المصادر السومرية للملحمة البابلية
لقد كان اكتشاف الحضارتين الآشورية والبابلية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، واحدًا من أهم منجزات العلوم الإنسانية الأوروبية. أما اكتشاف الحضارة السومرية فقد جاء بعد ذلك بوقت لا بأس به. فحتى عام ١٨٧٠م كان الجدل ما زال حاميًا بين المؤرخين والأركيولوجيين واللغويين حول حقيقة وجود الشعب السومري واللغة السومرية. ورغم أن بعض الرُّقم التي تحتوي كتابة سومرية قد وصل إلى علماء ذلك الوقت، إلا أن بعضهم قد بقي يجادل في أن هذه الكتابة ليست لغة جديدة، بل هي شكل من الأكادية ابتدعها البابليون للأغراض الدينية والطقسية في المعابد. ولكن الحقيقة ما لبثت أن أظهرت نفسها، وتم الكشف عن أول موقع سومري وهو مدينة لجش، وذلك خلال العقدَين الأخيرَين من القرن التاسع عشر، وأخذت روائع الأدبيات السومرية منذ ذلك الوقت تخرج من تحت الأنقاض، وبينها نصوص جلجامش التي تعرَّف عليها الباحثون بعد أكثر من نصف قرن على ظهور الألواح الأولى لملحمة جلجامش البابلية في نينوى.
وصلنا حتى الآن ستة نصوص سومرية تدور موضوعاتها حول جلجامش وهي:
(١) جلجامش وأرض الأحياء، (٢) جلجامش وثور السماء، (٣) جلجامش وشجرة الحلبو، (٤) جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل، (٥) جلجامش وأجا، (٦) موت جلجامش. يضاف إلى هذه النصوص الستة نصٌّ عن الطوفان لا يدور حول جلجامش ولكنه أثر في أسطورة الطوفان البابلية التي أدمجها محرر النص الأساسي في نسيج الملحمة. وهذه النصوص جميعها قد تم تدوينها في عصر أسرة أور الثالثة.
(١) جلجامش وأرض الأحياء
النص السومري
النص الأكادي
وإنكيدو في كلا النصَّين يعارض مشروع جلجامش ويُظهر مخاوفه من نتائجه بينما يعمل جلجامش على تشجيعه وتحسين الأمر في عينيه.
النصُّ السومريُّ
النصُّ الأكادي
ولدينا في كلا النصين مشهد عن نوم جلجامش في الطريق قبل الوصول إلى مقر خمبابا/حواوا. والمشهدان مختلفان في التفاصيل وفي طريقة التوظيف.
النصُّ السومري
النصُّ الأكادي
وبعد أن يقع خمبابا (حواوا) بين يدي البطلين ويدرك قرب نهايته، يأخذ بالتضرع إلى جلجامش الذي تأخذه به الشفقة، ويفكر بإطلاقه لولا تحذير إنكيدو.
النصُّ السومري
الترجمة الحثية للنص الأكادي
ومن ناحية أخرى فإن النصَّ السومري يختلف عن النصِّ الأكادي في عنصرين أساسيين، الأول صلة جلجامش بإنكيدو التي تبدو في النصِّ السومري على أنها صلة السيد بتابعه، بينما يغدو إنكيدو في النصِّ الأكادي صديقًا وندًّا لجلجامش.
وهذه الصداقة ذات بوادر واضحة في النص السومري؛ لأن إنكيدو كان تابعًا من نوعٍ خاص ومميز، والصلة بينه وبين سيده ترقى إلى مستوى الصداقة. وسوف نرى في نصوصٍ سومرية أخرى أن جلجامش يخاطب تابعه مستخدمًا صيغة أيها الصديق. أما عنصر الاختلاف الثاني الرئيسي فهو اصطحاب جلجامش لخمسين متطوعًا من رجال أوروك في حملته على غابة الأرز، بينما نجد البطلين في الملحمة البابلية يشرعان وحدهما في تلك المغامرة.
