نهاية التيوس!
وعندما وصلت إلى وجدة رأيت بصيصًا من الأمل: معسكر الثورة الجزائرية وعلَم الجزائر يخفق عليه، وأبناء الجزائر يقبضون على السلاح للكفاح في عزيمة وحوش الغاب. ونمت ليلة في معسكر (العربي بن مهيدي)، شهيد من شهداء الثورة التي أكلت من الرجال حتى شبعت، وشربت من الدماء حتى ارتوت! وكان معي عمنا العجوز الصحافي الكاتب العاشق الأبدي لتراب مصر المحروسة، محمد عودة، وكان ثالثنا في الغرفة الصغيرة التي احتوتنا أحد سيوف الثورة وقائد جيشها الباسل الكولونيل بومدين، الرئيس بومدين بعد الاستقلال. كان بومدين يدخن باستمرار، وعيناه اللتان تشبهان عيني الصقر تحدقان عبر أسلاك المعسكر إلى حدود الجزائر. كان يتكلم عن مستقبل الجزائر كأنه يقرأ في كتاب مفتوح. ولم يكن في الحجرة شيء إلا الأثاث الذي يستعمله الجنود، وعلى الحيطان مجموعة صور متناثرة: صورتا جنرال جياب وماو تسي تونج، وتتوسطهما صورة عبد الناصر. كان بومدين يحلم بجزائر عربية واشتراكية. كان يرى أن الوطن مهيض الجناح لأن المغرب العربي في أسوأ حالاته. كان يردد بيت شعر للمتنبي:
مصيبة العرب الكبرى أن لديهم الإمكانات لتحقيق الأمجاد نفسها التي حققها أسلافهم، ولكنهم بدلًا من الغزوات في سبيل الله، راحوا يغزون في سبيل المتعة، وتحولت القادسية إلى فريق لكرة القدم! ومرج دابق وقع في أسر اليهود! وصلاح الدين أصبح محلًّا لبيع أجهزة التليفزيون في القاهرة! والظاهر بيبرس لم يعد أحد يذكره إلا شاعر الربابة! وقادة بعض البلاد مشغولون الآن بإقامة الحد على الفقراء من المسلمين، ومتفرغون بعد ذلك للصلاة في أندية لندن، والصيام في مواخير باريس! كأنما حدود الله من نصيب الفقراء، أما الأغنياء فهم بالطبع … أحباب الله!
مجموع ما أنفقته قبائل بني كلب على موائد القمار في لندن ذات عام بلغ عشرة ملايين جنيه. وقبائل بني كلب هم الرعاع من قبيلة بني كليب. أما شيوخ بني كليب أنفسهم فقد أنفقوا على موائد القمار مليار جنيه! هذا عدا وجوه الإنفاق الأخرى التي اكتشفها بنو كليب: من أول الويسكي إلى الكافيار، إلى الهزار، إلى لهط اللحم الأبيض. وهي تكاليف ما أنفقها أحد من قبل وعلى مرِّ العصور، ومن الليلة بتاعة شمشون وحتى الآن!
ولكن معسكر العربي بن مهيدي يقف وسط الأرض الخراب كمشعل نور لعرب المستقبل! عرب يرفعون اسم الله، وينشرون عدله ويمهدون سُبله، ويقيمون حدوده على أنفسهم قبل الغير!
وكان معسكر العربي بن مهيدي كحمام لتطهير النفس قبل أن نجتاز حدود المغرب إلى أرض الأبطال والشهداء … الجزائر. ولا أنسى لحظة وقفت فيها على الحدود أخلع نعلي حتى لا ألوث أرض العزة والثورة!
وعبرت حدود الجزائر، وسجدت أطبع قبلة على أرضها، التراب معجون بدم الشهداء، والهواء يضيق بمئات الألوف من الأرواح التي ماتت لتحيا الجزائر. ولقد لفت نظري وجود بنات يحملن السلاح مع الثوار. ولم أكن قد رأيت لدى عرب الشرق بنات يحملن السلاح قط! هذه إذن ثورة رائدة لأنها كسرت جدران السجن المفروض على صنف الحريم العرب، فنصف الأمة كان معطلًا، وها هو الباب الآن بدأ ينفتح … ولكن بقدر!
