معنى الملحمة ورسالتها الفلسفية والأخلاقية
إذا اعتبرنا النتاج الفكري والأدبي مرآة لحركة المجتمع، فإن جلجامش هو أول فرد في التاريخ، ومطلع الألف الثاني قبل الميلاد هو الوقت الذي حدد تمايز الفرد عن الجماعة، وظهور الشخصيات التي تفعل في الجماعة وتؤثر في منحى تطورها بدل أن تكون انعكاسًا لحركتها. فقبل ملحمة جلجامش، لا نعثر في أدبيات الشرق الأدنى القديم (وهي أول أدبيات مدونة في التاريخ) على ملامح واضحة للفرد. فالنصوص، جلها، تتعامل مع الشخصيات الإلهية الطاغية التي صنعت الكون وخلقت الإنسان وبنت له مدنه وعلمته وأسست له تقاليده الحضارية، وهو في كل ذلك، الجانب السلبي المنفعل المتلقي. فإذا عثرنا على الفرد لم نستطع رسم ملامحه الواضحة أو نحدد سماته المستقلة، سواء عن حركة الجماعة أم عن إرادة الآلهة التي تمسك بخيوط مقاديره ومصائره. فجأة ينتصب جلجامش، كأول شخصية تعلن عن حضورها في استقلال عن الجماعة وعن آلهتها، معلنًا ابتداء عصر الإنسان الذي يرث الأرض، ويشق عباب الزمن الآتي كابن بار للإله، يطمح إلى الجلوس عن يمينه، لا كعبد مسلوب واقع في دارة الميلاد والموت المفرغة، شأن بقية الأحياء. إن اكتشاف حدود الكون السحيقة، اليوم، واكتناه أسرار الذرة وخفايا البيولوجيا الحية. والهبوط على سطح الكواكب، وما إلى ذلك من فتوح معرفية، هي تتمة للأوديسة الجلجامشية.
وجلجامش الفرد لم يؤسس لفردية فوضوية خارجة عن الكل، ساعية وراء أهدافها وغاياتها المستقلة والمتضاربة مع غايات الجماعة والبحث الإنساني المشترك، بل لقد جعل من نفسه النموذج الذي يمكن لأية شخصية في الجماعة أن تتشكل وفقه وتنسج على منواله، ليغدو المجتمع فريقًا من الأحرار لا حيوانًا بآلاف العيون.
وهو بتطوره الشخصي من الفردية الفوضوية إلى الفردية الجماعية المنظمة، ومن الاهتمام بالمصير الخاص إلى العناية بالمصير الإنساني، إنما يحدد المسار الذي يحرر الأفراد ويربطهم في آن معًا، في مسيرة الإنسانية الكبرى نحو معرفة الذات ومعرفة الكون وخلافة الله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. قرآن كريم.
ولسوف نتابع في هذه الدراسة مراحل تطور شخصية جلجامش، كما رأيناها، ونرفع الأستار تدريجيًّا عن المعنى الخبيء لملحمة جلجامش كما فهمناه. وأقول المعنى الخبيء؛ لأن التفسيرات التي طُرحت منذ مطلع هذا القرن، لم تلتقِ حول الرسالة الحقيقية التي أرادت الملحمة توصيلها، ولأننا بحثنا عن هذا المعنى المستتر خلف ظاهر النص.
(١) الطور الأول
(١-١) الفردية، والحرية المطلقة
كان جلجامش، الفرد الحر الوحيد في مجتمع من العبيد، كان ملكًا مطلق السلطان، أقوى الرجال جسدًا وأكثرهم ملاحة وذكاء، مفعمًا بالحيوية والنشاط الدائب لا تهدأ حركته ليل نهار. ولعل هذا التفوق الجسدي هو ما دعا إلى الاعتقاد بالجانب الإلهي في شخصيته، والعودة بنسبه إلى الإلهة ننسون.
