الفصل الخامس

دفاع عن العقل

١

لقد أَسلفت لك الحديث عن الفرق في منطق اللغة بين تركيب لفظي يشير إلى كائنات العالم الخارجي، وتركيب لفظي آخر يتجه بانتباه السامع أو القارئ نحو ما يجري في دخيلة نفسه من مشاعر، وأذكر أني ضربت لك مثلًا يوضح هذا الفرق بين قولين: عبارة تقول لك عن الهرم الأكبر إنه يقع غربي النيل، ويبعد عنه نحو عشرة كيلومترات، وعبارة أخرى تقول عن الهرم نفسه بأنه يثير في النفس ذكريات مجد قديم، ويوحي بجلال الخلود، وها أنا ذا أضيف إلى تلك التفرقة بين الوظيفتين اللتين تؤديهما اللغة: أن تلك التفرقة ذاتها هي أيضًا تمييز بين مجالين في حياة الإنسان: مجال العقل ومجال الوجدان، ففي مجال العقل يكون التفاهم بين الناس قائمًا على أساس ما يمكن مراجعته وضبطه والحكم عليه بالصواب أو بالخطأ بحسب مطابقته أو عدم مطابقته للواقع الذي جاءت الجملة المعينة لتتحدث عنه، وأما في مجال الوجدان فالأمر متروك كله للمتلقي يشعر كيف شاءت له ميوله؛ إذ لا سبيل هنا إلى مراجعة ولا إلى ضبط أو حكم بصواب أو بخطأ.

عد إلى العبارتين اللتين أسلفت ذكرهما عن الهرم الأكبر، تجد الأولى ممكنة المراجعة على الواقع الفعلي جزءًا بجزء، للتأكد من أن الهرم الأكبر يقع حقًّا غربي النيل، وأن المسافة بين الهرم والنيل تبلغ فعلًا ما يقرب من عشرة كيلومترات، وللسامع أو القارئ بعد ذلك أن يحكم على العبارة بأنها صادقة أو كاذبة بناءً على ما وجده في عملية المراجعة. وأما العبارة الثانية فلا سبيل فيها إلى شيء من ذلك؛ فقد تُصادف سامعًا ينظر إلى الهرم الأكبر فلا يثير في نفسه شيئًا عن مجد قديم، ولا يوحي له بشيء عن جلال الخلود، بل لعل ذلك السامع يجهل ماذا يراد بالمجد وبالخلود، فلا مراجعة هنا ولا تصويب ولا تكذيب؛ لأن الأمر كله مرهون بصاحبه وما يشعر به أو لا يشعر.

الجانب العقلي جانبٌ عامٌّ مشترك بين الناس، والجانب الوجداني فردي خالص، ففي الجانب العقلي إذا ما تبينت شواهد الصدق وجب على السامع أن يذعن؛ إذ لا مفر له من برهان يقيمه منطق العقل، أئذا قيل لأحد: إن الثمانية أكبر من الخمسة، والخمسة أكبر من الثلاثة، إذن تكون الثمانية أكبر من الثلاثة، استطاع السامع أن ينكر صدق القول؟ لكن ما هكذا الشأن إذا قيل له: إن غروب الشمس يبعث على كآبة النفس وانقباضها؛ لأن السامع في هذه الحالة قد تكون هذه حاله إزاء الغروب وقد لا تكون.

ومنذ حملت القلم كاتبًا في صدر الشَّباب؛ أدركت في شيء من الغموض أولًا وفي كثير جدًّا من الوضوح آخرًا؛ أدركت الفرق في استخدام اللغة بين الحالتين، ثم أدركت فوق ذلك أن العربي بصفة عامة (والمصري عربي) أشد ميلًا — بحكم ثقافته — إلى العبارة المثيرة للوجدان منه إلى العبارة المستندة إلى عقل، وأدركت فوق هذا وذلك أن في مقدمة الإصلاح — إذا أردنا إصلاحًا — أن نربي الأجيال الجديدة على وقفة أخرى، يفرق لنفسه فيها تفرقة واضحة بين ما هو عام فيحيله إلى العقل وأدواته، وما هو خاص فلا بأس عندئذٍ في الركون إلى لغة الشعور.

لماذا انقضَت على مصر منذ بدأت نهضتها الحديثة حتى الآن (وأنا أكتب هذا سنة ١٩٨٢م) مائة وخمسون عامًا على الأقل، ومع ذلك لا نستطيع أن ندَّعي بأنها تشرَّبت من ثقافة العصر الجديد ما كنا نتمنى لها أن تتشربه؟ لماذا أصبح المتعلمون في مصر يُعَدُّون بعشرات الملايين ومع ذلك فإذا ما أمعنَّا النظر في هؤلاء المتعلمين أنفسهم — ودعْ عنك مَنْ لم ينل حظًّا من التعليم — وجدنا نفورهم من رؤية الحياة بنظرة علمية تلتزم منطق العقل لا يقل عن نفور أجدادهم الذين غمرتهم موجات الظلام إبَّان القرون الثلاثة السابقة على بدء النهضة الحديثة؟ أسئلة كهذه كنت ألقيها على نفسي فأجد لها جوابًا واحدًا، هو: نقص في تربية العقل، وإسراف في إشعال الوجدان.

٢

إن شيئًا في تركيبنا الثقافي يوسوس لنا دائمًا بأن العقل وحده لا يكفي سندًا للإنسان في حياته، وأن ظواهر كثيرة تحدث متحدية للعقل أن يفسر حدوثها بمنطق العلم فلا يسع العقل إزاءها إلا أن يقف عاجزًا، ومثل هذا الشعور بعجز العقل وقصور العلم يتملَّكنا بدرجة قلَّ أن وجدت لها نظيرًا في شعوب أخرى، وعلى الرغم من يقيني بأهمية الجانب الوجداني في حياتنا، فلطالما أحسست بواجبي في الإعلاء من شأن العقل — والعقل يتبعه قيام العلم ومنهاجه — حتى لو ذهبت في ذلك الإعلاء إلى حد المبالغة لأحدث نوعًا من التوازن في حياتنا بين عقل ووجدان؛ إذ التوازن بينهما مفقود.

فكتبت بعنوان «سلطان العقل» (في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة») أقول: إن الظواهر التي يقال عنها: إنها تتحدى العقل، وإن العلم يقف حيالها عاجزًا عن القليل، «لم تكن أبدًا — ولن تكون — من الدعائم التي تُبْنَى عليها الحضارات، لا فرق في ذلك بين حضارة المسلمين إبَّان قوتها، وسائر الحضارات التي قامت وسوف تقوم، فلقد قامت حضارة المسلمين — كما قام غيرها — على واقع وعلى علم بذلك الواقع، وأما الظواهر العجيبة التي يقال عنها إنها تتحدى العقل، فهي أمور يذكرها الناس بعضهم لبعض أو لا يذكرونها، ولن يكون لذكرها أو عدم ذكرها أثر في سير الأحداث التي تصنع التاريخ».

إنني لم أكن أقنع بكل ما حدث في حياتنا الفكرية من تغيرات كان من شأنها أن تُحْدِثَ لنا أسسًا جديدة في السياسة والاقتصاد والتعليم وبناء المجتمع؛ وذلك لأنني برغم ذلك كله فلقد رأيتها تغيرات على السطح، ولم تبلغ من العمق حد الثورة الفكرية التي تبذل لنا وجهة النظر الشاملة، فما زال الناس — وحتى المثقفون منهم — تميل بهم نفوسهم نحو التشكك في العقل الإنساني وقدرته، وفي العلم ومداه، فكتبت بعنوان «نريدها ثورة فكرية» (في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة») أقول: «لكنني أزعم أن ذلك النشاط كله شيء — وهو نشاط محمود ومشكور — وأما الثورة الفكرية كما أتصورها فهي شيء آخر، ولأبدأ بتشبيه يوضح الفكرة التي أريد عرضها، فأقول: إنه قد تكون لدينا أنوال قديمة لنسج القماش، فهل تحدث ثورة في صناعة النسيج إذا نحن أبقينا على الأنوال القديمة كما هي، ثم زدنا من كمية القماش المنسوج، وغيَّرنا من ألوانه وزخارفه، ومن طريقة توزيعه على الناس؟ فمثلًا: كان القماش الناتج على تلك الأنوال القديمة يوزَّع على المدن وحدها، فنشرناه في القرى، وكان يخص الأغنياء وحدهم، فجعلنا منه للفقراء نصيبًا مساويًا، وكان للكبار وحدهم، فصنعنا منه شيئًا للأطفال، وهكذا أقول: أيجوز لنا في مثل هذه الحالة أن نقول: إن ثورة حدثت في صناعة النسيج؟ أم أن الثورة في هذه الصناعة لا تحدث بهذه الأمور وحدها، وإنما تحدث بأن تتغير الأنوال نفسها بما هو أحدث؛ ليتغير نوع القماش الناتج تبعًا لذلك؟

