الملحمة الأكادية
• النص البابلي القديم.
• النص البابلي الوسيط وترجماته.
• النص البابلي المتأخر/الأساسي
***
(١) النص البابلي القديم
إن العمل التحريري الخلاق الذي قاد إلى إنتاج هذا النص المتكامل، بحبكته الأدبية وأسلوبه المبدع، وطريقته في جمع العناصر المتفرقة القديمة إلى بعضها، والإضافة عليها وتوجيهها لخدمة أفكار ومضامين جديدة، يستحق منا أن نطلق عليه صفة التأليف الأدبي لا صفة الجمع أو التحرير. مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية وجود مرحلة وسيطة من الجمع والتحرير لم تصلنا شواهدها، قد فصلت بين النصوص المتفرقة والملحمة المتكاملة. وهنا، من الممكن جدًّا أن يكون المسئول عن ذلك عدد من الكتَّاب الأكاديين الذين كانوا يدرسون السومرية كجزء من عملية تأهيلهم المهني، وأن يكون بعض هؤلاء الكتَّاب قد جمع عددًا من النصوص السومرية في وحدات أدبية أطول، ثم جاء مؤلف الملحمة فاستفاد من هذه العملية التحريرية الوسيطة. ولعل مما يرجح وجود هذه المرحلة التحريرية تلك الفوارق الواضحة في الصياغة بين النصِّ الأكادي والنصوص السومرية، الأمر الذي يدل على أن المؤلف الأكادي لم يكن يستعمل النصوص السومرية الأصلية بل نسخًا أكادية مُعدلةً عنها.
(٢) النصُّ البابلي الوسيط
هناك دلائل تشير إلى وجود نصٍّ أكادي وسيط لملحمة جلجامش، يقع بين النص البابلي القديم والنص البابلي المتأخر (الأساسي/نسخة نينوى)، ثم إنتاجه خلال العصر البابلي الوسيط (١٦٠٠–١٠٠٠ق.م.) فقد وصلتنا من هذه الفترة ترجمتان للملحمة الأكادية على عدد من كسرات الألواح. واحدة باللغة الحثية وأخرى باللغة الحورية، إضافة إلى ثلاث كسرات ألواح عليها أجزاء صغيرة من ثلاث نسخ أكادية للملحمة. وجميع هذه الترجمات والنسخ تحتوي على عناصر مشتركة مع النص البابلي القديم آنًا، ومع النص الأساسي المتأخر آنًا آخر، الأمر الذي يدل على نشوئها جميعًا عن نصٍّ أكادي وسيط لم يصلنا منه حتى الآن نسخة كاملة أو شبه كاملة الأجزاء.
(٢-١) الترجمة الحثية
يتضح انتماء الترجمة الحثية إلى النص البابلي الوسيط من ميلها إلى جانب النص البابلي القديم آنًا، وإلى جانب النص البابلي المتأخر آنًا آخر، وخصوصًا فيما يتصل بأسماء الشخصيات الرئيسية في الملحمة. فملاح أوتنابشتيم الذي يُدعى في النص البابلي القديم «سورسنابي»، وفتاة الحان التي تدعى «فتاة الحان» دون ذكر لاسمها، يدعيان في الترجمة الحثية ﺑ «أورشنابي» و«سيدوري» كما في النص المتأخر. أما حارس غابة الأرز الذي يُدعى في النصِّ السومري والنصِّ البابلي القديم حواوا، فقد دُعي في الترجمة الحثية بنفس الاسم دون النظر إلى تسميته في النص المتأخر بخمبابا. ورغم ميل الترجمة الحثية إلى الاختصار، فقد أضافت بعض العناصر التي لا وجود لها في النص القديم مثل عنصر خلق جلجامش الذي ورد في النص المتأخر. هذا، وتكشف لنا المقارنة الدقيقة لهذه النصوص الثلاثة عددًا آخر من النقاط التي تأرجح عندها النص الحثي بين النص القديم والنص المتأخر. وكله مما يؤكد انتماءه إلى نص وسيط.
