مرحلة الانتقال
١
في طليعة الأربعينيات كنا — الأستاذ أحمد أمين وأنا — قد اتفقنا على المشاركة في مشروع جديد وهو أن نُخرج قصة للأدب في أهم أقطار العالم وعلى تعاقب العصور، على غرار ما صنعناه في قصة الفلسفة، وكنت قد فرغت من الجزء الأول من هذه القصة الجديدة «قصة الأدب في العالم» سنة ١٩٤٢م، ثم فرغت من إعداد الجزء الثاني — مخطوطًا — وتركته بين يدي الأستاذ أحمد أمين قُبَيْل سفري إلى إنجلترا في سبتمبر من سنة ١٩٤٤م. ولم يكن ما تركته قُبَيْل سفري هو مخطوط الجزء الثاني من قصة الأدب فقط، بل تركت كذلك مخطوطًا آخر لكتاب «فنون الأدب»؛ وهو تعريب لكتاب إنجليزي من تأليف ﻫ. ب. تشارلتن. وأقصد بالتعريب هنا أن عملي في هذا الكتاب لم يكن «ترجمةً» تُساير الأصل كلمة كلمة، بل كان عرضًا لمادته، حتى إنني لم أتقيَّد بالأمثلة التي أوردها المؤلف في سياق كتابه؛ لأن تلك الأمثلة لا تصلُح شواهد على ما سبق لتوضيحه إلا إذا بقيت في لغتها الأصلية؛ ولذلك حاولت أن أستبدل بها شواهد من الأدب العربي لتكمل الفائدة.
لم يكن قد بقي على سفري إلا أسابيع لا أظنها تزيد على الثلاثة عندما أردت أن أضطلع بتعريف «فنون الأدب»، ولم تطمئن نفسي للتخلي عن أداء ذلك الواجب الأدبي؛ لأن الكتاب لم يكن وحدة مستقلة بذاتها، بل كان حلقة في سلسلة خططت لجنة التأليف والترجمة والنشر لإخراجها تحت عنوان «سلسلة الفكر الحديث»؛ فلو تخليت عن نصيبي في المشروع لبقيت الحلقة الخاصة به خالية، فواصلت نهاري بليلي في الأسابيع الثلاثة الباقية حتى فرغت من الكتاب في آخر لحظة متاحة، ولم أجد نصف الساعة الذي أكتب فيه مقدمة تشرح لقارئ الكتاب منهجي في العمل، فلما كنت في طريقي إلى إنجلترا أعلنت إدارة الباخرة التي كنت على متنها — وكانت الحرب العالمية الثانية ما زالت ناشبة — أنها على استعداد لأخذ الرسائل التي يريد المسافرون أن يبعثوا بها إلى ذويهم؛ لتُطْبَعَ على أفلام صغيرة (ميكروفيلم) ثم تُرْسَل ليعاد إخراجها على الورق ثم تسليمها لأصحابها، فكتبت رسالتين: إحداهما خطاب إلى أسرتي، وأما الأخرى فكانت مقدمة لكتاب «فنون الأدب» الذي تركته في لجنة التأليف بلا مقدمة.
و«فنون الأدب» كتاب صغير يشرح أصول النقد الأدبي للشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالة، شرحًا لم أصادف في كل ما قرأته في هذا الباب أوضح منه ولا أنفع منه؛ إذ يستحيل على قارئه أن يخرج من صفحاته إلا وقد عرف معرفة دقيقة ناصعة بطبيعة الأجناس الأدبية، ما يجوز لها وما لا يجوز، وبالتالي يتكون عنده ذوق نقدي لا أظنه إلا مقيمًا معه بعد ذلك ما بقي له اهتمام بالأدب والنقد.
٢
وصلت إلى لندن والتحقت بجامعتها، ولكن جامعة لندن هي بمثابة عدة جامعات في جامعة؛ فإذا كانت تلك الفروع تسمى «كليات»: الكلية الجامعة، وكلية الملك، وكلية بيركبك، وكلية بدفورد، إلخ، فما هي بكليات بالمعنى المألوف عندنا لهذه الكلمة، فكل واحدة من تلك الكليات هي جامعة بأسرها، وكان التحاقي أول الأمر بالكلية الجامعية في قسم الفلسفة.
كنت خلال الأعوام السابقة على ذلك، وأنا في مصر قد انتسبت إلى جامعة لندن، وأضفت تلك الدراسة إلى سائر أوجه نشاطي، واستطعت الحصول على إجازتين: إحداهما هي ما يؤهِّل الدارس للمضيِّ في الدراسة، والثانية إجازة وسطى يجتازها الدارس فيما بين الالتحاق والبكالوريوس. فلما أن شاء لي الله أن أسافر إلى هناك مبعوثًا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة سجلت من فوري لامتحان البكالوريوس، وشرحت لرئيس قسم الفلسفة موقفي — وكان هو الدكتور س. ف. كيلنج الذي عُرِفَ بكتابه المشهور عن ديكارت — فأجاب بأن عشرة أشهر (وهي المدة الباقية على موعد البكالوريوس) لا تكفيه هو استعدادًا لذلك الامتحان لو كان ليتقدم إليه؛ فالكتب المقرر دراستها من أعمال الفلاسفة أربعة عشر كتابًا، يدرسها الطالب دراسة تفصيلية ولا يترك فيها سطرًا واحدًا؛ لكنني أصررت على خطتي؛ فلم أكن يومئذٍ في سن الطلاب، بل كنت قد اقتربت من الأربعين، ولقد جاءتني هذه البعثة الدراسية وكأنما هي معجزة من السماء جاءت لتفتح أمامي طريقًا يئست من أن يُفْتَح، وها هي ذي فرصة سنحت، فهل أترك منها دقيقة واحدة لتمضي في حياة مسترخية؟!
وكان أن سجلت لأتقدم بعد عشرة أشهر إلى امتحان البكالوريوس الشرفية في الفلسفة؛ ومهما اتسع خيال القارئ ليتصور كم بذلت من جهد إبَّان تلك الشهور العشرة، كم ساعة كانت للعمل من ساعات اليوم وكم منها للنوم، فلن يستطيع أن يبلغ بخياله ما عشته إبَّان تلك المرحلة من عمل لا يعرف الراحة، فلكل دقيقة عندي قيمتها وحسابها، وقد تسأل: وفيمَ هذا كله؟ وأجيب: قد لا يكون لهذا كله داعٍ عند الطالب الذي يسير في حياته سيرة طبيعية مألوفة، أما عندي أنا يومئذٍ — أنا المحروم من اقتطاف الثمرة بعد كل ما زرعت — فكان الأمر عندي أمر حياة وموت؛ فماذا لو مضت الأشهر العشرة ولم أحقق غايتي؟ ألا يجوز أن يئول أمري إلى عودة بغير ما جئت من أجله، فأعود مرة أخرى إلى السير في طريق مسدود؟
والحمد لله حمدًا لا ينقضي؛ فقد وفقني توفيقًا استطعت به أن أظفر بالبكالوريوس الشرفية في الفلسفة من الدرجة الأولى، وهي عندهم درجة لا يظفر بها إلا أقل من القليلين؛ ولذلك تجعلها جامعة لندن بمثابة ماجستير، ويصبح من حق صاحبها أن يسجل لإجازة الدكتوراه مباشرة، وهذا ما كان: طلبت من الجامعة تحويلي إلى كلية الملك؛ لغياب أستاذ الفلسفة في الكلية الجامعة التي كنت ملتحقًا بها، ومرة أخرى شرحت لأصحاب الأمر هناك كيف لا تسمح لي ظروفي بالإرجاء يومًا واحدًا، فوافقوا على التحويل، ووُضِعْتُ تحت إشراف الدكتور ﻫ. ف. هالبت في موضوع «الجبر الذاتي»؛ ومعناه أن الإنسان لا تسيِّره إلا ذاته. وهو قول من السهل أن يُطْلَق على عواهنه، ولكنه ليس بهذه السهولة كلها إذا أخضعه الباحث للمنهج الفلسفي الدقيق.