(٢) جلجامش وثور السماء
إن التشابه بين النصِّ السومري والنصِّ الأكادي للملحمة واضحٌ في عدد من النقاط:
النصُّ السومري
النصُّ الأكادي
(٣) إنانا وشجرة الحلَبو
يظهر جلجامش في هذا النصِّ كنصير ومعين للإلهة إنانا لا كخصم لها كما في نصِّ ثور السماء. فعلى ضفة الفرات نمت شجرة حلبو، ودلالة هذا الاسم ما زالت مجهولة. ثم إن ريح الجنوب العتيَّة اقتلعت الشجرة ورمت بها في تيار الماء الذي حملها بعيدًا. وبينما كانت الإلهة إنانا تتمشى قرب ضفة النهر، رأت الشجرة فانتشلتها من الماء وحملتها إلى مدينة أوروك، حيث زرعتها في حديقتها المقدسة.
(٤) جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل
(١) ليتني تركت البكو في حانوت النجار.
(٢) ليتني تركته مع زوجة النجار التي كأمي.
(٣) ليتني تركته مع ابنة النجار التي كأختي الصغرى.
(٤) والآن، من سيعيد إليَّ البكو من العالم الأسفل؟
(٥) ومن سيعيد إليَّ المكو من العالم الأسفل؟
(٦) فقال له خادمه إنكيدو، قال لجلجامش:
(٧) «سيدي ما الذي يبكيك، وما الذي يوجع قلبك؟
(٨) اليوم آتيك بالبكو من العالم الأسفل،
(٩) وآتيك بالمكو من العالم الأسفل.»
(١٠) فقال له جلجامش، قال لإنكيدو:
(١١) «إذا عزمتَ الآن على النزول إلى العالم الأسفل،
(١٢) فإن لديَّ كلمة أقدمها لك، فخذ بها،
(١٣) ونصيحة أزودك بها، فاتبعها:
(١٤) لا تضع عليك ثيابًا نظيفة،
(١٥) وإلا صرخ الأموات في وجهك كغريب.
(١٦) لا تضمخ نفسك بالعطر الفاخر،
(١٧) وإلا تجمعوا حولك لفوحانه منك،
(١٨) لا ترمِ رمحًا في العالم الأسفل،
(١٩) وإلا أحاط بك من أصابهم رمحك.
(٢٠) لا تحمل بيدك هراوة،
(٢١) وإلا تراقصت حولك الأشباح.
(٢٢) لا تضع في قدميك صندلًا.
(٢٣) لا تحدث جلبة في العالم الأسفل.
(٢٤) لا تقبل زوجتك التي تحب.
(٢٥) ولا تضرب زوجتك التي تكره.
(٢٦) لا تقبِّل ابنك الذي تحب.
(٢٧) ولا تضرب ابنك الذي تكره.
(٢٨) وإلا أمسك بك صراخ العالم الأسفل.
(٢٩) صراخ تلك المضطجعة، أم الإله ننازو، تلك المضطجعة.
(٣٠) التي لا يغطي كتفيها رداء،
(٣٢) لم يعطِ إنكيدو مشورة سيده سمعًا،
(٣٣) وضع عليه حُلة نظيفة،
(٣٤) فصرخ الأموات في وجهه كغريب.
(٣٥) وضمخ نفسه بالعطر الفاخر،
(٣٦) فتجمعوا لفوحانه حوله.
(٣٧) رمى رمحًا في العالم الأسفل،
(٣٨) فأحاط به من أصابهم رمحه.
(٣٩) حمل بيده هراوة (فتراقصت أمامه الأشباح)،
(٤٠) انتعل في قدميه صندلًا،
(٤١) وأحدث جلبة في العالم الأسفل.
(٤٢) قبَّل زوجته التي يحب،
(٤٣) وضرب زوجته التي يكره.
(٤٤) قبَّل ابنه الذي يحب،
(٤٥) وضرب ابنه الذي يكره.
(٤٦) فأمسك به صراخ العالم الأسفل،
(٤٧) صراخ تلك المضطجعة، أم الإله ننازو، تلك المضطجعة،
(٤٨) التي لا يغطي كتفيها رداء،
(٤٩) وصدرها، كطاسٍ حجري، لا يستره غطاء.
(٥٠) منعت عنه، من عالم الأموات، صعودًا.
العالم الأسفل أمسك به.
العالم الأسفل أمسك به.
(٥٣) لم يسقط في ساح معركة الرجال،
العالم الأسفل أمسك به.
(٥٤) جلجامش، السيد ابن ننسون، بكى خادمه إنكيدو.
