وأبو زيد قال لدياب
عندما دخلت تونس أول مرة، أدركت السبب الذي من أجله اختارتها قبائل بني هلال للإقامة فيها خلال التغريبة. فتونس الخضراء هي جنة الشمال الأفريقي، وأهلها أكثر العرب لينًا وأشدهم عذوبة. والعبد لله دخل تونس ذات صيف حار ملتهب، خلع فيه بورقيبة الباي وجلس على دكة الحكم في تونس. والحق أقول إن الباي لم يكن في حاجة إلى من يخلعه؛ فهو مخلوع منذ البداية! وعندما كان جالسًا على مقعده، لم يكن في استطاعته ولا في سلطته نقل فراش من مكتبه، كان في استطاعته فقط أن يتجول كما يشاء في الحديقة، أما خارج سور الحديقة فلم يكن له حول ولا طول!
وكان بورقيبة زعيمًا تقليديًّا خارجًا من صفوف الشعب. كافح وناضل طويلًا، وتشرد في داخل تونس، ثم نُفي في الأرض. وكان من خلفه حزب شديد التنظيم صارم الانضباط. وكان في استطاعة بورقيبة من خلال الحزب أن يشعل النار في تونس بإشارة، وأن يخمد النار إذا أراد بإشارة! ولكن عيب الحزب الدستوري التونسي الجديد، أنه كان جديد التشكيل، ولكنه ليس جديد الأفكار. فاكتفى بوحدة المغرب العربي بديلًا عن وحدة العالم العربي، وقنع بالاستقلال التام، دون أن يقترب من المشكلة الاجتماعية. ولم تكن للحزب أيديولوجية، ولكن مجرد أفكار هائمة، وخطوط غير واضحة، وكلها مأخوذة ومستمدة من خطب الزعيم وكلماته الخالدة!
ولقد أتاحت لي الظروف أن أرافق الزعيم خلال شهر كامل زار فيه كل شبر في تونس، ولم ينسَ أيضًا زيارة جزيرة (جالطا)، وهي التي نفاه إليها الفرنسيون خلال سنوات الكفاح. وأشهد أن بورقيبة زعيم جماهيري من طراز فريد، إنه من نفس طينة مصطفى النحاس، مع اختلاف المواقف والظروف. سمعته يخطب في مدينة الكاف على الحدود الجزائرية. وتطرق الحديث إلى نظرية رأس المال. وقال بورقيبة جادًّا: «يقولون إن رأس المال هو نتيجة فائض القيمة، وأنا أقول هذا كذب، فرأس المال هو نتيجة التوفير!» ولم تضحك الجماهير، ولكنها مزقت أكفها من التصفيق، وبحَّت حناجرها من الهتاف للزعيم الخالد! ولقد كان من الممكن لبورقيبة أن يمضي في طريقه وأن يلعب دورًا في حياة العرب، لو أنه أدرك عمق التغيير الذي طرأ على الأمة العربية بعد الحرب العالمية الأخيرة … لم يستطع بورقيبة أن يلحظ عمق التغيير الذي أحدثته حرب فلسطين، ولذلك ستجده يعلن عن قبوله لمبدأ إيزنهاور، حتى قبل أن يعلن إيزنهاور تفاصيل مبدئه! وسيهاجم حزب بورقيبة وحدة مصر وسوريا قبل إعلانها، كما أنه جاهر يومًا ما بضرورة عقد الصلح مع إسرائيل. وإن كان إنصافًا للرجل أقول: إن ما دعا إليه بورقيبة، في الماضي، ربما كان أقل مما وصل إليه الحال الآن!
