وإن طال السفر
وإذا كان المغرب العربي قد بهرني بجمال الطبيعة والخضرة الدائمة كأنما هو ضاحية في جنة عدن، فقد هزَّتني شبه الجزيرة العربية أكثر، وبهرني كل شيء هناك، حتى البداوة والجهالة، ونمط السلوك الذي كان سائدًا في عصور ما قبل التاريخ! وبعد رحلة شاقة مملة مرهقة، هبطت الطائرة في أرض خلاء يقال لها مطار، في ركن من أقصى بقعة في شبه الجزيرة. وبالرغم من أننا وصلنا في الظلام، إلا أننا لم نلمح أي أثر لأنوار المطار، وخُيِّل إلينا أننا نهبط هبوطًا اضطراريًّا في المحيط الهندي. وعندما استوت الطائرة تجري على الأرض الصلبة، هتفت من أعماقي كما هتف العربي القديم: «لا بد من صَنعا وإن طال السفر»!
هذه إذن صنعاء وكل شيء على حاله منذ جدنا آدم عليه رضوان الله — آسف وأعتذر، والاعتذار أتقدم به إلى سيدنا آدم عليه السلام — لأنه لو قام من قبره وتجوَّل في أنحاء اليمن التي رأيتها وقتئذ لتحسَّر على سوء الأحوال الذي تردت إليه البشرية من بعده، ولانفطر قلبه حزنًا على أبنائه الذين يقاسون كل هذه الأحوال! حتى الطبيعة ساءت عما كانت عليه عندما خلقها الله! الجبال نفسها أضحت أكثر جهامة وأكتر قتامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والشوارع … أي شوارع؟! أقصد المسالك، مشقوقة هكذا بلا قصد ولا نظام، كأنها دروب مهجورة داخل غابة انزلقت من ذاكرة الزمان! يا للهول، على رأي عمنا يوسف وهبي، هل هذه هي اليمن السعيد؟! وأي سعادة في أن يحيا الإنسان غارقًا هكذا في الوحل؟! سابحًا هكذا في الصمت؟! مخنوقًا هكذا في الخوف والرعب والاضطهاد؟!
وكان الملك أحمد، أو الإمام أحمد، أو سيف الإسلام أحمد، جالسًا على سرير الملك لحظة صافحت قدماي أرض اليمن. أو بمعنى أصح، كان نائمًا على سرير الملك، ولم يكن معه من أدوات الحكم إلا سيفه وبطشه. وكل مآثره في سنوات حكمه السعيد، وهو سعيد باعتبار اليمن سعيد، أقول كانت كل مآثره مئات من الرءوس تولى قطعها بسيوف صدئة، لدرجة أن القتيل كان يرشو السياف لكي يختار سيفًا أكثر حدة!
ولم يكن في اليمن شعب، ولكن كانت فيها قبائل، وكان رؤساء القبائل يؤمنون بأن الإمام أحمد فيه سر من عند الله، فهو يعلم ما تهمس به الشفاه وما تخفيه الصدور! ولكن اليمني العاقل كان لا يخفي رأيه بل يجهر به حتى يقبض عليه الإمام ويقتله. وكان لحظة القتل يتقدم إلى السياف، والبِشْر يطفح من وجهه، والبسمة تحتل مكانًا عريضًا على شفتيه! ويموت اليمني العاقل آخر سعادة وانسجام! ويحسده غيره من أهل اليمن ويحقدون عليه لأنه مات تاركًا إياهم في جحيم الإمام! ولم يكن في اليمن إلا طبيب إيطالي واحد لزوم معالجة أسنان الإمام، ولم تكن في صنعاء العاصمة إلا صيدلية واحدة تغلق أبوابها مع غروب الشمس، فإذا أحس أحد اليمنيين بمغص أو بصداع، دقَّ أبواب قصر الإمام طالبًا حبة أسبرين أو جرعة دواء!
وكان المواطن اليمني إذا فكر في السفر من مكان إلى مكان فهو إما فدائي وإما مجنون! وإذا التقى يمني بآخر بعد الغروب فهو إما قاتل أو مقتول. وكان الإنجليز يحتلون اليمن الآخر، وكان الإمام يحتل اليمن الذي نزلنا فيه. وأشهد شهادة حق لله وللتاريخ، أن الاستعمار البريطاني كان أخف وطأة من الاستعمار الإمامي، وأن نظامًا مثل هذا ليس له مثيل في أي زمان أو مكان، حتى ولا أيام الهكسوس!
