آلة الزمن
وتركتُ اليمن، التي ساءت أحوالها عما كانت عليه في عهد سيدنا آدم، إلى عمان. وكان السلطان سعيد بن تيمور لا يزال جاثمًا على أنفاس شعبه، وإن كانت كلمة (شعبه) لا تليق بوصف المخلوقات التي كانت يحكمها السلطان. لم يكن هناك شعب، ولا حتى رعايا. وخُيِّل إليَّ من أول نظرة ألقيتها على البلاد أن هؤلاء الناس مجرد أسرى طال بهم الزمن، وأن عمان ليست وطنًا وإنما معسكر اعتقال كبير، وأن الداخل هنا مفقود والخارج مولود، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وأصابتني دهشة شديدة لأن الريال العماني يتمتع بقوة شرائية عظيمة، ولكن دهشتي تبخرت عندما اكتشفت أنه ليس في السلطنة كلها من يملك ريالًا إلا السلطان، وأن الريال يحتل في أذهان أهل عمان صورة الأسطورة، بل إنه أصبح لدى البعض منهم شيء أشبه بالغول والعنقاء والخل الوفي! دولة تعيش في النصف الثاني من القرن العشرين، بلا ماء ولا كهرباء ولا شوارع ولا مقاهٍ، ولا حدائق ولا مواصلات. وللمدينة سور يُغلَق عليها بعد غروب الشمس، فإن وصل إليها أحد بعد ذلك نام خلف السور حتى الصباح! وسيئ الحظ هو من يطلع عليه الصباح ويتمكَّن من اختراق السور، لأنه سيترك خرابة إلى خرائب أكثر، وسيفارق خلاء إلى خلاء أوسع، وسيهرب من الذئاب إلى من هو أكثر ضراوة من الذئاب، وهو السلطان!
وفوجئت بأن كل شيء نادر وقليل في عمان، الماء والطعام والنقود، الشيء الوحيد الذي يوجد بوفرة هو الذقون، ذقون طويلة وكثة وغزيرة الشعر. والرجال جميعًا يتحلَّوْن بهذه الذقون ويدهنونها بالمسك والطيب! والشيء الآخر الذي يوجد بشكل أوفر من الذقون هو الأمراض السرية؛ فهي ترعى بين أفراد الشعب كحريق شبَّ فجأة في غابة أصابها الجفاف منذ زمن طويل!
ولقد مرَّت عليَّ فترة في صباي المبكر كنت أشعر فيها بأسف حقيقي؛ لأنني وُلِدت في القرن العشرين، وكنت أتمنى لو أنني جئت إلى الحياة في وقت ما من القرون الوسطى. ولكن عندما وقع بصري على أرض عمان حمدت الله لأن أمنيتي لم تتحقق، ولأنني جئت في القرن العشرين، وفي بلد يطل عليه من قرب! فلقد شعرت لحظة دخولي مسقط أنني بُعِثت فجأة في مدينة عربية في عهد العباسيين! وأنني دخلت المدينة بعد ما دمرها التتار بوقتٍ قصيرٍ! لم تكن مسقط مدينة بالمعنى المحدد للكلمة، ولكن كانت هناك بضع قرًى متقاربة، ولم يكن في هذه القرى شيء يوحي بالحياة إلا الأحياء الذين يدبون على الأرض في إعياء شديد!
والمرأة عورة لا يمكن أن تقع عين عليها، ولكن العالمين ببواطن الأمور يؤكدون أنها في (الواقع) أكثر حرية من بنات لندن وباريس! والمخدرات ممنوعة بأمر القانون، ولكن بالنظرة السطحية ستكتشف أن الشعب كله مسطول ومنسجم ومحلق في العلالي مع دخان وضباب الحشيش! دخلت سوقًا مسقوفة وخُيِّل إليَّ أن الباعة والتجار والزبائن جميعًا ممثلون كومبارس في فيلم عن عصر قديم! كان التجار يجلسون الواحد بجانب الآخر على الأرض، يعرضون بضاعتهم في قفف، وهي بضائع مختلفة من الذهب إلى السمك، إلى التبغ، إلى الحلاوة المسقطية، إلى الموز، وهو موز أفريقي يكفي أن تضرب بواحدة منه عدوك فيسقط قتيلًا في الحال! والناس أقرب إلى الهنود منهم إلى العرب، وإحساسهم بالانتماء العربي يكاد يكون منعدمًا. والسبب هو حكم السلطنة الذي توجه بالصلات نحو الهند وباكستان، وتوجه بالركوع والسجود نحو إيران! ولذلك ستجد أن أكثر الأغاني هندية، وأكثر المصنوعات إيرانية، وأغلب العادات أفريقية، خصوصًا أفريقيا الشرقية السوداء!