(٥٥) مضى وحيدًا إلى إيكور، بيت إنليل:
(٥٦) «أيها الأب إنليل، لقد سقط بَكي إلى العالم الأسفل.
(٥٧) وسقط مَكي إلى العالم الأسفل.
(٥٨) بعثت إنكيدو ليرجعهما فأمسك به العالم الأسفل.
(٥٩) لم يمسك به نمتار، ولم تمسك به علة،
العالم الأسفل أمسك به.
(٦٠) لم يمسك به وكيل نرجال الذي لا يرحم،
العالم الأسفل أمسك به.
(٦١) لم يسقط في ساح معركة الرجال.
العالم الأسفل أمسك به.»
(٦٢) فلم يجبه إنليل بكلمة. فمضى وحيدًا.
إلى إيكيش-شيريجال بيت الإله سن:
(٦٣) «أيها الأب سن، لقد سقط بَكي إلى العالم الأسفل،
(٦٤) وسقط مَكي إلى العالم الأسفل.
(٦٥) بعثت إنكيدو ليرجعهما، فأمسك به العالم الأسفل.
(٦٦) لم يمسك به نمتار، ولم تمسك به علة،
العالم الأسفل أمسك به.
(٦٧) لم يمسك به وكيل نرجال الذي لا يرحم،
العالم الأسفل أمسك به.
(٦٨) لم يسقط في ساح معركة الرجال،
العالم الأسفل أمسك به.»
(٦٩) فلم يجبه سن بكلمة، فمضى وحيدًا.
إلى إيا-بسو، بيت الإله إيا:
(٧٠) «أيها الأب إيا، لقد سقط بَكي إلى العالم الأسفل،
(٧١) وسقط مَكي إلى العالم الأسفل.
(٧٢) بعثت إنكيدو ليرجعهما فأمسك به العالم الأسفل.
(٧٣) لم يمسك به نمتار، ولم تمسك به علة،
العالم الأسفل أمسك به.
(٧٤) لم يمسك به وكيل نرجال الذي لا يرحم،
العالم الأسفل أمسك به.
(٧٥) لم يسقط في ساح معركة الرجال،
العالم الأسفل أمسك به.»
(٧٦) فلما سمع الأب إيا هذا،
(٧٧) توجه بالقول إلى نرجال البطل المحارب:
(٧٨) نرجال أيها البطل المحارب، يا بن بيليت إيلي.
(٧٩) افتح الآن ثقبًا في العالم الأسفل،
(٨٠) تتسلل منه روح إنكيدو من العالم الأسفل،
(٨١) فيشرح لأخيه مسالك العالم الأسفل.»
(٨٢) امتثل البطل المحارب نرجال لطلب إيا.
(٨٣) وما لبث أن فتح ثقبًا في العالم الأسفل.
(٨٤) تسللت عبره روح إنكيدو كالنسيم من العالم الأسفل.
(٨٥) تعانقا وقبَّل كل منهما الآخر،
(٨٦) ثم أخذا يتحدثان ويتحاوران:
(٨٧) «أخبرني أيُّها الصديق، ألا أخبرني أيُّها الصديق،
(٨٨) حدثني عن مسالك العالم الذي شهدت.»
(٨٩) «لا أحب أن أخبرك أيُّها الصديق، لا أحب.
(٩٠) فإذا كان عليَّ أن أخبرك بمسالك العالم الذي شهدت،
(٩١) اجلس أولًا وابكِ.
(٩٢) «سأجلس وأبكي.»
(٩٣) «إن جسمي الذي عانقته وقلبك مبتهج،
(٩٤) تنهشه الحشرات كخرقة بالية.
(٩٥) إن جسمي الذي عانقته وقلبك مبتهج،
(٩٧) فصرخ: يا ويلتاه وانكب فوق التراب.
(٩٨) صرخ جلجامش: يا ويلتاه وانكبَّ فوق التراب.
(٩٩) «هل رأيت الذي لم ينجب أولادًا؟»
(١٠٠) (سطر مشوه.)
(١٠١) (سطر مشوه.)
(١٠٢) «هل رأيت الذي أنجب ولدًا واحدًا؟»
«نعم لقد رأيت.
(١٠٣) إنه ساجدٌ عند الجدار يبكي بحرقة.»
(١٠٤) «هل رأيت الذي أنجب ولدين؟»
«نعم لقد رأيت.