هكذا الحال — كما أراها — في حياتنا الفكرية، فلقد زادت حصيلة الفكر، وتنوعت طرائق توزيعها على شرائح الشعب، لكن «أنوال التفكير» باقية معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها لم يغير منها أن تتسع دائرة الإنتاج ودائرة التوزيع، وأن نغير من اتجاه السير، فنذهب بالأفكار من المدينة إلى الريف، أو نأتي بها من الريف إلى المدينة، ونعلو بها من أدنى إلى أعلى، أو نهبط بها من أعلى إلى أدنى، فما دامت «أنوال النسيج» باقية على حالها؛ فقد تحدث تغيرات كثيرة على السطح، ولكنها تغيرات لن تبلغ أن تكون «ثورة» فكرية؛ لأن الثورة هي في أن تتغير الأنوال …

والمنوال الفكري القديم الذي أعنيه قوامه عناصر كثيرة، لعل أهمها جميعًا هو الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة الفكرية تتمثل عادةً في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، وإن تكن تتمثل أحيانًا كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تُسمَّى بالعرف أو بالتقاليد، وبناءً على هذا الموقف تكون الفكرة التي يقدمها رجل الفكر صوابًا إذا هي اتسقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو في الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأً إذا جاءت مخالِفَة لما أقرته تلك السلطة، ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل الأقدمين، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول الموروث …»

في حياتنا الفكرية والثقافية مفارقة تلفت النظر، كنت ألحظها في وضوح منذ الأربعينيات الأولى، وكنت أدرك ألا مفر من ثورة فكرية تتناول الأسس بالتعيير الشامل إذا أردنا حقًّا الخروج من عصورنا الوسطى إلى عصر النهضة الحقيقية، ولقد عبَّرت عن رأيي في تلك المفارقة في عشرات المواضع مما كتبت على طول السنين، والتشبيه الذي تخيلته مصورًا للمفارقة التي لحظتها هو ساعة تسير تروسها الداخلية على غير ما تسير عليه عقاربها، أو هو الموسيقى وهي تعزف لحنًا فيرقص الراقصون على لحن آخر؛ وذلك لأن سطح الحياة — كما يبدو لأعين المشاهدين — فيه كثير جدًّا من ظواهر الحياة العصرية: فهنالك المصانع ووسائل النقل والمواصلات والطباعة ونظم الحكم ونظم التعليم وغيرها وغيرها، كلها يجري مع العصر في ظاهره، لكن هذه الظواهر الحضارية العصرية كانت تقضي ضربًا من منطق التفكير العقلي يكون مستترًا وراءها، فأما ما هو واقع عندنا بالفعل فهو أن تلك الظواهر الحضارية تستتر وراءها أجهزة عقلية تفكر على نمط العصور الوسطى، وعلة ذلك أننا نقلنا عن الغرب كثيرًا من ظواهر ثقافته وحضارته، لكننا لم نغير من وجهات النظر الداخلية بما يتناسب مع تلك الظواهر، فكانت المفارقة العجيبة؛ فقد ترى رجلًا من رجال العلم في مركز من مراكز البحوث أو في إحدى الجامعات يعرف جيدًا ما عليه علمه ذاك في أكثر البلاد تقدمًا، لكنه إذا ما ترك عمله لينخرط مع سائر الناس في تيار الحياة؛ وجدته يؤمن بالخرافة إيمان مَنْ لم يحصِّل من العلم حرفًا واحدًا.

والثورة الفكرية التي لا مناص من حدوثها ليعتدل الأمر ويتوازن، هي أن نغير من «المنهج» الذي ننظر به إلى الدنيا من حولنا بحيث يصبح ذلك المنهج متسقًا مع السطح الحضاري الذي نقلنا منه جوانب كثيرة عن الغرب.

وشيء كهذا حدث في أوروبا إبَّان نهضتها، وإلا لما تحققت لها نهضة؛ إذ غيرت المنهج الفكري المتمثل في المنطق الأرسطي القديم، وقيَّض الله لأوروبا الحديثة رجالًا من رجالها يضعون لها منهجًا جديدًا يتفق مع الانقلاب العلمي الذي كان وشيك الظهور عندئذٍ، فكان «ديكارت» وكان «فرنسيس بيكون»، وإذا أردنا نحن الآن نهضة كنهضتهم فلا يكفي أن نقطف ثمارهم ونُركِّبها على جذور عتيقة، بل لا بد من تغيير الجذور المنهجية؛ لتتجاوب أجزاء الشجرة بعضها مع بعض، وتربط الجذور بالثمار بروابط تجعل الثمار ثابتة من الجذور لا مُقْحَمَة عليها قسرًا، ومحور التغيير المطلوب هو أن نستبدل بفكر يحبس نفسه في مقدمات موروثة فكرًا جديدًا يقيم نتائجه على قراءة الطبيعة ذاتها.

ففي ختام الفصل المعنون «تحولات في المناخ الفكري» (في كتابي «هذا العصر وثقافته») قلت: «… وعقيدتي أن ثورة فكرية كهذه لم تحدث لنا من خلال هذا القرن كله برغم التغيرات الكثيرة والهامة التي طرأت على صورة الحياة؛ وذلك لأنَّ النَّمط الفكريَّ القديم باقٍ كما كان دائمًا، والعجيب الذي يلفت النظر هو أن الفجوة الكائنة بين ذلك النَّمط الفكريِّ من جهة وتفصيلات الحياة الجديدة من جهة أخرى لا تُحْدِث فينا شيئًا من القلق أو التوتر الذي لو حدث؛ لحفزنا إلى سد الفجوة بالملاءمة بين المبادئ العامة وتفصيلات الحياة العملية.»

٣

في الأوائل الأولى من سنة ١٩٦٥م أنشأت — باسم وزارة الثقافة — مجلة «الفكر المعاصر» وأشرفت على تحريرها ما يقرب من أربع سنوات، ولقد رسمت لها سياستها منذ صدورها أن تقصر نفسها على ما هو «فكر» وما هو «معاصر» من ذلك الفكر، وكان معنى اقتصارها على «الفكر» — عندي — هو إخراج «الأدب» الصرف: شعرًا ورواية وقصة ومسرحية، ثم كان معنى «المعاصرة» أن ينصبَّ اهتمامها في المقام الأول بما ظهر من فكر جديد بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من أهم معالم السياسة التي رسمتها لها كذلك أن تُعْنَى بالفكرة الرفيعة الخصبة الموحية أيًّا كان مصدرها: جاءت من غرب أم جاءت من شرق على حد سواء؛ أي أن تكون مجلة «محايدة» من الناحية السياسية، ما دامت قد استهدفت جودة الفكرة بغضِّ النظر عن «السياسة» التي انبعث منها ذلك الفكر الجيد.

وكان المناخ الفكري في مصر إبَّان الستينيات مليئًا بأفكار جديدة تولَّدت عن الروح الثورية التي أرادت بطموحها أن تغير حياتنا نحو الأفضل بكل ما استطاعت من جهد وقوة، لكن كثيرًا جدًّا من تلك الأفكار السابحة في سمائنا إبَّان تلك الفترة كان — فيما رأيت — شديد الغموض برغم دورانه على الألسنة والأقلام، بل إن ذلك الغموض كثيرًا ما أدى إلى الخطأ الصريح الذي لم يكن يخلو من خطورة على أفهامنا وحسن تصورها للمعاني التي تريد استخدامها أداة للثورة الفكرية، فآليت على نفسي أن أنشر في مجلة «الفكر المعاصر» فصولًا أتناول في كل فصل منها أفكارًا رئيسية من تلك الأفكار الشائعة؛ لأحللها تحليلًا أقرب إلى التحليلات الفلسفية الهادئة المنزهة عن أهواء المذاهب السياسية، وكنت في معظم الحالات أنتهي إلى نتائج لم تكن هي ما يفهمه عامة المفكرين في حياتنا الثقافية يومئذٍ، ولأضرب لذلك بضعة أمثلة في إيجاز:
  • (أ)