ولطمت على خدي حزنًا على المصير الذي انتهت إليه أرض عربية كانت درة في تاج العروبة، وكانت حجر الأساس في صرح العروبة وإلى زمن طويل! فإلى هذه البلاد كان ينتمي أعظم حكام أفريقيا الشرقية من دار السلام وزنجيبار أو (بر الزنج) كما كان يُطلَق عليها أيام المجد القديم! وإلى هذه البلاد أيضًا كان ينتمي آخر الملوك العرب في الكونغو أو ما يُعرَف الآن بزائير، وهو الملك (تيبو تيبو)، وكانت كاتنجا هي عاصمة ملكه، والذي داس الجنود البلجيك عرشه عندما دخلوا الكونغو منذ حوالي مائة عام لا تزيد! وهذه البلاد نفسها هي التي فرضت إتاوة على السفن البريطانية خلال رحلتها من الهند وإليها. وهي التي حطمت أسطول البرتغال في مياه الخليج، واستولت على كنوزه ومئات الأسرى الذين لا يزال أحفادهم يعيشون حتى الآن في إمارة رأس الخيمة، ويُعرَفون هناك باسم (الشحوح)!
ما الذي جرى حتى حدث هذا للبلد الذي كان يومًا ما أقوى دولة بالمنطقة، فأصبح الآن يستعين بالعساكر الأجانب لحماية عرش السلطان من غضبة الشعب المطعون؟! ما الذي جرى لصنف العرب حتى أصابهم كل هذا العطب؟ ولماذا صنْف العرب وحدهم هم الذين تأخروا، بينما العالم من حولهم ينطلق في ثقة إلى الغد السعيد؟! إنها الفجوة التي حدثت بين بعض نظم الحكم في أجزاء من الوطن العربي والناس الذين أوقعهم سوء الحظ تحت حكم هذه النظم. ففي اليمن كان السبب هو الإمامة، وفي عمان كان السبب هو السلطنة.
وسلطان عمان كان يتمتع بجهل إمام اليمن، ولكنه لا يتمتع بذكائه! كان الإمام ذكيًّا رغم كل شيء وكان قويًّا أيضًا. بينما سلطان عمان كان أغبى من ثور، وأضعف من ذبابة! وكان الخطر الحقيقي يهب عليه من أجزاء أخرى في الوطن العربي … أجزاء أخرى تحررت وهبَّت تصارع لتلحق بقطار الزمن الذي يكاد يغادر محطة القرن العشرين! لذلك عمد السلطان إلى إضعاف اللغة العربية حتى لا تُقلِق الإذاعات العربية أسماع مواطنيه، وشجع لغات أخرى تكفل له الراحة والطمأنينة. وانتهى بعد ذلك إلى إخفاء المدن خلف أسوار متينة البنيان، ثم إلى دفن البلد كله تحت تلال هائلة من الفقر والجوع والخرافة. ثم تتويج هذا كله بجهاز قهر مدرَّب، ولديه كل الإمكانات، وله كل الصلاحيات لقتل كل من تلوح عليه علامات الرفض أو المعارضة، وحتى عدم الموافقة على ما هو كائن، باعتبار أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان!