(١٠٥) إنه يسكن في بيت من الآجر ويأكل الخبز.»
(١٠٦) «هل رأيت الذي أنجب ثلاثة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت.
(١٠٧) إنه يشرب من ينابيع الأعماق.»
(١٠٨) هل رأيت الذي أنجب أربعة أولاد؟»
(١٠٩) «نعم لقد رأيت فقلبه مبتهج مثل …»
(١١٠) «هل رأيت الذي أنجب خمسة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت.
(١١١) إن يده مبسوطة كالكاتب الطيب،
(١١٢) … دون تأخير يحل في قصر.»
(١١٣) «هل رأيت الذي أنجب ستة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت.»
(١١٤) (سطر مشوه.)
(١١٥) «هل رأيت الذي أنجب سبعة أولاد؟»
(١١٦) (سطر مشوه.)
(١١٧) «هل رأيت الذي …؟»
«نعم لقد رأيت.
(١١٨) إنه كرايةٍ جميلة …»
(١١٩–١٤٣) (خمسة وعشرون سطرًا ناقصة بسبب كسر في اللوح.)
(١٤٤) «هل رأيت الذي سقط من الصارية؟»
«نعم لقد رأيت.
(١٤٥) إنه لتوه … عند مربط الحبال.»
(١٤٦) «هل رأيت الذي مات ميتة فجائية؟»
(١٤٧) «نعم لقد رأيت، إنه مضطجع على الأرائك يشرب الماء القراح.»
(١٤٨) «هل رأيت الذي قُتل في المعركة؟»
«نعم لقد رأيت.
(١٤٩) إن أمه وأباه يسندان رأسه، وزوجته تبكيه.»
(١٥٠) «هل رأيت الذي تُركت جثته في العراء؟»
(١٥١) «نعم لقد رأيت، إن روحه لا تجد مستقرًّا في العالم الأسفل.»
(١٥٢) «هل رأيت الذي لا يُعنى براحة روحه أحد؟»
«نعم لقد رأيت.
(١٥٣) إنه يأكل فتات الموائد وما يُرمى في الطريق.»
(١٥٤) (نهاية اللوح الثاني عشر من: هو الذي رأى كلَّ شيء، من سلسلة جلجامش التي تمت.)
•••
إن انشغال جلجامش بفكرة الموت في نصِّ «جلجامش وأرض الأحياء»، يتحول في نصِّ «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل» إلى مواجهة فعلية مع الموت من خلال فقدان البطل لتابعه الأمين الذي يخاطبه هذه المرة في أحد المواضع بيا أيُّها الصديق عندما يقول: «أخبرني أيُّها الصديق، ألا أخبرني أيُّها الصديق.» وهنا يمتزج حزن جلجامش على صديقه بإحساسه الخاص بموته ورغبته في معرفة المزيد عن العالم الأسفل وأحوال الموتى فيه. وبذلك يتعاون هذان العنصران على خلق عنصر أساسي من عناصر الملحمة الأكادية، وهو تحوُّل همِّ الموت الهاجع في نفسه إلى انتباهٍ مؤلم بعد أن يفارق إنكيدو الحياة بين يديه. نقرأ في النص الأكادي:
لم يفتح إنكيدو عينيه.
وضع جلجامش يده على قلبه، لم يتحسس له نبضًا.
فرمى عليه وشاحًا كوشاح العروس،
ورفع صوته بصراخ كزئيد الأسد.
وكلبوةٍ سُلبت أشبالها،
صار يروح ويجيء أمام السرير،
يقطع بيديه شَعر رأسه ويرميه.
يمزق عنه ثيابه النقية كأنها نجس.
(اللوح الثامن: العمود ٢ من النصِّ الأساسي.)
وخطاب جلجامش للإله إنليل الذي يتكرر بحرفيته أمام الإله سن وأخيرًا أمام الإله إيا، بخصوص غياب إنكيدو في العالم الأسفل، نجد صدًى له في خطاب جلجامش لفتاة الحان التي توقَّف عندها في الطريق إلى أوتنابشيتم، والذي يتكرر بحرفيته أمام أوتنابشتيم نفسه فيما بعد.
