تمهيد
يحتل أدب نجيب محفوظ في الثقافة العربية المعاصرة مكانًا مرموقًا، قبل أن يفوز بجائزة نوبل بأمد طويل. وكالعباقرة جميعًا لم يكتشف أهمية نجيب محفوظ في وقت مبكر سوى القليلين. وقد أتيح لكتابي «المنتمي» الذي صدر عام ١٩٦٤م أن يكون أول كتاب عن أدب نجيب محفوظ.
ولكن هذا الكاتب الكبير قد واصل الإبداع الأدبي إلى يومنا؛ ولذلك فكرت في شهر ديسمبر عام ١٩٨٧م أن أجري معه مواجهة نقدية، نفذتها بالفعل بين الشهر الأخير من ذلك العام وبداية ١٩٨٨م.
وفي هذه المواجهة حاولت أن أجرب شكلًا جديدًا في الدراسات النقدية، هو المزج بين الحوار مع الكاتب وبين الوثائق ذات الدلالة وبين آراء أهم نقاده. وكانت النتيجة مجموعة من الرؤى التي استكشفت عالم نجيب محفوظ الروائي استكشافًا متعدد الأطراف والأبعاد.
كان نجيب محفوظ قد أضاف إلى رصيده السابق أعمالًا وأفكارًا ومواقفَ تستحق المواجهة؛ لأن الرجل لم يكن في أي وقت مجرد كاتب جيد، بل كان، وما يزال، ضميرًا حيًّا من ضمائر بلادنا وعصرنا.
ولذلك لم تفاجَأ أكثر الدوائر الأدبية اهتمامًا بالثقافة العربية أن يفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب لعام ١٩٨٨م … وكان الإجماع العربي والدولي فور سماع النبأ، ورغم المفاجأة، أن محفوظ يستحق الجائزة منذ ربع قرن.
ولكن الجائزة في حالة نجيب محفوظ لا تخص العبقرية الأدبية للفرد وحده، وإنما تتجاوزه إلى وطنه وثقافة هذا الوطن … ذلك أن هذا الكاتب الكبير ليس صاحب مغامرة جمالية فذَّة فحسب، وإنما هو في أدبه التجسيد الأوفى لمصر تراثًا وحضارة وحياة. وأيًّا كانت المرحلة، أو المراحل التاريخية، التي تناولها إبداعه بالتعبير، فإن «روح مصر» ظلت دائمًا جوهر موهبته الاستثنائية.
ومن هنا فجائزة نوبل لنجيب محفوظ هي في الوقت نفسه جائزة لمصر وثقافتها.
وليس من شك في أن كل كاتب عظيم يعبر عن وطنه وحضارته، ولكن جائزة نوبل التي مُنحت خلال ٨٧ عامًا لأغلبية ساحقة من كتَّاب الغرب الأوروبي والأمريكي، كانت قد بلغت حد التخمة في الاعتراف بالحضارة الغربية. وأصبح من قبيل التكرار أن تقترن الجائزة بالقيم الغربية للثقافة؛ ولذلك كان التركيز على «الفرد» وعبقريته الخاصة؛ حتى يمكن التمييز بين كاتب وآخر.
أما في حالة نجيب محفوظ، فالأمر يختلف تمامًا؛ فهو يكتب في لغة وعن حضارة مغايرتَين. وهو بأعماله الخمسة والأربعين يبعث إلى الوجود الفني بالأركان الأساسية لحضارة مصر العربية وثقافتها. إنه على صعيد الخامة الأولية للكتابة، يؤرخ لمصر الحديثة والمعاصرة تأريخًا عقليًّا ووجدانيًّا واجتماعيًّا؛ من خلال الشرائح والفئات والقوى والمشاعر والأفكار والهواجس والأحداث والهياكل والبنى التي تشكِّل حياة المصريين في زماننا. وهو على صعيد الإطار الثقافي ينهَل من مَعين التراث اللغوي والخيالي والفكري، القديم والحديث، في بلادنا.
وبسبب ذلك كله، فإن نجيب محفوظ هو أكبر من يدل على مصر روحًا وضميرًا. والروح لا يقتصر مجازها على عصر دون آخر، فهو ابن مصر القديمة ومصر القبطية ومصر الإسلامية ومصر العربية الحديثة. والضمير لا يقتصر على زاوية دون أخرى من زوايا النفس والمجتمع؛ لأنه الضمير الحضاري للوطن والأمة.
وهكذا، فالجائزة ليست اعترافًا بأدب كاتب كبير فقط، وإنما هي، قبل ذلك وبعده، اعتراف ﺑ «الدور» الذي يرادف اسم مصر. وهو الدور الذي يتكامل في أدب نجيب محفوظ بالرؤية الإنسانية العميقة، فمن أركان مصر وثقافتها ذلك التفاعل الخصب والخلاق مع الحضارات الأخرى. وأدب محفوظ يجسِّم هذا البعد الثالث — بعد روح مصر وضميرها — وهو الرؤية الحضارية الإنسانية التي تشمل العالم.
بهذه المعاني كان، وما يزال، كاتبًا عالميًّا، بقدر عالمية مصر ذاتها دورًا وضميرًا.
ووفاءً لهذه المعاني، كان هذا الكتاب الذي أكببت على استكماله بمرافقة أدب نجيب محفوظ من حي الجمالية العتيق، حيث وُلد في «بيت القاضي»، إلى جائزة نوبل. وتبعًا لذلك، فقد قسمت الكتاب إلى ثلاثة محاور: الأول يتابع الرحلة من حيث انتهى «المنتمي»، والثاني مواجهة نقدية شاملة، والثالث ببلوجرافيا تنتهي بملحق عن ردود الفعل العالمية لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل.
ولا يسعُني في النهاية إلا أن أتقدم بوافر الشكر والتقدير إلى «الهيئة العامة للاستعلامات» في شخص رئيسها صاحب المبادرة ومعاونيه؛ الذين أمدُّوني بكل ما احتجت إليه من بيانات أو معلومات، كذلك أشكر «الجهاز الفني والطباعي»، الذي أنجز في وقت قياسيٍّ هذا الكتاب.
٢٦ من أكتوبر ١۹۸۸م