وبالرغم من الخيبة التي هي بالويبة، والوكسة التي هي أعظم من النكسة، فقد رأيت في عمان ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت. حضرت سوقًا للرقيق يباع فيه العبيد في المزاد! كانت البضاعة المعروضة عدة رجال، وعدة نساء، وعددًا قليلًا من الأطفال. وكان المشتري يتقدم من الطابور البائس يتحسس البضاعة قبل أن تبدأ عملية المساومة بين البائع والراغب في الشراء! كان الأطفال هم البضاعة المرغوبة، ثم النساء، وكان القطيع البائس أغلبه من أفريقيا. ولم تكن النساء المعروضات من النوع الذي يصلح للمتعة، بل كن جميعًا من الصنف الذي يصلح للخدمة. ولذلك فقد كان المشتري الذي تقدَّم ليدفع الثمن، من رجال السلطان، وهؤلاء النسوة سيقمن بالخدمة في حريم السلطان، فقد كانت الخدمة وقفًا على الحريم الأفارقة، أما المتعة فكانت من نصيب الأتراك والهنود وبعض النسوة من سنغافورة وإندونيسيا وسيام! وكان ثمن البني آدم الحي الذي تجري الدماء ساخنة في عروقه ثلاثين ريالًا عمانيًّا لا أكثر ولا أقل! هذا للرجل أو المرأة. أما الطفل فكان ثمنه يزيد قليلًا، حتى يصل إلى الخمسين ريالًا. وعندما انفضَّ السوق، كان التاجر قد تبقى معه عدد من الأرقاء، بعضهم كبار السن ربطهم جميعًا في حبل، وافترش الأرض معهم وجلس يعد النقود، ثم نهض يسحب قطيعه خلف ظهره في رحلته إلى المجهول في بلاد السلطان!
وقادني رفيقي ذات ليلة إلى منزل منعزل في حي الهنود حيث تدور ليالي المتعة للأجانب المقيمين في مسقط. واستقبلتنا امرأة هندية بدينة تتحلى بمصاغ من ذهب لو تحلى به جمل لما استطاع أن يسير! وأدخلتنا المرأة حجرة عارية من الأثاث فجلسنا على حصيرة مفروشة وعليها بعض الوسائد المتناثرة هنا وهناك، ثم دخلت فتاتان هنديتان تدوران حول الرابعة عشرة وربما أقل من ذلك بعدة شهور. ونظرت إلينا الفتاتان في غباء شديد، ثم تعرَّتا تمامًا في هدوء. وراحت إحداهما تعزف على آلة، بينما راحت الأخرى ترقص وقد بدا عليها التوتر والخوف الشديد! وفي ليلة أخرى سحبني رفيقي من يدي إلى بيت آخر، في حي اليمنية حيث دخان الحشيش يعبق في كل أرجاء البيت، وعدد من المدمنين من أهل البلاد يدخن بشراهة صنفًا هنديًّا رديئًا لو دخنه حمار لنام مكانه يتثاءب لمدة عام! وقال صاحبي الذي كان على علم شديد بأحوال البلاد والعباد في عمان: لو كان في السلطنة مستشفيات بعدد هذه البيوت لصارت عمان واحدة من أعظم البلدان.
وكان رفيقي في السفر تاجرًا كبيرًا من دولة الإمارات، ودخلت عمان معه باعتباري سكرتيره الخاص، والجنسية فلسطيني الأصل من عكا، والاسم (أحمد الترماني العكاوي). وكان التاجر العربي على صلة وثيقة وطيبة بحكام البلاد، وبالرغم من ذلك كان شهمًا إلى الحد الذي جعله يقبل بهذه المغامرة، ولو انكشف أمري هناك لفقدت رأسي إلى الأبد، ولفقد هو الآخر رأس ماله الذي يصل في عمان إلى سبعة أصفار! كان الرجل رغم غناه يحب عبد الناصر بجنون، وكان يرى فيه فتى العرب القومي، وصوت العروبة المعبِّر، وذراعها الممدودة في وجه الأعداء. وكان يعتقد أنه لولا عبد الناصر لابتلعت المنطقة إيران. كنا نجلس وقتها في بيت المخدرات، ولذلك انطلق الرجل يتكلم دون خوف؛ فهنا المكان الوحيد الذي لن يستمع إليك فيه أحد؛ لأن الكل هنا مسطول وضائع، وآخر انسجام! وبينما كانت حلقات الدخان تنعقد فوق رءوسنا داخل البيت الصغير في ضواحي مسقط، كانت مدافع الثوار تنطلق في رأس الجبل الأخضر، وكانت رائحة البارود تختلط برائحة الحشيش في مسقط! ثم فجأة جاء قابوس، واستبشر الناس خيرًا، وكان قابوس عند حسن ظن الناس، واستطاع بمعجزة نقل عمان من القرن الأول الميلادي إلى القرن التاسع عشر.