ولقد كانت على أرض الثورة في الجزائر ثلاث فصائل، وثلاث وجهات نظر. حزب مصالي الحاج، وهو زعيم وطني تقليدي عيبه الوحيد أنه كان لحظة اشتعال الثورة قد أصبح خارج الزمن، ولذلك اندهش كثيرًا لأن مجموعة من الشباب قد تجرَّءوا وأعلنوا الثورة دون استئذانه، وهو من هو! هو مصالي الحاج … الذي عنده تبدأ الجزائر وإليه تنتهي! ولقد ألف جيشًا للتحرير مهمته الأولى والأخيرة هي تحرير الجزائر من الفرنسيين ومن جيش التحرير أيضًا! ونشبت معارك الهول بين الجيشين، وانتهت بتصفية مصالي الحاج وجيشه، ومات الرجل يرحمه الله، دون أن يدرك سر القوة الكامنة في هذا الجيل الجديد الذي أشعل الثورة وانتصر فيها.
ثم الحزب الشيوعي الجزائري، وهو فرع من الحزب الشيوعي الفرنسي. ولقد أعمته جدران النظرية التي حُبِس داخلها، فلم يرَ زهور الجزائر الجديدة التي رفعت رأسها تبحث عن شمس الحرية، وأصمَّت أذنيه فلم يسمع صيحات القومية التي راحت تتصاعد في سماء الوطن العربي باحثة في ماضيها البعيد عن مستقبل أفضل لها، ولم يشعر برياح العروبة تهب ساخنة عبر الحدود والسدود، تقتلع كل من يتحداها أو يقف في وجهها. ولذلك رفع شعار (تحرير الجزائر يبدأ من تحرير باريس) و… (الاستعماريون الفرنسيون يستعمرون فرنسا والجزائر معًا). وكان معنى ذلك في بساطة هو أن تحرير الطبقة خير من تحرير الوطن. ولم يكن لدى شعب الجزائر استعداد للاستماع إلى مثل هذا الكلام، وكيف يمكن أن يصغي شعب لكلام من هذا النوع، وقد استُبيح دينه وأرضه وعرضه، ولم يبقَ لديه شيء لم يُستبَح؟! ولذلك انطلق الرصاص في صدور أعضاء الحزب الشيوعي الجزائري ولقوا جزاء الخونة! خطأ في التحليل؟ نعم، ولكن أدى إلى مأساة مروعة!
وكان الاتجاه الثالث هو الاتجاه الصحيح، وهو الذي انتصر. وقد بدأت الثورة ببيان صغير إلى شعب الجزائر، وبخمس عشرة بندقية صيد، ولكنها انتهت بالقضاء على فرنسا الجنرال لاكوست، وحطمت الجمهورية الرابعة. ومن أجل هذه النهاية السعيدة، خاضت الثورة في بحار من الدم. وكما أكلت الحرب زهرة شباب الجزائر، أكلت خيرة بَنِيها، ولكننا، رغم كل شيء، ربحنا الجزائر المستقلة العربية المجيدة. ولقد استمعت إلى وردة الجزائرية أول مرة داخل أرض الجزائر، وبالتحديد في مكان ما على قمم التلال المطلة على تلمسان الجميلة. كان الثوار يحتفظون لها بأغنية على شريط، أغنية حزينة تقول «كلنا جميلة، كلنا فداها».
وتعرَّفت على أدب الجزائر وأنا أنقل الخطى بين القرى المتناثرة في الجبال وهزَّتني روايات محمد ديب، ولكن رواية (التيوس) لإدريس الشرايبي هي التي أصابتني بالحمى. رواية تكشف عن مأساة المغرب العربي، بعمقٍ وبأستاذية. وهو روائي عالمي بكل مقاييس العالمية. إنه شتاينبك الأمريكي، وسمرست موم الإنجليزي، وديستوفسكي الروسي! وهو قمة لا أعتقد أن أحدًا من كُتَّاب العرب الروائيين وصل إليها حتى الآن. عيبه الوحيد أنه يكتب بالفرنسية، وهو العيب الذي من أجله قامت الثورة على فرنسا، فلم يكن إدريس الشرايبي وحده هو الذي كُتِب عليه أن ينسى لغته وأن يتكلم لغة فرنسا، بل كان هذا مصير شعب الجزائر كله.
فقد أرادوا الجزائر، شاطئًا للاستحمام، ومزرعة للكروم، ومكانًا استراتيجيًّا للقواعد العسكرية، وسوقًا لتصريف البضائع، وحظيرة لتربية الأيدي العاملة الرخيصة والمنتِجة! فهل نجحت فرنسا؟ الواقع يقول لا، لأنك تريد وأنا أريد، والله يفعل ما يريد!
