الأرض، وكانت تموج بكل الأصناف والأشكال من صنف البني آدمين، فقد كانت طنجة دولية … لا قانون ولا أخلاق ولا تقاليد، المهم الربح من أي طريق وعن أي طريق! قادني ولد هندي في اليوم التالي وسار بي عبر حارات وأزقة ومسالك، ودخلنا من باب سميك وهبطنا بضع درجات تحت الأرض، ووصلنا إلى سرداب شاهدت فيه عدة أشخاص، كانوا فيما مضى من صنف البني آدمين، والكل مسطول ومنسجم وشارد مع أحلامه أو مع أوهامه، وحلقات الدخان فوق الرءوس تنعقد وتنفرط، آخر سعادة وآخر ضياع، وجلست مع القوم وهم يدخنون (الكيف)، أتفرج على الوجوه المجدورة والأيدي المعروقة، وخيبة الأمل التي تركب جمل، وللأسف كل الرواد كانوا من صنف العرب، ولكن صاحب الماخور خواجة من بلاد البرتغال، وخَدَم الماخور من بلاد الهند، والحشيش تركي ولبناني وهندي ومغربي! وعلى شاطئ طنجة رأيت أجمل نسوان الأرض، يعرضن على المكشوف وعلى المفتوح، وكل شيء ظاهر وباين وعلى عينك يا تاجر، والست الحشمة تغطي نفسها بطابع بريد، والشاطئ نفسه كالجنة، ورود نابتة من الأرض وورود ماشية على الأرض، وفلوس كموج البحر تأتي وتروح، وأطعمة تُلقَى للأسماك تكفي سكان الصومال، وخمور تُراق على الأرض كأنها أمطار الصيف في السودان، وكل العرايا على الشاطئ خواجات، وكل الخدامين عرب مغاربة، والكل يرطن بلسان واحد، بفعل الاستعمار فَقَدَ العرب لسانهم وتكلموا بلسان الأعداء!
كانت طنجة بحق — أيام حكم الخواجات — هي بلد التجارة والدعارة، ولكن الجاسوسية كانت أربح تجارة على الإطلاق. وكان معي في الطائرة التي أقلتني إلى طنجة ولد مصري صميم، مغامر وعلى موعد مع الموت في كل لحظة، قلبه ميت لا يعرف الخوف، وكان عين مصر في شمال أفريقيا، وكان هو الجسر بين الثورة المصرية والثورة الجزائرية، الولد اسمه عبد المنعم النجار، وكانت وظيفته الرسمية، ملحق مصر العسكري في مدريد، وترقى بعد ذلك فصار سفيرًا لمصر في باريس، ثم سفيرًا لمصر في بغداد، وأعتقد أنه يعيش في مصر على المعاش … لقد طواه النسيان ولعل هذا النسيان هو ثمن تلك الأيام المجيدة العظيمة الماضية. وبسبب عبد المنعم النجار تتبعنا منذ أول لحظة عشرة جواسيس يعملون لحساب عشر جهات، وحذَّرني عبد المنعم النجار ما دمت أنا في طنجة، فالكلام ممنوع، والذهاب إلى مجاهل طنجة ممنوع، والحديث مع الغرباء ممنوع، لأن النجار نفسه جاء إلى طنجة في مهمة من أجل الثورة العربية في الجزائر: كان في طريقه لشراء أجهزة لا سلكية تحتاجها الثورة، وكل شيء حاضر، الفلوس حاضرة والأجهزة موجودة، ولكن البائع الإيطالي رفض تسلم الثمن بالبيزتا الإسباني، وأصر على أن يتقاضى الثمن بالدولار، ولذلك دخنا دوخة الأرملة العجوز ونحن نحوِّل البيزتات إلى دولارات، وجاء مندوب الثورة وحمل الأجهزة في شاحنتين ومضى في ظلام الليل إلى المجهول! وانتهت مهمة النجار وعاد إلى مدريد، وبقيت وحدي وسط غابة الوحوش أحذر أن أتكلم، أحذر أن أتمشى، أحذر أن أتفرج، وأغلقت حجرتي على نفسي لأنجو من المعارك والمهالك، ولكن منظر مندوب ثورة الجزائر لم يفارقني لحظة، اسمه الحركي إدريس، وهو أشبه ما يكون بقائد ألماني عظيم، الرأس محلوق تمامًا، الملامح محددة فيها شيء من عنف المقاتل ورقَّة الفنان، صامت لا يتكلم كأنه لا يعرف ما هو الكلام، إذا سألته لا يجيب، لم أسمع صوته إلا مرة واحدة عندما ودعته على حدود طنجة، قلت له: قريبًا نلتقي في الجزائر، فهتف قائلًا: الله كريم!