    كانت هنالك دعوة تهيب بكل المواطنين أن يتَّحدوا في الفكر ليكونوا من أمور دنياهم — بل وأمور آخرتهم كذلك — على رأي واحد، وسرعان ما فهم أصحاب السلطان في شتى مواقعهم هذه الوحدة الفكرية المنشودة على أنها تطابق الآراء تطابقًا لا يدع فرصة لزيد أن يختلف عن عمرو، وزيد وعمرو معًا إنما يتطابقان مع رأي «الجهات العليا» — كما يسمونها عادة، فكتبت تحت عنوان: «وحدة الفكر» أقول فيما أقوله: «… وسر الوحدة الفكرية — فيما نرى — هو في غلبة أهداف على أهداف؛ فالإنسان كائن عضوي هادف يوجِّه نشاطه الحيوي نحو غايات بعينها، تصبح هي الخيوط الرابطة لأوجه النشاط على اختلافها، فإذا وضعنا المعنى الذي نريده في جملة مركَّزة مختصرة، قلنا: إن وحدة التفكير هي في وحدة الهدف، وأن ذلك يصدق بالنسبة للفرد الواحد كما يصدق بالنسبة للأمة الواحدة، فإذا تعدَّدت الأهداف كما تتعدَّد الأضداد، بحيث أراد الشخص الواحد شيئين متضادين؛ فقد وقع في تفكك وتمزق، يريد بعضه شيئًا ويريد بعضه الآخر شيئًا آخر، وليس ذلك بالنادر الحدوث، فما أكثر ما يريد الشخص أن يأكل الفطيرة وأن يظل محتفظًا بها في آنٍ واحد — كما يقولون، ولكنها تُعَد حالة مرضية أن توزع النفس بين النقائض والأضداد، وطريق الشفاء إنما يكون في أن يعرف المرء حقيقة نفسه ليعلم أي النقيضين أو الضدين يختار.»

    نقول: إنَّ سر الوحدة الفكرية هو في غلبة أهداف على أهداف، أو بعبارة أخرى: هو في تركيز الانتباه في غايات معينة، وإقصاء ما يناقضها أو ما يحجبها عن مجال النظر، وتغير تركيز الانتباه في هدف محدد، يتعذر — بل يستحيل — على الإنسان أن يختار من مختلف العناصر التي تعرض له في حياته ما يخدم الغرض المنشود؛ إذ كيف أختار الوسائل إلا إذا سبقت عندي الغاية التي أتوسل إلى بلوغها بهذا أو بذاك من العناصر التي تعرض لي في الطريق؟ إنه لا تناقض في أن ينشد الفرد الواحد سلسلة من الغايات يأتي بعضها في إثر بعض، فكلما حقق إحداها جعلها وسيلة لما بعدها … (راجع كتاب «في حياتنا العقلية»).

    لكن هذا الذي ذكرناه يترك مسألتين هامتين لاختلاف الرأي اختلافًا حرًّا، أولاهما: ماذا عسى أن يكون الهدف الرئيسي الذي نبحث له عن الوسائل الموصلة إليه؟ أنترك فردًا واحدًا يحدد لنا هدفنا ثم يصيح فينا أن اتحدوا تحت لوائه؟ والمسألة الثانية هي: ما أفضل الوسائل للوصول إلى الهدف المختار؟ إنه إذا لم تترك للأفراد حرية القول في هاتين المسألتين؛ وقعنا في قبضة فرد مستبد حتى ولو كان في استبداده سليم النية في إخلاصه لبلاده.

  • (ب)

    وكان من الأفكار التي شاعت شيوعًا واسعًا وخطيرًا فكرة تقسيم الناس إلى يمين ويسار، ولو اقتصر الأمر في ذلك على الحدود التي تجعل لتلك القسمة معنى؛ لهان الخطب، لكنه تقسيم اتسع حتى شمل جوانب لا يمكن عقلًا أن تندرج تحت الانقسام إلى يمين ويسار، فطرحت الموضوع أمام نفسي للنظر التحليلي الهادئ التربة، ثم عرضت على القراء ما انتهيت إليه من نتائج، وكان ذلك بعنوان «يمين الفكر ويساره، ما معناهما؟» (راجع كتاب «في حياتنا العقلية») فقلت فيما قلته:

    «… «اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما يُسْتَعْمَلان على نطاق واسع؛ للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص، فهذه الفكرة من اليمين وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك، وهذا الرجل وذاك. ولقد تساءلت — مخلصًا لنفسي السؤال والبحث عن الجواب: ماذا يا ترى عساها أن تكون تلك الصفات التي إذا ما توافرت في شخص أدخلته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ ولما حاولت الإجابة؛ وجدت الأمر أعقد من أن تجيء إجابة سريعة أطمئن إلى صوابها؛ ذلك لأنه لو كانت التفرقة مقصورة على يمين في ناحية ويسار في ناحية، لَمَا كان للتقسيم مغزًى عند من تعنيه الآثار الفعلية للأفكار النظرية، لكنني ألاحظ أن ثمة صفتين أخريين — على الأقل — تلحقان باليمين على أقلام الكاتبين، كما تلحق النتيجة بمقدمتها، وأن ضديهما كذلك يلحقان باليسار، فإذا هم وضعوا رجلًا في زمرة اليمين وصفوه في الوقت نفسه بالرجعية وباللاعلمية في وجهة النظر؛ لأن اليسار وحده — هكذا ألاحظ في الاستعمال الجاري — هو التقدمي وهو العلمي، وإذا كان هذا هكذا فليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديد.

    وأول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر إلى هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: تُرَى هل يتخارج هذان القسمان تخارجًا تامًّا كما يتخارج الذهب والنحاس، فلا يكون الذهب نحاسًا ولا النحاس ذهبًا؟ أو هما متداخلان كما يتداخل الشعر والموسيقى في شيء واحد بعينه — هو الأغنية — تداخلًا يجيز لك أن تعد الأغنية شعرًا إذا شئت، وأن تعدها موسيقى إذا شئت؛ لأنها شعر وموسيقى في آنٍ واحد؟ …»

    وهكذا مضيت ألقي أضواء التحليل على هذا التقسيم؛ لأخلص آخر الأمر إلى أنه تقسيم قد يكون له معناه في بعض المجالات كالاقتصاد والاجتماع، وحتى في هذه المجالات فالأمر مرهون بتعريف اشتراطي يحدد معنى النقطتين تحديدًا عرفيًّا، أما سائر ميادين الفكر فمن العسير أن نرى متى يكون الموقف يمينًا ومتى يكون يسارًا إلا مع تعسف شديد.

    ومن طريف ما أذكره في هذا السياق أنني كثيرًا جدًّا ما فوجئت بأن أجد كاتبًا قد نعتني باليمين، كما أفاجأ بكاتب آخر ينعتني باليسار، وكاتبًا ثالثًا يحدد موقعي بأنه يمين اليسار، وكاتبًا رابعًا يحدده بأنه يسار اليمين، وكان ذلك كله مؤسَّسًا على موقف فكري واحد التزمته ولم أغير منه شيئًا ذا بال، وهو الموقف الذي ذكرت بعض جوانبه في الفصل السابق، شارحًا به «التجريبية العلمية» (أو الوضعية المنطقية) التي أخذت بها في بنية العلم ومنطقه.

  • (جـ)

    ومن الأفكار التي تناولتها بالنظر العقلي لأحيط نفسي بمعناها، ثم أشرك القارئ معي فيما انتهيت إليه: فكرة «المثقف الثوري» مَنْ هو؟ وذلك لأنه قد شاع في حياتنا الفكرية مبدأ ينادي بوجوب أن يكون المثقف أداة بثقافته لتقدم الناس، فحاولت أن أتبين الفارق الذي يفصل بين من هو مثقف فقط ومن يكون مثقفًا ثوريًّا، فكان مما كتبته في ذلك المجال ما يأتي:

    «استوقف نظري فيما قرأت منذ قريب قولان مختلفان، لكنهما يلتقيان عند نقطة واحدة فيها من الخصوبة والثراء ما يوحي للفكر المتأمل بمعان كثيرة غزيرة، من بينها معنًى قد يكون هو الفصل الحاسم عند تحديدنا للمثقف الثوري مَنْ ذا يكون؟ فمتى يكون المثقف مثقفًا وكفى؟ ومتى يكون مثقفًا وثوريًّا معًا؟ أما أحد القولين فقد صادفته خلال قراءتي لديون ابن عربي «ترجمان الأشواق» الذي تولَّى فيه ابن عربي بنفسه شرح شعره ليبين مراميه في الرموز التي لجأ إلى استخدامها في ذلك الشعر، وقد أورد في غضون هذا الشرح حديثًا للنبي عليه السلام، يقول فيه: «ما ابتُلِيَ أحد من الأنبياء بمثل ما ابتُليت.» مشيرًا بذلك — فيما يقول ابن عربي — إلى رجوعه من حالة الرؤية — رؤية الحق — إلى دنيا الناس؛ ليخاطب فيهم مَنْ ضل ليهديه سواء السبيل؛ أي إن رؤية الحق لم تكن عنده هي كل الطريق، وإنما يكملها أن يغير الحياة على هذه الأرض بما يجعلها تعلو إلى الكمال الذي رأى.