ولكن ما الذي شدَّنا إلى السياسة في تونس، وكنا نود أن نسير في موكب البشر، وأن ندخل في زحام الناس؟ السبب في الحقيقة هو مؤتمر سياسي حضرته في صفاقس، وكان هو مفترق الطرق بالنسبة لمستقبل تونس، وأبرز علامة على الطريق. كان المؤتمر ببساطة يطرح خلافًا في الرأي بين بورقيبة ومجاهد تونسي آخر هو صالح بن يوسف. وكان الأخير يرى أن قبول الاستقلال الذي تعرضه فرنسا على تونس خيانة للجزائر. وكان من رأيه أن يحمل التوانسة السلاح إلى أن تستقل تونس والجزائر معًا. وكان يعتقد أن الظروف مناسبة للدخول في معركة شرسة وطويلة ضد فرنسا حتى تنهكها تمامًا، كما حدث في الهند الصينية، وكان واثقًا من أن (ديان بيان فو) عربية على الأبواب!
وكان بورقيبة يرى العكس تمامًا. كان يرى أن نصف استقلال خير من استمرار الكفاح من أجل استقلال كامل. وكان من رأيه أن تونس نصف المستقلة قادرة على حماية الثورة الجزائرية ومدِّها بالمال والسلاح، محتمية بالعلم الوطني وعضوية الأمم المتحدة! وأطلق بورقيبة عبارته المشهورة: «فلنضع أقدامنا على أي أرض، ثم نمارس من فوقها سياسة الخطوة خطوة.» ومن هنا فبورقيبة هو راسم السياسة التي تبنَّاها العزيز كيسنجر وطبَّقها بعد ذلك بثلاثين عامًا في الشرق الأوسط!
وانعقد مؤتمر صفاقس في جوٍّ متوتر، ودُعِيَت إليه جميع إطارات الحزب، وتخلَّف صالح بن يوسف، فقد كان هاربًا في الخارج ناجيًا بحياته. وبالطبع صفق الحزب طويلًا لبورقيبة، ودعا له بطول العمر! وأشهد الآن أنني خلال المؤتمر كنت في صف صالح بن يوسف. ولكن التجربة أثبتت أن بورقيبة كان على حق. فمن خلال تونس المستقلة استطاع الحكم أن يحمي ثورة الجزائر، وصارت تونس قاعدة للثورة ومقرًّا للثوار. المهم أن مؤتمر صفاقس كان هو الفصل الأخير من مرحلة الحوار بين الثوار؛ وبدأت مرحلة جديدة بعد المؤتمر، هي مرحلة الحوار بالرصاص. وانتهت هذه المرحلة أيضًا بإطلاق رصاصة على رأس صالح بن يوسف، وهو في غرفته في أحد الفنادق بألمانيا الغربية! ومات سياسي عربي مخلص، اجتهد فأخطأ، وبدلًا من أن يُثاب على خطئه بأجرٍ، أصيب برصاصة في الظلام قضت عليه!
صفت المياه للحزب الحر الدستوري التونسي وصار هو الحزب الحاكم في بلد الخضرة والسلام. ورفع الحزب شعار (وحدة عرب الكسكسي والجلاب). وكانت غلطة لا تُغتفَر، لأن الحزب قسَّم العرب إلى أكلة الكسكسي وأكلة الفول، وأكلة الكبة والسمك المسجوف، وأكلة الويكا والشرموت!
وتركتُ الحزب الحر الدستوري يحلم بحكم المغرب العربي من طنجة إلى طبرق، ونزلتُ إلى الشارع أشرب الشاي مع شعب تونس حول أسوار جامع الزيتونة، وأدخن النارجيلة في حواري القصبة، وأتمشى إفرنجيًّا على شواطئ بوسعيد، وأشرب البوخا في المقاهي المنتشرة على طول جادة الاستقلال! وبهرني الشعب التونسي بحيويته وذكائه واحترامه الشديد للفن وحبه الشديد للحياة! تعرفت على بنت تونسية تحاول أن تخطو أولى خطواتها في عالم الطرب. سألتني كيف تقابل أم كلثوم وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب؟ جلست في ندوة أدبية، وكان الحديث كله يدور حول أحمد أمين وزكي مبارك وطه حسين والعقاد. تناولت العشاء مرة على طاولة في نادٍ للكرة، وكان الحديث كله عن الكابتن الضيظوي والكابتن الديبة والكابتن صالح سليم. دعاني أحد مشايخ جامع الزيتونة إلى منزله وراح يناديني طوال السهرة ﺑ (الحاج)، فلما قلت له بأنني لم أتشرف بعد بحمل هذا اللقب، ولم أسعد بعد بزيارة الأرض المقدسة، أجابني الرجل الطيب: «الأرض المقدسة تبدأ عندنا من حدود مصر.»