كانت معركة الجزائر هي أشرس معارك العرب ضد خواجات أوروبا المتغطرسين، كانت بلاد العرب في رأيهم هي مزرعة أوروبا … لا تزيد! وكان جيش التحرير الجزائري في واقع الأمر، هو جيش الانتقام الذي قام ليثأر من سنوات الذل والجوع، ولم يجمع العرب في تاريخهم الحديث على شيء قدر إجماعهم على ثورة الجزائر، ولم يلتف العرب حول شيء التفافهم حول ثورة الجزائر، وحظ العرب والجزائر أن الطقس كان مناسبًا، والريح كانت مواتية!
وإدريس ذهب إلى الجزائر، وأنا حبيس الفندق لا أبرحه، في انتظار من سوف يحضر ليصحبني معه عبر صحراء وجدة إلى قمم الجبال حول تلمسان، وفجأة دق الباب وانخلع قلبي، فلم يكن هناك مفر من فتْح الباب، واكتشفت أنه على الباب أنثى تحشر نفسها في بنطلون، كان ذلك من ثلاثة وثلاثين عامًا ولم أكن قد رأيت بنطلونًا على ستات المشرق، وقالت الست المتبنطلة: «ألق عندك لوكيد؟» وقلت للست: أفندم؟ أعادت الست الكلمات نفسها بالحروف نفسها وباللكنة نفسها، قلت في نفسي أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم، وأغلقت الباب ودخلت، ولكن لأن العبد لله مهذب فقد أغلقت الباب على نفسي، وعليها! واستفسرت من الست واستفهمت حتى فهمت، فقد كانت تريد عود (كبريت) كما يقولون في مصر، وعود (شخاط) كما يقولون في العراق، وعود (ثقاب) كما قال عمنا ابن مالك صاحب الألفية التي عطلت لغة العرب وسجنتها في زنزانة لها قضبان من ألف بيت من أسخف الشعر! وحكت الست قصتها، وهدأت واطمأنت للعبد لله وسُرَّت سرورًا عظيمًا عندما قلت لها: إنني تاجر باكستاني أبيع الخزَّ والحرير، وإنني في رحلة تجارة وشطارة عبر بلاد الله وخلق الله، وقالت البنت: أنا مغربية من طنجة، بدأت خادمة في بيت أحد الطليان. وكان الولد الطلياني تاجرًا وفاجرًا، لأن تجارته كانت في صنف الأعراض، والبنت الخدامة لأنها كانت مدورة ومكورة فقد وقع اختياره عليها لتقديمها كبضاعة جديدة في الأسواق، وعندما حدث المقسوم والمعلوم، بكت البنت وشكت، وذهبت إلى حاكم طنجة الإسباني، ولكنها اكتشفت أن الطلياني للإسباني كالبنيان المرصوص يسند بعضه بعضًا، ومع أن البنت كانت قاصرًا، فحادث من هذا النوع يُعتبَر جريمة حتى في بلاد الطليان، ولكن ما دام الجاني خواجة والضحية عربية فلا بأس ولا جناح، فهكذا كانت الأحوال في بلاد العرب منذ أكثر من ثلاثين عامًا من الزمان: أهل البلاد يُستعبَدون في أرضهم، وصيَّاع أوروبا هم أصحاب الأمر والنهي في بلاد الأعراب.