النصُّ السومري
النصُّ الأكادي
ولدينا أيضًا وصف إنكيدو لأحوال الموتى في العالم الأسفل في النصِّ السومري، الذي يجد صدًى له في حلم إنكيدو وهو على فراش الموت، حيث يرى نفسه وقد اقتيد من قبل نمتار إلى العالم الأسفل ورأى أحوال أهله، فيستيقظ مذعورًا ليقص على صديقه حلمه:
(أسطر منتخبة من اللوح السابع، العمود الرابع، من النصِّ الأساسي.)
وكما نلاحظ أعلاه، فإن وصف إنكيدو للعالم الأسفل في النص الأكادي مختلف تمامًا، من حيث المؤدى والغاية، عنه في النصِّ السومري. وهذا الاختلاف الواسع في كيفية معالجة العناصر المتشابهة في النصين تُظهر مدى الحرية التي استخدمها المحرر الأكادي في الاعتماد على النصوص السومرية والإفادة منها، وأسلوبه الخلاق في صهر العناصر والأفكار القديمة في قالب حديث خاص به.
وأخيرًا، فإن نصائح جلجامش لإنكيدو قبل هبوطه إلى العالم الأسفل قد هدفت إلى إفهامه مزية الحي على الميت، وتحذيره من أن يسلك سلوك الحي في عالم الأموات. فالنظافة والثياب الجميلة وانتعال الصندل والعطور هي من نِعم الحياة التي تثير حفيظة الموتى، وإحداث جلبة أثناء المشي ورمي الرمح في العالم الأسفل تذكرهم بالديناميكية التي يتمتع بها الأحياء، وتقبيل الزوجة المحبوبة والابن المحبوب، أو ضرب الزوجة المكروهة والابن المكروه، وهو عرض لتلك العواطف التي غدوا محرومين منها. وقد شدد النص الأكادي، بالمقابل، على نِعم الحياة هذه في خطاب فتاة الحان إلى جلجامش:
(اللوح الثالث من النص البابلي القديم.)
أما لماذا ألحَق محرر النصِّ الأساسي للملحمة أسطورة «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل» السومرية هذه بالملحمة البابلية، وجعل منها اللوح الثاني عشر والأخير، رغم أن أحداث الملحمة تنتهي في اللوح الحادي عشر؛ فمسألة خلافية لم يتفق الباحثون على تفسيرها.
(٥) موت جلجامش
في الملحمة الأكادية تنتهي الأحداث بعودة جلجامش إلى أوروك ومعه أورشنابي ملاح أوتنابشتيم، دون أية إشارة إلى موته بعد ذلك، أما في النص السومري المدعو من قبل الباحثين المحدثين ﺑ «موت جلجامش»، فنجد أن المنية توافي جلجامش في حينها، مع إشارة غامضة إلى مقاومته لها ورفضه القبول بمصير البشر. وهناك شخص آخر يقنعه بقبول النهاية المحتومة لكل الأحياء. وقد بقي من هذا النص الطويل قرابة الأربعين سطرًا فقط، وهي مشوهة وعلى درجة من الغموض لا تسمح بتقديم ترجمة كاملة وواضحة لها. في أكثر الأسطر وضوحًا نقرأ ما يأتي:
وبشكل عام فإننا لا نستطيع العثور على عناصر مشتركة بين نص موت جلجامش السومري والملحمة الأكادية. أما بخصوص قول النص السومري على لسان شخصية حاضرة عند فراش موت جلجامش، بأنه قد وُهب الكثير من الخصائص والمزايا التي تعليه فوق أقرانه جميعًا ولكنه لم يوهب نعمة الخلود، فلا يقودنا إلى الاستنتاج بأن جلجامش، في النصِّ السومري، كان يتوق إلى هذا النوع من الخلود الشخصي ويبحث عنه خلال حياته. وعلى الأغلب فإن التوق إلى الخلود هنا قد رافق هلع جلجامش من اقتراب ساعة المنية. ومع ذلك فإنه من الممكن جدًّا أن تكون هذه الفكرة بشكلها الجنيني الوارد هنا، هي الأساس الذي بنى عليه محررو النصِّ الأكادي فكرة بحث جلجامش عن الخلود.