(٢-٢) الترجمة الحورية
لا يوجد لدينا لوح واحد كامل من هذه الترجمة، فكل ما وصلنا منها عبارة عن كسرات ألواح صغيرة جدًّا لا تسمح بإجراء مقارنة مُرضية بين هذا النص وبقية النصوص، وبما أن الألواح هنا قد أعطيت عناوين مستقلة مثل «لوح حواوا» و«لوح جلجامش»، فقد مال بعض الباحثين إلى اعتبار هذه الألواح بمثابة ترجمات للقصص السابقة على صياغة الملحمة الأكادية المتكاملة، غير أن ظهور بعض العناصر الواضحة من الملحمة المتكاملة في هذه الترجمة، مثل ارتقاء إنكيدو من مرتبة الخادم أو التابع إلى مرتبة الصديق الأثير لجلجامش، يدل على أننا بالفعل أمام نصٍّ من نصوص الملحمة المتكاملة.
(٢-٣) ثلاث كسرات أكادية
لدينا ثلاث كسرات ألواح أكادية من الفترة الوسيطة، تم العثور على اثنتين منها خارج بلاد الرافدين، واحدة في مجدو بفلسطين والأخرى في العاصمة الحثية بوغاز كوي بالأناضول. أما الثالثة فقد وجدت في موقع مدينة أور بجنوب وادي الرافدين. تحتوي كسرة بوغاز كوي على جانب من رحلة غابة الأرز وعلى مشهد وحوارية رفض جلجامش لتقرب الإلهة عشتار، بينما تحتوي كسرة مجدو على جانب من مشهد موت إنكيدو، وتحتوي كسرة أور على جانب آخر من مشهد موت إنكيدو. وبما أننا لم نعثر حتى الآن في النص البابلي القديم على قصة ثور السماء وما اتصل بها من حوارية تقرُّب عشتار، وكذلك الأمر فيما يتعلق بمشهد موت إنكيدو، فإنه من المرجح أن تكون هذه الكسرات الثلاث نُسخًا عن النصِّ البابلي الوسيط، خصوصًا وأنها تُظهر اختلافات لا بأس بها مع النصِّ المتأخر. ففي كسرة أور التي تحتوي على ستين سطرًا من مشهد موت إنكيدو، لدينا ثمانية مواضع تُبدي اختلافات بيِّنة مع نظائرها في النصِّ المتأخر. وهذا يعني أن نص الملحمة في العصر البابلي الوسيط قد اقترب إلى حدٍّ كبير من الشكل الأخير المستقر دون أن يبلغه تمامًا.
إن هذه الترجمات والنسخ التي جاءتنا من العصر البابلي الوسيط، ربما تكون ترجمات ونسخًا عن نصٍّ بابلي وسيط لم يصل إلينا حتى الآن، كما نميل إلى الاعتقاد. ولكنها قد تكون في حدِّ ذاتها مراحل مر بها النص البابلي القديم في مسيرة تطوره الأدبي الطويل قبل أن يستقرَّ نهائيًّا في شكله المتأخر الأساسي.
(٣) النص المتأخر/الأساسي
خلال الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد استقر الشكل النصي والأدبي لملحمة جلجامش، فيما ندعوه بالنص المتأخر (أو الأساسي) الذي بقيت نُسخه المتعددة متطابقة إلى حدٍّ كبير طيلة ألف عام (حتى نهاية الألف الأول قبل الميلاد). وقد تم اكتشاف أكمل هذه النسخ بين أكوام الألواح المخزونة في مكتبة آشور بانيبال بمدينة نينوى، إضافة إلى كسر ألواح أخرى ينتمي معظمها إلى اللوح الحادي عشر، وجدت في العديد من المواقع الآشورية، مثل موقع مدينة آشور وموقع مدينة نمرود ومواقع رافدية أخرى. ويقدر الاختصاصيون عدد النسخ التي ترجع إليها هذه الكسرات بعشرٍ على أقل تقدير، وتتراوح أزمنتُها بين القرن التاسع والقرن الثاني قبل الميلاد. وتظهر لنا مقارنة هذه النسخ مع بعضها مدى الاستقرار الذي حققته الملحمة في حبكتها وصياغتها النصِّية والأدبيَّة.