    وأما القول الثاني فقد وجدته عند محمد إقبال، حينما عاودت قراءة كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» إذ وجدته يستهل الفصل الخامس من هذا الكتاب بهذه العبارة: «صعد محمد النبي العربي إلى السموات العلى، ثم رجع إلى الأرض، قسمًا بربي لو بلغت هذا المقام لما عدت أبدًا.» وهي عبارة قالها — فيما يحكي محمد إقبال — وليٌّ مسلم عظيم هو عبد القدوس الجنجوهي، ثم يمضي إقبال في القول بأنه من العسير — في ظنه — أن تجد في الأدب الصوفي كله ما يُفصح في عبارة واحدة عن مثل الإدراك العميق للفرق السيكولوجي بين نمطين مختلفين من أنماط الوعي: أما أحدهما فهو النمط الذي تتميز به حالة النبوة، وأما الآخر فهو ذلك الذي تتميز به حالة التصوف، ففي هذه الحالة الثانية — حالة التصوف — ترى المتصوف إذا ما بلغ شهود الحق تمنى ألا يعود إلى دنيا الناس، وحتى إذا هو عاد — كما لا بد له أن يعود — جاءت عودته غير ذات نفع كبير للناس؛ لأنه سينحصر في ذات نفسه، منتشيًا بما قد شهد، ولا عليه بعد ذلك أن تتغير أوضاع الحياة من حوله أو لا تتغير، وأما في حالة النبوة فالأمر على خلاف ذلك؛ لأن مشاهدة الحق يتلوها رجوع إلى الناس في دنياهم، لا ليقف النبي بما يجري حوله موقفًا سلبيًّا غير مكترث، بل ليغامر فيه بما يغيره التغيير الذي يخلصه من أوجه الفساد، ويصعد به نحو مثال الكمال، كما ارتسم في إدراكه الواعي لحظة الشهود.

    إن إدراك الحق عند الصوفي هو غاية يوقف عندها، وأما عند النبي فهو بمثابة يقظة تصحو بها كوامن نفسه، حتى لتتحول تلك الكوامن بين جوانحه إلى قوى تهز أركان العالم هزًّا ليستفيق من سُباته، فيبدل قيمًا بالية بقيم جديدة، فكأنما عودة النبي من حالة الشهود إلى حالة الفعل هي بمثابة مقياس يقيس شيئين في وقت واحد: يقيس مدى ما تنطوي عليه المثل العليا التي شوهدت في حالة الرؤية الروحية من قدرة على التطبيق والإصلاح، ثم يقيس مدى ما تستطيعه الإرادة القوية والعزيمة الماضية من مواجهة الصعاب، حتى تزيل حياة فسدت؛ لتقيم مكانها حياة جديدة منشودة.

    هذان هما القولان اللذان صادفتهما فيما قرأت منذ قريب، واللذان يلتقيان عند نقطة واحدة مشتركة، هي التفرقة بين رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى، ولئن كنت قد وجدت هذه التفرقة مقصورة على التمييز بين حالتَي التصوف والنبوة، فلست أرى ما يمنع من التوسع في التطبيق، بحيث يجعلها تفرق بين المثقف الذي ينعم بثقافته، ثم لا يغير من مجرى الحياة شيئًا، والمثقف الذي لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداة لتغيير الحياة من حوله، وفي هذه الحالة الثانية يكون المثقف مثقفًا وثائرًا معًا …» (اقرأ تفصيلات المعنى في الفصل الخاص بهذا الموضوع في كتابي «في حياتنا العقلية»).

٤

أكتفي بالأمثلة الثلاثة التي قدمتها؛ لأقدم بها نموذجًا لما أخذت أكتبه في مجلة «الفكر المعاصر» شهرًا بعد شهر في أواسط الستينيات، وكان من الموضوعات التي حللتها على هذا المنوال: إرادة التغيير، طراز من الفردية جديد، معنى الصراع الفكري، قيادات الفكر المعاصر، روح العصر من فلسفته، الماركسية منهجًا … وكانت طريقتي كما قد رأيت من الأمثلة التي عرضتها في الفقرة السابقة هي أن أمسك بعدسة مكبرة تكشف للقارئ عناصر الفكرة التي هي مدار الحديث، موقنًا أن ذلك وحده كفيل بأن يزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي عليها تدور ثقافتنا إبَّان تلك الفترة، فلقد كنت تقرأ للكتاب عندئذٍ عن تلك الموضوعات وأمثالها؛ ليقيموا على ما يكتبونه نتائج سياسية وغير سياسية، دون أن تكون في أذهانهم أفكار واضحة عما يكتبون عنه؛ فلم يكن ينشأ لنا عن الغيوم العقلية إلا غيوم، وما «العقل» إلا ضروب من «التحليل»؛ يبين حقيقة العلاقة بين المقدمات والنتائج، وفيما يلي قصة أرويها من حياتي سنة ١٩٥٨م؛ لأنها — من جهة — تسجل نوعًا من النشاط الثقافي الذي اضطلعت به، ثم هي — من جهة أخرى — ذات دلالة على مدى الأهواء اللاعقلية في تشكيل مواقفنا واتجاهاتنا في شئون ثقافية كان من حقها أن تظفر من أصحاب الريادة الفكرية بقسط من ضوابط أكثر جدًّا مما يمارسونه.

ففي سنة ١٩٥٨م دُعِيتُ للقاء زائر أمريكي قال: إنه ممثل لمؤسسة فورد، وقد جاء ليعرض علينا مشروعًا ثقافيًّا تنفق عليه تلك المؤسسة، ألا وهو إخراج موسوعة عربية متوسطة الحجم، على غرار موسوعة كولمبيا الأمريكية، وأرجو من القارئ أن يلتفت إلى قولي «على غرار»؛ إذ كان هذا هو أساس المشروع المقدَّم إلينا، ولم يكن «ترجمة» لموسوعة كولمبيا، وكان لمؤسسة فورد فيما تبرعت به من إنفاق مالي على المشروع — لو قبلنا تنفيذه — شرط واحد، هو أن يُشرف على العمل ويشارك فيه أكبر عدد ممكن من الأقطار العربية جميعًا، بمعنى أن تكون تلك الأقطار ممثلة بقدر طاقاتها الثقافية، حتى نضمن أن تكون «الموسوعة» عربية ومن صنع الأمة العربية، لا تحتكر العمل فيها بعض الأقطار دون بعض.

تم هذا اللقاء الأول في «مؤسسة فرانكلين» بالقاهرة؛ لأنها كانت هي التي ستصبح أداة التنفيذ لو كُتِبَ للمشروع أن يمضي في طريقه، فكنا في ذلك اللقاء ثلاثة: ممثل مؤسسة فورد وحسن جلال العروسي المشرف على مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، وأنا باعتباري اختيارًا لرئيس تحرير الموسوعة محتمل الوقوع، وكانت أولى النقاط المطروحة بيننا لتبادل الرأي هي البحث عن الطريقة المثلى لتمثيل البلاد العربية تمثيلًا كافيًا، فطرأت للعروسي فكرة اللجوء إلى جامعة الدول العربية، وفي ذلك الحين كان الدكتور طه حسين هو القائم على الجانب الثقافي من تلك الجامعة، وهو الجانب الذي كان أحد فروعه معهد الدراسات العربية، الذي كان الأستاذ شفيق غربال عميدًا له.