لم يكن الملك الشاب يعرف ماذا يفعل بحريته المطلقة وتكوينه الخارق الذي كان سببًا في وحدته وعزلته عن بقية الناس. بحث عن جلائل الأعمال يرضي بها طاقته المتوثبة وجنانه القلق، فبنى سور أوروك أعجوبة عصره، وعمَّر وأشاد فلم يقنع ولم يرضَ. طغى وبغى، لا طغيان الأحمق ولا بغي الجاهل الفرِح بالسلطان، بل طغيان قدرة متفوقة لم تعرِف بعدُ سُبل التفريغ، وبغيُ ذكاء يلهج بالسؤال عن المعنى في كل ما حوله. كان فوق أخلاق الجماعة وشرعتها وقيمها، فلم يعرف ماذا يفعل بموقعه المتميز هذا. ضاجع نساء أوروك، وتسلط على شباب المدينة يسيرهم في الخدمة العسكرية القاسية وشتى أنواع الأعمال، يوقظهم كل صباح على قرع الطبول، فلم يهدأ له خاطر ولم يركن جنان.
وسلوك الرجل الحكيم، إن شذ، ما شذ عن طيش أو هوى، بل عن بحث وتساؤل ومحاولة فهم وكشف. ولعلنا واجدون في هذه المرحلة الأولى من تطور جلجامش، البذور الأولى لأهم التساؤلات التي توضحت في المراحل التالية: هل أنا حر وإلى أي مدى؟ ماذا أفعل بالحرية، وما هو موضوعها؟ ما معنى الحياة في هذا الزمان الضيق الذي يجري بنا نحو خاتمة سريعة؟
وازداد عزمًا على لقاء جلجامش، فتقوده المرأة إلى المدينة، فقد غدا الآن جاهزًا لدخول حاضرة الكون: أوروك. وفي تلك الأثناء، كان جلجامش يرى أحلامًا عصية المعنى عن شهاب ثاقب ينقض عليه من السماء، وفأس عجيبة مطروحة في أسواق أوروك، فسَّرَتها أمه ننسون بأنها بُشرى بحصوله على صديق، ند له، يأتي من أعماق البراري الوحشية.
لم يكن استبشار أهل أوروك بظهور إنكيدو ناجمًا عن توقعهم لصراع دائم بين الجبارين يصرف جلجامش عن مظالمه (كما تقول معظم التفسيرات)، بل عن توقعهم لتنافس عادل بين بطلين متفوقين في كل شيء، من شأنه تحييد طاقة جلجامش بطاقة معادلة لها.
بلغ احتفال الزواج المقدس ذروته بوصول جلجامش إلى بوابة المعبد. وهنا تقدم إليه إنكيدو وسد في وجهه الطريق، فالتحم الجباران في مصارعة عنيفة كانت الغلبة فيها لجلجامش الذي ما إن أوقع إنكيدو أرضًا وتمكن منه، حتى هدأت سورة غضبه وتركه ماضيًا في طريقه، غير أن إنكيدو ناداه بكلمات وقعت في نفسه حسنًا، وكانت فاتحة صداقة ومحبة دائمة بين الطرفين.
(٢) الطور الثاني
(٢-١) الالتزام
صحَّت توقعات أهل أوروك وتحققت أمانيهم. لقد غيَّرت صداقة إنكيدو جلجامش تغييرًا جذريًّا، ونمت بين الطرفين محبة عميقة غيَّرت مجرى حياتهما معًا وصارت مضرب المثل على مر العصور.
(٢-٢) الحلم الأول
(٢-٣) الحلم الثاني
وفي الواقع، فإنه رغم استبعادنا للعلاقة الجنسية بين الطرفين، فإن تفسيرنا سوف يعتمد على التشبيهات الجنسية الواضحة في الحلمين، فيؤكد عليها وينطلق منها.
لقد وصف الفيلسوف اليوناني أفلاطون هذين النوعين من الحب وفرَّق بينهما، عندما قال في محاورة المأدبة، بأن النوع الأول متعلق بأفروديت-بابنديموس، وهو لا يترك أي أثر إيجابي، سواء على المحب أم على المحبوب؛ لأنه متجه نحو الجمال الظاهري دون تعلق بموضوع له محدد. فلا عجب، إن اتجه الواقع تحت تأثيره إلى أكثر النساء أو الغلمان حماقة لما يملكونه من جمال خادع، والتنقل بينهم لا يبغي سوى الجماع العابر. أما النوع الثاني، فمتعلق بأفردويت-أورانيوس، وهو يدفع كلًّا من المحب والمحبوب إلى تطوير نفسه والارتقاء بفضائله من جهة، وإلى الاهتمام بفضائل الآخر وتطويره في أمور العقل والحكمة.