٣
لم تكن ظروف الحياة في إنجلترا يومئذٍ هي ما يعهده الناس في السِّلْم، بل كانت الحرب قد تسربت بآثارها حتى تغلغلت في كلِّ شيء، حتى الدراسة في الجامعات لم تكن ميسَّرة كل التيسير؛ فعدد كبير من أساتذتها مجنَّدون في القتال، وكان لا بدَّ من إحالة الطلاب إلى الموجود من الأساتذة الذين نُسِّقَ بينهم العمل تنسيقًا يجعل الطالب الواحد ينتقل بين مختلف الكليات؛ فقد تكون إحدى مواده الدراسية في الكلية الجامعة، والمادة الدراسية الأخرى في كلية الملك أو في كلية بدفورد؛ لأن أستاذ تلك المادة هناك ولم يَعُد موجودًا في الجامعة كلها سواه.
كانت الحياة اليومية نفسها عسيرة وشاقة، فكل ضروراتها من طعام وثياب مقنن ببطاقات تموينية، بحيث لا يستطيع الفرد أن ينال أكثر من نصيبه حتى لو كان في خزائنه مال قارون، وكان من الصعب أن تقضي حاجاتك التي تحتاج في قضائها إلى أيدٍ عاملة؛ فمثلًا: كانت ساعتي قد أصابها سوء في طريق السفر، ولما أردت إصلاحها لم يكن ميسورًا أن أجد محلًّا واحدًا فيه عامل يقوم بالإصلاح المطلوب؛ فقد أُغْلِقَت محالُّ الساعات إلا قليلًا جدًّا منها، وهذا القليل نفسه كاد يخلو من العمال؛ فالجميع هناك في ساحات القتال. ولما عثرت على مَنْ يُصلح لي ساعتي، قيل لي: عد إلينا بعد ستة أشهر. وحدث لي شيء كهذا عندما كُسِرَت نظارتي، وهكذا قُل في كثير جدًّا من ضرورات الحياة.
كنت قد سافرت إلى إنجلترا قبل ذلك في بعثة صيفية (سنة ١٩٣٦م)، فكنت على دراية بكثير من أوضاع الحياة فيها، فحدث في أول يوم وصلت فيه إلى لندن هذه المرة أن خرجت من الفندق بعد العشاء، وجعلت غايتي مكانًا معينًا ألِفْتُهُ في بعثتي الأولى، وأردت إلقاء نظرة إليه لأجدِّد العهد به، فلما نزلت إلى محطة «المترو» (القطار الذي يشق طريقه تحت سطح الأرض) ذُعرت لما رأيته على أرصفة المحطة؛ إذ رأيته أسرَّة مصفوفة على طول الرصيف ومن طابقين، والرجال والنساء والأطفال — ممن هُدِمَت منازلهم بقنابل العدو — يأوون إلى مخادعهم أو يتناولون طعام العشاء على صورة ينخلع لها القلب؛ لأنها — على الأقل — صورة لم تألفها عين ولا توقَّعها خيال، فعدت إلى الفندق مسرعًا في طرق تملأ السائر رعبًا بظلامها.
لا، لم تكن الحياة أول الأمر ميسَّرة ولا هينة، كانت طائرات الألمان تفاجئ الناس بضرب من القنابل يسمونه ف٢، لم يكن يُجْدِي معه صفارات الإنذار والركون إلى المخابئ؛ ففي أية لحظة من لحظات النهار أو الليل تُفاجأ بصوت القنبلة يدوِّي، فلا تدري أسقطت على المنزل المجاور لمنزلك أم سقطت على محطة القطار القريبة، وإذا سُمِعَ الدويُّ ونحن جلوس في قاعة المحاضرة، أو سُمِعَ وأنا في مطعم أو في دكان، رأيت كيف يكون رد الفعل لأمثال هذه الأهوال عند هؤلاء الناس الذين خلقهم الله ليتحدثوا همسًا وليعملوا صامتين؛ فقد كان الوجوم الذي يرتسم على الوجوه عند صوت القنبلة لا يوقف حركة المتحرك أو حديث المتحدث إلا بضع ثوان، ثم يستأنف كلٌّ ما كان في سبيله دون التعليق عما حدث بلفظة واحدة من الشفاه أو لحظة واحدة من العين، كأن شيئًا لم يحدث، وكأن جدران المبنى لم يرجَّها الدويُّ القوي الفظيع.
ولكنني حتى في تلك الحياة العسيرة الشاقة لم ألبث طويلًا حتى أذهلتني فروق شاسعة بين ما رأيتهم عليه وما عهدته في قومي؛ فالفرق شاسع شاسع — كما رأيته يومئذٍ — بين فكرتهم عن المساواة وفكرتنا عنها، فماذا أصنع سوى أن أكتب مقالات أسجِّل فيها انطباعاتي تلك، وأبعث بها لتُنْشَرَ في مجلة الثقافة في مصر؟ ولكن أي مقالات؟ هي مقالات من نوع فريد؛ فيها رمز، وفيها سخرية، وفيها أدب المقالة على نحو لم يألفه كثيرون من كُتَّابنا فضلًا عن القارئين، ثم فيها — فوق الرمز الساخر والشكل الأدبي — شُوَاظٌ من نارٍ تتأجج في ألفاظها. وكنت صادقًا في كل جملة مما كتبت به، وكانت مجموعة تلك المقالات هي التي أخرجتها فيما بعدُ (سنة ١٩٤٧م) في كتاب «جنة العبيط».
وكان هذا العنوان «جنة العبيط» هو نفسه عنوان المقالة الأولى في ترتيب الكتابة، وقصدت به أن حياتنا في مصر عندئذٍ كثيرًا ما توصف عندنا بين عامة المتكلمين وكأنها حياة في الجنة، مع أنها في حقيقتها — بالقياس إلى حياة الناس كما رأيتها عند الآخرين — لا تكون جنة إلا في رأي «العبيط». ولم أكن أريد بتلك المقارنة درجات الفقر والغنى، أو حتى درجات المعرفة والجهل، بقدر ما أردت «القيم» الخُلُقية وحقوق الإنسان في التعامل مع سائر مواطنيه.
بدأت المقالة قائلًا: «أما العبيط فهو أنا، وأما جنَّتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهبُّ فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أن الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أنَّ بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو؛ لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.»
وأخذت أرسم صورًا من حياتنا، هي في حقيقتها من أبشع الصور طمسًا لحقوق الإنسان، دون أن نرى فيها شيئًا يعاب، وكانت صورة الختام ما يأتي، مما كان يحدث في مجتمعنا بين مخدومة وخادمة:
«… أرادت زوجتي — في جنتي — أن تستخدم خادمة فسألتْها: اسمك ماذا؟
– بثينة يا سيدتي.
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم ومخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشعُّ منها الحرارة: ستكونين من اليوم زينب، أتفهمين؟
– حاضر، سيدتي.
بثينة — بالطبع — لماذا تكون منذ اليوم زينب … كان يأخذني الذهول عندما كنت أرى الخادمة في المنزل الذي سكنت فيه، تجلس على المقاعد نفسها التي يجلس عليها أفراد الأسرة، وقل ما شئت في دهشتي حين رأيت تلك الخادمة جالسة على المنضدة المجاورة للمنضدة التي جلستُ إليها ذات مساء لأتناول العشاء، فكذلك هي قد جلست هناك لعشائها … صور مستحيلة الحدوث في مصر كما تركتها في تلكم الأعوام، حيث مقعد الخادمة هو الأرض، وحيث الخادمة لا تعرف لنفسها مكانًا مما يرتاده «السادة».»
أعود فأكرر القول بأن ما أثار ثورتي يومئذٍ على قومي وأهلي ليس هو أن يكون أو لا يكون فارقٌ بين الناس في ضروب العمل وفي مقادير المال المكسوب، كلا؛ فذلك شيء لا مفر منه في أي بلد من بلاد الدنيا، بل الذي أثار ثورتي هو طريقة التعامل بين الإنسان والإنسان، حتى لقد خُيِّل إليَّ يومها أننا وإن أطلقنا باللسان كلمات المساواة والحرية وما إليها، فنحن إنما ندس في طوايا نفوسنا أخلاق النُّظُم التي تقسم الناس سادةً وعبيدًا، فأَعْطِ مَنْ شئت منا شيئًا من السلطان، ثم انظر يومئذٍ كيف تكون صِلَاته مع مَنْ هم دونه سلطانًا، إنه إذا ما تحدَّث إلى أحدهم جعل لذلك نبرةً خاصة، ونظرة خاصة بعينيه، ووضعًا خاصًّا يتوتر فيه جسده كله، حتى يجيء كل شيء فيه صارخًا بأنه من طينة أخرى غير طينة الذي يتحدث إليه … وقارنت ذلك كله بما رأيته هناك؛ حين رأيت بعيني مدير الجامعة وهو يتحدث إلى أحد العاملين في رعاية غرفته، وحين رأيت صفًّا من الرجال ساعة العصر قد اصطف ليأخذ كلٌّ دوره في قدح الشاي، فرأيت وزيرًا (هو نويل بيكر) قد وقف وأمامه أحد السعاة، فلا هو أخذه ضجرٌ من ذلك، ولا الساعي فزِعَ إذ وجد نفسه أمام الوزير.
