الفصل السادس

نظرية في النقد

١

لي في نقد الأدب والفن موقف واضح مؤسَّس على مبادئ نظرية، ولعله بدأ معي عائمًا غائمًا ثم أخذ على مر السنين يتبلور حتى أصبح محدد المعالم — في رأيي على الأقل — ولست أعرف ما عسى أن يكون بينه وبين النظريات النقدية الأخرى من أوجه شبه وأوجه اختلاف؛ لأنني — في هذا الميدان — لست ذلك الباحث الدارس المسئول عن تفصيلات المقارنات بين الفكرة المعينة وأشباهها، بل هو موقف يمكن القول عنه إنه جاء نتيجة طبيعية لميل معين في فطرتي، ولاتجاه اتجهته — بناءً على ذلك الميل الفطري — في حياتي الثقافية أخذًا وعطاءً، وربما كان ذلك الميل هو نفسه الدافع الخفي الذي جذبني جذبًا — في ميدان الفلسفة — إلى «التجريبية العلمية» (الوضعية المنطقية)، وبهذا يكون موقفي من نقد الأدب والفن إحدى النتائج التي ترتبت على عقلانية مذهبي في الفلسفة.

والموقف في جملته مرتكز على إطار بسيط ألخصه فيما يلي: ها هو ذا ديوان لشاعر ما أخرجته المطبعة واجتذب رغبة النقاد في معالجته كل على طريقته الخاصة ومن زاويته التي يفضلها على سائر الزوايا، فكم زاوية للنظر يمكن تصورها لهذا الديوان الواحد؟

  • هنالك (أولًا): تلك الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى الديوان المنقود نظرةً يحاول بها أن ينفذ ببصره خلال الشعر الذي يقرؤه إلى «نفس» الشاعر الذي أنشأ الديوان؛ ما طبيعتها؟ أهي نفس مرحة متفائلة؟ أم هي مكتئبة متشائمة؟ أم هي كذا أم هي كيت؟ فالناقد في هذه الوقفة يتخذ الشعر «وسيلة» لغاية يهتم بها، وليس الشعر هنا غاية في ذاته بل هو — عند ناقد من هذا الطراز — وسيلة للكشف عن نفسية صاحبه، وبعبارة أجلى وأوضح: المهم عند الناقد هنا هو «علم النفس» لا «الشعر»، ومن أمثلة ذلك وقفة العقاد في كتابه «ابن الرومي» من شعره، فكأنه حين قرأ شعر ابن الرومي فإنما قرأه ليجيب لنفسه عن سؤال كهذا: مَنْ هو ابن الرومي؟ وكأن الناقد في مثل هذه الحالة لو عثر على ديوان مجهول الشاعر لما عُني به؛ إذ ينعدم «الهدف»؛ لأنه لا شاعر بعينه هناك نريد أن نعرف طبيعته من شعره، وأقصى ما يمكن فعله هو أن نستخرج طبيعة نفسية لشخص مجهول، وقد نسمي هذا الاتجاه في نقد الأدب والفن بالاتجاه «النفسي»، وأستطيع أن أتصور عالم النفس «فرويد» وهو يقرأ مسرحية «أوديب» للشاعر اليوناني سوفوكليز، فيستخرج منها ذلك الطابع النفسي المميز لبطلها أوديب، وهو ارتباطه الجنسي الخبيء بأمه، مما دعا فرويد أن يطلق على مثل تلك «العقدة» النفسية في نظريته العلمية «عقدة أوديب»، أقول: إنني أستطيع أن أتصور فرويد في موقفه ذاك بمثابة ناقد أدبي من الطراز الذي ذكرناه.
  • وهنالك (ثانيًا): زاوية أخرى للنظر إلى الديوان المنقود، وهي شبيهة بالزاوية الأولى في كون الناقد يتخذ من الشعر الذي بين يديه «وسيلة» لغاية تثير اهتمامه في المقام الأول، وكل الفرق بين الرؤيتين أنه بينما الناقد في الحالة الأولى يبحث خلال الشعر عن «نفسية» الشاعر، نرى الناقد في الحالة الثانية يبحث خلال الشعر عن «الحالة الاجتماعية» التي كانت تحيط بذلك الشاعر، فكأنما شعر الشاعر هنا هو بمثابة وثيقة تاريخية ليصور من صور الحياة الاجتماعية، وكأنما الناقد هو أكثر اهتمامًا بحقائق «علم الاجتماع» منه بفن الشعر، ويمكن اعتبار كتاب طه حسين عن المتنبي مثلًا لهذا الاتجاه الاجتماعي في النقد.
  • وهنالك (ثالثًا): زاوية أخرى للنظر، يبحث الناقد منها لا عن «نفسية» الشاعر صاحب الديوان المنقود، ولا عن «الحالة الاجتماعية» التي أحاطت به، بل يبحث في نفسه هو — نفس الناقد — عن وقع هذا الشعر فيها، فماذا ترك في جوانحه من أثر؟ هل خرج من قراءة الديوان وهو على وعي بالغايات العليا التي استهدفها الكون؟ أو خرج شاعرًا بعبث هذا الكون وإفلاسه في أن تكون له غايات؟ هل خرج من قراءته راضيًا عن نفسه أو ساخطًا عليها؟ … ثم يسطر هذا الناقد وصفًا لطوية نفسه، والأغلب أن تجيء القطعة النقدية من هذا القَبيل، وكأنها في ذاتها «أدب» بُنِيَ على «أدب»، ويمكن تسمية اتجاه نقدي كهذا بالاتجاه «التأثري»، وأمثلته عندنا تملأ الصحف كل يوم. ومرة ثالثة أقول: إن الشعر المقروء لم يُتَّخذ غاية في ذاته، بل إن الناقد قد اتخذ من قراءته له وسيلة يصبح عن طريقها «أديبًا» بدوره.