على العكس من مؤلف النص البابلي القديم الذي قام بصياغة حرة للنصوص السومرية القديمة، وأضاف إليها وألَّف بينها في حبكة أدبية ونصية جديدة كل الجِدة في شكلها ومضمونها، فإن مؤلف النص المتأخر قد بقي أمينًا للنص القديم وأشكاله الوسيطة، رغم كل الإضافات والتجديدات النصية والأدبية، الأمر الذي يدعونا إلى اعتبار النص المتأخر بمثابة نسخة مُعدلة ومُنقحة عن النصوص السابقة. وتعزو التقاليد الرافدية هذا العمل التحريري المتأخر إلى كاهن إنشادٍ بابلي اسمه سن ليكي أونيني، الذي يرجح الباحثون أنه قد عاش في مدينة أوروك نحو نهايات العصر البابلي الوسيط.
كُتبت الملحمة في صيغتها المتأخرة بالأسلوب الشعري على غرار صيغتها القديمة، ووزعت على أحد عشر لوحًا فخاريًّا منقوشة على الوجهين (إضافة إلى اللوح الثاني عشر الملحق بها والذي يحتوي على أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل). يحتوي كل لوح من هذه الألواح على حدث أساسي من أحداث الملحمة، فهي أشبه ما تكون بالفصول أو الأبواب في تأليفاتنا الحديثة. وغالبًا ما تبدأ المشاهد في عمود لتنتهي في آخر. أما السطور، فيحتوي كلٌّ منها على بيت من الشعر مكونٍ من شطر واحد أو شطرين تبعًا لطوله، ويختلف فيه عدد التفعيلات وفقًا لذلك، ففي الأبيات المكونة من شطرين يتراوح عدد التفعيلات بين الأربع والست، في كل شطر تفعيلتان أو ثلاث، وفي الأبيات المكونة من شطر واحد يقتصر عدد التفعيلات على ثلاث. ورغم أن النص بمجمله أكادي الصنعة والأسلوب، إلا أن الكاتب قد حافظ على بعض التقاليد الأدبية السومرية، مثل فخامة اللفظ وجزالته، والتكرار الذي يعطي المشاهد جوًّا طقوسيًّا لا يخفى. ولقد خدم هذا الشكل الفني بمجمله أهداف الكاتب على خير وجه، مما سوف يحس به القارئ لدى مطالعة النص.
تأتي الملحمة إلى نهايتها التامة والمنطقية في ختام اللوح الحادي عشر، حيث يرجع جلجامش إلى أوروك، وينتهي اللوح الأخير بما بدأ به اللوح الأول من وصف للمدينة ولأسوارها ومعبدها، الأمر الذي يشير إلى انتهاء القصة. وتعتبر هذه القفلة البارعة من قبل الكاتب، إحدى اللمسات الأدبية الخلاقة التي ميزت النص المتأخر وشدت أحداثه إلى بعضها، إضافة إلى أهميتها القصوى في إرشادنا إلى مغزى النص ومعناه مما سوف نتعرض له في حينه. أما اللوح الثاني عشر الذي يحتوي على ترجمة أكادية شبه حرفية للأسطورة السومرية «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل»، وفيه نرى إنكيدو حيًّا مرةً أخرى بعد أن كان موته بمثابة الذروة الدرامية في الحدث، فهو بمثابة ملحق للملحمة أتبعه الكاتب بها؛ توخيًا لغرض معين ولا شك.
لقد حار دارسو الملحمة في أمر هذا اللوح الثاني عشر، وقال بعضهم إن كاتب النص المتأخر لم يجعل منه جزءًا من الملحمة ولا ملحقًا بها، بل لقد أضافه النسَّاخ فيما بعد. ولكن الرأي الأقرب إلى الصواب هو أن الكاهن سن ليكي أونيني، الذي كان كاهن إنشاد في المعبد وقيِّمًا على التراتيل الطقسية، قد أراد للوح الثاني عشر أن يكون جزءًا تابعًا للملحمة، ليسبغ على نصه جوًّا طقسيًّا يعود بسامعه من احتدام الحدث الدنيوي إلى حالة دينية تأملية تساعد على التفكر في رسالة النص ومراميه البعيدة. خصوصًا وأن النص السومري بأسلوبه ومضمونه الذي يصف العالم الأسفل وأحوال الموتى فيه، هو أقرب إلى النصوص الأسطورية الطقسية منه إلى النصوص الأدبية. ومثل هذا التفسير قد يؤدي إلى القول بأن الملحمة بكاملها ربما كانت تُقرأ في مناسبات طقسية معينة ذات صلة بجلجامش الأسطوري الذي تحول إلى قاضٍ في عالم الموتى، مثلما تحول أوزوزيس في الميثولوجيا والمعتقدات المصرية.