كانت رواية إدريس الشرايبي عن شاب مغربي عاطل، كان رافضًا كل شيء حوله، ولكنه لم يكن قادرًا على تغيير أي شيء حوله! ولذلك بصق على الأرض التي ينتمي إليها، واستقل باخرة متشردة عبرت به البحر إلى فرنسا. وفي فرنسا أراد أن يتعلم لكنه، بعد فترة، أدرك أن التعليم ترف لا يقدر عليه إلا الأثرياء، فهجر الجامعة واشتغل عاملًا في مصانع الخمور. ثم انتقل إلى الميناء، وعمل بعض الوقت في جمع المحاصيل من الحقول. لكنه ضاق بالعمل، عندما اكتشف أنهم يستأجرون قوته البدنية الهائلة لقاء ما يحفظ له حياته. فآثر التسكع في شوارع باريس، يعمل أحيانًا في علب الليل، وأحيانًا يشترك في سرقة صغيرة، حتى اهتدى عن طريق الصدفة إلى العمل الذي كان يتوق إليه: تعرَّف إلى سيدة فرنسية عجوز كانت مرحة وراغبة في المتعة وثرية في الوقت نفسه، وكان هو فحلًا وقادرًا على إشباعها طوال الوقت. وحققت له الوظيفة الجديدة نوعًا من الاستقرار كان يفتقده، كما ضمنت له كأس خمر معتقة على مائدة عشاء فاخر كل ليلة، وأيضًا أجرًا ثابتًا هو أضعاف أضعاف ما كان يتقاضاه عن أعماله السابقة في المصانع وعلى أرصفة الميناء وفي الحقول!
وأحيانًا كانت تحدِّثه نفسه بالثورة على الوضع الذي تردى إليه، لكنه كان يكتم هذا الصوت المنبعث في داخله، فلماذا الثورة وهو على أي حال يؤدي عملًا وطنيًّا؟! فهذه المرأة الشمطاء هي فرنسا ذاتها، وهو يمتطي فرنسا كل ليلة! وعندما تصبح المرأة العجوز في ذروتها، وتتأوَّه بصوتها الرفيع المسلوخ، تتردد على لسانها كلمات «سيدي» و«عفوك» و«أنا خادمتك»! عندئذٍ ينشرح صدره، ويبتهج فؤاده … لقد هزم فرنسا وأذلَّها، وهو جيش تحرير كامل بمفرده، وسلاحه هو بدنه، والنصر معقود له كل ليلة، والهزيمة كاملة لأعدائه، والتسليم دون قيد ولا شرط!
ولكن المكافح العظيم يمرض فجأة، يبصق دمًا ويكتشف أنه مريض بداء السل، ويكتشف أيضًا، وهو يعاني من الألم، أنه كان يحقق انتصارات في معارك جانبية، ولكن السيدة الشمطاء هي التي انتصرت في الحرب، وعندما تكتشف عجزه تلقي به في الطريق. إن المرأة العجوز لها جسد وليس لها قلب. والمهنة التي اختارها تحتاج إلى لياقة، فإذا فقدها فَقَدَ الوظيفة! ويهذي وهو يعاني سكرات الموت على فراش قذر في مستشفى حكومي فقير: هل الطريق الذي اختاره كان هو الطريق السليم؟ ويردد وهو يحتضر: المغرب، المغرب. ولم يفهم أحد من المرضى الفقراء الذين التفُّوا حوله، هل كان يتحدث عن المغرب وطنه أم المغرب حياته؟ على أية حال، لم يكن المغرب الذي يتردد على لسانه سوى هذه الأرض البعيدة التي رفضها ذات يوم، وبصق عليها وهو يغادرها إلى الأبد، ولكنها على كل حال هي الصورة التي بقيت في خياله لحظة وفاته!
هذه لمحة صغيرة سريعة عن رواية (التيوس)، وقد انتهت بموت تيس، ولكنها لم تنتهِ من ذاكرتي قط، وعندما سألت ابن عباس — مرافقي في رحلتي داخل الجزائر — هل إدريس الشرايبي جزائري؟ أجابني الثائر في بساطة: إنه من المغرب، والمغرب من طنجة إلى طبرق … ليس عندنا مغرب وجزائر وتونس وليبيا، فكلنا مغرب عربي، كما أنكم كلكم من المشرق العربي!
وعشت أيامًا عظيمة داخل الجزائر، واكتشفت السر الذي لم تستطع فرنسا بهيلمانها اكتشافه: أن فرنسا تستعمر الجزائر العاصمة والشاطئ كله … ولكنها لم تستعمر الريف الجزائري قط! هنا في الريف الجزائري، الناس لا يزالون عربًا أقحاحًا! اللغة عربية والعادات عربية والسلوك عربي، وفرنسا عندهم هي هؤلاء الجنود الذين يعيشون عند الساحل!