ولكن ألا ترى أن سؤالًا هنا يطرح نفسه علينا، وهو: أن يقف الناقد وقفته من الشعر المنقود، نفسية كانت أو اجتماعية أو تأثرية، أليس هو مضطرًّا — أولًا — إلى التيقُّن من أن الذي بين يديه «شعر» يستحق المعالجة بهذه الطريقة أو بتلك؟ أكلما وقع ناقد على مجموعة شعرية مرقومة على ورق هاجمها من فوره باحثًا عن «نفس» أو عن «اجتماع»؟

لا بد إذن من خطوة نقدية تسبق سائر الخطوات — إن كان بعدها خطوات — وهي أن يفحص الناقد الشعر نفسه، بغضِّ النظر عما وراءه أو عمن وراءه؛ فها هي تي تركيبات صوتية وجدها وقيل له إنها «شعر»، فلينظر بادئ ذي بدء في صدق الدعوى، أشعرٌ هي حقًّا؟ ولكنه لا يستطيع أن يجيب عن سؤال كهذا إلا إذا كان بحكم ثقافته السابقة مزوَّدًا بمعيار يُقاس به الشعر بين جيد ورديء ومقبول ومرفوض، وما معنى ذلك؟ معناه أن ثمة أسبقية منطقية لأمرين؛ أولهما: فلسفة خاصة في ماهية الفن بصفة عامة والأدب بصفة خاصة، وثانيهما: تطبيق تلك الفلسفة على هذا الذي أمامه، ليتبين إن كان ذا طبيعة تؤهله للدخول في دنيا الفنون أو لم يكن، فإذا وجده مؤهَّلًا لذلك بناءً على الخصائص التفصيلية الداخلة في تكوينه، فله بعد ذلك أن يبحث وراءه عما شاء من «نفس» أو «اجتماع»، لكن هذه الإضافة — من وجهة نظري — قد تجيء وقد لا تجيء؛ فالعملية النقدية في صميمها تكون قد استوفت أركانها بمجرد الفراغ من منح الديوان المنقود تأشيرة الدخول في عالم الشعر.

وذلك هو موقفي من النقد.

٢

عناصر الموقف ها هنا ثلاثة: كاتب وكتاب وقارئ، فلولا الكاتب وكتابه لما كان قارئ، وبالتالي لما كان ثمة ناقد، وكذلك لو كنت كاتب كتاب لغير قارئ — في حاضر الأيام أو مستقبلها — كأن يستخدم رموزًا لا يفهمها سواه، لفقد الكتاب أخصَّ خصائصه، وبطل بهذا أن يكون كتابًا بالفعل والأداء، وإذن فعملية «التوصيل» من الكاتب إلى القارئ شرط ضروري لتكتمل للموقف عناصره.

لكن هذا القول لا يعني أن يتلقَّى الكِتَاب قرَّاء كثيرون، فتصلهم رسالة الكاتب على درجة سواء؛ إذ ما دام الناس يتفاوتون في خبراتهم، فهم بالضرورة يتفاوتون فيما يستخرجونه من الكلمات المرقومة أمامهم، وبخاصة إذا ارتبطت تلك الكلمات بالحياة الوجدانية بسبب؛ فالكثرة الغالبة من هؤلاء القراء يقفون عند مستوى الأحداث التي تجري كما ترويها الكلمات المقروءة، أما أن يصعد القارئ بعد هذه الأحداث السطحية إلى ما وراءها — إن كان لها ما وراء — فذلك ما يتعذر على تلك الكثرة، حتى يتصدى لها قارئ ممتاز، فيدرك «الماوراء» ثم يكتب لسائر القراء ما قد أدركه، فعندئذٍ يكون هذا القارئ الكاتب «ناقدًا»، وتكون كتابته عما قرأه «نقدًا»، وبعدئذٍ يتغير المنظور كله أمام أعين القراء الآخرين بالنسبة إلى الأثر الأدبي المنقود.

على أنه من الضروري أن نفرق بين ثلاثة رجال قد يختلط الأمر في شأنهم عند كثيرين، بل لعله قد اختلط بالفعل اختلاطًا شديدًا، أما هؤلاء الرجال الثلاثة فهم: كاتب التعليق الأدبي الذي يعلق به على كتاب معين، كالتعليقات التي نراها منشورة في الصحف، والناقد الذي يتناول عملًا أدبيًّا بالدرس المستفيض، والفيلسوف صاحب النظرية الجمالية المعينة، فأما أولهم فمهمته أن يقدم كتابًا للقراء، تقديمًا يظهر حسناته وسيئاته، وشيئًا موجزًا عن محتواه، ومثل هذا الكاتب غير ملزم بأن يبسط في تقديمه ذاك مبدأه النظري الذي على أساسه ينقد ما ينقده؛ إذ هو معنيٌّ بجزئية أدبية واحدة هي الكتاب الذي يقدمه إلى قرائه، وأما «الناقد» — بالمعنى الأشمل والأكمل — فلا بد أن تكون له أسس نظرية في طبيعة الأدب؛ ليقيم عليها نقده، لا بالنسبة إلى كتاب واحد بعينه يتولى عرضه، بل بالنسبة كذلك إلى أي عمل أدبي آخر، فهو بعد أن خَبِرَ على طول الأيام جزئيات أدبية كثيرة — كأن يكون قد درس لنفسه عددًا ضخمًا من قصائد الشعر ومن الروايات والمسرحيات — استطاع أن يستخلص قواعد نظرية عامة يجعلها أسسًا للحكم الأدبي على ما يريد أن يحكم عليه، فإذا كانت الجزئية الأدبية الواحدة المعينة هي التي تستغرق اهتمام المعلق الأدبي، فإن القاعدة النظرية التي تُبْنَى عليها الأحكام الأدبية هي التي تستولي على اهتمام «الناقد» عند التطبيق على عمل أدبي معين، أو ربما على عصر أدبي بأكمله، ثم يأتي بعد المعلق والناقد معًا مستوًى أعلى من حيث درجة التعميم، هو المستوى الذي يصعد إليه صاحب الفلسفة الجمالية (الاستاطيقا)؛ ففي هذا المستوى يبحث الفيلسوف عن مبدأ عام شامل، نفسر بمقتضاه لا هذا الكتاب المعين وحده كما يفعل المعلق الأدبي، ولا الميدان الأدبي كله أو بعضه كما يفعل الناقد حين تتكون لديه رؤية خاصة لما ينبغي أن يكون عليه الشعر أو الرواية أو المسرحية؛ بل تفسر بمقتضاه كل نتاج في دنيا الفن على إطلاقها، من موسيقى إلى شعر وتصوير ونحت وعمارة، وهكذا يتجه السير خلال هؤلاء الرجال الثلاثة، من النظر إلى جزئية واحدة، فإلى قاعدة عامة تشمل ميدانًا فنيًّا، ثم إلى مبدأ شامل — عند الفيلسوف — يغطي كل ميادين الإبداع الفني برباط نظري واحد (راجع مقالة «الناقد قارئ لقارئ» في كتابي «في فلسفة النقد»).