كان بين المقالات الملتهبة التي كتبتها انعكاسًا للثورة الداخلية التي تأجج أُوارها في نفسي كلما رأيت وقارنت سلوكًا بسلوك وأخلاقًا بأخلاق، مقالة عنوانها «تجويع النَّمِر» أدرتها على تصوُّر تخيَّلت به أننا إذا حلَّلنا أي فرد منا وجدنا في جوفه نَمِرًا رابضًا ينتظر فرصة الظهور، فإذا ما صعد صاعد إلى مقاعد الرئاسة، لم يلبث ذلك النمر أن يظهر بكل أنيابه ومخالبه، وما طعامه الذي يتغذى به إلا ذلة الآخرين. ورأيت أن قوانين الدنيا بأسْرها لا تُفلح في تعديل العوج؛ وإنما العلاج السريع يكفله لنا شيء واحد؛ هو تجويع ذلك النمر، بأن يبعد الآخرون عن نطاق سلطانه، فينعدم الغذاء، فيذوى ويموت.
لكن ما حيلتنا والأمر في بلدنا كان أعجب من العجب! وهو أن مَنْ تنشب فيه مخالب النمر وأنيابه ترتسم على وجهه ابتسامة الرضا. وفي هذه الابتسامة البلهاء كتبت مقالة عنوانها «الكبش الجريح» أصوِّر فيها المعنى نفسه في صورة أخرى، هي صورة الكبش تحزُّ رقبته سكين الجزار فترتسم على شفتيه ما يشبه ابتسامة القبول.
هكذا وعلى هذا النحو أخذت خلال الأعوام التي أقمتها في إنجلترا في الأربعينيات أنظر إلى الأفراد كيف يتعاملون، وكيف تُصان لكلِّ فرد كرامته، دون أن يكون لاختلاف أنواع العمل أدنى الأثر في أن يتعالى أحد على أحد، ثم أقارن ذلك بما أعهده في مجتمعنا نحن، حيث المأساة الحقيقية ليست في أن «يتنمَّر» صاحب السلطان لمن لا سلطان له، بل المأساة هي في طمأنينة الرضا التي يتقبل بها القتيل أنياب القاتل ومخالبه، فماذا يصنع الكاتب إزاء ذلك إلا أن يستميت بقلمه حتى يتغير سُلَّم القيم، ولو بعض التغير، فلا يظل أعلى تلك القيم في واقع حياتنا هو أعلاها (وأعلاها عندنا هو السلطة)، وأحسب أنني لو أنصفت نفسي ولو أنصفني النقد الأدبي لقلت، ويقال ذلك النقد المنصف: إن من أبرز السمات في كتابتي — اتخذتْ تلك الكتابة صورة أدبية أم اتخذت صورة التحليل الفلسفي — إنما هو محاولة تعديل القيم في حياتنا؛ لأنها في وضعها الراهن يستحيل ألا تؤدي إلى ما يشبه القسمة إلى سادة وعبيد.
٤
ولم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في حياتنا، بحيث تسمح للمستبد أن يستبد، وتجيز لذليل النفس أن يُذل، مما يذكرني ببيت من الشعر للعقاد يقول فيه:
أقول: إنه لم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في بلادنا، إلا ثورتي على حياتنا العلمية السائدة مضمونًا ومنهجًا؛ فقد كانت تلك الحياة العلمية حتى ذلك الحين — أعني أعوام الأربعينيات — منقسمة قسمين: أحدهما يحاول أن يتشبه بالحياة العلمية الحديثة، لكنه يكتفي من ذلك بالشكل الخارجي دون الجوهر الذي هو منهج النظر والفكر؛ لأنه إذا لم تتغير طريقة النظر، فقد يحدث — وهو بالفعل كثيرًا جدًّا ما يحدث — أن يكون العالم عالمًا بما «يحفظه» من مادة تخصصه، وأما فيما هو خارج حدود التخصص من مواقف الحياة وشئونها، فيظل على النظرة نفسها التي ينظر بها مَنْ لم يتعلم أحرف الهجاء، والقسم الثاني من حياتنا العلمية عندئذٍ وقف وقفة رافضة للتحديث مضمونًا ومنهجًا، إنه لم يحاول حتى أن يتظاهر بالشكل العلمي الحديث في مواد البحث ومنهج البحث، بل تمسَّك بالقديم مظهرًا ومَخْبَرًا.
وليأذن لي القارئ أن أعيد هنا مقالة كتبتها في تلك المرحلة، ساخرًا مُرَّ السخرية من إصرارنا على ضروب من العبث الذي يتخذ عند أصحابه اسم «العلم» وهو من العلم الصحيح بعيد بُعْد الأرض عن السماء، كان ذلك العبث اللفظي ما زال قائمًا عندنا حين كان الغرب قد وصل إلى الذرَّة وتحطيمها واستخراج قواها الجبارة في قنابل وغير قنابل.
وهاك المقالة الساخرة، الضاحكة الباكية، التي أرسلتها من لندن لتُنْشَرَ في مجلة الثقافة، ونشرتها المجلة، فلم أسمع لها صدًى، فهل بلغت يومئذٍ أفهام قراءها؟ كان عنوانها «بيضة الفيل» وهذا نصها:
«قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بيضتها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء، يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء، واستدل على صحة قوله بدليل القياس ودليل من اللغة؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونًا آخر غير البياض، فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك في حجمه وقوَّته ونابهِ، وهذه صفات كلها لا تستلزم في البيضة لونًا آخر غير البياض؛ فقد يكون الحيوان صغيرًا كالذبابة أو كبيرًا كالنعامة، قويًّا كالعُقَاب أو ضعيفًا كالحمامة، بنابٍ كالتمساح أو بغيره كالدجاجة، والبيضة هي هي في لونها، بيضاء لا تتغير؛ ومما يزيد في هذه الحجة وزنًا ورجحانًا أن الخلائق تجري على اطراد وتشابُه؛ فالكواكب متشابهة، والبحار متشابهة، والطير متشابه، والحيوان متشابه، فلو قيل — مثلًا: إن حيوانًا جديدًا سيُولَد بعد ألف عام، جاز لنا أن نحكم في ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين، وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بيضة الفيل لو باض.
أما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع عنه، ولا يُعْقَل أن يتفرع عن البياض خضرة أو زُرْقة؛ لأن الفرع شبيه دائمًا بأصله؛ ولذلك قيل: هذا الشبل من ذاك الأسد.
ثم استطرد «عمارة» فتساءل عن حجم بيضة الفيل، وأجاب بأنها تكون قدر بيضة النعامة عشرين مرة، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجمًا بهذا القدر كله، بل لأنه في قوَّته يوازي عشرين نعامة، والأساس في حجم البيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه، فتكبر بيضة الحيوان أو تصغر بمقدار ما هو قوي أو ضعيف، لا بمقدار ما هو صغير أو كبير، على خلاف الرأي الشائع بين الناس، وقد أيد «عمارة» رأيه هذا بأمثلة ساقها تدل على أن الحيوان ربما كان كبيرًا وباض بيضًا صغيرًا، أو كان صغيرًا وباض بيضًا كبيرًا.
ثم تساءل «عمارة» أيضًا: هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض؟ فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير؟ وأجاب بأنه ليس في نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب في طبيعته؛ فالسمك يخرج من البيض وليس له أجنحة، بل له زعانف تساعده على السبح ولا تساعده على الطيران، وبيض الفراش وبيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدود ولا يخرج منه ذوات الجناح، وإذن فقد يخرج من بيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح.