قضيت ليلة في منزل رجل عجوز في قرية تنام في بطن جبل في منطقة القبائل. وفي الليل نهض الرجل فذبح لنا شاة وأوقد النار وانهمك في إنضاج اللحم. وبدا وجهه المغضن على وجه النار كأنه تمثال قديم لرجل من عهد مضى. وسألني الرجل وقد كشفت ابتسامته عن فم مهجور: هل أنت من مصر؟ ولما أجبته بالإيجاب، قال: زرتها مرة سيرًا على الأقدام! سألته: وكم عمرك الآن؟ قال: ثمانون أو أكثر … لا أدري على وجه التحديد. قلت: لقد سمعت عنك ثناءً كثيرًا من رجال الثورة، فما رأيك في الثورة؟ سرح بعض الوقت، وقال: الثورة؟ لقد تأخرتْ كثيرًا، والسبب أن ثوارنا في الماضي كانوا يتجهون نحو المدينة، ولكن المدينة كانت قد فسدت، أفسدها المستعمرون أنفسهم، ولو أنهم كانوا اتجهوا إلى الريف لقامت الثورة منذ زمن بعيد. ولكنها على العموم اشتعلت الآن، والسبب أنهم اتجهوا إلى الريف، لأن الريف كان مستعدًّا دائمًا للثورة، ولم يكن ينقصه إلا الإشارة ليبدأ الثورة. ولكنها بدأت الآن، ولذلك أنت هنا معنا، ولولاها لما وقعت أعيننا عليك، لأن الملاعين فصلوا الريف عن المدينة، وفصلوا الجزائر كلها عن المغرب. ولكن ذلك كان في حكم المستحيل، لأنك لا تستطيع أن تعبر البحر على بسكليت!
وعشت في جزائر الثورة أربعة عشر يومًا أنقل خطواتي في حذر، ففي كل شبر من الأرض سقط شهيد. ولكن الأيام القليلة التي عشتها مع الثوار كانت كافية لإقناعي بأن عالم الجزائر القديم سينهار حتمًا على رءوس أصحابه، وأن عالمًا جديدًا يطل برأسه من تحت الأنقاض، ويشق طريقًا في بحر من دماء الشهداء، ويرنو بعينيه نحو المستقبل رغم العواصف الشديدة المحملة بالمشاكل والمآسي والخراب!
والحمد لله لأن العمر امتد بالعبد لله حتى قُدِّر لي أن أدخل الجزائر من أبوابها الشرعية. لقد انتصرت الثورة لأنها قامت لتنتصر، وقامت في الجزائر حكومة وحكومة وحكومة ثالثة. وفي ظل الحكومة الأولى استولى على حكام الجزائر بعض المتمصرين، يهود على موارنة. واستطاع هؤلاء أن يفتحوا دكاكين للنضال على الطريقة الثروتسكية المهلبية، ويا مَّه القمر على الباب! وفي أول عيد من أعياد ثورة الجزائر، تصورت أن العبد لله سيكون من بين المدعوين، ولكن الذي حدث أنهم دعوا جميع أهالي حي شبرا وجميع المناضلين في تنظيم (زمش) ولم يوجهوا الدعوة للعبد لله، أنا! الذي كان أول صحفي مصري يدخل جزائر الثورة، ويكتب عنها حلقات يومية نُشِرت بجريدة الجمهورية في عام ١٩٥٦م. ثم أصدرتُ كتابًا عن الثورة الجزائرية بعنوان (أرض اللهب والدم)، وكتب مقدمة الكتاب عمنا الكبير محمد عودة. ثم كتبت مسرحية عن ثورة الجزائر اسمها (فيضان النبع) قدمَتْها فرقة المسرح الحر، واضطلع بأدوار البطولة فيها العبقري الراحل صلاح منصور، والفنان علي الغندور، والفنان أحمد سعيد رحمة الله عليه، والفنان عمر عفيفي طيَّب الله ثراه. يا خيبة النظم العربية حين تقع في أيدي النصابين وبتوع الثلاث ورقات. وللأسف الشديد كان هؤلاء النصابون من مصر. صحيح أنهم ليسوا مصريين، ولكنهم عاشوا حياتهم كلها في مصر، وناضلوا في مصر، ودخلوا السجون أحيانًا في مصر!