إن الأمثلة على هذا النوع من الحب الأفلاطوني بين رجلين عظيمين، ليست نادرة في تاريخ الحضارة البشرية، ولعل أروع مثال عليه، تلك الصداقة الشهيرة التي ربطت بين المتصوف الإسلامي المعروف جلال الدين الرومي، وهو واحد من الشخصيات الروحية العظمى في ثقافة الشرق، ومتصوف آخر اسمه شمس التبريزي. عندما التقى شمسًا، كان جلال الدين قد بلغ مكانة رفيعة في العالم الإسلامي، وطبقت شهرته الآفاق كقطب ديني وصوفي. أما شمس الدين فكان درويشًا جوالًا يتمتع بشخصية طاغية مهيمنة ذات كبرياء روحي عظيم، جعلته يبدو دومًا كالأسد الجسور والشمس المحرقة (على حد تعبير بعض من وصفه). ترك موطنه في تبريز وراح يتجول في بقاع العالم الإسلامي بحثًا عن شيخ مرشد، مسلطًا لسانه بالنقد اللاذع على كل من عاصره من أهل التصوف، إلى أن التقى بجلال الدين في موطنه الجديد قونية. كان اللقاء الأول الذي تم في أحد طرقات المدينة فاتحة صداقة خالدة بين الرجلين، حين استوقف شمس جواد جلال الدين وطرح عليه سؤالًا جريئًا يسبر به غوره، فأجابه عليه جلال الدين بجرأة ووضوح ومباشرة، فعرف شمس أنه قد وجد ضالته التي يبحث عنها. ثم سار الاثنان معًا إلى مكان اجتماعهما الأول الذي استمر ستة شهور كاملة، انقطع خلالها جلال الدين عن حلقة تلاميذه ومريديه وعن دروسه الدينية، وتفرغ للحوار مع شمس التبريزي.
ويحكي من قام على خدمتهما في تلك الأثناء أن الصديقين كانا في حديث دائم لم يلههما عنه طعام أو شراب أو حاجة من حاجات الدنيا، عاكفان على الحوار أطراف الليل وآناء النهار. وعندما انتهت عزلتهما، راح المتطرفون من تلاميذ جلال الدين يدسون الدسائس على شمس الدين ملقين عليه اللوم في إهمال شيخهم لالتزاماته الاجتماعية، الأمر الذي حدا بشمس الدين إلى ترك قونية بعد مدة والعودة إلى تجواله في الأقطار. ولكن جلال الدين أرسل خلفه الرسل تبحث عنه في كل مكان إلى أن عثروا عليه أخيرًا في دمشق التي حل فيها حديثًا وعادوا به إلى قونية.
كذلك كان شأن إنكيدو بالنسبة إلى جلجامش ودوره في حياته.
وهنا تبدأ مسيرة الرجلين الكبرى لتحقيق الإنجازات الباهرة برعاية إله الشمس شمش، رب العقل والصحو والقيم الذكَرية المتعلقة بالفتح والإنجاز والسيطرة والتسامي على الطبيعة، في مقابل القيم الأمومية التي تمثلها عشتار ربة الطبيعة، التي تدعو إلى كل ما هو غريزي منسجم مع حركة الطبيعة، لا سامٍ عليها ولا متنكر لها. لقد دُعيت سيدة الطبيعة، في كل ثقافات العالم القديم بالأم الكبرى للكون. وفي الثقافات التي لم تحفل بها على مستوى الفكر الشرعي السائد، كالثقافة العربية، فقد أدرك المتصوفون الإسقاطات الرمزية التي كانت الأم الكبرى محلًّا له. وهذا هو محيي الدين بن عربي يلخص في مقطع مبدع من فتوحاته المكية (ج٤/ ١٥٠ ) نظرة الإنسان إلى الطبيعة الأم المنفعلة في مقابل الأب الخالق الفاعل فيقول: «وليست إلا الطبيعة في هذه الدار فإنها محل الانفعال … لأنها للحق بمنزلة الأنثى للذكر، ففيها يظهر التكوين، أعني تكوين ما سوى الله. فللطبيعة القبول … فهي الأم العالية الكبرى للعالم.»