أما وقد نبهتك إلى وجوب التفرقة بين «الناقد» من جهة، و«المعلق الأدبي» و«فيلسوف الجمال» معًا من جهة أخرى، وذلك بعد أن أشرت لك (في الفقرة السابقة) إلى الفوارق بين التيارات الرئيسية في النقد: فتيار منها يتخذ النص الأدبي وسيلة إلى دراسة «نفسية»، وتيار ثانٍ يتخذه وسيلة إلى دراسة «اجتماعية»، وتيار ثالث يتخذه وسيلة لإنشاء قطعة «أدبية» أخرى يعبِّر بها الناقد عن نفسه حين تأثر بالقطعة المنقودة، وبينت لك أن هذه التيارات كلها قاصرة ومقصرة، فهي قاصرة لأنها آثرت مجالًا فكريًّا على مجال الأدب، مع أنها تدَّعي أنها مَعْنِيَّة بالأدب أساسًا، وهي مقصرة لأنها نسيت أنه لكي يدرس الناقد شيئًا عن «النفس الإنسانية» أو عن «الظروف الاجتماعية» من وراء دراسته للشعر الذي تصدى لدراسته — أو غير الشعر من أجناس الفن — فإنه قبل ذلك كان ينبغي له أن يطمئن أن الذي بين يديه «شعر» حقًّا، وهو لا يطمئن إلى ذلك إلا إذا انكب على القطعة الأدبية (أو الفنية عمومًا) في ذاتها انكبابًا يحصر نفسه فيها، وكأنها قطعة بغير صاحب، وبغضِّ النظر عن الظروف الاجتماعية التي أحاطت بصاحبها؛ فالذي بين يديه تشكيلة من كلمات (أو من أصوات أو من ألوان إلخ) رُكِّبَت على نمط محدد معين، أتاح لها أن تكون جاذبة للنظر خالية للنفس، فماذا في طريقة التركيب قد أدى إلى قيمتها تلك؟ ها هنا ينصبُّ البحث على جزئيات البناء الأدبي (أو الفني) جزئية جزئية، ثم النظر إلى العلاقات التي رُبِطَت لفظًا بلفظ وصورة بصورة، وهكذا، فإذا فرغنا من مثل هذه الدراسة التفصيلية للأجزاء وطرائق ارتباطها بعضها ببعض، كانت لدينا فكرة واضحة عن «التكوين» أو «الشكل» (الفورم) كيف قام، فنقيسه إلى فكرة مسبقة في رءوسنا هي التي أسميناها فيما أسلفناه بالقاعدة النظرية عند الناقد، فنرى كم يقترب التركيب الذي أمامنا — أو يبتعد — عما كنا نتوقعه ونريده في البناء الفني.

هذه العملية في تحليل «الشكل» — الذي بُنيت عليه المنتجات الأدبية أو الفنية — هي ما وجدتني أشد إيثارًا له على سائر الاتجاهات في النقد، وواضح أن دراسة الشكل وطريقة بنائه، اتجاه يجعل الأولوية عند الناقد الأدبي للقطعة الأدبية ذاتها من ناحية، ومن ناحية أخرى هو اتجاه أقرب من سواه في النزعة العلمية القائمة على تحليل موضوعي للعناصر وطريقة اجتماعها أو افتراقها دون أن يتدخل البحث بعاطفة ذاتية تميل به إلى ما يرضيه وجدانًا لا ما يرضي «الحق» مجردًا عن غواية الوجدان.

٣

في آخر الأربعينيات، أو في أول الخمسينيات — لا أذكر على وجه الدقة — دار حوار بيني وبين الدكتور محمد مندور على أساس النقد الأدبي ماذا يكون؟ أيكون للعقل العلمي الموضوعي بأدواته التحليلية أم يُتْرَك أمره «للذوق»؟ أخذ مندور بمبدأ «الذوق» وأخذت بمبدأ «العقل»، وكانت مناسبة ذلك الحوار عرضًا نشرته عن كتابه العظيم «النقد المنهجي عند العرب»، وبعد أن بنيت مواضع الإجادة في ذلك الكتاب كان لا بد لي من ذكر اختلافي مع مندور في الأساس النظري، ومن الخير هنا أن أُورد أطرافًا من ذلك الحوار، أُوضح بها موقفي في عقلانية النقد وموضوعيته (راجع النص الكامل لذلك الحوار في فصل بعنوان «النقد الأدبي بين الذوق والعقل» في كتابي «قشور ولباب»).

قلت — بعد فراغي من ذكر مواضع الإجادة في كتاب «النقد المنهجي عند العرب» — ما يأتي:

«… لا بد لي الآن أن أجادله بعض رأيه، وأول ما أجادله فيه هو هذا الرأي الذي أُشفق منه على أوساط القراء أن يضلوا به ضلالًا بعيدًا، الرأي الذي يجعل «للذوق» الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون، إننا نعيش في بلد لا تضبطه القواعد، ولا تُلجمه القوانين، وما أكثر ما يصادفك الفتى لم يكد يشبُّ عن طوقه، فيتغنى لك بشعر زميله في حجرة الدراسة، زاعمًا لك أنه من غرِّ القصيد! فإذا ما أردت تأديبه فطالبته بالدليل؛ أجابك بأنه يطرب له، وكفاه ذلك دليلًا! ولست أذكر في هذا السياق عشرات من أساتذة الأدب عندنا — تأدبًا، فماذا لو طلع عليهم أديبٌ نقَّادة — مثل الدكتور محمد مندور — برأيٍ كهذا، قد يتسرعون في فهمه، فيساعدهم على فوضاهم في الأدب والنقد؟ وأقول: «يتسرعون في فهمه»؛ لأني ألاحظ أن أديبنا الفاضل قد تحفَّظ بعض الشيء، فاشترط أن يستند «الذوق» إلى «أسباب»، ثم عاد فأكد لقارئه أن النقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره، فاستطاع أن يُخْضِعَ ذوقه لنظر العقل».