وأخيرًا تساءل «عمارة»: ما حكم الشرع في بيضة الفيل؟ أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة: إن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط حرام بشرط؛ فهي حلال إذا كانت لا تُكْسِب الإنسان الآكل صفة الافتراس، وهي حرام إذا خيف أن تُكسبه هذه الصفة، وإنما يكون الآكل بمنجًى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الإنسان.
بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بيضة الفيل وأجاب عنها، ولا عجب؛ فهو الفقيه العالم الذي سارت بفتاواه الركبان فيما تعذَّر حله على غيره من العلماء.
وتصدَّى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ ولذلك فبيضة الفيل لا بد أن تكون بيضاء اطرادًا مع القاعدة، إنه دليل لا يقوم على سند من الواقع؛ فليس صحيحًا أن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق، وأما دليل اللغة الذي ينبني على أن البيضة مشتقة من البياض؛ ولذلك وجب أن تكون بيضاء، فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آنٍ معًا؛ معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البيضة مشتقة من البياض، فليس هذا دليلًا على أن البيضة بيضاء لأنها بيضة، بل هو دليل على أنها بيضة لأنها بيضاء. ولتوضيح المعنى المراد، ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز؛ فالدقيق أصل والخبز فرع، فإن جاز لنا أن نقول: إنه خبز لأنه من دقيق، فلا يجوز أن نقول: إنه من دقيق لأنه خبز. والدليل مغلوط؛ لأننا حتى إن رتبنا مراحل الاستنتاج ترتيبًا صحيحًا، وقلنا: إن البيضة بيضة لأنها بيضاء كانت النتيجة خطأً؛ لأنه لا يكفي أن يكون الشيء أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة، وإلا لجاز لنا أن نقول: إن هذا الجدار بيضة لأنه أبيض، وهذا الدقيق بيضة لأنه أبيض، وهلم جرًّا.
وبعد أن فنَّد معسرة أقوال عمارة بسط رأيه في لون بيضة الفيل، فقال: إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان، والشذوذ في البيض أن يكون أسود؛ ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تكون بيضته سوداء؛ إذ لو باض بيضة بيضاء كنا بمثابة من يقول: إن الحيوان الشاذ تتفرع عنه نتيجة لا شذوذ فيها، وهو قول فيه تناقض بين الصدر والعجُز.
وكان بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب؛ فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال: إن معسرة — وهو شيخ المناطقة في زمانه — قد زل زلَّة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله؛ فبينا هو ينكر أن يكون للبيض لون خاص، ويزعم أن من البيض ما هو أزرق أو أرقط، تراه في الوقت نفسه يقول: إنه ما دام الفيل حيوانًا شاذًّا؛ واجب أن يكون بيضه شاذًّا في لونه كذلك، والشذوذ في البيض أن يكون أسود، فكيف يكون الشذوذ سوادًا إذا لم تكن القاعدة بياضًا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن نسأل هذا العالم المنطقي: أصحيح أن الشاذ لا يُنتج إلا شاذًّا؟ أيظن معسرة أنه ما دامت الحية لا تلد إلا الحية فالأعرج لا يلد إلا الأعرج، والأعمى لا يلد إلا الأعمى؟ فإن كان الأعرج ينسل من يمشي على قدميه، ولما نسل الأعمى من يبصر بعينيه، فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بيضة تجري مع الإلف والعادة؟
قال الشيخ: هكذا جرى النقاش بين العلماء …
وهنا زُلْزِلَت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: إنها يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية. قيل: فعجب الشيخ أنْ كان في الدنيا علم غير علمه.»
فإذا أمعن القارئ فيما ترمز إليه مقالة «بيضة الفيل» — وقد أثبتناها هنا كاملة لنقدم بها نموذجًا لسلسلة المقالات التي كتبتها أثناء دراستي في إنجلترا أواسط الأربعينيات — وجدها تنديدًا سافرًا بجزء كبير من حياتنا العلمية في مصر إذا ما قيست إلى الحياة العلمية كما رأيتها هناك؛ فأولًا: لم تكن حياتنا العلمية، أو قل حياتنا الثقافية بصفة عامة، تتصدى لمشكلات الحياة الحية الجادة، بل يشد اهتمامها مسائل افتراضية تؤخذ من بطون الكتب، وثانيًا: (وهذه هي النقطة الهامة والخطيرة) كان المنهج الفكري الغالب على المفكرين والباحثين هو المنهج الاستنباطي لا المنهج الاستقرائي، ونقصد بالأول منهجًا يقيم الاستدلال على قضايا يفرض فيها الصواب، وكثيرًا ما تُسْتَقى تلك القضايا مما قاله الأقدمون، وواضح أن النتائج التي تُبْنَى على مقدمات ظنية تكون بدورها نتائج ظنية، ونقصد بالمنهج الاستقرائي منهجًا يستقرئ وقائع التجربة كما تشاهدها الحواس مشاهدة علمية، فبالرغم من كونها نتائج احتمالية الصدق لا تبلغ حد اليقين الرياضي (وهذا شأن قوانين العلوم الطبيعية كلها) إلا أنها تجيء نتائج مستقاة من الواقع ومنصبَّة على الواقع، وليست كنتائج الحالة الأولى تجيء من «كلام» وتنصبُّ على «كلام»، ويحسُن بالقارئ أن يعيد قراءة مقالتنا «بيضة الفيل» — وهي الصورة الخيالية الساخرة التي رسمناها لحياتنا في تلك المرحلة من سيرة العقل — ليرى كيف أن حلقة البحث إنما دارت حول افتراض أن الفيلة تبيض، وإذا كانت لتبيض فماذا يكون لون بيضتها؟ وسيرى ثانيًا أن العلماء الذين استشهد بهم (وهم علماء وهميون من صنع خيال الكاتب) استخدموا «القياس» منهاجًا لاستخراج النتائج. وسيرى ثالثًا أنه لانقطاع الصلة بين البحث العلمي المزعوم والواقع الفعلي، أصبح في الإمكان أن يعرض الرأي ونقيضه دون أن يكون هناك ما يحسم بين النقيضين لاختيار أحدهما على أنه الصدق العلمي ورفض الآخر على أنه مؤكَّد البطلان، وسيرى رابعًا — في آخر المقالة — أن شيخ الحلقة الدراسية كان غارقًا في أوهام، بينما الدنيا من حوله تعج بعلم جديد.
لقد أدركت في تلك الحقبة من السنين سر النهضة العلمية التي نشأت في أوروبا إبَّان القرن السادس عشر، فتولَّد عنها العلم الحديث والحضارة الحديثة بأسرها، وهو نفسه السر الذي لم ينكشف لنا حتى اليوم انكشافًا كاملًا، فتلكأت بنا النهضة ولبثنا نواصل شيئًا من عصورنا الوسطى في عصرنا الحديث، وما ذلك السر العظيم إلا منهج جديد يحل محل منهج قديم، فبدل أن نقيم حلول مشكلاتنا على أقوال نستخرجها من الكتب القديمة، نقيمها على تحليلات دقيقة لعناصر المشكلات المرد حلها؛ لكي نصل إلى الطريقة الفعالة التي تحلها. بعبارة أخرى: بدل الاكتفاء بقراءة الكتب القديمة على أنها مشتملة على الحق كله، يجب أن نضيف إليها قراءة «الطبيعة»؛ أي قراءة الموقف الواقعي الذي يتصدى لدراسته، فمحور النهضة العلمية في أوروبا هو استبدالها بالمنهج القياسي الذي وضع أرسطو تفصيلاته منهجًا استقرائيًّا جديدًا كان فرنسيس بيكون أول مَنْ وضع له المبادئ والقواعد.
٥
كانت أواسط الأربعينيات التي قضيتها في إنجلترا دارسًا مرحلة استيقظ فيها الوعي عندي حادًّا قويًّا في عدة اتجاهات. لا أقول: إنها نشأت لي من عدم، وإلا فهي اتجاهات أحسست بها قبل ذلك بأعوام، ولكنها كانت على شيء من الفتور والتردد، وأما الآن — وأنا دارس في إنجلترا — فقد وجدت ما استبدل بفتورها قوة وبترددها عزيمة ماضية. وكان أول تلك الاتجاهات — كما أسلفت القول في الفقرة السابقة — قيمة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى. فلكل فرد من الناس كرامته، بل كدت أقول: «قداسته». بغضِّ النظر عن أي شيء آخر مما يحيط به سوى أنه إنسان، لا شأن لهذه الكرامة — أو قل القداسة — بدرجة الفقر والغنى، أو بنوع العمل الذي يؤديه، أو بجنسه ذكرًا هو أم أنثى، أو بظروفه الأسرية من أي أصل جاء، لا، لا شأن لهذه الأمور كلها بأن يكون لكل فرد من الناس إنسانيته الكاملة.