•••
ولسوء الحظ لم أشاهد عمان في وضعها الجديد، ولكني استطعت أن أدرك عمق التغيير الذي حدث هناك. وكانت وسائلي إلى معرفة هذا التغيير وسائل غير تقليدية؛ شاهدت فريق عمان في كرة القدم في دورة الخليج عام ١٩٧٦م، ثم شاهدته في دورة الخليج عام ١٩٧٨م، ثم شاهدته في دورة ١٩٨٠م، ثم في دورة ١٩٨٢م، ثم في دورة ١٩٨٤م، ثم في دورة ١٩٨٦م. وأشهد أن التطور الذي حدث في فريق كرة القدم لا يمكن حدوثه في أرض خراب. ليس هذا فقط، ولكني أرشح فريق عمان إلى بطولة دورة الخليج القادمة، وأرشحه للمنافسة على بطولة آسيا القادمة! معجزة لا شك، خصوصًا إذا علمتم أنه في عهد سعيد بن تيمور كان لعب الكرة جريمة، وكان ارتداء زي الكورة رجسًا من عمل الشيطان!
وسيلتي أيضًا لمعرفة ما جرى في عمان، هي فرقة عمان المسرحية، وقد اشتركت في مسابقة مسرح الخليج لعام ١٩٨٧م، وبالطبع فازت الكويت بالجائزة الأولى، وفازت الإمارات بالجائزة الثانية، وفازت قطر بالجائزة الثالثة. طيب … وأين فرقة عمان؟ لقد حققت ما هو أخطر من الجوائز؛ فازت الممثلة (منى) من فرقة عمان بجائزة أحسن ممثلة. يا سبحان الله! منذ خمسة عشر عامًا كان اسم المرأة عورة، وكان خروج المرأة إلى الشارع يجلب النحس للجميع، وكان (التشخيص) عملية كفر بالله وخروج على ناموسه! لدرجة أن مراسلًا أجنبيًّا زعم في تحقيق صحفي عن عمان، أنها البلد الوحيد على ظهر الأرض الذي يحتفل بزواج الذكور! ربما كانت مبالغة أو أكذوبة من جانب المراسل الأجنبي، ولكن المرأة في عمان لم يكن لها مكان إلا في مطبخ البيت، وغير مسموح لها بالقيام بأي رحلة إلا رحلتها النهائية إلى القبور. ولك أن تتصور ما الذي حدث في عمان إذا عرفت أن فتاة من بناتها حصلت على جائزة أحسن ممثلة في مسابقة مسرح الخليج.
الوسيلة الأخيرة التي كانت دليلي إلى التغيير الذي حدث في عمان هي أحاديث الأصدقاء الذين عملوا في حكوماتها وقضوا سنوات هناك. أحدهم هو الصديق الكريم المستشار صلاح نصار، كان وصفه لعمان شديد التركيز، وفصيح التعبير أيضًا. قال وهو يتحدث عن تجربته هناك: بلد يلتقي فيه القديم والجديد، ويأخذ أحسن ما في القديم، وأفضل ما في الجديد، وسيصنع من هذا المزيج شيئًا رائعًا وغير مسبوق في يوم من الأيام.
إن ما حدث في عمان هو (حالة)، وهي كأي حالة تحتاج إلى مراقبة ومتابعة وفحص، وهو إجراء يحتاج إلى وقت. ولأننا لا نملك هذا الوقت، فنحن لا نستطيع أن نقدم تقريرًا طبيًّا يشخِّص الحالة، ويمكن الاعتماد عليه. ولكن كل ما نملك قوله عن حالة عمان: إنها بلد كان مصابًا بواحدٍ من أخطر الأمراض المستعصية، ولكنها تمكَّنت من الخلاص منه، وإن كانت لا تزال تعاني من آثاره، ولكنها في طريقها إلى الشفاء التام، وقد يستغرق الشفاء وقتًا، ولكن الأكيد أنها ستُشفى. معجزة … أليس كذلك؟!