لكنني لا أكاد أفهم عنه حين يشترط للذوق «أسبابًا» ولا حين يطالبنا بإخضاع الذوق لنظر «العقل»؛ فالأسباب والنظر العقلي لا يكونان إلا في التحليل الموضوعي، فأنت بين أمرين: إما أن يكون الحكم للذوق، وإما أن يكون للعقل بنظره وأسبابه، فأيهما تختار؟ إما أن تجمع بين «الذوق» و«النظر العقلي» و«ذكر الأسباب» في صيغة واحدة، فذلك جمع ينطوي على تناقض صريح، يرفضه المنطق ابتداءً، كلا، لست أرى هذا الرأي، وأصر على أن يكون النقد الأدبي قائمًا على التحليل العقلي؛ أي إنني أصر على أن يكون النقد الأدبي «علمًا» (راجع مقالة «علمية الدراسة الأدبية» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»).

تعريف «العلم» هو منهج البحث، أيًّا كان «الموضوع» المبحوث بذلك المنهج؛ فقد تصب المنهج العلمي على شعر المتنبي لدراسته واستخراج خصائصه، وقد تصبه على تربة بقعة من الأرض لترى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها لزراعة القطن، أو قد تصبه على ضرب من المعادن لتحدده وتحدد خصائصه، فليس العلم علمًا بموضوعه — إذ تتعدد موضوعاته وتتنوع — ولكنه علم بمنهجه، وعلى هذا الأساس فحين أقول: إن النقد الأدبي «علم» فإنما أريد ألا أفرق في أصول المنهج المتبع في دراسته، والمنهج المتبع في دراسة أي ظاهرة من ظواهر الطبيعة، اللهم إلا فرقًا في درجة الدقة الرياضية عند الوصول إلى النتائج، الموقف واحد في كلتا الحالتين: عالِم الطبيعة أمامه ظاهرة يريد استخلاص القانون الذي يحكمها، والناقد أمامه ظاهرة في دنيا الفن أو الأدب، يريد استخلاص القاعدة التي تفسرها.

أردت في ردِّي على الدكتور مندور أن أجعل الأمر واضحًا في التفرقة بين أن يكون تقويم الأدب قائمًا على «ذوق» وأن يكون ذلك التقويم قائمًا على «عقل» — أعني على «علم»، فبينت في إسهاب كيف يتلقى قارئٌ ما قطعةً أدبية معيَّنة — قصيدة من الشعر أو رواية أو ما شئت من المنتجات في دنيا الإبداع الأدبي — فهو يقرؤها ولا يدري بادئ ذي بدء ماذا يكون وقْعها من نفسه، أهو إعجاب بها أم نفور؟ فذلك القارئ — على أي الحالتين — قد يفرغ من القراءة ثم ينصرف عما قرأ، لا يريد أن يعرضه على أحد سواه، وهنا يكون قارئ القطعة الأدبية قد استقبل المادة المقروءة، واستجاب لها بحالة «ذوقية» سواء أكانت تلك الحالة إعجابًا أم كانت نفورًا، لكن عملية «النقد» الأدبي لا تكون قد نشأت، إنه في مثل هذه الحالة لا «نقد» ولا «ناقد»؛ إذ كل ما هنالك هو قارئ فرغ من قراءته متذوقًا لما قرأ بالإيجاب أو بالسلب، لكن افرض أن ذلك القارئ بعد فراغه من قراءته الأولى تلك — التي تأثر فيها بذوقه — قد عَنَّ له أن يبحث في القطعة المقروءة عن السر الذي جعلها تؤثر في «ذوقه» بمثل ما فعلت، أليس هو في هذه الحالة يعاود القراءة مرة ثانية — وربما ثالثة أيضًا ورابعة — فاحصًا ومدققًا في الكلمات وطرائق تركيبها معًا في جمل وفي صور، بل ربما بلغت به دقة البحث أن يلجأ إلى مراجعة «الحروف» ليرى كم تكرر حرف الراء — مثلًا — وكم تكرر حرف الفاء؟ إنه لن يترك وسيلة للبحث الفاحص المدقق إلا لجأ إليها، حتى يعثر على سر الحالة الذوقية التي أحدثتها في نفسه تلك القطعة الأدبية، وبعد أن يبذل في ذلك ما وسعه من جهد وقدرة؛ فالأغلب أن يدونه لنفسه ثم لينشره في الناس، وها هنا يكون «النقد» الأدبي قد وُلِدَ وأصبح له وجود، وواضح في جلاء الشمس الساطعة أن عملية النقد هذه لم تكن قد وُلِدَت بالقراءة الأولى، بل جاءت ولادتها نتيجة للقراءة الثانية (أو ما بعد الثانية من قراءات)؛ فالقراءة الأولى خاطبت «الذوق»، ومن ثم كان القبول والرضى أو الرفض والسخط، وأما في القراءة الثانية فقد كان هنالك تحليل وتعليل والتماس للعناصر الداخلة في بناء الجسم الأدبي فرادى ومجتمعة، وهذه كلها ضروب من فاعلية «العقل» ولا دخل فيها للذوق.

الفرق بين الحالتين أوضح من أن نظل نبدي فيه ونعيد، ولكن ما حيلتنا إذا وجدناه لم يزل غامضًا حتى عند كبار نقادنا؟ إنه هو الفرق نفسه بين من يرى زهرةً تروعه بجمالها، فيتناولها هو نفسه بالتحليل العلمي ليرى كيف نبتت وما خصائص أوراقها وفروعها، في الحالة الأولى كان المعوَّل على «الذوق»، وفي الحالة الثانية كانت الفاعلية تحليلًا مرسومًا على قواعد البحث العلمي.

وبعد أن عرضت المسألة على هذا النحو في ردي على مندور، مرت فترة لا أذكر كم طالت، وإذا أنا أقرأ له وهو يعيد فكرتي عن «القراءتين»: الأولى للذوق والثانية للنقد، ثم مضت بعد ذلك عجلة الزمان، فإذا بأحد الكُتَّاب يؤلف عن مندور، فيضع له واحدة من مبدعات العبقرية النقدية عنده، فكرة «القراءتين» اللتين تتميز أولاهما من ثانيتهما بأن الأولى للذوق والثانية للنقد.