(٦) جلجامش وأجا ملك كيش
على عكس بقية نصوص جلجامش التي استعرضناها حتى الآن والتي غلب عليها، إلى هذا الحد أو ذاك، الطابع الميثولوجي، فإن نص جلجامش وأجا هو نص ذو طابع تاريخي، يقص علينا حدثًا وقع أيام حكم جلجامش، ويعالجه بطريقة واقعية بسيطة ومباشرة. ولعل أهم ما في هذا النص هو إطلاعنا على جانب من جوانب التنظيم السياسي للمجتمعات السومرية، فنعرف لأول مرة عن وجود مجالس شعبية استشارية، يلجأ إليها ملوك دويلات المدن من أجل اتخاذ القرارات المصيرية. في مطلع هذا النص نجد الملك أجا حاكم مدينة كيش السومرية، يبعث برسله إلى جلجامش طالبًا خضوع أوروك أو تحمل تبعات حرب لن تكون في صالحها. بعد الاستماع إلى فحوى رسالة أجا، يدعو جلجامش مجلس شيوخ المدينة إلى الانعقاد ويبسط أمامهم المسألة طالبًا مشورتهم. ولكن مشورة مجلس الشيوخ جاءت مخيبة لجلجامش؛ لأنه صوت إلى جانب الرضوخ لأجا وعزف عن القتال. وهنا يتحول جلجامش إلى مجلس آخر هو مجلس الشباب، ليجد لديه حماسًا للقتال يعادل حماسه. ويعلن الشباب بصوت واحد:
وهكذا يرفض جلجامش تبعية أوروك إلى كيش، ويبدأ استعداداته للقتال، ولكن أجا يطبق على أوروك ويحكم حولها الحصار قبل أن يتمكن جلجامش من شن حرب دفاعية ضده، فيدير جلجامش الدفاع عن المدينة بحنكة وحكمة، ويفلح أخيرًا في إنهاء القتال لما فيه مصلحة الطرفين اللذين يعقدان بينهما صلحًا دائمًا.
لن نتوقف أكثر من ذلك عند هذا النص لعدم وجود أية صلة بينه وبين الملحمة الأكادية، وننتقل إلى نص الطوفان الذي انتقلت عناصره إلى الملحمة رغم عدم وجود ذكر لجلجامش فيه.
(٧) نصُّ الطوفان
تأتي قصة الطوفان السومرية في سياق نصٍّ طويل يبدأ، على ما يبدو، بقصة الخليقة ثم خلق الإنسان فظهور المدن السومرية الأولى. بداية النص تالفةٌ تمامًا، ومن المُرجح أنها تحكي عن قيام الآلهة بخلق الكون. وعندما يبدأ النص بالوضوح يحدثنا عن خلق الإنسان وظهور خمس مدن إلى الوجود هي إريدو وباديتيبيرا ولارك وشوروباك وسيبار، والتي يتم توزيعها على عدد من الملوك والأبطال. بعد ذلك يتشوه النص، وعندما تبدأ سطوره بالوضوح نجد أن الآلهة قد قررت لسبب غير واضح إفناء الجنس البشري بواسطة طوفان يغمر الأرض. ويبدو أن مقدمات هذا القرار موجودة في الحيز المشوه. ورغم أن بقية النص غير واضحة تمامًا إلا أن الأجزاء الباقية كافية لفهم خلاصة ما حدث بعد ذلك. فالإلهة إنانا لا تخرج عن إجماع الآلهة ولكنها تحزن للقرار وتقيم مناحة على البشر، وكذلك الإلهة ننتو، الأم الخالقة التي ساهمت على ما نعرف بخلق الجيل الأول من البشر. أما الإله إنكي المعروف بحبه لبني الإنسان فقد قرر على ما يبدو الخروج سرًّا على قرار الآلهة وإنقاذ بذرة الحياة على الأرض. فيظهر في الحلم لملك مدينة شوروباك الصالح المدعو زيوسودرا ويكشف له عن نية الآلهة:
يلي ذلك تشوه في النص، ومن المرجَّح أن الجزء المفقود من النص يصف تعليمات الإله إنكي حول بناء السفينة ومواصفاتها ونوعية ركابها، ثم قيام زيوسودرا بتنفيذ هذه التعليمات التي لا نستطيع معرفة فحواها. ولكن من المؤكد أن زيوسودرا قد حمل فيها بعض البشر من الذكور والإناث؛ لأن النص يصفه في النهاية بأنه حافظ بذرة الحياة. كما أن من المؤكد أيضًا أنه قد حمل في سفينته أنواعًا مختلفة من الحيوانات؛ لأن المقطع التالي الواضح يتحدث عن قيام زيوسودرا بنحر بعض الحيوانات على السفينة قربانًا للآلهة:
يقدم لنا هذا النصُّ السومري عددًا من العنصر المشتركة مع قصة الطوفان الواردة في اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش الأكادية، وهذه العناصر هي:
-
(١)
قرار إلهي بإفناء الحياة على الأرض.