وعشت في صفاقس أيامًا في ضيافة الشيخ أمين حسنين، وهو مطرب ومقرئ مصري شهير ذاع صيته في عشرينيات هذا القرن، وهاجر إلى تونس قبل الحرب العالمية الأخيرة. وخلال احتلال ألمانيا لتونس، كان ثعلب الصحراء روميل يتردد عليه في منزله ليستمع إلى فنه العظيم، وأهداه علبة ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة ليحتفظ فيها بالنشوق. ورأيت هدية روميل مع الشيخ أمين وكان يعتز بها اعتزازًا خاصًّا، كما كان فخورًا بصداقة صاحبها، وقال لي وهو يتنهد أسفًا: كان روميل يحب الإسلام، وكان في سلوكه يتشبَّه بالمسلمين الصالحين! كان الشيخ أمين غارقًا لأذنيه في حب تونس، وما الفرق بين تونس ومصر؟ أو بين تونس والعراق؟ أو بين تونس والحجاز؟ لا شيء في واقع الأمر. وأدركت سر بيرم التونسي الذي اقترن أبوه التونسي بامرأة مصرية إسكندرانية، فأنجب أعظم رجل مصري نطق باللغة العامية المصرية على طول الزمان! هؤلاء التوانسة الأحباء هم أحفاد بني هلال، حلُّوا ضيوفًا عليها بعد تغريبة شهيرة خرجوا فيها من الجزيرة العربية، قاطعين الطرق إلى تونس عبر بغداد وسُرَّ من رأى والموصل ودمشق وسهل طبرية والقدس والخليل وغزة والقاهرة والإسكندرية وبني غازي وطرابلس. وعبر الطريق أقاموا وتزوجوا وتناسلوا، وأخذوا نسلهم معهم، خليطًا من أبناء قحطان المنتشرين على الأرض العربية. ولذلك ستجد التواشيح التونسية، خلاصة فن العرب جميعًا. وستجد في التونسي خصال العربي القديم، رقته وشجاعته ودهاءه وسعيه الذي لا يكل! ويا ميت صلاة النبي على التونسي إذا صادق، وعلى التونسية إذا أحبَّت! سيعطيك الصديق حياته، وستعطيك الحبيبة كل ما أودع الله من أسرار في بنت حواء، ومن أخمص القدم إلى مفرق الشعر!
ويا ميت حلاوة على تونس العاصمة كأنها برج بابل؛ فيها شوارع كفرنسا وحوارٍ ولا حواري بولاق الدكرور. وفيها ناطحات سحاب كنيويورك وأكواخ كأكواخ الزنوج. وفيها نسوان ماشية في الشارع (زلط وملط)، ونسوان تخرج الشارع مختبئة في خيمة، وكأنهن يعشن في أيام عمرو بن كلثوم! وفي تونس مزارع ولا مزارع الدلتا، وصحراء ولا صحراء العلمين. وفيها مطاعم ولا مطاعم مكسيم، وجوعى ولا جوعى المنطقة التي على حدود بنجلاديش والهند! ولكن أعظم ما في تونس هو احتفاظها بالطابع العربي الأندلسي في العمارة وفي الموسيقى وفي المطبخ. وكل تونسي فنان ولو كان يعمل في كنس الشوارع، وكل تونسية مطربة ولو كانت تغسل الملابس في البيوت.