٤

كان لا بد لي في سياق ذلك الحوار عن النقد الأدبي وطبيعته أن أستطرد في الحديث لأحدد مفهومي عن الأدب — أو قل عن الفن بصفة عامة — ما هو؟ لأن النقد إذا أراد لنفسه — أو أريد له — أن ينأى عن أهواء «الذوق» ليقيم قوائمه على «علم» أو ما يشبه العلم في موضوعية النظر وفي الركون إلى التحليل، لم يكن له بُدٌّ من أن يضع أمامه تصورًا واضحًا لما يتوقعه من العمل الفني؛ ليقيس الحالة الجزئية المعروضة أمامه بالصورة المثلى، كي يتبين إلى أي حد تقترب أو تبتعد تلك الحالة المعروضة من هذا المثال المنشود، فكتبت أقول:

ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟

أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فحانت مني التفاتة إلى نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابًا يرف بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدُّج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها، ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهَوَتْ إلى الأرض هويًّا بطيئًا …

هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة: أنا والغراب والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بجلدي وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها).

أما أنا فبديهي أنني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي، في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن يلحقها قط إلى مماتي لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه مما يحيط بي من أشياء وملابس، وما أرى وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقل ما يقال في هذا الموقف الفريد الفذ هو أنني كنت قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.

وأما ما رأيته من الغراب فبقعة سوداء تحركت حركة معينة، ثم سكنت في مكان معين على هيئة معينة، بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلال تعد بالألوف، فأي ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوف الألوف من الصور، فبأي منها تحركت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنت البقعة السوداء في مكان معين! حتى السكون يا صاحبي صنوف وأشكال، فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة ملقاة على سفح الجبل، كسكون غرابك هذا على الفنن، وقل مثل هذا فيما سمعت من الغراب، سمعته ينعق نعقتين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعت أذناك؟ في أي درجة من الدرجات أردت أن أضع نعيق الغراب؟ الحق أن ما رأيت من الغراب وما سمعت مركَّب فريد من عناصر اجتمعت على نحو يستحيل أن يكون ما يماثله مماثلة تامة في كل ما رأيت وما سأرى من الغربان.

وما قلته في نفسي وفي الغراب أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطت منها وهَوَتْ إلى الأرض، ثم يزيد الأمر كله في درجة التركيب والتعقيد حين نضيف هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورة واحدة، هي صورة فذة فريدة — كما أسلفت — لم تُعْرَف، ولن تعرف الحياة لها مثيلًا آخر بكل ما في التماثل من دقة وتطابق.

وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابة ولا عجب، فهكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، كل كائن حي — والكائنات الحية ملايين الملايين — فيه ما يجعله فردًا بذاته، يختلف ولو قليلًا عما عداه، خذ ورقة من شجرة، ودُرْ بها الأرض من قطبها إلى قطبها، فلن تجد لها مثيلًا بمعنى التماثل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاءً تامًّا، وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قط فردين متشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المميزات جميعًا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدق من هذا وألطف، فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنك دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.

هكذا الحياة — يا صاحبي — في شتى صورها، فلا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظة تالية.

والفن — كما يقولون — تصوير للحياة! مقياس الفن — بل معنى «الفن» — هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا، لو قلت كلامًا يصور حقيقة عامة تنطبق على هذا وذلك، فقولك بعيد عن الفن الرفيع، ومن هنا كانت ثورتي النفسية وكان غيظي الشديد كلما قرأت لكاتب من كُتَّابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا: إنه شاعر لحكمته أو لصدق حكمه أو لما إلى ذلك، الحكمة والحكم الصادق أدخل في باب «العلم»؛ لأنها تعمم القول ولا تخصصه في تصوير موقف فريد، وإلا فخبِّرني — أثابك الله — وما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس» وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد» و«الغليان من صفات الماء»؟! كلاهما يعمم الحكم، وإذن فكلاهما عالم وليس بأديب، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرًا إلا إذا صوَّر حالة جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صوَّر ظالمًا معينًا يتجسد الظلم في أعماله … (اقرأ الفصل كاملًا في كتاب «قشور ولباب» تحت عنوان «النقد الأدبي بين الذوق والعقل»).

٥

جوهر الفن كائنًا ما كان موضوعه — والأدب جزء من الفن بمعناه الأوسع — هو «الشكل» الذي أقامه الفنان إطارًا يبث فيه المضمون الخبري (من «خبرة») الذي أراد أن يجسده للعين أو للأذن والشكل أو الصورة (= الفورم) تبعًا لذلك هو — أو ينبغي أن يكون — موضع النظر بالدرجة الأولى عند الناقد.

ليس المراد — بداهة — هو أن نعرض على الناس أشكالًا خالية، بل لا بد لهذه الأشكال أن تجيء مُتْرَعة بالمحتوى، لكن هذا المحتوى نفسه قد نعرضه سائبًا لا تضمه «صورة» فيظل معناه قائمًا، لكنه لا يعود الفن عندئذٍ هو وسيلة نقل هذا المعنى، إننا إذ ننطق بصيغة البحر الطويل من أوزان الشعر العربي، فنقول: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، فلا ننطق بذلك «شعرًا»؛ لأن ما نقدمه به شكل مفرغ من مادته، واملأ هذا القالب بمضمون من حياة الإنسان يصبح شعرًا، كقول امرئ القيس في هذا الشكل الشعري:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل
بسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخُول فحَوْمَل

وكما أن الشكل وحده لا يكون شعرًا، فكذلك المضمون الحياتيُّ وحده متحللًا من قالب الشكل لا يكون شعرًا كذلك، فما كان ليكون شعرًا ما قاله امرؤ القيس لو قال: تعاليا معي نقف عند سقط اللوى، التي هي بين الدخول وحومل؛ لنبكي معًا بكاءً تثيره فينا ذكرى الحبيب وذكرى الدار التي كان يسكنها.

على أننا مع التسليم التام بضرورة امتزاج الصورة وما يملؤها امتزاجًا يستحيل أن ينفصل في مجرى الخبرة الحية، إلا أننا — مع ذلك — نقول: إن جانب الشكل هو الصفة التي تجعل الفن فنًّا، وإذن فلا بد لتلك الصفة أن تكون في عملية النقد الفني ركنها الركين، فالمجموعة الصوتية التي أصبحت «موسيقى» قد انخرطت في «شكل» فأصبحت موسيقى، والمجموعة اللونية التي أصبحت «لوحة» قد انتظمت في «شكل» فأصبحت لوحة فنية، ومجموعة الألفاظ التي أصبحت شعرًا لم تصبح كذلك إلا لأنها انصبَّت في «شكل» يمكن أن يوزن أو يقاس.