مثل هذا القول يسهل جريانه على الألسنة، وأما أن ينتقل من دنيا الكلام إلى دنيا التنفيذ فذلك من أصعب الصعاب على مَنْ لم يتشرب روح الحضارة التي تُعْلي من قيمة الإنسان، فلما أن رأيت تلك القيمة مجسَّدة في كل موقف بشري صادفته في تعامل الناس بعضهم مع بعض أثناء دراستي بإنجلترا؛ فقد تنبهت بقوة إلى ركن ناقص في بنائنا الاجتماعي في مصر، حيث كان من المسلَّمات التي لم يكن يجادل فيها إلا مكابر يعرِّض نفسه للخطر، وأن يستعلي بعضنا على بعض بناءً على أوضاع معينة من منصب أو مال أو تعليم، إلخ.
وكذلك كان من الاتجاهات التي التفتُّ إليها بقوة ووعي إدراكي أن سر تخلُّفنا العلمي كامن في «المنهج»، فبينما يتميز العالم المتقدم باصطناعه للمنهج التجريبي في كشفه للجديد أولًا، وفي معالجته لما يعترض حياته من مشكلات ثانيًا، كنا نحن في مصر — وما نزال حتى اليوم إلى حد كبير — نصطنع منهج القرون الوسطى الذي هو الارتكاز على ما ورد في الكتب القديمة في استخراج أحكامنا على الأشخاص والأشياء والمواقف، وفي طريقة معالجتنا لمشكلاتنا أو في معالجة كثير منها، وهو — كما نرى — فرق كبير في المنهج، يؤدي إلى تقدُّم مَن تقدَّم وتخلُّف من تخلَّف، وحسبنا أن نعلم بأنه إذا اختلف الرأي في موضوع معين كان الاحتكام — في حالة المنهج التجريبي — إلى دنيا الواقع والتطبيق الفعلي وهناك يتبين الصواب والخطأ، وأما إذا اختلف الرأي — في حالة المنهج العباسي — كان الاحتكام إلى أقوال وردت في كتبه منسوبة إلى قدماء، وفي مثل هذه الحالة لا يتعذر على كل صاحب رأي أن يجد في بطون الكتب قولًا يؤيده تجاه خصومه.
وكان مما تضمنته الاتجاهات الجديدة في وجهات النظر اعتقادي اعتقادًا لا مكان فيه لذرَّة من التردد أو الشك في حرية الإنسان، لكنها الحرية المحكومة بالروابط السببية التي لا تنقلها إلى حالة من الفوضى، وأعني بذلك أن يكون الإنسان حرًّا حرية «إيجابية» تظهر في أفعال منتجة وفي أقوال يقام البرهان العقلي على صوابها؛ إذ لاحظت — منذ ذلك الحين وما أزال ألاحظ حتى اليوم — أن معظم من يرددون بيننا كلمة «الحرية» لا يقصدون بها أكثر من جوانبها «السلبية»، بمعنى أن تكون تحررًا من قيود، سواء أكانت قيودًا مفروضة على الإنسان من خارج نفسه أم كانت قيودًا منبثقة من داخل نفسه.
ولقد بلغ اهتمامي يومئذٍ بفكرة «الحرية» الإيجابية أنْ جعلتها موضوعًا لرسالتي في الدكتوراه، فموضوع رسالتي هو «الجبر الذاتي» (هذه هي الترجمة العربية للعنوان في الأصل الإنجليزي، ولقد نقلها إلى العربية الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام)، والمقصود بعبارة «الجبر الذاتي» هو أن الإنسان في «حرية» إرادته مقيد بماضيه هو نفسه على الأقل، كما هو مقيد بعوامل أخرى تشكل له الإطار العام الذي يتحرك «حرًّا» بين حدوده، ولكنه داخل تلك الحدود نفسها — إذا ما فعل فعلًا أو قال قولًا — في مستطاعه دائمًا أن يبدع ما هو جديد غير مسبوق إليه؛ أي إن علوم الدنيا بأسرها لا تستطيع أن تتنبأ على وجه اليقين بما أنا فاعله أو قائله في اللحظة الزمنية القادمة، فهو فعل جديد، أو هو قول جديد، لكنها في كلتا الحالتين جدة تضيف إلى حصيلة البشرية من أفعال أو أقوال، وليست هي مجرد الجدة كالتي نراها — مثلًا — في تخليط المجانين أو في «شخبطة» الأطفال إذا ما وجدوا ورقًا وأقلامًا.
بعبارة أخرى موجزة، أقول: إن حرية الإنسان كما تصورتها هي حرية من خلال الظروف الخارجية بما فيها العوامل التي شكلت حياته الماضية؛ فهذه الظروف والعوامل كلها هي بمثابة علة ضرورية للفعل الذي يؤديه الإنسان الحر أو القول الذي يصدر عنه معبرًا به عن نفسه، لكنها علة وإن كانت «ضرورية» لحدوث ما يحدث، إلا أنها علة «غير كافية»؛ لأنها وحدها لا تضمن أن يفعل الإنسان الحر ما يفعله أو أن يقول ما يقوله؛ إذ لا بد أن يضاف إليها جانب آخر من طبيعة الإنسان نفسه، وهو إرادته الحرة.
كان الدكتور هاليت الذي أشرف على رسالتي لإجازة الدكتوراه مختصًّا في فلسفة اسبنيوزا، وإذا علمنا عنه ذلك عرفنا أنه في مسألة الإرادة الإنسانية على نقيض ما ذهبت أنا إليه في رسالتي؛ إذ إن الإنسان في رأي اسبنيوزا جزء من الكون، لا يفعل إلا ما رُسِمَ له أن يفعله في الخطة الشاملة للكون كله، فإذا ظن الإنسان أنه إنما فعل كذا وكذا بمحض إرادته الحرة كان ذلك شبيهًا بالحجر الملقى بقوة دفع معينة، ويمكن حساب سرعته وموضع سقوطه على الأرض، غير أنه لو كان لينطق فربما قال: إنه إنما سقط حيث سقط على الأرض بمحض إرادته، وأنه كان هو الذي اختار طريق مساره ومقدار سرعته.
فهذا الاختلاف البعيد بين نظرة أستاذي التي استقاها من مجال تخصصه، وبين النظرة التي أخذت أتجه إليها خلال البحث العلمي الذي اضطلعت به، ولقد كان هذا الخلاف بين النظريتين مصدر خير لي لا تُحَدُّ حدوده؛ لأن الأستاذ كلما اجتمعنا لمناقشة فصل من فصول الرسالة كان يجمع قوته الناقدة كلها؛ لينظر بها إلى كل كلمة مما قدمته إليه، وكان عليَّ أن أكون على أقصى درجات الاستعداد من حيث دقة الصياغة ووضوح المعنى وقوة الحجة؛ مما أخرجني بعد إتمام الرسالة وكأني إنسان آخر.
من كل ما أسلفته عن المؤثرات والدراسات التي مارستها وتأثرت بها أثناء إقامتي في إنجلترا، يمكن القول بأنني خرجت بنظرة ذات شعبتين هي التي عدت بها إلى مصر في أواخر ١٩٤٧م، معتزمًا أن أتجه بنشاطي كله نحو العمل بما تمليه عليَّ تلك النظرة بشعبيتها، فمن جهة خرجت يملؤني الإيمان بضرورة الأخذ بأهم أركان الثقافة الأوروبية التي كان من نتائجها في حياة الأوروبيين ما رأيته من قيم تُعْلِي من شأن الإنسان الفرد إعلاءً يجعل منه كائنًا ذا قداسة، ومن جهة أخرى خرجت على إدراك واضح بأن نهوضنا مما نحن فيه من تخلُّف في ركب الحضارة العصرية مرهون بتغيير المنهج؛ لتكون الكلمة الأولى والأخيرة للتجربة العلمية في كل ما هو متصل بحقائق العالم الذي نعيش فيه، على أن هذا العالم المحيط بنا ليس هو كل شيء، بل يوازيه عالم باطني في ذواتنا قوامه إيمان ووجدان؛ ففي هذا العالم الخاص معياره الخاص كذلك، وعلى ذلك يكون لعلمنا بالعالم المادي ميزان، وللتعبير الصادق عن عالمنا الوجداني ميزان آخر، ولا يجوز الخلط بينهما كما نخلط عادة، كما لا يجوز اعتداء أحدهما على الآخر كما يحدث عند كثيرين.