والبنت التونسية عينها جامدة وشخصيتها أجمد، وهي عنيفة كالصخرة ورقيقة كغصن البان، ولكن الرجل التونسي (مزاجاتلي) وكل ساعة بحال. هو في الكرم كحاتم، وفي السهر كنديم في بلاط هارون الرشيد، وفي الخصومة أشرس من نمر الغاب! وهو الوحيد ربما في المغرب العربي الذي يحب النكتة المصرية ويفهمها ويضحك على أي نكتة عمال على بطال. والتاجر التونسي هو أشطر تاجر في المغرب العربي. وهم يجيدون أشغال الفندقة والسياحة وجذب الغرباء. وهم في المغرب العربي كلبنان في المشرق العربي، ولكن هناك فرقًا، فالتونسي فيه كل مزايا اللبناني وليس فيه أي شيء من سلبياته. والسبب أن التونسي لا يعرف الجبال، ولكنه يعيش في سهول خضراء وفي صحراوات ممدودة.
وميزة تونس أيضًا أن الحزب الحاكم استطاع أن يفرض الأمن في كل مكان، كما أنها تخلو تمامًا من أي مراسم في دوائر الحكومة؛ وتستطيع في أي وقت أن تقابل كاتب الدولة (الوزير) حتى بدون أسباب، يكفي أن تدخل مكتبه وتشرب الشاي وتنصرف في سلام! وبورقيبة هو الزعيم الوحيد الذي يتحدث مع شعبه مرة كل أسبوع من خلال التليفزيون، حديثًا ليس في السياسة، ولكنه حديث شخصي كأنه جالس مع أقرب أصدقائه في البيت. وهو يحكي لهم عن خلافاته الزوجية، وأسباب القطيعة بينه وبين ولده الحبيب، وعن أكلة البيض التي سببت له الإسهال! وأحيانًا يصف لهم دواءً جرَّبه هو شخصيًّا وينصحهم باستعماله، باعتبار: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.
والنساء في تونس لهن حظوة ولهن حضور في المجتمع، ولهن في السلطة كلمة ومكان. وكانت السيدة الأولى وسيلة قبل طلاقها هي مصدر جميع السلطات!
والحق أقول إنني عشقت تونس من أول نظرة، ولكن أحوال السياسة التعبانة حرمتني من زيارتها منذ ذلك التاريخ، فلم أشاهدها مرة أخرى منذ عام ١٩٥٦م. ولكن تونس الخضراء بالرغم من كل هذه السنين لم تذهب صورتها من مخيلتي. فقد قضيت فيها وقتًا طويلًا وطيبًا، وقطعتها من شاطئ البحر وإلى عمق الصحراء. وأدركت وأنا أتسكع في ربوعها، ومن خلال أشجار النخيل والتين والزيتون وبساتين الكروم، كيف نشأ وترعرع أبو القاسم الشابي، أبرز شعراء عصر الرومانسيين العظام. ذلك العصر الذهبي الذي أنجب دستة من فحول الشعراء، أمثال: علي محمود طه، وأبو القاسم الشابي، وناجي، وأحمد فتحي، وعبد الرحمن الخميسي، وكامل الشناوي، ومحمود حسن إسماعيل. وبالرغم من تجديد صلاح عبد الصبور ونزار قباني، إلا أنهما يعتبران امتدادًا له وبعضًا من بقاياه!
وتركت تونس ذات صباح خريفي جميل، وتركت قلبي هناك مع بنت من بنزرت على خدها شامة وعلى «خشمها» وشم. البنت التونسية كانت تقرض الشعر أحيانًا، وتضرب على العود أحيانًا، وتغني دائمًا حتى وهي تصرخ، وهي تبكي، حتى وهي صامتة وصائمة عن الكلام! وكان العبد لله شابًّا في شرخ الشباب، وللشباب فنون وجنون أيضًا … ما أحلى أيام الشباب! وودعت تونس إلى لقاء، ولكننا لم نلتقِ قط، قاتل الله السياسة، فرقت بيني وبين تونس، وفرقت بين تونس وجيرانها، ولم يبقَ من وحدة الكسكسي والجلاب، إلا أطباق الكسكسي، وقماش الجلباب!