هكذا كان الحال في بلاد العرب قبل أن يُولَد قراء هذه السطور من الشباب، ولكن الحمد لله لأن المولى العزيز أنقذ الجيل الجديد من البلاوي التي عاصرها جيلي … الذي أعتقد أنه أغلب جيل منذ الجيل الذي شهد دخول ابن عثمان وغزوه لبلاد العرب من حلب إلى صنعاء. ما علينا، فقد احتملنا كل المصائب وتجاوزنا كل العقبات وانتصرنا وانهزمنا، وعلى الجيل الجديد أن يواصل المهمة ليجعل الحياة أجمل مما كانت وأفضل مما كانت، هذا دوره الحقيقي، وما عداه مجرد خزعبلات!
ويا ميت حلاوة على البنت المغربية، أحلى بنات الأمة العربية وأكثرهن رقة، وأقربهن إلى بنات لندن وحسناوات باريس، وفي عيون المغربية رغبة، وفي جسدها نتوءات واختناقات وانبعاجات، معمولة حسب مقاييس ومواصفات وطبقًا لخطة موضوعة. وأنا — والحق أقول — أحببت المغربية من أول نظرة، ليست مغربية بالاسم أو بالرسم، لكنها المغربية على الإطلاق!
ولقد تمنيت يومًا، أن أقضي السنوات الأخيرة من عمري في مدينة على شاطئ البحر الأبيض اسمها تطوان. والناس في تطوان خليط من أصل عربي وإسباني، وسبحان من جمع الشامي على المغربي فأنتج هذا العصير الخرافي من صنف النسوان! والبنت من دول إذا نزلت على الشاطئ سترى جلدها مشدودًا، سبحان الذي أبدع، كأنه جلد طبلة مشدود على وهج النار، فلا هبشة ولا خدشة، ولا عضة ولا رضة، ولا ترهلات ولا كرمشات. وليس الجسد وحده هو سر سحر المغربية، ولكنها الروح أيضًا، فما أشد جرأة المغربية وما أعظم تحررها، بالرغم من اختفاء الوجه أحيانًا تحت الحجاب! والرجل المغربي ما أكرمه، في السلم فنان وفي الحرب ولا أسد جوعان، وفي حرب أكتوبر مثلًا ادَّعت إسرائيل أن الجنود المغاربة الذين كانوا يقاتلون على الجبهتين أكلوا بعض عساكر إسرائيل أحياء، وهو ادعاء كاذب بالطبع، ولكنه يعطيك فكرة عن الرجل المغربي إذا شمَّر ساعده للقتال.
وتجولت في أنحاء المغرب بزيٍّ مغربي ولهجة مصرية، وعشت أيامًا بين طنجة والقنيطرة وسلا والرباط والدار البيضاء وفاس ومكناس وخنيفرة ووجدة وتطوان. وأستطيع أن أقول وأنا مطمئن البال إنه ليس أجمل من أوروبا إلا المغرب، وليس أجمل من المغرب إلا جنة رضوان. ولكن أوفقير الشيطان حوَّل الجنة يومًا ما إلى جهنم الحمراء، وجعل من الأسود الضواري أرانب برية تظهر في الظلمة وتختفي في النهار، وحوَّل المغرب إلى منطقة طرد بعد أن كانت منطقة جذب … لعنة الله على الحاكم الظالم لأنه أشد وطأة على البني آدمين من الوحش الجوعان! والظلم قديم قدم الإنسان، وزمان كان الحكام ظلمة، ولكن وسائلهم كانت بسيطة … عندما هرب عبد الرحمن الأحدب من عساكر العباسيين بعد كسرة بني أمية في معركة الزاب، لم تستطع العساكر أن تلحق به، وتركوه يعبر النهر أمام أعينهم، ثم اختفى بعد ذلك فلم يعثروا له على أثر، والسبب أن السلطان لم يكن لديه سيارات نجدة ولا طائرات هليكوبتر ولا أجهزة لاسلكي، ولم تكن له مباحث عامة، ومباحث أمن دولة، ومباحث جنائية، ومخابرات، وقيادة قومية، وقيادة قُطرية، وأحزاب تشتغل بالتجسس. ولم يكن لدى السلطان القديم عساكر حدود وأجهزة للتنصت ومراقبة على التليفونات. كان السلطان مجرد بني آدم مثل غيره من البني آدمين، والفرص متساوية بين السلطان ومن يعارض السلطان، المهم ألا يقبض عليك بيديه، وإذا لم يفعل فأنت إذن حر وحياتك في أمان!