تركنا الأمر للعروسي عند هذه الخطوة؛ ليتصل بالجامعة العربية باحثًا عن طريقة التمثيل الذي كان شرطًا أوليًّا، وفي جلسة تالية نقل إلينا العروسي نتيجة اتصاله، وهي أن يوكل الإشراف الأعلى للأستاذ شفيق غربال من حيث هو عميد لمعهد الدراسات العربية، ثم يأتي بعد ذلك مجلس للإدارة يُخْتَار أعضاؤه من مختلف الأقطار العربية، وفي تلك اللحظة عُرضت عليَّ رئاسة التحرير، ويشهد الله أنني ما شعرت بالخوف من مشروع ثقافي أشارك فيه قبل ذلك أو بعد ذلك بمثل الخوف الذي شعرت به في تلك اللحظة التي قبلت فيها رئاسة تحرير الموسوعة؛ فالعمل كبير ومزالق الخطأ فيه — والخطر — كثيرة، لكني عقلت الأمر وتوكلت على الله وقبلت.

كانت أولى خطوات التنفيذ رحلة إلى أمريكا لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، أزور خلالها مقار الموسوعات الثلاث الكبرى التي تصدر هناك: اثنتان منهما في نيويورك، وهما: «الأمريكانا» و«كولمبيا»، والثالثة في شيكاغو، حيث مقر موسوعة «البريتانيكا» (وأقول هنا استطرادًا بأن «البريتانيكا» — الموسوعة البريطانية — لم تعد في بريطانيا كما بدأت، بل اشترتها شركة أمريكية، وأحدثت فيها بعد ذلك تغيرات في موادها ونسب الأهمية بين تلك المواد)، لكن كانت لموسوعة «كولمبيا» بين هذه الموسوعات الثلاث التي زرتها لمعرفة التفصيلات التي تدار بها تلك الأجهزة الكبرى من الداخل، أقول: كان لموسوعة «كولمبيا» بينها أهمية خاصة في مشروعنا، وهي أن اتفاقًا تم معها على أن يصرح لمن شاء أن يأخذ من مادتها في الموسوعة العربية ما أراد أن يأخذ، ومرة أخرى أوجِّه رجائي إلى القارئ بأن يلتفت إلى هذا المعنى بدقة، فلم يكن مدار الاتفاق مع كولمبيا أن «نترجم» مادتها إلى العربية؛ فقد لا نأخذ منها حرفًا واحدًا، ولكن إذا حدث أن استعان بشيء منها الأساتذة المسهمون في الموسوعة العربية، فذلك مصرَّح به مقدمًا.

وأثناء وجودي في أمريكا دارسًا — على الطبيعة كما يقولون — للموسوعات وكيف تُعَدُّ مادةً وإخراجًا، استخلصت لنفسي مبدأً نؤسس عليه عملنا، يختص بالنسبة التي تقسم على أساسها مواد الموسوعة: فكم منها يكون للمادة العربية الخالصة وكم يكون لبقية العالم؟ ولقد تنبهت لأهمية هذه النقطة — مسألة النسبة بين الأجزاء والمواد — خلال زياراتي لمقار إدارة الموسوعات الثلاث التي ذكرتها، وكان المبدأ الذي استخلصته هو أن تكون أربعون في المائة للمادة العربية الخالصة وستون لبقية العالم. وبالطبع كان مبدأً هامًّا أساسيًّا كهذا هو أول ما يُفرض على مجلس إدارة الموسوعة عندما يتم انتخاب أعضائه من مختلف الأقطار العربية؛ ليقرَّه أو ليعدِّل فيه.

عدت إلى مصر مزوَّدًا بكثير من الأفكار التي تقام على محاورها صناعة الموسوعات، فوجدت ويا لهول ما وجدت! وجدت مجموعة مقالات كُتِبَت عن مشروع الموسوعة العربية خلال الثلاثة الأسابيع التي قضيتها في أمريكا تبلغ نحو عشرين مقالة، نُشِرَت في صحفنا الكبرى جميعًا، ولحظت أن نشرها قد جاء على نسق لا أظنه وليد المصادفة، بل لا بد أن يكون مرسومًا ومدبَّرًا، وهو أن تتوالى المقالات يومًا بعد يوم، بحيث تتولى كل صحيفة دورها في النشر كلما جاء موعده.

وكانت نقطة البدء مقابلة أجراها أحد الكُتَّاب مع الدكتور طه حسين، وفيها يسأله: أليس في مشروع الموسوعة العربية هذا خيانة للثقافة العربية؟ فأجاب الدكتور طه بما معناه: بل إن فيه ما هو شر من الخيانة. وبعد هذه المقابلة انطلق الكُتَّاب ينشرون مقالاتهم التي أشرت إليها، والتي مدارها هو سؤال كهذا: كيف نسمح للأمريكيين أن يتولوا إخراج موسوعة عربية تجيء «ترجمة» لموسوعة كولمبيا؟ وراح بعضهم يبحث في كولمبيا التي زعموا أننا سنترجمها ثم تسمى الترجمة «موسوعة عربية»، راح بعضهم يبحث في كولمبيا عن أشخاص وأحداث عربية هي غاية في الأهمية بالنسبة للثقافة العربية، فلا يجد عنها إلا قليلًا، وقد لا يجد عنها شيئًا، فيقول لقرائه: انظروا إلى هذا الاستعمار الثقافي البشع الذي هو على وشك أن تقع جريمته في بلادنا، وكان اسمي بالطبع بين أسماء ذكروها هنا وهناك، على أن أصحابها هم صنائع ذلك الاستعمار الثقافي المخيف.

هالني ما قرأته في تلك المقالات، فأولًا: أنا أعرف عن نفسي نزاهةً وصدقًا ووطنيةً ذهبت فيها إلى حد التطرف إذا كان في مثل هذا الأمر تطرف، وثانيًا: كانت الفكرة عندي هي أن الجامعة العربية — والدكتور طه حسين هو القائم بأمانتها في الثقافة — هي التي أعدت لنا طريقة التمثيل العربي، فكيف حدث إذن أن أصبح الدكتور طه نفسه أول من أعطى إشارة الهجوم؟ وثالثًا — وهو أهمها جميعًا — لم يكن فيما قرأته شيء من الصدق، فلا أساس المشروع هو أن «نترجم» موسوعة كولمبيا، ولا لأي امرئ سلطة على ما تختار كتابته في مواد الموسوعة إلا مَنْ سيتولى الكتابة منا، مع إشراف مجلس الإدارة الذي اختير أعضاؤه من معظم البلاد العربية، وللقارئ أن يرجع إلى هذه الأسماء، وسيراها مثبتة في أول «الموسوعة العربية الميسرة» — فهكذا جعلنا اسمها — وأنا على يقين من أنه سيدهش كيف أمكنه حشد هذه النخبة العربية كلها في عمل واحد؟

أحسست — إزاء الهجوم الذي قرأت عنه في مجموعة المقالات — بأنني أضعف من أن أحتمل تهمة «العجالة» لاستعمار ثقافي، برغم علمي عن يقين ليس بعده يقين كم هي تهمة كاذبة؛ ولذلك كتبت خطابًا إلى الدكتور طه حسين أعبر فيه عن دهشتي مما قرأت، ومؤكدًا له أنني ما تحركت على الطريق إلا بعد أن علمت أن الجامعة العربية (وهو أمينها للثقافة) قد وضعت المشروع كله في رعايتها، ثم تنحيت عن رئاسة تحرير الموسوعة، بل وأبديت للمسئول عنها استعدادي التام لإعادة نفقات رحلتي إلى أمريكا لتصفو كل الضمائر من الشوائب. وانتهى الحوار الجاد المُلِح إلى أن قبلت عضوية مجلس الإدارة وذهبت رئاسة التحرير إلى المرحوم إسماعيل مظهر.