في مغامرتهما الأولى، يتقدم البطلان بأنظار الإله شمش نحو غابة الأرز البعيدة لقطع أشجارها وقتل حارسها (الكائن المخيف الذي يعينه لحمايتها الإله إنليل رب الغضب والعاصفة المدمرة) واقتحام مقام عشتار المقدس ومقر عرشها. وهذه أول سابقة في تاريخ البشر يضع فيها الإنسان إرادته في مقابل إرادة الآلهة، ويمتحن قوته تجاهها. لقد كان عبد خوفه من المجهول، يرى في كل ما حوله ظاهرة مقدسة تخفي وراءها قوى إلهية أو شيطانية طاغية، أما الآن ومع ابتداء الأوديسة الجلجامشية، فقد تم تحييد الطبيعة وإعطاؤها ماهية مادية منفعلة قابلة لاقتحام عقل الإنسان وفهمه وتحليله. لقد اكتشف العقل، وإلى الأبد، تميزه عن المادة وفاعليته فيها، وهو لن يرى بعد الآن فيما حوله سرًّا مستغلقًا، بل سرًّا مؤجلًا. فمنذ البدء، عصى آدم ربه في سبيل المعرفة المحرمة على بقية الأحياء، فوضع بذلك للبشرية هدفها الذي ستبقى ساعية إليه. وهو إذ تلقى غفران ربه بعد ذلك: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. قرآن كريم، إنما تلقى بركته للسير فيما اختطه لنفسه، وفيما خلقه الله له. وعندما هبط الابن من السماء فصار بشرًا، ثم صعد لاتخاذ مكانه عن يمين الأب، فقد أعلن عن الماهية الإلهية للإنسان، وكشف له عن مكانه المهيأ، بعد خلافته للأرض.
يغادر جلجامش أوروك بصحبة إنكيدو، بعد حصوله على بركة شيوخ المدينة ممن خرجوا لتوديعه. فجلجامش الآن لم يعد ذلك الحاكم الباطش الذي يرهبه الناس ويخشون بأسه، بل الحاكم العادل المحبوب الذي يحزن الشعب لغيابه ويدعو له بعودة سريعة سالمة. ويستغرق وصف رحلتهما اللوح الرابع من النص ومعظم اللوح الخامس، حيث تظهر كل عواطف البطلين الإنسانية، من إقدام وتردد، وشجاعة وخوف، ويقين وشك. وعندما يقتحمان البوابة المسحورة ويصلان أعماق الغابة يصطدمان بحارسها الذي استيقظ على صوت فأس جلجامش يقطع شجر الأرز، وتنشب بين الطرفين معركة سريعة يقوم في نهايتها البطلان بقطع رأس خمبابا وتقديمه قربانًا للآلهة.
ونحن في تاريخ البشرية كلها لا نعثر على موقف شبيه بهذا الموقف الذي يبلغ فيه الإنسان حدًّا من الثقة بنفسه، يتجاوز معه كل حدود فاصلة بين عالم البشر وعالم الآلهة. لقد جُرحت الإلهة أفروديت، بعد ذلك بألف عام عند أسوار طروادة، عندما لبست عدة الحرب ونزلت متنكرة لمساعدة جيش هيلين المخطوفة، ولكنها لم تنل من الإهانة والتمريغ بالتراب ما نالته عشتار على يد بشر فانٍ. فملحمة جلجامش تؤرخ لظهور الفرد في مسيرة الحضارة البشرية، وتكون الشخصية الإنسانية التي تؤمن بنفسها قدر إيمانها بالآلهة.
ومن ناحية أخرى، فإن موقف جلجامش وإنكيدو من الإلهة عشتار، قد سُجل في زمن بلغ فيه الصراع الديني بين الديانة الأمومية القديمة والديانة الذكرية الجديدة أوجَه. فملحمة جلجامش من أولها إلى آخرها، هي ملحمة الذكر الفاتح الذي يبني ويشيد واضعًا بصمته على الطبيعة، خارجًا من أحضانها إلى الأبد، بعد أن استسلم لها عشرات الألوف من السنين. وتشكل الملحمة، مع أسطورة التكوين البابلية (التي وضعت في نفس الوقت تقريبًا، عند منقلب الألف الثاني ق.م.) نقطة علام بارزة في ترسيخ القيم الذكرية للمجتمع البطريركي المتقدم على أنقاض المجتمع الأمومي. لقد دعا النص البابلي القديم معبد إيانا بمعبد آنو، رغم أن هذا المعبد كان مكرسًا للإلهة عشتار منذ ظهور مدينة أوروك، أما نص الملحمة الأخير فيدعوه بمعبد آنو وعشتار. وهذا التحول في التسمية يشير إلى حصول استقرارٍ في الصراع بعد أن تم إنزال الإلهة الأم إلى المرتبة الثانية، ولم تعد تشكل مصدر خوف وقلق للآلهة الذكور الذين استقروا على عروشهم دون منازع.