-
(٢)
وقوف فريق من الآلهة عاطفيًّا إلى جانب البشر وإظهارهم الحزن (إنانا وننتو في النصِّ السومري، وعشتار وحدها في النص الأكادي).
-
(٣)
خروج إنكي (إيا) على إجماع الآلهة، واختياره واحدًا من البشر لمهمة إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، وإعطاؤه تعليمات بخصوص بناء سفينة ينجو بها مع أهله وأصناف من الحيوانات.
-
(٤)
نجاة السفنية وركابها وفرح الآلهة بإنقاذ بذرة الحياة وإسباغهم نعمة الخلود على بطل الطوفان.
النصُّ السومري
بابلي قديم، اللوح السادس
يتضح من هذه المقارنة كيف انتقلت أفكار وعناصر قصة الطوفان، عبر عملية تحريرية طويلة، من الصيغة السومرية إلى الصيغة الأكادية في العصر البابلي القديم، فالصيغة الأكادية الثانية في النص الأساسي. ومن الجدير بالذكر أن اسم بطل الطوفان الذي تحول من زيوسودرا في النص السومري إلى أتراحيسيس في النص البابلي القديم، قد عاد إلى الظهور مرة أخرى في النص الأخير واستعمل بشكل تبادلي مع الاسم أوتنابشتيم. وترى ذلك في مشهد حوار إنليل وإيا بعد انتهاء الطوفان وحضور الآلهة إلى السفينة الناجية، حيث يقول إيا:
(٧-١) تقييم
بشكل عام يمكن القول بأن محرر (أو محرري) النص الأكادي قد اعتمد عددًا من قصص جلجامش السومرية، سواء في نصوصها المعروفة لدينا أو في نصوص أخرى لم تصلنا. كما اعتمد قصصًا وأساطير أخرى أكادية، وصاغها جميعًا في سلسلة متماسكة ذات مؤدًّى ومعنًى جديد كل الجِدة، وبطريقة مبدعة خلَّاقة جعلت الأحداث والأفكار التي صبت في الملحمة من خارجها لا يربطها بمصادرها الأصلية إلا أوهى الروابط. يضاف إلى ذلك ما ساهم به المحررُ الأكاديُّ من إضافات خاصة به لا علاقة لها بمصادره القديمة. وهذه الإضافات التي ينفرد بها النص الأكادي هي التي أعطت الملحمة لحمتها وتماسكها، وأدت إلى صياغة رسالتها الفلسفية. ولعل من أهم إضافات المحرر الأكادي تلك السلسلة من الأحداث التي قادت إلى قيام الصداقة بين جلجامش وإنكيدو. أما واقعة موت إنكيدو التي كانت في النصِّ السومري مدخلًا لإعطاء جلجامش معلومات عن أحوال الموتى في العالم الأسفل، فقد جعل منها المحرر الأكادي ذروة التطور الدرامي في قصته، ونقطة الانعطاف في حياة جلجامش، الذي هجر الملك والسلطان، وابتدأ رحلة بحثه الروحي الطويل. كما أن هذه الرحلة وما جرى له خلالها انتهاءً بلقائه بأوتنابشتيم ثم عودته إلى أوروك وقد تغير تمامًا، هي ابتكار خاص بالملحمة الأكادية.
إن الملحمة الأكادية هي عمل أدبي مبدع وخلَّاق ينطوي على حكمة أصيلة وغير مستعارة. كما أن الجديد الذي قدمته، سواء في الشكل أو المضمون، يفوق كلَّ ما تدين به لمصادرها القديمة. وسننتقل فيما يأتي إلى استجلاء الملحمة في نَصِّها الأقدم، والذي يعود إلى العصر البابلي القديم (٢٠٠٠–١٦٠٠ق.م.) ثم نتابع التطورات التي طرأت على النص إلى أن استقر تمامًا خلال الألف الأول قبل الميلاد.