كانت المناسبة التي نزلنا فيها اليمن هي الاحتفال بالوحدة الورقية التي قامت بين اليمن والجمهورية العربية المتحدة، ولكن حتى هذه الوحدة الورقية أقلقت هؤلاء الذين يتربصون بالعرب الدوائر. وهؤلاء المتربصون أجانب أحيانًا، وعرب أحيانًا أخرى، ولله في خلقه شئون! ويبدو أن الإمام أحمد قد استجاب لإغراء الرشوة فأنشد يوم الاحتفال قصيدة من نظمه:
وأضاف إليها أحد الظرفاء من عنده:
وألحَّ على عقلي سؤال بلا جواب: هل هذه هي اليمن حقًّا؟! هل هذه أرض بلقيس وسد مأرب؟! أمن هنا سارت الجحافل اليمنية تفتح الأرض في سبيل الله؟! لقد أنجبت هذه الأرض على طول الزمان أشجع رجال العرب، وأشدَّهم بأسًا على الإطلاق. واليمني لا يعرف قلبه الخوف، وهو إذا حارب دمر كل شيء أمامه أو دمر نفسه؛ لأنه لا يعرف الانسحاب حتى ولو كان (طبقًا لخطة موضوعة)، كبلاغات الحرب هذه الأيام! طيب … إذا كان اليمني الفرد لا يعرف الخوف طريقه إلى قلبه، وإذا كان المحارب اليمني لا يتقهقر على الإطلاق، فلماذا إذن تقهقر اليمن الوطن بضع مئات الألوف من السنوات إلى الوراء؟! ولماذا انسحب اليمن الشعب لا يلوي على شيء، حتى أشرف على هامش الزمان والمكان؟! واختلست نظرة إلى الحصن الذي يتقوقع داخله الإمام، إنه فرد واحد، ولكنه حقق النصر الحاسم على شعب بأسره وألحق به هزيمة منكرة، وفشل في ذلك عشرات القادة والجيوش على مر الزمان! من هنا يبرز دور الفرد قي التاريخ.
وعشت أيامًا في صنعاء، لم نر فيها شيئًا ولم نتصل بأحد … حتى الذين حاولنا أن نتحدث إليهم كانوا يفرون من وجوهنا كأنهم أصحاء يفرون منا حتى لا نصيبهم بالجرب! وعدنا من حيث أتينا، لم نتعرف على اليمن، ولم تتعرف علينا اليمن! ولكن ظلَّت اليمن ماثلة أمامي لا تبرح خيالي قط. وتصورت أنني لن أرى اليمن في حياتي، ربما سنحت الظروف لأبنائي أو أحفادي.
ولكن، لأن زمن المعجزات لم يذهب بعد، فقد حدثت المعجزة: مات الإمام أحمد وتولى الإمام البدر وقامت الثورة في اليمن! ثورة في اليمن؟! هذا هو الذي حدث، وفرَّ الإمام في ملابس النساء، وقامت الدنيا في العالم العربي ولم تقعد بعد! ذهب جيش مصر ليحمي الثورة في اليمن. وذهبت جيوش المرتزقة والخونة لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء. وأتيح للعبد لله أن يذهب مرة أخرى إلى اليمن، ولكنها كانت يمن جديدة ومختلفة. كانت المعارك على أشدها والشهداء يسقطون كل يوم بالمئات، وبعض القبائل حوَّلت حرب التحرير إلى مباراة، فيوم هنا ويوم هناك! وبالرغم من المعارك والدماء والمآسي، استطعت أن أتعرَّف على اليمن، وذهبت مع اليمني إلى الجبهة، ولمست بنفسي شجاعة اليمني على الجانبين، وغبت عن الوعي مع اليمني أمضغ نبات القات، وجلست على مائدة اليمني ألتهم (أم الصحن)، وخرجت بنتيجة باهرة: إن اليمني لا يزال هو اليمني بكل أصوله وصفاته، لم تستطع الأمراض والجهل وحكم الإمامة أن تقضي على جوهره، وإن قضت على هيكله! صحيح أن الجلد أصبح على العظم، ولكن الذكاء الموروث ظل كامنًا يبدو في بريق العينين، وعلى سطح الجلد نفسه!