وفي تاريخ مصر مثلًا، رجل اسمه أحمد بوشناق، كان خادمًا لدى علي بك الكبير، وأفشى سرًّا لسيده فاستدعاه علي الكبير ذات مساء، وسأله في خبث: ما جزاء من يفشي السر؟ وأجاب أحمد بوشناق: الموت. وقال علي بك الكبير وهو يتنهد ارتياحًا: أنت حكمت! ثم خلع عليه الخلعة ومدَّ له السماط فأيقن بوشناق أنه هالك، فاستأذن سيده في أن يتوضأ ويصلي فأذن له، فلما خرج إلى فناء الدار قفز على حصانه، وانطلق به هاربًا من دار علي بك الكبير في حارة الداودية في شارع محمد علي قاصدًا وجه بحري. ورغم جبروت علي بك الكبير، ورغم دولته المهيبة، لم يستطع أن يعثر على أحمد بوشناق، واختفى الهارب سنوات طويلة، ثم ظهر بعد ذلك واليًا على عكا وباسم آخر … أحمد باشا الجزار! مسكين أحمد باشا الجزار، لو أنه يعيش في عصرنا وغضب عليه السلطان وفرَّ هاربًا، لظفر به السلطان ولو كان في بلاد الواق واق.
ويا أسفي على المغرب العربي في ذلك الزمان؛ فالكلام عربي واللكنة فرنسية، والبنت المغربية ترتدي العباءة ومن تحت العباءة الميني جيب، والرجل المغربي يتكلم العربية ويفكر بالفرنساوي. وأنا عشت أيامًا كثيرة في المغرب أيام سطوة أوفقير وعنفوانه، وشعرت كيف يعيش الإنسان مرعوبًا وهو يتنزَّه، مرعوبًا وهو يعمل، مرعوبًا وهو يأكل، مرعوبًا وهو يهضم، مرعوبًا وهو نائم، ومرعوبًا وهو مرعوب!
وإذا كنت أنا الغلبان العدمان قد شعرت وتعلمت، فأنا لا أعتقد أن أحدًا من السادة الطغاة قد فهم الدرس أو تعلم! ولا يزال يعيش في أرجاء الأرض العربية مائة أوفقير وأوفقير، وعذرنا الوحيد أن درس الماضي يؤكد أن النتائج التي انتهت إليها أحداث الأمس هي نفسها التي ستتحقق في المستقبل! حكمة إلهية لكي تنمو الحياة وتستمر بالرغم من أنوف الطغاة. ولقد كنت محظوظًا عندما ألقت بي الظروف في مدينة خنيفرة، ونمت ليلتي هناك عند القائد مهروق زعيم قبائل البربر، وفي لحظة واحدة تبخرت كل معلوماتي التي قضيت أعوامًا كثيرة في تحصيلها، فالمدرسة الفرنسية تزعم أنهم من الجرمان، وأنهم عبروا أوروبا حتى وصلوا إلى الأندلس، ثم عبروا المضيق واستقروا في شمال أفريقيا. والمدرسة الألمانية تقول إنهم من اليمن، وإنهم عبروا آسيا إلى أوروبا ثم انحدروا إلى الشمال الأفريقي … مدارس وعلماء وكتب وفنون ومتاحف ومعارض كلها شغل أوروبا. وككل أشغال أوروبا فهي أشياء لامعة وملعلطة وفلصو! وفي ضيافة القائد مهروق أدركت أن البربر عرب أقحاح من نسل قحطان! وقد تكون المدرسة الألمانية أقرب إلى الحقيقة ولكنها ليست الحقيقة كاملة. إنهم عرب من بطون وأفخاذ قبائل قديمة، تعرضوا للإرهاب والغزو والغدر فآثروا الهجرة قبل الإسلام. ونحن عرب هذه الأيام لا نعرف كثيرًا عن عرب الجاهلية. لا بد أن البربر هؤلاء خرجوا في تغريبة مثل تغريبة بني هلال، ولذلك سترى البربر في واحة سيوة في صحراء مصر، وستراهم على حدود موريتانيا، وسترى بعضهم في تشاد وفي السنغال. وأغلب الظن أنهم لم يذهبوا إلى أوروبا ولم يبصروها على الإطلاق، بل إنهم انحدروا من اليمن إلى صحراء سيناء إلى المحروسة مصر إلى الشمال الأفريقي. ولكن، لأن أوروبا مُصرة، ومصممة على أن يكون كل شيء وأي شيء عبر حضارة أوروبا، فلا بد أن يكون البربر قد ذهبوا إلى أوروبا!