ولقد أفردت دراسة «للصورة» في الفن وفي الفلسفة على السواء؛ لأتعقب هذا المصطلح الهام باحثًا عن دلالاته الحقيقية؛ ابتغاء مزيد من الوضوح لما رأيته مفتاحًا للعمل الفني كائنًا ما كان ميدانه النوعي (راجع في كتابي، فلسفة النقد «موضوع» الصورة في الفلسفة والفن).

في الفقرة الأولى من هذا الفصل عرضت مختلف التيارات النقدية؛ لأختار لنفسي منها واحدًا أوثره على سائرها، وكان ما اخترته هو الوقوف عند القطعة الأدبية ذاتها (أو القطعة الفنية عمومًا) للنظر في الطريقة التي بُنِيَت بها، أي للنظر في الشكل أو في الصورة التي اتخذت إطارًا لها، وذلك قبل البحث عن «المعاني» التي وردت في ثناياها؛ لأن القطعة أصبحت أدبًا أو أصبحت فنًّا بفضل شكلها دون الحد من قيمة المعاني المحمولة على عريشتها، وقد ذكرت في الفقرة الأولى مدرسة نقدية يهمها البحث من وراء الشكل الفني عن «نفسية» من بناه، ومدرسة نقدية ثانية تنفذ خلال الشكل الفني لتقع على الظروف الاجتماعية التي أحاطت بالفنان وهو يصوغ فنه، وعلقنا على ذلك بقولنا: إن المدرسة النفسية أرادت أن تشتري علم نفس بالفن وأرادت المدرسة الثانية أن تشتري علم اجتماع بالفن، وفي كلتا الحالتين نزل الفن ليكون مجرد وثيقة تثبت شيئًا أهم منه، وأما إذا جعل الناقد موضع اهتمامه طريقة التكوين ذاتها التي بسببها أصبح الأدب أدبًا والفن فنًّا، فإنه بذلك يجعل الصدارة للقيم الأدبية أو الفنية؛ لأنه أعطاها الأولوية الأولى، ونظر إليها من حيث هي غاية في ذاتها وليست مجرد وسيلة لغيرها، حتى لو سلَّمنا بأنها وسيلة «جميلة» مع ذلك؛ لأنها برغم جمالها فهي ما زالت «وسيلة» لما هو أهم منها عند من أراد أن يتخطاها للبحث عما وراءها.

وإذا قلنا: إن «الشكل» هو جوهر الفن؛ فقد قلنا بأن «الوحدة العضوية» بين أجزاء الأثر الفني الواحد هي سر الإبداع الفني؛ فالقيمة الفنية مرهونة — وجودًا وعدمًا — بالوحدة العضوية حضورًا وامتناعًا، والوحدة العضوية هي التي تجعل من «الفرد» الواحد فردًا واحدًا لا تعدد لهويته برغم الكثرة الهائلة التي تدخل في كيانه، ولقد حدثتك عن وجهة نظري (في الفقرة السابقة) عن أهمية «التفرد» الذي لا يكون له شبيه بين كائنات الدنيا بأسرها — ما مضى منها وما هو كائن — في أن يكون الأدب أدبًا أو الفن فنًّا.

لقد سئل هنري مور — إمام فن النحت في عصرنا — كيف اختلف فنه النحتي كل هذا الاختلاف البعيد عن فن النحت كما عُرِفَ أيام النهضة الأوروبية؟ فأدهش الجميع حين أجاب السائل بقوله: إنه لا فرق في الجوهر بين نحته ونحت رجال النهضة؛ لأنهم جميعًا يلتقون عند الأساس وهو «الفورم»، وبعد ذلك لكل فنان أن يحقق الفورم على الوجه الذي يراه، وما هو الفورم أو الشكل أو الصورة؟ إنه هو الوحدة العضوية بين الأجزاء التي تجعل كل جزء مؤثر ومتأثر ببقية الأجزاء جميعًا، وهكذا الحال في الكائن الحي، لا يستقل فيه عضو عن سائر الأعضاء، برغم أن لكل عضو منها وظيفته الخاصة، فلا الرئتان تتنفسان بغير قلب، ولا القلب يضخ دمًا في أوعيته بغير رئتين، ولا المعدة والأمعاء تفعل فعلها بغير دم وتنفس، وهكذا ينبغي النظر إلى ما ننظر إليه من قصائد الشعر وروايات وتصوير ونحت وعمارة وموسيقى، وهكذا تكاملت فكرتي عن العملية النقدية: الشكل محورها، والفردية الفريدة طابع مضمونها، وكلاهما يعتمد في إظهاره على يد الناقد إلى وقفة عقلية تحليلية، تجعل النقد أدخل في باب الفكر العلمي منه في باب الذوق الشخصي (اقرأ مقال «الشكل وأهميته» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»).

٦

في صيف ١٩٥٤م كنت قد فرغت من مهمة الأستاذية الزائرة التي في سبيلها قضيت في أمريكا عامًا جامعيًّا سجلت أحداث حياتي الثقافية خلاله في كتاب «أيام في أمريكا» — كما قد أسلفت القول في موضع سابق — لكنني قُبَيْل عودتي إلى مصر طلب إليَّ (أعني أنني لم أطلب بل طلب إليَّ، والفعل هنا مبني للمجهول) أن أواصل البقاء في الولايات المتحدة حينًا أقضيه ملحقًا ثقافيًّا بالسفارة المصرية بواشنطن، وإنني لأستعرض أيام عمري كلها منذ وعيت، فلا أجد في حياتي ما هو أشقى من الشهور التي قضيتها في ذلك الموقع، وكان ذلك راجعًا إلى طبيعة الظروف أكثر مما هو راجع إلى الأفراد الذين قضيت معهم تلك الفترة المنحوسة، فما من فكرة طيبة كونتها عن نفسي عبر السنين إلا أصر شيطان تلك الظروف التعسة أن يحطمها، فإذا كنت قبل ذلك قد توهمت بأنني على شيء من العلم؛ فقد سخر ذلك الشيطان من كل علم في جعبتي، وإذا كنت قد حسبتني قبل ذلك على شيء من تماسك الشخصية؛ فقد وسوس لي ذلك الشيطان بأنني في ميزان التقدير نفخة هواء، وما أشدها مفارقة بين تلك الشهور العشرة التي قضيتها في السفارة المصرية مرغمًا كارهًا، وشهور عشرة أخرى سبقتها مباشرة، هي التي قضيتها أستاذًا زائرًا في الجامعات، فيشهد الله كم كان أثري وتأثيري أثناء أستاذيتي بالجامعات قويًّا وعميقًا، وكم جذبت الاشتباه وأضحيت في القوم محور اهتمام شديد، فأين تلك المكانة من موقف أريد لي فيه أن أكون صغيرًا بالقياس إلى آخرين، لم يكن عندهم شيء إلا وكان ذلك الشيء جزءًا يسيرًا مما عندي.