٦
كانت المكتبة العامة لجامعة لندن هي مكاني المختار أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه، فكنت في معظم الحالات أول زائر لها في الصباح وآخر من يغادرها في المساء، ولم أكن أترك مكاني طيلة يومي إلا ساعة للغداء وسويعة للشاي، وكلاهما في مطعم في البناء نفسه، لكن ساعات العمل لم تكن كلها مخصصة للرسالة، بل تتخللها ساعتان أكسر بهما ملل الرتابة بشيء خارج مادة الرسالة، وفي هذه الفترة اليومية قرأت كثيرًا وأنجزت كثيرًا.
فكان من أهم ما أنجزته: الجزءان الثالث والرابع من «قصة الأدب في العالم»، الذي اتفقت مع الأستاذ أحمد أمين منذ سنة ١٩٤٠م على القيام به، وكما أسلفت القول في الفصل الأول من هذا الكتاب كان الجزءان الأول والثاني قد صدر أولهما وأنا في القاهرة، وتركت مخطوط الثاني قبل سفري، وها أنا ذا قد بلغت بالثالث والرابع تاريخ الأدب حتى نهاية القرن التاسع عشر.
كان نصيب الأستاذ أحمد أمين من العمل — فوق المراجعة الشاملة — كتابة الفصل الخاص بالأدب العربي من كل جزء، وكان الدكتور عبد الوهاب عزام هو الذي تولى كتابة الفصل الخاص بالأدب الفارسي في الأجزاء الثلاثة الأولى، وتولى الدكتور يحيى الخشاب كتابة هذا الفصل من الجزء الرابع، وأما بقية الفصول فهي بقلمي.
وكانت خطة العمل — كما ذكرت في موضع سابق — هي اختيار كتاب جيد لكل مرحلة من تاريخ الأدب في أقطاره الهامة؛ ليتخذ عمودًا يستند إليه، مع إضافة هنا وحذف هناك كلما اقتضت الحاجة مثل تلك الإضافة وهذا الحذف، وإلى هنا قد يقال — وكثيرًا ما قيل — ما أهونه من عمل! فحسبك أن تجيد الإنجليزية قراءةً وفهمًا، لتمثل ما تقرؤه في الكتاب المختار، ثم تعيد المادة المقروءة في لغة عربية، وكان الله يحب المحسنين … لكن قائل هذا يفوته جانب هام، وهو الأمثلة التي اختيرت للترجمة شعرًا ونثرًا، فما كل قصيدة وما كل أسطر من النثر الفني في لغته الأصلية يصلح أن يترجم إلى العربية مع الحفاظ على الرونق الخاص الذي يجعل الكتابة أدبًا، نعم إن أي كتاب مختار للاعتماد عليه كان معدًّا بالأمثلة شعرًا ونثرًا، لكن نسبة لم تكن بالقليلة من تلك الأمثلة كان صالحًا للترجمة، وعندئذٍ كان عليَّ أن أنقِّب في دواوين الشعراء وفي نصوص الأدباء؛ لأقع على نماذج لا تفسدها الترجمة إلا بالحد الأدنى؛ وذلك لأن كل ترجمة للأدب من لغته الأصلية إلى لغة أخرى تُفقده شيئًا من جماله. ولك بعد هذا التوضيح لطبيعة العمل الذي أنجزته في «قصة الأدب في العالم» أن تقدِّر بنفسك كم عانيت في جمع عشرات من النماذج الأدبية وترجمتها على طول أربعة أجزاء.
وكنت قبل مغادرتي لإنجلترا عائدًا إلى مصر، قد أعددت شطرًا كبيرًا من أدب القرن العشرين؛ ليكون الجزء الخامس، لكنني لأمرٍ ما ضاقت نفسي على مدى سبعة أعوام من عمل لم أكن فيه إلا تابعًا لتابع، كنت أشعر أنني بمثابة ظل للظل إذا أمكن أن يكون للظل نفسه ظل، لكنني رجل من هؤلاء الناس الذين يرتبطون بالعهود، ولقد تعهدت أن أؤدي هذا العمل فأديته، أتممت منه الأجزاء الأربعة التي بدأت منذ بدايات الأدب هنا وهناك من مراكز الحضارات، وبلغت بها آخر القرن التاسع عشر، ثم أعددت — كما ذكرت — معظم مادة القرن العشرين لتكون جزءًا خامسًا، لكنني عند ذلك الحد لم أستطع مغالبة نفسي الساخطة، فأبيت للجزء الخامس أن يشهد النور، ولا بد أن يكون مخطوطة «مدشوتا» إلى الآن في أكداس المخلفات الورقية عندي، والتي لم أعد أعرف لها أولًا من آخر.
٧
انتهت الحرب العالمية الثانية في صيف ١٩٤٥م، ولم تمضِ إلا بضعة أشهر بعد انتهائها حتى أقيمت الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة في لندن (أصبح مقرها منذ الدورة الثانية مدينة نيويورك)، واضطر بلد عربي إلى الاستعانة بالسفارة المصرية في لندن؛ لتُعِيره ثلاثة من المصريين المقيمين هناك حينئذٍ، يصلحون أن يكونوا أعضاء في وفده الرسمي إلى تلك الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة، وكنت أحد الثلاثة الذين اختارتهم السفارة، فأتيح لي — للمرة الأولى وربما للمرة الأخيرة أيضًا — أن أُمضي نحو ستة أسابيع على مقربة قريبة من كبار الساسة في العالم إبَّان تلك الفترة الهامة التي أعقبت الحرب مباشرة، والتي ظن هؤلاء الساسة الكبار أنهم إنما جاءوا ليضعوا فيها أسسًا للسلام الذي لا تستطيع بعدئذٍ أن تهزَّه نازية أو فاشية أو ما شاكلها من نُظم.
كانت فرصة نادرة لأرى ليوث السياسة في عرينهم، فأرى كيف يعتركون بالحيلة الناعمة والخدعة المغلفة بالحلوى، فخرجت آخر الأمر، من كل ما رأت عيناي وسمعت أذناي، كافرًا بتلك اللعبة الصبيانية التي يسمونها «سياسة»، وكم من مرة همست لنفسي ما نُسِبَ قوله إلى الإمام محمد عبده: لعن الله السياسة، وساس، ويسوس، وسائسًا، ومسوسًا. لماذا؟ لأنني ما وجدت في ألاعيب الساسة بعضهم على بعض إلا مهارة تشبه مهارة الحُوَاة، تُخرج الأرانب من قبعات خالية، فهم — مثلًا — يضعون صيغة معينة يحلُّون بها مشكلة معينة ويوافقون عليها بالإجماع، ثم ما هي إلا أن يحتدم الخلاف على تأويلها، وينهض من هنا خطيب ومن هناك خطيب، ومن هذا البلد فقيه ومن ذلك البلد فقيه، يبذلون كل ما في مواهبهم من ذكاء؛ لتأويل الصيغة المتفق عليها تأويلًا يخدم وجهة نظره الوطنية.
قلت لنفسي إزاء هذه الألاعيب: لو كانت «السياسة» علمًا كسائر العلوم الدقيقة المضبوطة؛ لما كان هنالك مجال لهؤلاء الحواة، ولانكشف الغطاء عن مهاراتهم المزعومة؛ لأنها لو كانت في دقة العلم لما تعددت التفسيرات والتأويلات، وإذا كانت الصيغة التي وافقوا عليها محلًّا لاختلاف التفسير والتأويل، فلماذا لا يضعون لأنفسهم صيغة أدق وأوضح وأشد حسمًا؟ وهكذا خرجت من تلك الخبرة بدرس تعلمته عن السياسة ما يزال إلى هذه الساعة هو الدرس الذي يشكل وجهة نظري؛ وهو أن العمل السياسي — بهذه الصورة الشائعة — لا يصلح له إلا عقول تنقصها الرغبة في دقة التفكير العلمي.