وأقسمت أن أزور الجزائر المستقلة ولكن دون دعوة، وأن أذهب إلى تلمسان الجبل. وبالفعل ذهبت إلى الجزائر، وليتَني ما ذهبت! كنت قادمًا من قلب أفريقيا في طائرة خاصة تحمل وفدًا مصريًّا عالي المقام، وحطَّت الطائرة في الجزائر، فاستأذنت وأخذت حقيبتي ونزلت. وعشت في الجزائر أسبوعًا في حالة اندهاش دائم. كنت أود أن أغني على كل شبر من الأرض وأبوس التراب. وعندما حان وقت الرحيل، ذهبت إلى المطار في صحبة الأستاذ مهابة مستشار مصر الصحفي حينذاك، ووضعت حقائبي في الطائرة المتجهة إلى باريس، وودَّعت المستشار مهابة، وصعدت سلَّم الطائرة لأسمع صوتًا يناديني من الخلف يأمرني بالعودة مرة أخرى إلى المطار. واكتشفت أنني مطلوب للتفتيش تفتيشًا ذاتيًّا. وفعلوا بملابسي كل ما يشتهون: مزقوا ياقة قميصي وبطانة جاكتتي وثنية بنطلوني؛ كان واضحًا أنهم يبحثون عن ورقة أو خطاب. وعندما انتهوا من التفتيش كانت الطائرة قد غادرت المطار إلى باريس. واتصلتُ بالسفير المصري في الجزائر الذي جاء على عجل إلى المطار. ثم جاء المستشار مهابة أيضًا، ثم جاء مدير المطار، وراح يكرر نفس العبارات (القرعة) التي يجيدها رجال الأجهزة في شرق البحر المتوسط: فالمسألة كلها غلطة، وسوء فهم، وهو يعتذر، ونحن نقبل الاعتذار؛ وغادرت الجزائر في اليوم التالي إلى باريس.
وبعد خمسة أيام من وصولي إلى فرنسا، عرفت السر وراء تفتيشي في المطار. فبعد خمسة أيام بالضبط من وصولي إلى باريس، سقط نظام الرئيس بن بيلَّا، وقام نظام جديد برئاسة الراحل بومدين. ويبدو أنه خلال الشهر الأخير من حكم بن بيلَّا لم يكن هو الذي يحكم الجزائر بالفعل. ويبدو أن الأجهزة التي كانت تأتمر بأمر بومدين قد ارتابت في العبد لله لحظة نزولي من الطائرة المصرية، فهي طائرة خاصة، وعلى متنِها وفد مصري على مستوى عالٍ، ولا بد أن كل ركابها من رجال الأجهزة حتى وإن تخفَّوا في عباءة الصحافة. ولما كان بن بيلَّا متهمًا بأنه عميل لعبد الناصر، فلا شك إذن أنني في مهمة من أجل بن بيلَّا ولمصلحة عبد الناصر. ولقد تصوروا أنني جئت أحمل رسالة لبن بيلَّا، وأكد هذا الظن لديهم أنني التقيت بعبد الرحمن شريف مدير مكتب بن بيلَّا، كما أن مسئولًا مصريًّا من السفارة المصرية كان في وداعي عند الرحيل.
إلى هذا الحد تمضي الأمور في العالم العربي، وإلى هذا الحد تنحدر الأمور أيضًا. يا لها من ذكريات حزينة وأليمة تركتها زيارتي الأولى للجزائر المستقلة. ولكنها لم تضعف إيماني لحظة بأن ما فعلته مصر من أجل الجزائر كان هو ما ينبغي أن تفعله بالضبط. لقد أدت مصر واجبها من أجل تحرير الجزائر، الهدف كان تحرير الجزائر وبعد ذلك كل شيء يهون!
ولقد زرت الجزائر بعد ذلك أكثر من مرة، وكلها تمَّت من جيبي الخاص أو على نفقة الجرائد التي كنت أمثِّلها. ولم أقبل دعوة لزيارة الجزائر قط. ولكي أكون دقيقًا وأمينًا، لقد قبلت الدعوة لزيارة الجزائر عندما ذهبت إليها في المرة الأولى، ودخلتها مع ثوار الجزائر، وما زلت أحفظ أجمل الذكريات لهؤلاء الرجال البواسل الذين رافقوني في رحلتي الأولى إلى أرض الشهداء، كما كان مسعود وإبراهيم حرشي و(سي) إدريس، تُرى أين ذهب هؤلاء بعد ذلك؟ وأين هم الآن؟ لا أريد أن أستشهد بالمثل المعروف عن الثورة، ومن يشعلها؟ ومن يستشهد فيها؟ ومن يجني ثمارها؟ المهم أن الجزائر قد تحررت واستقلَّت وصارت جوهرة ثمينة في تاج العروبة، ولذلك هتفت من أعماقي وأنا أغادر الجزائر في آخر زيارة: «يا رب الهمة، الحمد لك، والشكر لك، لأنك وفَّقت جيلنا في إنجاز هذه المهمة!»