ولقد أتيح لي أن أشهد بعيني رأسي نبض الحياة، وهو يعود بالتدريج إلى جثة اليمن: مدارس جديدة، ومستشفيات حديثة، وشوارع شُقَّت على عجل، وساحات كانت أرضًا مهجورة في ظل الإمام. ورأيت أول جماعة من المهاجرين عادت إلى اليمن بعد الثورة، جاءت مستريبة في كل شيء، لا تصدق أن الإمام قد انتهى. وهؤلاء الذين صدقوا نهاية الإمامة كانوا يعتقدون أن السلَّال هو مجرد إمام جديد حلَّ محل الإمام الذي سقط!
والتقيت بفتاة في عمر الورد ترتدي البنطلون وبلوزة على اللحم، جاءت مع المهاجرين لتشاهد بنفسها البعث الجديد في اليمن، ولما أبديت دهشتي من وجود فتاة يمنية بالبنطلون، قالت البنت وهي تضحك: لعلك لا تعرف أن البنطلون في اليمن حق النساء، أما التنورة فهي حق الرجل! وقال لي ضابط مصري كبير في صنعاء: هذه حقيقة. وكانت أخطر إشاعة أطلقها رجال الإمام ضد جيش مصر تقول لأهل اليمن: انظروا إلى هؤلاء الجنود المصريين، إنهم يرتدون البناطيل التي هي حق النساء، إنها الدليل القاطع على أن هؤلاء الجنود أجانب وكفرة، وليسوا من جنس العرب! وقالت لي اليمنية المتبنطلة: أنا أعيش في أفريقيا منذ عشرين سنة، وغادرت اليمن وعمري ثلاثة أعوام مع والدي الذي آثر الفرار من حكم الإمام إلى الغابات والوحوش الكاسرة. ولقد خرجنا من اليمن بلا شيء تقريبًا ونحن الآن نملك ثروة لا بأس بها. والحق أقول: إن كل الذين هربوا من الإمام خرجوا بلا شيء تقريبًا، ولكنهم استطاعوا بعد فترة أن يصبحوا أثرياء للغاية؛ فاليمني ذكي وشجاع وصبور وقادر على التكيف مع أي بيئة والعيش في أي مجتمع.
منذ ربع قرن تقريبًا كنت في طنجة، وكانت طنجة دولية، وكانت تعيش فيها كل الملل والأجناس … إلا جنس العرب: خواجات على قفا مين يشيل، وهنود بعدد النجوم، وصينيون بعدد الحصى، ويونانيون وقبارصة، ويهود أكثر من الهم على القلب، وناس من مالطة، وناس من جزر هاواي. يا ميت ندامة على هذا البلد العربي، ليس فيه عربي إلا سكانه وهم على ما يبدو جميعًا من أتباع المرحوم غاندي، فلا ملابس ولا مأوى ولا طعام! ودخلت السوق في القصبة ذات يوم وسألني التاجر: هل أنت هندي؟ وأجبته بالنفي، فسألني: هل أنت إسباني؟ وأجبته بالنفي، فسألني: هل أنت إسرائيلي؟ ولما بدا الاشمئزاز على وجهي، قال إذن أنت عربي؟ فلما أجبته بالإيجاب، مد يده مصافحًا وقال بلغة عربية سليمة: كيف حالك؟ وظننته من أهل البلاد، ثم اكتشفت بعد ذلك أنه أخ عربي من اليمن. قالي لي الأخ عبد الواسع: نحن هنا حوالي ثلاثة آلاف يمني يعمل أغلبنا في التجارة، وبعضنا يعمل في مجال الحرف!
مرة أخرى منذ عشرين عامًا كنت في زيارة خاطفة لهونج كونج، وأردت شراء بعض الملابس، ولكني ترددت في آخر لحظة. وعندما سألني رفيقي في الرحلة عن سبب ترددي، قلت له بالعربية: يظهر أنهم حرامية وغشاشون، وضحك التاجر واكتشفت أنه من اليمن! ما أكثر الإخوة اليمنيين الذين تصادفهم في طريقك في كل مكان في لندن ووارسو وباريس ومالطة ومدريد، وكلهم تجار، وكلهم آخر نجاح وآخر جدعنة! واليمني ظريف ولطيف ومهذب وناعم للغاية، ولكنه أسد مفترس إذا لزم الأمر!