وتمت الموسوعة على نحو ما تمت، ولكن لماذا ذكرت هذه القصة الطويلة عنها؟ فعلت ذلك لأبين كيف وإلى أي حد تؤخذ حياتنا الثقافية — وفي أعلى درجاتها ومستوياتها — مأخذ العراك الذي تُحركه الأهواء، فلأن نفرًا من الناس وجد أن فرصة قد ضاعت من يديه، فلماذا لا يلطخ الساحة كلها بالوحل: وحل الاستعمار الثقافي والعمالة والخيانة وأخواتها، وكان البناء كله كذبًا في كذب. وإذا كانت أدنى درجات الضوابط العقلية هي أن يتريث الإنسان فلا يصدر أحكامه على شيء إلا بعد إلمامه بحقيقة ذلك الشيء الذي يريد الحكم عليه، فكما قال القدماء: «الحكم على شيء فرع عن تصوره» أي إن التصور الصحيح للشيء المراد الحكم عليه شرط أساسي لذلك الحكم، فماذا نقول في جماعة من صفوة رجالنا يندفعون اندفاعًا إلى الهجوم قبل أن تتبين لهم حقيقة ما يهجمون عليه؟

٥

«أزمة العقل في حياتنا» موضوع ما فتئ يشغلني، فلقد رأيته ركنًا أساسيًّا لمن أراد أن يُغيِّر من حياتنا الثَّقافية تغييرًا يجعلها أقرب ملاءمةً مع عصرنا، وتحت هذا العنوان نفسه كتبت (راجع كتابي «ثقافتنا في مواجهة العصر») لأُبيِّن كم هي مُنفرجة تلك الزَّاوية التي تفصل ما بين رؤيتنا للعالم ورؤية العصر له، فقلت فيما قلته عن أزمة العقل في حياتنا:

لننظر إلى أوساط الناس من حولنا، فماذا نرى؟ نراهم على عداوة حادة مع العقل وبالتالي فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ومن منهجية النظر ودقة التخطيط والتدبير، فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ويرود أصحابها أرض القمر؛ تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجيء الأنباء بفشل التجربة، وإذا سمعوا عن قلوب أو غير قلوب تؤخذ من آدمي لتُزرع في آدمي آخر؛ أحزنهم أن يتحقق النجاح، وأفرحهم أن تخفق المحاولة، وهاك هذين المثلين من خبرتي الخاصة لم أقرأ عنهما في صحيفة أو كتاب، بل شهدتهما بعيني وسمعتهما بأذني:

أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضائها، وكان من المسهمين فيها كذلك عميد لإحدى كليات العلوم عندئذٍ، وكان السؤال المطروح هو: ماذا ترى في هذه الوثبة العلمية الجريئة التي هي صعود الإنسان إلى أرض القمر؟ فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية: إنه يعوذ بالله من هذا الشطط الذي قد يؤدي بالكون إلى الدمار، ثم تساءل قائلًا: أليس يجوز أن يهبط الصاروخ على القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر.

أما المثل الثاني فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب في الأمة العربية: ما رأيك فيما سمعناه عن زرع القلوب في أبدان غير أبدانها؟ فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع، مؤكدًا أنها محاولات مجنونة، لن تؤدي إلى شيء …

نعم، ملأتني الفكرة بضرورة أن يكون «العقل» بمنطقه الصارم صاحب الكلمة الأخيرة في كل مسألة لا تقع بطبيعتها في مجال الحياة الشعورية الخاصة بالأفراد، ويتبع ذلك — عندي — ضرورة الارتفاع بمنزلة «العلوم» في حياتنا العامة كلما أشكل علينا أمر، وماذا يكون «العقل» — ومعه «العلم» — إلا أن يكون طريقة خاصة في السير من مشكلة يراد حلها إلى الإجراء الخاص الذي يحلها؟ صغار الأطفال إذا ما اعترضتهم مشكلة انفعلوا لها بالصراخ والخبط بأيديهم وأرجلهم، فلا يؤدي ذلك كله إلى زوال مشكلتهم، وأما الإنسان إذا رشد ونضج فلا انفعال أمام العقبات ولا صراخ ولا خبط بالأيدي ولا دبدبة بالأقدام، بل يجلس هادئًا يحلل المشكلة المعترضة إلى عناصرها، ثم يتصور لنفسه طريقًا عمليًّا أو نظريًّا من شأنه أن يزيل العقبة من الطريق، ثم يأخذ في تجربة ذلك التصور على الواقع ليرى إن كان فيه الحل المطلوب أو يضطر إلى رسم تصور آخر.

والإيمان بضرورة اللجوء إلى العقل وإلى العلم الذي هو في الحقيقة تجسيد للعقل في رسم السبل الناجحة، يتضمن إيمانًا بقدرة العقل الإنساني على الاضطلاع بما خلقه الله من أجله. لكن هل هذه الوقفة هي التي لها السيادة في حياتنا؟ كلا، فنحن نفاخر سائر الدنيا بأننا أصحاب قلوب عامرة بوجدانها، لا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع المعروض للمعالجة مما تنفع أو لا تنفع فيه القلوب ووجدانها، ومن ثم كانت دعوتي التي ما فتئت أكررها بوجوب التفرقة الواضحة بين مجالين: مجال لا يصلح له إلا العقل بكل رصانته وبروده، ومجال آخر من حق المشاعر أن تشتعل فيه ما شاءت لها حرارتها.

وقد تكون هذه التفرقة واضحة أحيانًا، لكنها قد تغمض على الناس أحيانًا، ومن هنا ركزت الكتابة — كلما كتبت في ذلك — على المواقع التي يكتنفها شيء من غموض، فماذا نقول في مجال الفكر السياسي مثلًا؟ أنخدم الوطن بأسلوب «العقل» أم بأسلوب «العاطفة»؟ فكتبت لألقي الضوء لمن أراد أن يشهد الحق، فأوضحت الفرق هنا بين «الهدف» و«الوسائل»؛ فرجال السياسة — لو أنصفوا — لما حَقَّ لهم أن يجاوزوا اختيار «الأهداف»، ثم يتركون رسم الوسائل المحققة لتلك الأهداف، يتركونها لرجال العلم في مجالات اختصاصهم؛ فاختيار «الهدف» تعبير عن رغبة، وبالتالي فهو أَدْخَل في باب الحياة الشعورية؛ لأن فيها موطن «الرغبات»، وأما رسم الخطوات الموصلة إلى الهدف فينبغي أن يُبْنَى على المعرفة العلمية في أدق صورها؛ فقد تكون «الرغبة» عند رجال السياسة أن يعمموا في الناس حق التعلم، أو أن يوسعوا الأرض المزروعة، أو أن يتحول البلد بثقله من محور الزراعة إلى محور الصناعة، أو أن يكون بيننا وبين بلد معين صداقة أو عداوة … هذه وأمثالها رغبات هي من حق رجال السياسة أن يُبدوها في المجالس النيابية وغيرها، لكن الرغبة لا تحمل في أصلابها طريقة تحقيقها، وهنا يأتي دور العلماء في الجامعات أو في مراكز البحوث أو غير ذلك من الهيئات العلمية، فيترك لهم رسم الوسائل التي يرجحون لها النجاح (راجع مقاله «العلم مذهب رابع» في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة»).

وأسوق مثلًا آخر لمجال لا يتضح فيه الفرق بين عقل ووجدان فيقع الخلط: مجال الدراسة الأدبية، ومجال النقد الأدبي، فمجرد ذكر لكلمة «أدب» يوحي على الفور بأن المسألة موكولة إلى أدوات أخرى غير علمية المنهج إذا لم يكن الأمر أمر إبداع أدبي في قصة أو في قصيدة من الشعر؛ إذ في الإبداع الفني نفسه يختلف الأمر عنه في أن يكون ذلك الإبداع موضوعًا للدراسة؛ فالفرق بعيد بين موقف أحمد شوقي — مثلًا — وهو يصوغ شيئًا من شعره، وبين دارس يتناول ذلك الشعر نفسه بالتحليل والتقويم، ولقد صادفت زملاء كثيرين من أساتذة «الآداب» ينكرون أن تكون أداة الدراسة متساوية في «العلمية» و«المنهجية» مع أي بحث يجري على ظواهر الطبيعة، وإذا كان بين الموقفين فارق فهو في درجة الصعوبة ودرجة الدقة لا في علمية النظر، على أني أرجئ الإسهاب في القول هنا إلى فصلٍ تالٍ أخصصه لموقفي من نقد الأدب والفن، وليست غايتي في هذا الموضوع من سياق الحديث إلا أن أشير إلى أن خلطًا كثيرًا ما يقع بين ما هو مجال للعقل وما هو مجال للوجدان الفردي الخاص، وماذا أنت قائل في أساتذة يتخصصون في دراسة التصوف فيحسبون أن من لوازم هذه الدراسة أن يعلنوا في الناس أنهم هم أنفسهم متصوفون، فيضيع أمام الأعين ما يميز الحياة الصوفية الداخلية والنظرة العلمية إلى تلك الحياة، إنه — بالطبع — لا تناقض بين أن يكون دارس التصوف متصوفًا، لكنه كذلك لا تناقض في أن يكون دارس التصوف من غير المتصوفين، وكل ما أريد إبرازه هنا هو: أين تكون الكلمة للعقل الباحث الدارس؟ وأين تكون للعواطف والمشاعر؟ (راجع مقالة «علمية الدراسة الأدبية» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»).