وفي هذا المجال، أود أن أقف وقفة قصيرة أمام مصرع ثور السماء على يد جلجامش، للنفاذ إلى البُعد الرمزي لهذا الحدث. فمن هو ثور السماء؟ ولماذا لا نجد لهذا الكائن الأسطوري ذكرًا خارج ملحمة جلجامش؟ لماذا أعلنت عشتار بأن قاتل الثور قد مرغها بالتراب؟ في اعتقادي، يستلهم كاتب الملحمة أسطورة قديمة جدًّا ترجع إلى عتبة التاريخ المكتوب. وهذه الأسطورة إن لم توضع كتابة فقد خلدتها أعمال الفن التشكيلي، وخصوصًا الأختام الأسطوانية منذ فجر التاريخ في سومر، حيث نجد مشهدًا متكررًا لصراع بين أسد وثور. وهذا المشهد ينطوي على بُعد أسطوري ورمزي عميق. فمنذ العصور الحجرية، كان الثور رمزًا للقمر، وموضع تقديس في الديانات القمرية التي عبدت الأم الكبرى؛ أول آلهة البشر وأقدمها. أما الأسد فقد كان على الدوام رمزًا شمسيًّا. يمثل قوى آلهة السماء وآلهة الشمس. وليس الصراع بينهما إلا صراعًا بين الآلهة الشمسية والآلهة القمرية، وهو ما تم خلال الحلقات الأخيرة من العصر الحجري الحديث، وانتهى في بدايات العصور التاريخية لصالح الديانات السماوية الشمسية، حيث تم دفع الديانات القمرية وآلهتها إلى المرتبة الثانية. وجلجامش في الملحمة، إنما يلعب دور إله الشمس نفسه في الصراع مع إلهة القمر، وقتاله لثور السماء ليس إلا صدى بعيدًا لصراع الشمس والقمر. ولعلنا واجدون في النص أكثر من إشارة تعقد صلة بين جلجامش ورموزها. فإضافة إلى تلك العروة الوثقى بين البطل والإله شمش، فإن جلجامش يرتدي في رحلته الطويلة جلد الأسد، وهو يسير في باطن عبر درب الشمس السفلى في فوهة المغرب ويخرج من فوهة المشرق.
غير أن رد فعل الآلهة قد جاء سريعًا، فتحركوا لإعادة التوازن بين عالم البشر وعالم الآلهة، عقدوا اجتماعًا وقرروا إنزال العقوبة بالبطلين اللذين وضعا القدم في الأرض الحرام. فإنكيدو يجب أن يموت، وجلجامش سيفجع بصديقه ويندبه ما تبقى من عمره، وسيبقى موت إنكيدو أمامه عبرة تذكره بشطره الإنساني دائمًا وأبدًا.
لم يصدق جلجامش موت إنكيدو، بقي إلى جانبه ستة أيام وسبع ليال، ولم يسلمه إلى الدفن حتى وقع الدود من أنفه. وهنا تنهار عوالم جلجامش القديمة برمتها، ويتحول الواقع إلى ركام مختلط الأشكال والألوان، ويبدأ رحلته الكبرى في البحث عن المستحيل.
(٣) المرحلة الثالثة
(٣-١) تفكك الواقع: البحث عن المستحيل
مرة أخرى يغادر جلجامش أوروك، ولكن وحيدًا شريدًا طويل الشعر يرتدي جلود الأسود التي يصطادها في الطريق. لم يخرج لوداعه شيوخ أوروك، ولم ترافقه إلى مشارف المدينة جوقات النصر، بل تسلل بهدوء وصمت تاركًا وراءه كل ما بنى وأشاد، في رحلة تبدو خارج الزمان والمكان الأرضيين. وهو إذ يغذ السير باحثًا عن أوتنابشتيم الحكيم، الذي نجا من الطوفان الشامل وأنقذ الحياة من الانقراض على سطح الأرض، فنال نعمة الخلود، إنما يعكس الزمن ويسير في اتجاه منقلب إلى الماضي، متنكرًا للواقع رافضًا له، في استجلاء لسر المستقبل، وبحثٍ عن معنى الحياة والموت. وبحثه عن معنى الحياة والموت هذا، لا يتخذ طابعًا عقليًّا منطقيًّا، بل طابعًا حلميًّا لنفس مفككة لا تجد في رفضها للواقع أفضل من البحث عن المستحيل.