إلى جانب اللوح الثاني عشر، فقد احتوى النص المتأخر على إضافتين رئيسيتين هما المقدمة المؤلفة من ستة وعشرين سطرًا، وقصة الطوفان الكاملة موضوعة على لسان بطل الطوفان أوتنابشتيم. وسوف أتوقف قليلًا عند هاتين الإضافتين المهمتين.
تلخص الأسطر الثمانية الأولى من المقدمة حصيلة جلجامش من رحلته الطويلة التي شرع بها بعد موت إنكيدو. فقد: «رأى جلجامش كل شيء إلى تخوم الدنيا» و«عرف كل شيء، وتضلع بكل شيء» و«رأى أسرارًا خافية وكشف أمورًا خبيثة» و«جاءنا بأخبار عن زمان ما قبل الطوفان»، ثم «نقش في لوح من الحجر كل أسفاره». ونلاحظ في هذا الجزء من المقدمة كيف أغفل المحرر الباعث الأساسي الذي حفَّز جلجامش على المضي في رحلته وهو البحث عن الخلود، وركز على الكنز الحقيقي الذي حصل عليه: كنز الحكمة والمعرفة. أما الأسطر من ٩ إلى ٢٦ فتشير إلى منجزات جلجامش قبل لقائه بإنكيدو وقبل شروعه في رحلة البحث عن الخلود. فهو: «الذي رفع الأسوار لأوروك المنيعة»، و«بنى معبد إيانا المقدس». والنص يدعونا هنا لأن نرتقي سور أوروك ونمشي عليه ونتفحص صنعة آجره؛ لنتأكد من عظمة هذا البنيان المتين، كما يدعونا إلى إمعان النظر في معبد إيانا، ونرى كيف يتوهج جداره الخارجي كالنحاس، ويقف جداره الداخلي شاهدًا على صنعة لا شبيه لها. ونلاحظ هنا أيضًا أن المحرر قد ركز على المنجزات الباقية التي تركها جلجامش وراءه، وأغفل كل أعماله البطولية الخارقة التي قام بها مع إنكيدو قبل موت الأخير، والتي تشكل محور أحداث القسم الأول من الملحمة. من ذلك نستنتج أن محرر النص المتأخر قد أراد لنا منذ البداية أن نقرأ الملحمة على ضوء نتائجها، وأراد تزويدنا بمفتاح يعيننا على فهم رسالتها ومعانيها، التي قد لا تبدو واضحة للقراءة الأولى.
أما قصة الطوفان الواردة في اللوح الحادي عشر من الملحمة على لسان أوتنابشتيم، فلا نستطيع تتبع أصولها في قصة الطوفان السومرية، بل في نصٍّ بابلي يعود إلى العصر البابلي القديم هو ملحمة أتراحيسيس. ورغم أن قصة الطوفان الأكادية لم تكن أصلًا من النصوص القديمة ذات الصلة بجلجامش، إلا أن محرر النص المتأخر قد أدمجها ببراعة في سياق الحدث. فجلجامش الذي قهر كل الصعاب في طريقه إلى أوتنابشتيم الذي أنعمت عليه الآلهة بالحياة الخالدة، وحطَّ على شاطئ تلك الجزيرة في أقصى أطراف الكون عبر بحار الموت، يأتي إلى أوتنابشتيم ويسأله عن الكيفية التي حصل بها على نعمة الخلود، عله ينالها بالطريقة نفسها، فيقول له أوتنابشتيم بأن ذلك محال؛ لأن الظروف التي قادت إلى حصوله على الخلود لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى. ويقص عليه قصة الطوفان الكبير التي انتهت باجتماع الآلهة وقرارهم بمكافأته على إنقاذه بذرة الحياة على الأرض، ثم يختم حديثه قائلًا: «والآن، من سيدعو مجلس الآلهة إلى الاجتماع من أجلك فتجد الحياة التي تبحث عنها؟»
رغم اعتماد محرر النص المتأخر على ملحمة أتراحيسيس في خطوطها العامة وتفاصيلها في ذلك الجزء المتعلق بالطوفان، إلا أن نصَّ الطوفان في جلجامش ليس ترجمةً للنص القديم (كما هو الحال في نص جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل الذي شغل اللوح الثاني عشر والأخير من ألواح السلسلة)، فلقد عمد المحرر هنا إلى استخدام كلماته وتعابيره الخاصة، كما قام بتطوير بعض المشاهد واختصار بعضها الآخر، إضافة إلى بروز أسلوب المحرر في هذا الجزء وذوقه الأدبي الخاص.