٦

النظرة اللاعقلية — واللاعلمية بالتالي — تتحكم في حياتنا العامة حتى لتمسكنا من رقابنا، ومن هنا أحسست منذ زمن طويل بأنه إذا كان لي دور أؤديه في إيمان قوي فذلك هو الدعوى إلى إقامة الخط الفاصل بين ما يجوز الاحتكام فيه إلى العاطفة وما لا يجوز، وكان مما أمدَّني بالقوة فيما اتجهت إليه من دعوة إلى سلطان العقل كلما كان الموضوع المطروح موضوعًا عامًّا في دنيا السياسة أو الاقتصاد أو التعلم وما إلى ذلك، هو إدراكي التام بأن تراثنا العربي وعقيدتنا الإسلامية معًا تؤكدان منزلة «العقل» في حياة الإنسان، وإذن فليس الأمر دخيلًا علينا لا يربطه بتاريخنا سبب من الأسباب، وكل ما في الأمر هو أننا انحدرنا عن قمة مجدنا، فانحدرنا نتيجة لذلك إلى رخاوة العاطفة؛ إذ لم نعد نحتمل صلابة العقل وقوة أحكامه، حتى لقد أسقطنا على العالم الحديث ظلالًا توحي للغرباء بأننا «دراويش» لم يخلقنا الله للعلم القائم على منطق العقل كما خلق سائر عباده ممن يمسكون بزمام الحضارة الراهنة.

فلما حدث سنة ١٩٧٦م أنْ دُعِيتُ — مع مَنْ دُعُوا — من الوطن العربي لحضور ندوة ثقافية أقيمت في واشنطن، وأطلقوا عليها اسم: «الثقافتان العربية والأمريكية»، وكان الغرض منها أن يُدلي الفريق الأمريكي بالملامح التي تميز الثقافة الأمريكية، وأن يُبرز الفريق العربي كذلك ما يميز الثقافة العربية، تعمدت أن أجعل موضوع محاضرتي في ذلك اللقاء الثقافي الكبير عن «جانب العقل في التراث العربي»؛ لأبيِّن بما استطعت من قوة ووضوح أن التفكير العلمي القائم على منطق العقل الصرف كان أوضح ما يميز آباءنا في دراساتهم التي تناولوا بها شتى الميادين: اللغة والفقه والفلسفة والنقد الأدبي وكتابة التاريخ، فضلًا عن العلوم الخالصة من رياضة وطبيعة وفلك وغيرها؛ وذلك لأمحو من الأذهان ما استطعت فكرة ربما شاعت عنا، وهي أننا إذا أفلحنا في ميادين التعبير الوجداني كالشعر والتصوف، فليس لنا في المجال العقلي العلمي باع ولا ذراع، كانت محاضرتي تلك إحدى اثنتين: أما الثانية فأُلْقِيَت في قاعة المحاضرات الكبرى بمكتبة الكونجرس وأدرت الحديث فيها عن «الحياة الثقافية في مصر المعاصرة» (وكلتا المحاضرتين منشورة بالإنجليزية في كتاب أصدره القائمون على الندوة، وأسموه: الثقافتان العربية والأمريكية، وقام على إعداده الدكتور جورج عطية).

في فصل تالٍ سأبسط — في شيء من الإسهاب — وجهة نظري في طريقة الجمع بين ثقافة موروثة وثقافة معاصرة، مقيمًا ذلك الجمع على أساس الجانب العقلي الذي ساد حياة آبائنا من جهة، والذي كان ينبغي أن يسود حياتنا نحن اليوم، لكنني أسارع هنا لأذكر لنفسي إضافة جديدة قدمتها في مؤتمرٍ عُقد بالقاهرة، وكان معلومًا مقدَّمًا أن عددًا من المستشرقين قبلوا الدعوة لحضوره، وكان مدار المؤتمر مناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري، فلقد أقمت بحثي — وعنوانه «طريق العقل في التراث الإسلامي» — على فكرة محورية هي أن المسلم — بحكم عقيدته الإسلامية نفسها — مطالَب باستخدام «العقل» فيما يعترض طريقه من مشكلات، إلا إذا كان الموقف مما جاءت عنه أحكام صريحة في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف، على أن كلمة «العقل» كثيرًا جدًّا ما تُفْهَم بسطحية شديدة، فعنيت في مستهل الحديث بتحديد المعنى المقصود بهذه الكلمة تحديدًا دقيقًا، ثم أخذت أستعرض بإيجاز تاريخ المسلمين الأولين ومناهجهم في التفكير؛ لأبيِّن كم كان نصيب ذلك المنهاج من «العقل» المنطقي بأدق معانيه (راجع النص في كتابي «هموم المثقفين»).

لم تكن محاربتي للنزعة اللاعقلية الشائعة في حياتنا قائمة كلها على نحو ما تُكْتَب الأبحاث العلمية، بل كنت كثيرًا ما ألجأ في ذلك إلى البناءات الأدبية في عرض ما أريد عرضه، وأقصد بالبناء الأدبي ذلك الضرب من الكتابة الذي يبحث فيه الكاتب عن «شكل» (فورم) ليبث فيه — بطريق غير مباشر — المعنى الذي يريد إعلانه.

وأستأذن القارئ — مرة أخرى — في كتابة نموذج كامل لمقالة من هذا الطراز الأدبي، كتبتها لأردَّ بها على شيخ جليل، له في أعين الجمهور أعلى مكانة، وكان يومئذٍ يشغل منصبًا في الدولة هو أعلى المناصب، ومع هذا الوزن كله لشخصه استباح أن ينشر علينا رأيه بجواز أن نُغرق الذبابة التي تسقط في شراب نشربه؛ لأنها — تمامًا كما هو شائع بين عامة الناس — تسقط على جناح ملوث، فإذا أغرقناها كاملة في الشراب، جاء العلاج من جناحها الآخر، وتحت عنوان: «ذبابة تعقبتها» كتبت ما يلي:

كانت الشمس في ضحاها ذات يوم من أيام الشتاء وكنت في غرفة مكتبي من البيت، وزجاج النوافذ مغلق يشفُّ عما وراءه، ولقد راق وكأنه لا زجاج بيني وبين الخارج، لولا ذبابة كانت تجول على سطحه الخارجي، فتدل بوجودها على وجوده.

وجاءت طائرة كانت لبضعة أيام تعاودنا في مثل تلك الساعة من كل صباح، جاءت مسبوق بصوتها، تسمعه آذاننا قبل أن تراها عيوننا، وهي تحتال قريبة من أسطح المباني، تكاد تلمسها بعجلاتها، تنفث وراءها سحبًا من الدخان، وقيل: إنه دخان يحمل معه قاتلات للذباب، فطافت برأسي رغبة مجنونة، وهي أن أتعقب تلك الذبابة الواحدة التي كانت تجول على زجاج نافذتي؛ لأعرف مصيرها في سحابة الغاز، وبالطبع لم يكن مصيرها في ذاته هو مبعث اهتمامي، بل كان مبعث الاهتمام في الحقيقة هو أن أعلم مقدار تأثير الغاز الذي تنفثه الطائرة في الذباب.

وقفت خلف الزجاج؛ لأرقب من قريب، فرأيت الذبابة وقد أخذتها ارتعاشة عصبية أول الأمر، لا تكاد تتجه نحو اليمين حتى ترتد فجأة نحو اليسار، ثم ما هو إلا أن تقف في مكانها هامدة أو كالهامدة، وانقطع الدخان المسموم، وعاد إلى الهواء صفاؤه، ولم تكن إلا بضع دقائق، حتى بدأت الذبابة تحرك من بدنها ساقًا هنا وقرنًا هناك، إلى أن امتلأت بنشاطها، وعادت تجول وتقفز وتطير، وللذباب أحيانًا نقلات سريعة خاطفة بحيث تراها وقد غيرت مكانها دون أن تراها وهي في طريق طيرانها إلى مكانها الجديد.

رجعت إلى مجلسي، أنفذ ببصري مرة أخرى خلال الزجاج الشفاف، لكنها كانت — هذه المرة — هي النظرة الشاردة التي تصاحبها خيوط متفرقة من أفكار متقطعة، لا تستقر على موضوع واحد، وفي مثل هذه الحالة لا تدري عن أفكارك من أين تأتي ولا إلى أين تنتهي، فهي أفكار أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى التفكير المركَّز، وَلَكَمْ يحدث لأحلام اليقظة وما يشبهها من الخواطر السارحة أن تجمع لصاحبها الأفكار — في غدوِّها ورواحها — بحيث ينظر صاحبها إلى الحصيلة التي تجمعت له، فإذا بين يديه قصة بحذافيرها، أو موضوع متكامل الأطراف، لا ينقصه — أو ينقصها — إلا أن تُكتب على الورق.