والحمد لله الذي جعل بتوع أوروبا لا يصرون على أن سيدنا عيسى بن مريم سافر وتجول في أوروبا، وأن موسى استقر بعض الوقت مع أخيه في أوروبا! الحمد لله الذي جعل بتوع أوروبا لا يزعمون هذا الزعم! أما البربر فدليلي معي أفقأ به عيون علماء أوروبا، وهل هناك دليل أسطع من أن أعظم ثوار الشمال الأفريقي كانوا من صنف البربر، وكانت غايتهم العروبة ورايتهم الإسلام: طارق بن زياد كان بربريًّا، ومصطفى بن بولعيد أعظم شهداء ثورة الجزائر كان بربريًّا، وبين طارق وبولعيد — وعلى بعد المسافة بين القرن السابع والقرن العشرين — ستجد مئات من أبطال العروبة كلهم من جنس البربر، وما عدا هذا من روايات وحكايات فكلها تفانين أوروبية، وتحشيش خواجاتي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويا قوة الله على المغرب … تمشيت إفرنجيًّا في أرجائه لمدة شهر أتسكع على شاطئ المحيط، أتمشكح على شاطئ المضيق، أرنو بعينين دامعتين إلى الشاطئ الآخر في الأندلس، كانت لنا هناك — يومًا ما — دولة وصولة، وكان أجدادنا الميامين يعيشون هناك في عزٍّ وعِزَّة، ثم تغلَّب عليهم حب الرياسة، فتقاتلوا بالحراب وبالسيوف وبالفئوس، فلما تكسرت تجاذبوا بالشعور، ثم نهشوا لحوم بعضهم بعضًا بالأنياب والضروس! وبكى آخر ملك عربي في الأندلس وهو يغادر الشاطئ الأوروبي إلى الشاطئ الأفريقي، فقالت له أمه ساخرة: «ابكِ كالنساء على مُلك لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال». ما أبلغ حكمة الأم العجوز لابنها المتهالك المتهافت! فَقَدَ الأرض، وفَقَدَ العرض، فراح يبكي كالنساء … ملعون أبوه!
درس القرون الماضية لم نتعلمه، ولم نستفِد منه شيئًا، عادت ريمة لعادتها القديمة، انفتاح وانفشاخ وتكالب وتصالح، ولكن أحدًا من السادة الأباعد لم يجد أمًّا تصرخ في وجهه «ابكِ كالنساء على أرض لم تستطع أن تحافظ عليها كالرجال.» ومن مراكش إلى وجدة، أنا قطعت أرض الله، عليها وحواليها مزارع ممدودة، وخيرات مبذولة، وكنوز مدفونة، وجو ولا جو أوروبا، وخضرة ولا الخضار الطازج في أسواق بلدنا، وناس ما أحلاهم وما أشهاهم. ولكن الخيبة القوية من دمشق إلى الإسكندرية أنني حاولت الكلام مع أحدهم فلم يفهم ماذا أرغب، أنا العربي ابن العربي أتكلم مع أخي العربي فلا يعي، ويتكلم معه الخواجة فيلبِّي ويجري كالنحلة. ولكن عذري أنني الآن في وجدة، والجزائر على مرمى حجر مني، والرجل الذي تحدثت معه ولم يفهم (جزائري) صار أبكم تحت حكم الاستعمار. ولكن ها هي الجزائر أخيرًا، وغدًا ندخل الأرض التي أكلت من الجثث حتى شبعت، وشربت من الدماء حتى ارتوت. ووجدت نفسي أهتف رغمًا عني: «يا خفي الألطاف نجِّنا مما نخاف!»