هي شهور عشرة شقيت فيها نفسًا، وصغرت فيها قدرًا، لولا أنني عوضت شيئًا من ذلك الخسران بكسب أحصِّله من القراءة إذا ما أويت إلى منزلي، فكان بين ما خططت لقراءته أن أتعقب حركة النقد الأدبي في أمريكا يومئذٍ، وبصفة خاصة فيما كانوا يسمونه هناك بالنقد الجديد، ولم ألبث أن عثرت على ما يصح أن أجعله نقطة ابتداء، هو كتاب «النقد الجديد» الذي صدر سنة ١٩١١م لمؤلفه «سنجارن» الذي وجدته معدودًا كالإمام في مجال النقد، يشار إلى اسمه فيشار إلى حجة تستمع إلى قوله الآذان.

فما ذلك «الجديد» في النقد كما أورده سنجارن في كتابه الذي بات مرجعًا يرجع إليه كلما أشكل أمر على أحد التابعين في موضوع النقد الجديد؟ كتبت في ذلك يومئذٍ، فكان بين ما قلته (راجع مقالة «الليلة والبارحة» في كتاب «قشور ولباب»):

«… الجديد عند سنجارن وتابعيه — وسترى بعد قليل أنهم هم الذين يطبعون الحركة النقدية في أمريكا اليوم (كُتِبَ هذا سنة ١٩٥٤م) بطابعهم — هو باختصار شديد أن يكون الأثر الأدبي نفسه موضع الاهتمام والدرس.»

«فأنت تعلم أن الناقدين ليسوا في ذلك على كلمة سواء، فإذا ما صدر أثر أدبي كان هنالك بصدوره أربعة أشياء: الكتاب الذي صدر، والكاتب الذي أصدره، والمحيط الذي ظهر فيه مكانًا وزمانًا، والناقد الذي يريد أن يتناوله بالدراسة الأدبية، فأي هذه الأربعة يكون محور الاهتمام الأول؟ …» وإجابة أنصار «النقد الجديد» عن هذا السؤال، هي أن الأولوية هي للأثر الأدبي نفسه، فيدرس «النص» ذاته بغضِّ النظر عن مؤلفه وظروفه، وبغضِّ النظر عن أهواء الناقد نفسه وميوله، فأمام الناقد ترقيم على صفحة من كتاب، وهذا الترقيم هو مجاله الذي لا مجال له سواه، فمهمته إذن هي أن يحلل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشرت أمامه؛ ليرى كيف رُكِّبَت أجزاؤها.

«يظل سنجارن يعيد في كتابه مرة بعد مرة قوله: «النص ولا شيء إلا النص»، «الكلمات المرقومة على الصفحة» هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هي مهمة الناقد، إن الأثر الأدبي لا ينبغي أن يعتمد في تفهُّمه على شيء سواه، وإذن فلا بد أن تكون كل العناصر كائنة فيه وبين دفتيه، فإن اضطرتك كلمة في الكتاب، أو عبارة فيه، إلى الرجوع إلى شيء في البيئة لتفهم معناها، فلا يزال معنى الكلمة أو العبارة هو الذي يشغلك» (راجع مقالة «الليلة والبارحة» في كتاب «قشور ولباب»).

ذلك هو «الجديد»، فكتبت في المقالة المذكورة أقول: «هل يسع دارسًا عربيًّا إلا أن يسأل: أين الجديد؟ وأين إذن ذهب عبد القادر الجرجاني والآمدي؟» والحق أني لم أجد يومئذٍ فرقًا جوهريًّا بين ما أراده أصحاب النقد الجديد من الكتاب على «النص» ذاته تحليلًا وتشريحًا، ومعظم النقاد العرب الأقدمين حين تناولوا بالنقد قصيدة من الشعر، إذ تكاد لا ترى شيئًا في نقدهم إلا الانحصار في النص الذي أمامه، وفي مقارنات يجريها بينه وبين نصوص أخرى ليزيد الأمر وضوحًا.

وسواء أكانت تلك هي حقيقة الأمر أم لم تكن، فلقد جاء ما قرأته عن اتجاه النقد الجديد — وكان يمثله في أمريكا يوم أن كنت أتابعه هناك (١٩٥٤-٥٥) بلاكمير؛ فالحق أنني أحسست كأنما أتزود بزاد من جنس الزاد الذي ألِفْت أن أغتذي به، فموقفي «الخاص» في نظرية النقد شديدة الشبه بما قرأته عن حركة النقد الجديد، لكنني لم أستمد رؤيتي النقدية من تلك الحركة، بل لعل منشأ رؤيتي تلك هو أنها رؤية تجيء نتيجة طبيعية لمن أخذ نفسه بمنهج التجريبية العلمية (الوضعية المنطقية) كما أخذت نفسي، فكان المنهج الفلسفي والمنهج النقدي عندي متَّسِقَيْن اتساق النتيجة ومقدمتها، فكأنهما صفحتان من كتاب واحد.

٧

الفلسفة والأدب والفن منسوجة كلها في مخيلتي في رقعة واحدة محبوكة الخيوط، أميز فيها بين خيط وخيط، فأدرك أن هذه فكرة فلسفية، وتلك صورة شعرية، والثالثة لوحة تآلفت عليها الألوان والخطوط، ولكني إذ أميز الخيوط بعضها من بعض على هذا النحو، أعلم أنه لا يمكن فهم الواحد منزوعًا عن الآخر في ثقافة العصر المعين، فما أيسر — بعد شيء من نفاذ البصيرة — أن أرى أن الفكرة الفلسفية المعينة ما كان لها أن تظهر في عصرها المعين إلا مقرونة بلون خاص من الشعر والرواية، وضرب خاص من التصوير والنحت والعمارة.