فلأمرٍ ما تخيَّلت الطائرة النافثة لمواد التطهير، وكأنها تمثل الحركة الفكرية التي تحرك بها أعلام نهضتنا منذ قرن كامل أو يزيد، فما انفكوا طوال الأعوام المائة — أو ما يزيد على الأعوام المائة — ينشرون في الناس أفكارًا كان من شأنها — لو فعلت فعلها — أن تُطهِّر جماجم الناس من خرافات كانت تملؤها حتى فاضت عن حوافيها؛ لتَعْشَى بها الأبصار، فماذا صنع الإمام محمد عبده إذا لم يكن قد أدخل في تلك الجماجم أشعة من ضياء «العقل» تطارد خفافيش الخرافة؟ وماذا صنع العقاد وهو يُعَدُّ — بحقٍّ — استمرارًا للشيخ محمد عبده في جهوده التي أراد بها أن يمزج وجدان الإيمان بمنطق العقل؟! وماذا صنع لطفي السيد الذي أوشك أن يتحول كيانه إلى «عقل» مجسد يهتدي هو بمنطقه أولًا، ثم يأمل أن تسري منه العدوى إلى الآخرين؟ وماذا صنع طه حسين إذا لم يكن قد حاول أن يُعلِّم الناس كيف يقبلون الرأي وهم على حذرٍ؛ حتى لا تنزلق بهم أقدامهم إلى باطل؟! وماذا صنع فلان؟ وماذا صنع من بعده علَّان من حمَلَة المشاعل خلال مائة عام مضت أو ما يزيد على المائة عام؟

لا، لا، إنه لم يعُد يكفيني أن أُلْقِيَ السؤال هكذا في عمومه؛ لأكتفي له بجواب يغلفه الغموض، وإلا فما أسهل أن نقول: إن تلك الحركة الفكرية التي تحرَّك بها أولئك الرواد نحو نظرة عقلية حاولوا أن يشيعوها في الناس، بمواقفهم أولًا، وبما كتبوه ثانيًا، قد أثمرت ثمارها، بل لا بد من تعقُّب الذبابة الواحدة على لوح الزجاج؛ لنستوثق من بلوغ الرسالة إلى الفرد الواحد؛ لأن دمج الفرد في مجموعة لتُغرقه مع غيره قد يوهمنا بغير الواقع.

وخبرتي في مهنة التعليم شاهدٌ على ذلك؛ فالفرق بعيد بين أن تُلقيَ سؤالًا على المجموعة ليأتيك الجواب من خليط الأصوات المتنافسة المتزاحمة، وأن تلقي السؤال نفسه على فرد بعينه، وهو وحده، ففي الحالة الأولى كثيرًا جدًّا ما نتوهم بأن المجموعة تعرف الجواب الصحيح، على حين أنك — في الحالة الثانية — يغلب أن تجد الأفراد عاجزين عن الجواب.

وإذن فلنتعقب أثر أعلامنا — جهابذة النهضة العقلية — في أفراد؛ لنرى كم زال من الخرافة التي حاربوها وكم بقي؟

نحن الآن في سنة ١٩٧٧م وتسمع الحوار الآتي يدور بين جماعة هي من طبقاتنا الفكرية في أعلى عليين، وكان الحديث حول مريض يراد أن تُجْرَى له عملية جراحية في جزء باطني لم أعلم ما هو:

فلان : دع الجراحة والجرَّاحين جانبًا، وخذ هذا العنوان فابدأ بصاحبه.
المريض : ومن يكون صاحب العنوان؟
فلان : رجل موهوب في تحضير الأرواح، لك أن تقول عنه: إنه جراح بلا مشارط.
علان : وكيف عرفته؟
فلان : جربته بنفسي في عملية في المعدة أو الأمعاء، فلم يصنع سوى أن تحسَّس بأصابعه ظاهر ثيابي، ثم قال لي: عد إلى بيتك، حاسب على خياطة الجرح إذا استحممت.
علان : وكيف يكون جرحٌ وخياطةٌ لجرحٍ وهو لم يمسك مشرطًا، بل لم تخلع أنت شيئًا من ثيابك؟!
فلان : هذا ما كان، وعدت إلى داري، وكشفت عن جسدي في مكان العلة، فإذا هناك خياطة كالتي يجريها الجرَّاح، وشُفِيت من مرضي والحمد لله!
المريض : هات لي هذا العنوان.
  • وأنا أسأل: ماذا كان حوار كهذا ليصبح لو أن هذه الجماعة أو جماعة تماثلها تحدثت في أمر من هذا القَبيل سنة ١٨٧٧م؟ أو تحدثت في سنة ١٧٧٧م أو تحدثت سنة صفر أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟
  • ومرة ثانية أقول: نحن الآن في سنة ١٩٧٧م، وتقرأ لكاتب — والصحيفة الأدبية تنشر له — يتساءل: كيف تعود الشمس إلى الظهور بعد مغيب؟ ثم يقدم حضرته بأنها في مخبئها — بعد المغيب — تظل تسجد لله، رافعة إليه الدعاء بأن يعيدها إلى الظهور يومًا آخر فتعود. فماذا كان يُكتب في هذا سنة ١٨٧٧م؟ ثم ماذا كان يُكتب قبل ذلك في سنة ١٧٧٧م؟ أو قبل القبل في سنة صفر أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟
  • ومرة ثالثة أقول: نحن الآن في سنة ١٩٧٧م، وتسمع حوارًا جادًّا لا يمازجه شيء من مزاح بين ثلاثة أشخاص فيهم أستاذ جامعي، يناقشون زواج الجن بالإنس، ما حدوده؟ إنهم جميعًا على اتفاق بأن الرجل من الإنس قد يتم زواجه من امرأة «جنية»، ويؤكد لهم الأستاذ الجامعي أنه مارس هذه الخبرة بنفسه، لكن موضع التساؤل واختلاف الرأي بينهم هو في الموقف المعكوس؛ أي فيما إذا كان الرجل من الجن يمكنه الزواج من امرأة من الإنس، وعلى أية حالة من الحالات ماذا يكون مصير الأبناء وإلى أي فئة ينتمون؟ فماذا كان مثل هذا الحوار ليكون لو جرى سنة ١٨٧٧م، أو سنة صفر وما قبلها بما شئت من سنين؟!

أويت إلى مخدعي يائسًا، وكانت الساعة في عز الظهر، ونمت لأرى في حلمي تلك الذبابة نفسها التي كنت تعقَّبتها على زجاج النافذة عندما نفثت الطائرة بدخان التطهير، وهو دخان قيل: إنه دخان يبيد الذباب، ولكن الذبابة التي أعنيها صمدت للمبيد، وانتعشت بعد فترة وجيزة من أثر الغاز المميت، غير أن ذبابتي لم تكن في الحلم سائرة على لوح من زجاج، بل رأيتها — هي هي بعينها وقرنيها وسيقانها — تهبط على طبق فيه طعام، وتحلَّق حوله الطاعمون، فثار الجدل بينهم ماذا يصنعون بالذبابة الساقطة، أو بالطعام؟ فأفتى أحدهم بأن تُغْمَسَ الذبابة في الطعام ثم تُنْتَزَع منه؛ لأن للذبابة جانبًا فيه الداء، وجانبًا آخر فيه الدواء!

وصحوت بعد تلك الغفوة الخفيفة وما رأيته فيها، وما هو إلا أن أخذتني دهشة الجزع، إذ تذكرت أن هذا الذي حلمت به إنَّما هو ترديد لعدة مقالات قرأتها في صحفنا عن موضوع الذبابة تسقط في الطعام، فماذا يكون من أمرها أو لا يكون؟ كأنه موضوع يحتمل الأخذ والرد والدفاع والهجوم! ومتى قرأت تلك المقالات؟ متى؟ منذ ألف عام؟ منذ مائة عام؟ منذ عام واحد؟ لا والله، بل منذ أسبوعين، وهذه هي ثقافتنا بعد كل ما صنعه محمد عبده، ولطفي السيد، والعقاد، وطه حسين! وأعجب منه أن يكون هذا نموذجًا من ثقافتنا اليوم: أن تراهم يدرجونه في مقولة الإيمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