اعتمادًا على ما قدمناه في الفصلين السابقين، نستطيع الآن تلخيص المراحل التي مرت بها ملحمة جلجامش خلال ألف عام، قبل استقرارها شكلًا ومضمونًا خلال الألف الأول قبل الميلاد.
لدينا عدد من النصوص السومرية المتفرقة تتحدث عن جلجامش ملك أوروك، يعود زمن تدوينها إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، خلال فترة أسرة أور الثالثة (٢١٠٠–٢٠٠٠ق.م.) وهذه النصوص، على ما يبدو، لم تكن أجزاءً أو فصولًا في سلسلة أدبية متكاملة. وفي زمن ما من العصر البابلي القديم (٢٠٠٠–١٦٠٠ق.م.) قام كاتب بابلي بتأليف عمل متكامل اعتمادًا على الأفكار الرئيسية التي قدمتها النصوص السومرية، إضافة إلى عناصر وأفكار أخرى جاءت من خارج تلك النصوص. وبذلك ظهرت ملحمة جلجامش الأكادية لأول مرة، كعمل أدبي متميز ومستقلٍّ عن مصادره التي قام عليها. وقد دعا الأقدمون هذا النص بسلسلة جلجامش. وبما أن النقد النصي للملحمة الأكادية القديمة يُظهر استقلاليتها الأسلوبية والأدبية، وابتعادها عن الجُمل والكلمات والتعابير المستخدمة في النصوص السومرية، فإن من المرجح أن المؤلف الأكادي لم يكن يعتمد تلك النصوص مباشرةً، بل نسخًا أكادية عنها، أو أعمالًا تحريرية عمدت إلى جمع الأقاصيص القديمة في وحدات أدبية أكبر، يشتمل كلٌّ منها على أكثر من قصة.
أما المحررون اللاحقون في العصر البابلي الوسيط، فقد التزموا إلى حدٍّ كبير الخطوط العامة للحدث كما رسمها لهم كاتب النص القديم، ولم يمارسوا على النص تلك الحرية التي مارسها ذلك الكاتب على مادته السومرية، وذلك رغم قيامهم بإضافة مادة جديدة محدودة. وبعد أن قام محرر النص المتأخر بتقديم إضافاته الرئيسية الثلاث على النص، وعالج بعض الأحداث والأفكار بإسهاب أكبر، وربط مفاصل الملحمة بتقنيات أدبية من ابتكاره جعلتها أكثر وحدةً وتماسكًا، وصل النص إلى شكله المستقر الأخير، وذلك في زمن ما بين أواخر الألف الثاني وأوائل الألف الأول قبل الميلاد. وخلال الألف الأول قبل الميلاد لم تُبدِ نسخ هذا النص إلا تباينات طفيفة لا يُعتد بها. وبذلك غدا هذا النص بمثابة النص المعتمد الأساسي، وجاءتنا أكمل نسخة من مكتبة آشور بانيبال بنينوى. وهذه النسخة هي المتداولة اليوم في الأدبيات العالمية. وهي التي نقصدها عندما نتحدث عن ملحمة جلجامش.
(٣٢) اللوح الأول من «هو الذي رأى كل شيء.»
(٣٣) […] الذي يؤمن بالإله إنليل.
(٣٤) […] آشور.
والأمكنة المشوهة في السطرين ٣٣ و٣٤ أعلاه، تحتوي على اسم الناسخ ودعاء موجه لأحد الآلهة وللملك الذي تم النسخ في عهده، وذلك على غرار ما نعرفه من نصوص بابلية أخرى.