فما معنى خلود الذِّكر، وأي شيء من جلائل الأعمال ونحن جثث لا حراك بها تطويها ظلمة النسيان، وتنشر فتاتها في كل اتجاه رياح الأزمان؟ هنا تنهار الأهداف التي وضعها جلجامش لحياته خلال رفقته القصيرة الحافلة لإنكيدو، وتبدو الحياة فارغة من أي معنى وهدف وغاية، فيسبح ضد تيار الزمن نحو البدايات، إلى أزمان ما قبل الطوفان.
وهنا يجب التفريق بين الدافع الحلمي الذي يسوق جلجامش في رحلته، والدافع الحقيقي الكامن. فجلجامش لم يكن باحثًا عن الخلود، حقيقة، كما تؤكد معظم التفسيرات والدراسات التي وضعت حتى الآن، بل كان باحثًا عن المعنى في الحياة، وعودته إلى أوروك في النهاية، لم تكن هزيمة للإنسان أمام هدف محكوم سلفًا بالهزيمة، بل انتصارًا لحياة وجدت المعنى فيها والغاية. لقد اتخذ البحث عن معنى الحياة، على المستوى الواقعي، شكل البحث عن الخلود على المستوى الحلمي. وفي كل مرحلة من مراحل رحلته كان جلجامش يتلقى درسًا في معنى الحياة.
تتميز رحلة جلجامش الثانية عن رحلته الأولى بلا واقعيتها وجوها الأسطوري. خلال رحلته الأولى إلى غابة الأرز كان يتحرك ضمن حيز وزمان أرضيين، فالمسافة محسوبة بدقة، يقطعها بمقياس الساعة المضاعفة التي تعادل بمقياسنا ١٠٫٨كم، والأمكنة التي يرتادها أمكنة حقيقية ومعروفة، والزمن يمر بالأيام والليالي والشهور. وأثناء ذلك، كان البطلان يضطرمان بالعواطف الإنسانية التي تختلج في نفس كل فرد، فنراهما مقدمين ومحجمين، هيابين ومتهورين، يحدوهما الأمل تارة وتعتورهما الشكوك تارة أخرى، أما في رحلته الثانية إلى أوتنابشتيم، فقد انقطع جلجامش عن الزمان والمكان الأرضيين، وعن العواطف البشرية المتلونة. فهو يتحرك في حيز غير محدد، ويرتاد مفازات لا وجود لها على خرائط ذلك العصر، دون أن يحكم حركته تدفق الزمن المعروف. والأشخاص الذين يقابلهم ليسوا ممن عهدناهم في مراحل الملحمة السابقة. فجلجامش يسير في اللامكان مدفوعًا بهاجس مسيطر واحد، حتى يصل جبل ماشو الذي تمتد أساساته إلى العالم الأسفل وتناطح ذراه حدود السماء. وهناك يقابل البشر العقارب، ثم يسير في درب الشمس السفلى قاطعًا الكون المعروف من مغرب الشمس إلى مشرقها، فيخرج إلى حدائق ثمارها من عقيق وأحجار كريمة، ثم يخرج منها ليجد نفسه عند حافة الأوقيانوس العظيم المحيط بالكون، وهناك يلتقي بالفتاة الغامضة سيدوري ساقية حان الآلهة، وبعدها بأورشنابي الملاح الذي يقطع معه مياه الموت وصولًا إلى الجزيرة التي تقع خارج المكان المعروف أو المُتصور، والتي يعيش فيها مع زوجته بطل أسطورة الطوفان الخالدة.