هل كان يمكن لعصر النهضة الأوروبية أن يشهد في فاتحته رحلات كولمبس وغيره تَشقُّ بحار الظلمات نحو هدف مجهول إلا في الخيال والأمل، وألا تؤدي تلك الروح المغامِرة المخاطِرة المنطلقة إلى الكشف إلى مغامرة كشفية أخرى شبيهة بها، تجول بين أنجُم السماء ومجرَّاتها وكواكبها لتعرف ما لم يكن معروفًا من قبلُ، فيظهر جاليليو وكربرنيق ونيوتن؟ وهل للمغامرين في البحر وفي جو السماء بحثًا وتنقيبًا ألا يكون في أسرتهم أفراد يجوبون للكشف عن عالم آخر، عالم خبئ في الرءوس، ألا وهو «العقل» فكيف يعمل؟ وما حدوده في العمل؟ وإلى أي حد يوثق به؟ وتلك كانت مهمة الفلاسفة إبَّان تلك النهضة الشاملة، وإذا كان ذلك هو المناخ العام، فكيف يجيء الشعر إلا كما جاء على لسان شكسبير يُجريه في مسرحياته التي حطَّم بها ثلاثة قيود كبرى كانت تقيد المسرحية الشعرية من قبله، هي قيود ما كان يسمى بوحدات المكان والزمان والحبكة، فلا قيد شكسبير نفسه بأن تنحصر المسرحية في مكان واحد، ولا قيد نفسه بأن تنحصر في يوم واحد، ولا قيد نفسه بأن تكون ذات حبكة روائية واحدة، ثم — مرة أخرى — إذا كان ذلك هو المناخ العام في اختراق الآفاق وجوب البحار والسماء وأنحاء الأرض، وفي الغوص إلى دخيلة الإنسان للكشف عن خفايا نفسه وعقله، فهل كان يمكن لفن التصوير — على أيدي عمالقته مايكل أنجلو ورفائيل وغيرهما — ألا يضيف إلى الصورة بُعدًا ثالثًا بعد أن كانت طوال تاريخها الأسبق منذ تصوير الفراعنة على جدران معابدهم ذات بُعْدين؟

ثقافة العصر الواحد متماسكة الخيوط، فانظر إلى حياتنا الثقافية في مصر خلال العشرينيات — مثلًا — وقد جاءت صدًى للثورة السياسية سنة ١٩١٩م، فماذا ترى؟ ترى عدة ثورات أخرى، كل ثورة منها تتناول فرعًا من فروع الحياة الثقافية لتخرجه من جموده أو لتنشئه من العدم؛ فكان في الشعر ثورة على يدي مدرسة الديوان، وكان في الموسيقى ثورة على يد سيد درويش، وكان في الاقتصاد القومي ثورة على يد طلعت حرب، وكان في النقد الأدبي ثورة على يد طه حسين، وكان في أدب المسرح ثورة على أيدي أحمد شوقي من جهة وتوفيق الحكيم من جهة أخرى، ثم كان في الفن التشكيلي أكثر من الثورة؛ إذ كاد أن يُخلق ذلك الفن من العدم.

كانت تلك هي طريقتي في النظر إلى الحياة الثقافية عند غيرنا وعندنا، فإذا لم أجد بين الفروع وحدة تضمها في روح واحد، رجحت أن يكون ثمة نقص يعاب، نعم كانت تلك هي طريقتي في النظر منذ الأربعينيات وما بعدها، ولقد حَبَاني الله ميولًا فطرية تعددت حتى وسعت منطقية التفكير الفلسفي وقابلية التذوق للأدب وللفن معًا، وهو تذوق قد يعقبه آنًا بعد آنٍ محاولات النقد القائم على التحليل والتعليل كما أسلفنا القول في العلاقة المتعاقبة بين التذوق والنقد، ومن هنا ترابطت في مخيلتي الفلسفة والأدب والفن في رقعة واحدة محبوكة الخيوط، كما قلت في مطلع هذه الفقرة من الحديث.

وهو ترابط لعله كان يبدأ معي بالفكرة الفلسفية أولًا، ثم تنعكس تلك الفكرة في طريقة فهمي للأدب ورؤيتي للفنون التشكيلية، فلا غرابة أنْ جاء اتجاهي في الفلسفة نحو التجريبية العلمية أولًا، ثم انعكس هذا الاتجاه في طريقتي في نقد الأدب والفن (راجع على سبيل المثال في كتابي «في فلسفة النقد» مقالة «الصورة في الفلسفة والفن» ومقالة «تحليل الذوق الفني»).

وإذن فهي لم تكن مصادفة، حين أُنْشِئَ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (ثم أضيفت العلوم الاجتماعية فيما بعدُ) أن وجدتني عضوًا في لجنتين من لجانه: لجنة الفلسفة ولجنة الشعر، كما وقع عليَّ اختيار وزارة الثقافة — في الوقت نفسه تقريبًا — عضوًا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعضوًا في لجنة المقتنيات الفنية، ولبثت عضوًا في تلك اللجان التي جمعت بين الفلسفة والأدب والفن ما يقرب من عشرة أعوام أو يزيد عليها إلى أن سافرت لأغترب عن مصر فترة من الزمن.

وإني لأُشهد الله بأني قد تعلمت من الزملاء في تلك اللجان ما جعلني أرهف ذوقًا وأعمق غورًا، حتى تبلورت لي نظرة خاصة في الأدب وفي الفن، تكاملت على أحكم وجه مع نظرة كانت بالفعل قد تحددت لي معالمها في منهج التفكير الفلسفي، وتستطيع أن تراجع كتابي «مع الشعراء» لترى محاولةً هاويةً لم تحترف دراسة الشعر ولا تدريسه، لكنها تذوَّقت ثم نقدت، وكان الأفق من السعة بحيث شمل شاعرًا تقليديًّا كالبارودي إلى شاعر مجدِّد كالعقاد، إلى شعراء من طلائع الشعر الحديث مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، كما شمل إلى جانب الشعراء العرب نابغة الشعر الإنجليزي شيكسبير، وعملاق الشعر الهندي طاغور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