ثم سنحت لي بانتهاء الحرب فرصة أخرى من نوع آخر، وهي فرصة أتاحت لي ترجمة ما يقرب من ثلاثمائة بيت من شعر العقاد إلى الإنجليزية شعرًا … كيف؟ أرادت جامعة لندن أن تقيم لقاءً ثقافيًّا على مدى أسبوع (أو أكثر من أسبوع، لا أذكر) للإنجليز الذين هم في سبيلهم إلى مزاولة أعمالهم في ربوع الشرق العربي، فوضعت خطة لبرنامج ثقافي وإعلامي، يزود الحاضرين بزاد فكري عن العرب.
وأرسلت جامعة لندن إلى السفارات العربية؛ لتوزع الموضوعات المقترحة على علماء العرب وأدبائهم ممن تَصادف وجودهم في إنجلترا، وكان أن تلقَّينا — أنا وصديقي المرحوم الدكتور محمد النويهي — ما يشبه التكليف من سفارتنا المصرية بأن نتقاسم الحديث عن حياتنا الأدبية، فأما الدكتور النويهي فيتولى الأدب العربي القديم، وأما أنا فأتولى الأدب العربي المعاصر، وكانت جامعة لندن قد اقترحت في خطابها أن يدار حديث المتحدث على رجل واحد، يتخذ منه المتحدث نموذجًا للتعبير عن المناخ الوجداني والفكري السائد في الفترة التي يدار عليها الحديث، فوقع اختياري على «العقاد الشاعر».
لقد كنت أرى في العقاد الشاعر — وما زلت أرى — تعبيرًا قويًّا وصادقًا عن أهم ملامح مناخنا الفكري والشعوري فيما بين الحربين العالميتين؛ لأنه رفع لواء الحرية بكل معانيها. ولا خلاف على أن مطلب الحرية في حياتنا الثقافية كلها — منذ الاحتلال البريطاني — إنما كانت تدور عجلتها حول محور رئيسي هو فكرة «الحرية»، لكن للحرية وجوهًا كثيرة: أحدها الحرية السياسية، وحين أقول عن شعر العقاد: إنه جاء تعبيرًا قويًّا وصادقًا عن تطلُّعنا للحرية، فإنما قصدت شيئًا أكثر جدًّا من مجرد التحرر من مستعمر خارجي أو من مستبد داخلي؛ إذ قصدت إلى حرية الإنسان من حيث هو فرد مستقل يصنع لنفسه قرار حياته، ليكون مسئولًا بعد ذلك عن قراره ذاك أمام الله وأمام الناس وأمام نفسه؛ فتلك الحرية الفردية — كما أراها — هي الأساس لكي تتحقق كل حرية أخرى. وأحسب أن العقاد في حياته الفردية — منعكسة في شعره — نموذج حي ناطق لما أردت عرضه على الحاضرين.
وعندما بدأت إعداد المحاضرة لم أكن أحلم بأن الأمر سينتهي بي إلى جهد من نوع نادر؛ وذلك أني رأيت — بعد أن سرت في إعداد المحاضرة شوطًا — أن الصورة التي سوف أقدمها للناس ستظل كالدخان العالق بالهواء ما لم أقدم نماذج من شعر العقاد، وهل تكون ترجمة الشعر إلى لغة أخرى — إذا أريد لها أن تترك في السامع أقوى أثر ممكن — إلا شعرًا؟ إذن فلأجرب قدرتي في هذا السبيل، وإذا عجزت فلأَقنَع عندئذٍ بترجمة نثرية لمعاني الأبيات المترجمة. ووفقني الله — بعد جهد ذهني مركَّز لعدة أيام — توفيقًا يشهد عليه أن مجلات الشعر هناك (وفي أمريكا) نشرت ما أرسلته إليها من تلك النماذج.
٨
كنت لم أزل ماضيًا في إعداد رسالتي للدكتوراه، وموضوعها — كما ذكرت — هو «الجبر الذاتي» وهو موضوع — كما ترى — يمس حرية الإرادة بصفة أساسية وجوهرية، ودون أن أتعمد في البداية أن أتجه في بحثي مع هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الفلسفة؛ فقد جاءت الأفكار منساقة نحو شيء يشبه مذهب برجسون في فكرته عن التطور الخلاق، وعن طبيعة الحياة كيف تبدع ما هو جديد، كما انساقت الأفكار كذلك نحو شيء يشبه حرية الإنسان عند بعض فلاسفة الوجودية.
وبينما أنا ماضٍ في طريقي ذاك، أُعلن عن تعيين الدكتور ألفرد آير (وكان إلى ذلك الحين أستاذًا في جامعة أكسفورد) رئيسًا لقسم الفلسفة في الكلية الجامعة بجامعة لندن، وجريًا على العرف المألوف كان على الأستاذ الجديد أن يفتتح عمله بمحاضرة عامة، وأُعْلِن بالفعل عن موعد تلك المحاضرة، لم أكن قرأت شيئًا للدكتور آير، فرأيت ضرورة أن أعرف عن الرجل شيئًا قبل استماعي لمحاضرته العامة، فكان أول ما قرأته من كتبه، كتابه الذي يلخص به اتجاهًا فلسفيًّا ظهر أولًا في فينَّا خلال العشرينيات من هذا القرن، ثم أخذت دائرته تتسع، وهو اتجاه أطلق عليه أصحابه اسم «الوضعية المنطقية»، ثم شاع له بعد ذلك اسم آخر لعله أنسب وهو «التجريبية العلمية»، فما إن تلقيت الفكرة الأساسية في هذا الاتجاه؛ حتى أحسست بقوة أنني خُلِقْتُ لهذه الوجهة من النظر.
ليس هنا المكان المناسب لذكر شيء من تفصيلات الفكرة، مما دعاني إلى تبينها والدفاع عنها ومحاولة نشرها في العالم العربي — فذلك كله سيرد مكانه في فصل تالٍ من هذا الكتاب — لكن حسبي هنا أن أقول عن هذا الاتجاه شيئًا واحدًا؛ وهو أنه يقصر الفكر الفلسفي على تحليل ما تقدمه لنا العلوم من قضايا أساسية تحليلًا يكشف عن الجذور الأولية التي منها تنبت هذه الفكرة العلمية أو تلك، مما هو متضمَّن في مجالات العلوم المختلفة، وبهذا نعفي الفلسفة من أن يكون لها هي نفسها قضاياها الخاصة بها عن أي شيء خاص بالكون أو بالإنسان، لماذا؟ لأننا في عصر العلم هذا نسلِّم زمام الكشف عن حقائق الأشياء إلى رجال العلم ولهم مناهجهم وأجهزتهم التي تمكِّنهم من الوصول إلى نتائج صحيحة، لكن العلم إنما يبدأ بحوثه في أي مجال من نقطة بعينها، ثم لا يسأل ماذا يسبق تلك النقطة مما يشبه جذور الشجرة الدفينة تحت التراب؟ فيكون هذا «التأصيل» مهمة الفلسفة.
وسأترك الحديث في هذا إلى حينه، مكتفيًا بالقول بأنني حين عدت إلى مصر (في خريف سنة ١٩٤٧م) كان قد تبلور فكري في شعبتين: إحداهما وجوب الأخذ بروح الثقافة الأوروبية المعاصرة، لعلها تنتهي بنا إلى مثل ما انتهت بأصحابها إليه من وضع الإنسان الفرد في مكانة تشبه التقديس، والثاني هي وجوب الدعوة إلى التجريبية العلمية؛ لأنها إذا كانت مجرد اتجاه فلسفي هناك، فهي بالنسبة للأمة العربية ضرورة؛ إذ من شأنها أن تضبط اللفظ في مجال التفكير العلمي ضبطًا صارمًا، وهو ما أظننا في أشد الحاجة إليه، وسوف أورد ذلك فيما بعدُ بشيء من التوضيح.
٩
وعدت إلى مصر، ونُقِلْتُ إلى جامعة القاهرة (وكان اسمها يومئذٍ جامعة فؤاد الأول) مدرسًا بقسم الفلسفة في كلية الآداب، وما كدت أشمِّر عن ساعد العمل الجاد في سبيل الهدفين المذكورين حتى عوَّقتني معوقات سرعان ما تغلبت عليها بوقفة إرادية حازمة وحاسمة.