ألم تكن العودة إلى أوروك، والدخول مجددًا في الزمن الحار، أفضل من هذا الوجود الثقيل، والزمن المتطاول الذي لا يسعى إلى غاية؟
لقد ضلل حديث سيدوري المباشر، وصياغته الحسية القريبة المعاني، معظم المفسرين الحديثين ممن رأوا في الملحمة هزيمة واندحارًا، ودعوة إلى موقف نهليستي عدمي من الحياة. وفي الحقيقة، فإن ما تريد سيدوري قوله، هو أن هدف الحياة ومعناها قائم فيها، في الممكنات غير المحدودة التي تتيحها لنا، والتي نعمى عنها عندما يداهمنا رعب الموت فنسعى لإطالة حياة لا ندري ماذا نفعل بها. إن حديث سيدوري ليطرح سؤالًا جوهريًّا، يسأله نفسه، كل حالم بالخلود: هل استنفدت ممكنات الحياة قبل أن تطمح إلى الخلود؟ هل أغنيت حياتك وحياة الآخرين من حولك قبل أن تطمح في تمديدها. الموت حق ولكن الحياة حق أيضًا، ونحن قادرون على تفجير كل لحظة من لحظاتها وتفتيح أقصى ممكناتها. وإن الممكنات التي عددتها سيدوري ليست إلا أمثلة عن الممكن لا حصرًا له.
(٤) المرحلة الرابعة
(٤-١) إعادة تركيب الواقع
نلاحظ من خطاب جلجامش هذا، إلى أورشنابي، الذي يأتي في نهاية رحلته الحلمية، وفي نهاية الملحمة تقريبًا، كيف انتهى هاجس جلجامش المسيطر، وجريه المجنون وراء مصيره الفردي الخاص. فهو إذ يحمل النبتة السحرية معه إلى أوروك، سيجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم لتجديد شبابهم، وسيكون آخر من يأكل منها لا أولهم. وفي ذلك إشارة إلى التحول الجذري العميق الذي حققه جلجامش عبر الملحمة، من الموقف الفردي الخاص إلى الاهتمام بصالح المجموع؛ إذ لا قيمة للخير يصيب فردًا واحدًا إن لم نشرك به الآخرين. كما يتضح من مضمون هذا الخطاب، أن جري جلجامش وراء مصيره الخاص، عبر المرحلة الثالثة من تطوره، لم يكن إلا شكلًا ظاهريًّا لجريه الأعمق في سبيل حل معضلة وجودية تتعلق بالشرط الإنساني عمومًا.
وهكذا تنتهي الملحمة بما ابتدأت به من وصف لأسوار أوروك المنيعة التي بناها جلجامش، لا لإظهار الحلقة المفرغة التي سار بها جلجامش، وعبثية رحلته الكبرى (كما تقول معظم التفسيرات)، بل لتوكيد فكرة هي في البؤرة من تفسيرنا: فجلجامش قد غادر واقعًا غير مفهوم وغير مقبول، ليعود إليه بحكمة تساعده على فهمه وقبوله وتجاوزه.
إن الأسطر الأولى من الملحمة، التي تتحدث عن مآثر جلجامش وأعماله، لا تتطرق إلى بحثه عن الخلود، بل تركز على الحكمة التي اكتسبها بكدحه الطويل المرير. وهي بذلك تستبق النهاية التي توصل إليها، وعودته سالمًا غانمًا راضيًا، يحمل كنزًا من المعرفة والحكمة التي هي هدف الإنسان في هذه الحياة ومصدر سعادته. لقد أخفق جلجامش في الحصول على الخلود، ولكنه توصل إلى معرفة معنى الحياة وغايتها. ذلك المعنى الذي يكمن في الحرية مع الآخرين ومن أجل الجميع، في الفعل الحر الخلاق، لا من أجل خلود الذكر الفردي، بل من أجل أهداف إنسانية شاملة، في الحضارة الإنسانية الساعية أبدًا لتنصيب الإنسان ملكًا يجلس على يمين العرش الإلهي. في استنفاذ حدود الممكن وإبقاء الأبواب مفتوحة على غير الممكن؛ لأن الممكن وغير الممكن نسبيان في كل أوانٍ وزمانٍ، وأخيرًا في الحكمة والمعرفة التي نطرق بها باب المستحيلات.
لم يقهر جلجامش الموت، بل وحتى لم يقهر خوفه من الموت؛ لأن الخوف من الموت شرط لحب الحياة واستنفاذ ممكناتها. لقد قبل الموت، وبقبوله للموت قد قبل الحياة.