كنت في زيارة لعلي العواضي، وكان وزيرًا للحربية في وقت ما بعد الثورة، وكان الوزير في جلسة قات مع بعض القادة، حين دخل عليه ضابط برتبة صغيرة يبلغه نبأ القبض على أحد المفسدين. وقال الوزير على الفور: «بز رأس أبوه»، وكان يقصد اقطع رقبته، ثم جلس يمضغ القات في هدوء! وعندما خرجنا من المنزل رأيت عددًا من الصبية يلعبون برأس المفسد المقطوعة مباراة حامية في كرة القدم! وسألني زميل في الرحلة: الآن بدأت اليمن، فكم من السنين تُقدِّر لها لكي تصبح جوهرة لها شأنها في قلادة العرب؟ قلت: هذا يتوقف على أحوال العرب، إذا بقيت هكذا على حالها وظل الحال هكذا على عفونته فلن تقوم لليمن قائمة. قال زميلي: ليه؟ قلت: هذه قصة أخرى!
•••
ولكن يبدو أن نظرتي إلى مستقبل اليمن كانت تحمل كثيرًا من التشاؤم. فأحوال العرب ازدادت سوءًا، وربما لم يشهد العالم العربي عصرًا أسوأ من هذا العصر الذي نعيش فيه. لم يقف تقسيم المغرب العربي عند حد المغرب والجزائر وتونس وليبيا فقط، زاد الخير خيرين فنشأت دولة جديدة هي الصحراء، وأضيفت إلى حكومات العرب حكومة جديدة هي الحكومة الصحراوية. وبينما تضاعفت أغاني الوحدة ازداد التقسيم، حتى وصل إلى حد تقسيم مدينة بيروت إلى شرقية وغربية.
وبالرغم من ذلك حققت اليمن معجزة بكل المقاييس؛ تخلصت اليمن من نظام العشائر والقبائل، ونفضت عن كاهلها حكم الأئمة، وتحولت صنعاء إلى مدينة عصرية، وفتحت المدارس أبوابها لاستقبال ألوف الصبيان والبنات، ودارت المطابع تطبع الصحف والكتب والبحوث العلمية. وشهدت اليمن طفرة فنية وصار للفن اليمني مكان محجوز في أجهزة إعلام الأمة، وأصبحت اليمن سندًا ودعمًا لقضايا العرب، وما أصعبها في عصرنا الحديث! معجزة نادرة الحدوث، ولكنها في اليمن حدثت. وهي لم تحدث بسهولة، ولكنها تعرضت لهزات ونكسات، وأوشكت أحيانًا على الإجهاض، ولكنها تغلبت — بالرغم من ذلك — على ظروفها الصعبة. وعاشت اليمن التي كانت سعيدة تحاول صنع المستحيل لتصبح سعيدة من جديد. معجزة … نعم، تحققت بفضل شعب اليمن، وأيضًا بفضل العسكري المصري المجهول، الذي مات على قمم الجبال هناك، وفي سهول اليمن الفسيحة. والمعجزة الأكبر أن شعب اليمن لم ينكر فضل العسكري المصري المجهول — كما حدث في أجزاء شتى على اتساع الوطن العربي — فهم يذكرونه بالخير، ويشكرونه دائمًا، ويحمدون فضله، باعتبار أنه لولاه، ولولا بندقيته التي سارعت في بداية الثورة لحمايته ومساندته، لولا هذه البندقية، فربما كانت اليمن الآن في طريقها إلى العصر الحجري.
ولكن الحمد لله، الذي أتاح لليمن ظروفًا مواتية، مكَّنتها من تحقيق المعجزة. ولأن ما حققته اليمن معجزة، فهي تحتاج إلى كتاب ضخم وليس إلى فصل من كتاب، وهو وعد من ابن عطوطة إذا امتد بنا العمر، وتوافر الوقت، وتحققت أمنية قديمة للعبد لله، وهي الطواف باليمن السعيدة، قرية قرية، ومدينة مدينة، في محاولة لاكتشاف جنس العرب. وباعتبار أن اليمن هي أرض العرب العرب، أما العرب خارجها — تاريخيًّا — فهم العرب المستعربون!