فلم تكن قد مضت بعد عودتي أشهر قليلة حتى دعاني وزير التعليم، ودعا معي المرحوم محمد بدران، وقال لنا: إن «أمرًا» صدر إليه من القصر الملكي بأن يترجم إلى العربية كتاب «آثرت الحرية» لكرافتشنكو، الروسي الذي أفلت من استبداد الحكم في بلاده، وأخرج للناس هذا الكتاب ليوضح لهم حقيقة الحياة في الروسيا. وأضاف الوزير لنا بأن القصر يريد للترجمة أن تُنْجَزَ في ثلاثة أشهر، ولما كان يعلم عنا قدرة حاجته في هذا المجال، فهو بدوره يكلفنا بأداء هذا الواجب خلال الأشهر الثلاثة، ومن ناحيتي حاولت التخلص، فلم يدع لي الوزير مجالًا للحديث، ولقد أخجلني بما كان يعرفه عني من تقدير له.
اتفق معي الأستاذ بدران على أن يتولى هو الربع الأول والربع الأخير من الكتاب، وأن أتولى أنا الربعين الثاني والثالث في سياقهما المتصل، ولم يَفُتْنِي بالطبع ما كان يخفيه في نفسه من غرض في هذا التقسيم، وهو أن يوضح اسمه على الغلاف قبل اسمي، لكنني مع ذلك وافقت مبتسمًا في إشفاق؛ لأن العمل كله صخرة أُلْقِيَت على كاهلنا بصورة لا تجوز إلا في بلد يسوده الطغيان، ولا يخفف من وقْع السُّخرة أن يجيء الاسم أولًا أو أن يجيء ثانيًا.
ومع ذلك فلا بد لي أن أذكر هنا كيف كنت أرتعد فزعًا أثناء عملية الترجمة كلما ورد وصف من تلك الأوصاف المخيفة للطريقة التي كان يحكم بها الشعب الروسي كما رآها كرافتشنكو، ولقد أنجزت نصيبي في أقل من شهرين، وظننت أنني بعد ذلك سأفرغ إلى عملي، وأذكر أني لكي أُخْرِجَ ترجمة ذلك الكتاب من حياتي خصصت له ساعتين بعد أذان الفجر من كل صباح، ثم أبدأ يومي وكأن شيئًا لم يكن.
لكنني إذ فرغت من «آثرت الحرية» وقعت في حفرة أخرى، برغم أن الأمر هذه المرة لم يصدر من «جهات عليا» — على حد العبارة المألوفة — بل صدر من أستاذ أُكِنُّ له الحب والتقدير، هو الأستاذ أحمد أمين؛ وذلك أن الجامعة العربية (وكان الأستاذ أحمد أمين عندئذٍ مديرًا للإدارة الثقافية بها) قررت ترجمة «قصة الحضارة» تأليف وِلديورانت، ومرة أخرى طلب إلى الأستاذ محمد بدران وإليَّ أن نضطلع بهذا العمل، فبدأنا معًا بالمجلد الأول، وهو يحتوي على خمسة أقسام (صدر كل قسم منها كتاب مستقل في ترجمته العربية) فكان نصيب الأستاذ بدران «مصر» و«الصين»، وكان نصيبي «نشأة الحضارة» و«الهند وجيرانها» و«اليابان»، لكنني بعد هذا المجلد الأول نفضت يدي من هذا المشروع الضخم، ويكفي أن يعلم القارئ أن الترجمة ما زالت مستمرة في أجزائه، برغم أن ما صدر منه حتى الآن بلغ الجزء الثلاثين أو ما يقرب من ذلك، فهو موسوعة ضخمة، تعرض أطوار الحضارة عرضًا خلابًا، ولو كنت طاوعت النصح بأن أمضي في ذلك المشروع؛ لما كتبت ورقة واحدة في تخصصي العلمي، ولا في بسط وجهة نظري الثقافية.
ومع ذلك فما نفضت يدي من «قصة الحضارة» إلا لأتورط مرة ثالثة، لكن العمل هذه المرة كان متصلًا بالدراسة الفلسفية على وجه من الوجوه، إلا أنني مع ذلك لم أكن أريد التورط فيه في ذلك الحين لأنصرف إلى عملي، سواء ما اتصل منه بالتدريس في الجامعة، أو ما اتصل منه بالحياة الثقافية العامة التي ما تركت المشاركة فيها يومًا واحدًا منذ بدأت حياتي العملية. أما العمل الذي اعترضني هذه المرة فهو ترجمة كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» لبرتراند رسل، والكتاب ضخم، ويقع في ثلاثة أقسام: الفلسفة اليونانية والفلسفة الوسيطة والفلسفة الحديثة، وكان هذا الكتاب قد صدر أثناء وجودي بإنجلترا، وقرأته هناك أول صدوره، ووجدت فيه عرضًا جديدًا مبتكرًا لتاريخ الفلسفة؛ لأنه يربط علاقات وثيقة بين الفكر الفلسفي من جهة، والظروف الاجتماعية السائدة في العصر المعين من جهة أخرى، مما يبين بيانًا جليًّا أن ذلك الفكر الفلسفي هو انعكاس مباشر للحياة كما يجري في دنيا الواقع.
ترجمت الجزأين الأول والثاني، ولأمرٍ ما رفضت رفضًا جازمًا أن أكمل الجزء الثالث ليكتمل العمل، والخير في أن أمسك عن ذكر الظروف التي حملتني على ذلك الرفض. وعلى أية حال فقد أسدلت بهذا ستارًا على ما أسميته بمرحلة الانتقال من سيرتي العقلية، لأبدأ مرحلتي الجديدة التي دعوت خلالها إلى هدفين: الأخذ بروح ثقافة العصر، وأن تكون التجريبية العلمية ضابطًا للفكر في مجالاته العلمية.
وكأنما أراد لي الله أن تكون بين يديَّ الأداة التي أستطيع بها أن أعبُر ما بقي أمامي من مرحلة التحول إلى المرحلة التي تليها، والتي استقر عليها الفكر عشرين عامًا (١٩٥٠–١٩٧٠م) وهي التي أشرت إليها فيما أسلفته، قائلًا: إنني سرت خلالها على خطين متوازيين: أحدهما الدعوة إلى ثقافة العصر، والآخر الدعوة إلى منهج التجريبية العلمية في صياغة الأفكار. أقول: بإذن مشيئة الله كأنما أرادت أن تضع بين يديَّ الأداة التي أستعين بها على الانتقال من مرحلة إلى مرحلة؛ وذلك أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أوكلت إليَّ — باعتباري عضوًا فيها — الإشراف على مجلة الثقافة التي كانت تُصدِرها، فكانت لي فرصة الكتابة الأسبوعية؛ لأفتتح كل عدد منها بمقالة، فماذا كنت أكتب أسبوعًا بعد أسبوع؟ كنت أكتب ما يصح أن أطلق عليه اسم القنابل المتفجرة، لعلها تنسف جزءًا من ألف جزء في الإطار الثقافي العتيق الذي كنا ما نزال نعيش فيه، برغم فترة من الاتصال بحضارة الغرب امتدت بنا — حتى ذلك الحين — مائة وخمسين عامًا، وبرغم زيادة أعداد المتعلمين إلى أعلى مستويات التعليم، فذلك كله لم يزحزح إلا قليلًا مجموعة من القيم ذهب زمانها، وأبشعها قيمة السلطة لمن يتولاها. ولقد جمعت مجموعة المقالات التي كتبتها على مدى ثلاثة أعوام أو ما يقرب منها في كتابين: أولهما كتاب «شروق من الغرب» واسمه هذا دالٌّ على روح محتواه، والثاني كتاب أسميته (في طبعته الأولى) «والثورة على الأبواب»، وقصدت بذلك أن تلك الأفكار الغاضبة الساخرة الثائرة إنما نُشِرَت كلها قُبَيْل قيام الثورة في يوليو ١٩٥٢م، لكنني لحظت فيما بعدُ أن حرف الواو الذي يبدأ به العنوان، كثيرًا ما يسقط عند المتكلم أو الكاتب، فيصبح العنوان دالًّا على شيء آخر غير مقصود، فجعلت عنوان الكتاب في الطبعة الثانية «الكوميديا الأرضية»، وربما جاء هذا العنوان أكثر دلالة على روح مضمونه الفكري.