عقل ووجدان معًا
١
أستطيع أن أوجز العمل الفلسفي الذي أنجزت معظمه خلال الخمسينيات، والذي عرضته — أساسًا وتفصيلًا — في كتاب «المنطق الوضعي» بجزأيه وكتاب «خرافة الميتافيزيقا» وكتاب «نحو فلسفة علمية» في عبارة واحدة تقول: تُسْتَخْدَم اللغة بطريقتين أساسيتين: أولاهما تجري مع منطق العقل، وهي التي يجوز أن يقال في قضاياها إنها صادقة أو كاذبة استنادًا إلى مقاييس موضوعية مشتركة بين الناس، والأخرى تجيء تعبيرًا ذاتيًّا عما يخالج المتكلم من مشاعر على اختلاف تلك المشاعر، وها هنا لا منطق ولا قضايا تقاس بمقاييس موضوعية لتفرقة بين حق وباطل، وإنما هو المتكلم وحده الذي يؤمن بصدق تعبيره عن شعوره، ولا يغير الموقف أن يوافقه الآخرون على دعواه أو لا يوافقونه.
ولما كان التفكير العلمي وحده هو الذي جعلته مدار الاهتمام في المؤلفات المذكورة، فلم يكن حديثي فيها يمس الجانب الوجداني في كثير أو قليل، لكن انصراف الاهتمام إلى جانب واحد هو جانب العلم ومنهاجه — وهو نفسه جانب «العقل» — لم يكن يعني إنكار الجانب الوجداني من فطرة الإنسان وحياته، فلا ينكر الجانب الوجداني إلا مجنون.
وفي أوائل سنة ١٩٦٠م أصدرت كتابًا صغيرًا أحدث شيئًا من الدويِّ عند القراء، وهو كتاب «الشرق الفنان»، جاء بمثابة حجر الزاوية في بناء فكري جديد، ظهرت معالمه الكبرى خلال السبعينيات في سلسلة كتب كان أهمها: «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» وهو بناء فكري جاء ليكمل — لا لينتقص — ما أنجزته خلال الخمسينيات من تحديد لمنهج التفكير العلمي.
فلقد أوضحت في «الشرق الفنان» المعالم الرئيسية لثلاثة أنماط فكرية ظهرت في تاريخ الإنسان المتحضر، وتلك الثلاثة الأنماط فيها طرفان متضادان ووسط بينهما يجمع الضدين في صيغة واحدة، أحد الطرفين هو الشرق الأقصى الذي كانت السيادة في إبداعه الثقافي للحدس الصوفي، وأما الطرف المضاد فقد شهدته اليونان القديمة (ومن بعدها الغرب كله)، حيث كانت السيادة في المنجزات الفلسفية الكبرى للعقل ومنطقه في استدلال النتائج من مقدماتها استدلالًا له شروطه وضوابطه، ثم جاءت الحياة الثقافية فيما نسميه بالشرق الأوسط، وسطًا يجمع الضدين في كيان واحد، ففيه حدس المتصوف وفيه منطق الفيلسوف.
ولم يكن يخطر ببالي عند إقامة ذلك التقسيم منهج التفكير الجدلي عند هيجل، ولم يكن تصوري للأمر ذهنيًّا نظريًّا يقيم الدعوى ثم يُخرج منها نقيضها، ثم يجمع الطرفين في تأليف جديد، كلا، لم يخطر لي شيء من ذلك على بالٍ؛ فقد استقرأت معالم التراث الإنساني كما شهدته عصور التاريخ بالفعل، فمَنْ هم الأعلام في الهند والصين؟ وماذا كانت أهم كتبهم التي خلفوها؟ ومَنْ هم الأعلام في اليونان القدماء؟ وماذا خلَّفوه؟ وأخيرًا مَنْ هم الأعلام في التراث العربي؟ وما أهم كتبهم التي خلَّفوها؟ ولست أظن أن حقيقة الأمر تظل خافية أمام أسئلة حتى ولو لم يكن عند المجيب إلمام واسع بتلك الثقافات وأعلامها، فمَنْ ذا الذي لا يقفز إلى ذهنه بوذا وكونفوشيوس والماهابهاراتا إذا ما ذكرنا تراث الشرق الأوسط، فإذا ما حضرت أسماء كهذه إلى الذهن، فهل تخفى طبيعة ما خلَّفوه؟ هل يخفى على أحد أن تراثهم كان أقرب إلى «الحكمة» التي يعبر بها صاحبها عما يحسه، وكأنه «أديب» يترجم لخبراته ترجمة ذاتية؟ ثم مَنْ ذا الذي تُذكر أمامه ثقافة اليونان القدماء، فلا يقفز إلى ذهنه سقراط وأفلاطون وأرسطو وشيء مما خلَّفوه، وأن الطابع العام لما خلَّفوه كان «فلسفة» تضع المبادئ وتستنبط النتائج، وأخيرًا مَنْ ذا الذي يُذْكَر له التراث العربي فلا تقفز إلى ذهنه أسماء لوامع كالجاحظ والمعري وابن سينا وابن رشد والغزالي وابن خلدون؟ ومعهم رجال من أمثال الحلاج وابن عربي، والذي قد لا تستحضره الأذهان في يسر هو أننا إذا ما حللنا عيون التراث العربي في شتى ميادينه؛ وجدناها نسيجًا متآلفًا بين فكر عقلي منطقي ووجدان صوفي وشعري، حتى ليخيل للمتعقب أن اللغة العربية ذاتها قد رُكِّبَت تركيبًا يحمل الجانبين معًا، فهي منطقية إلى حد بعيد إذا قيست إلى غيرها من اللغات، ثم هي مشحونة بشحنات وجدانية إلى حد بعيد كذلك.
وشيئًا فشيئًا مع مر الأيام أخذت تلك الازدواجية المتآلفة في الثقافة العربية تبدو أمام عيني وكأنها قابلية فريدة وسمة بارزة يمكن أن تكون أساسًا متينًا لإقامة ثقافة عربية جديدة، تصون أصالتها وتساير عصرها في آنٍ واحد. والآن إلى شيء من تفصيلات الصورة كما أوردتها سنة ١٩٦٠م في «الشرق الفنان».
٢
عندما اخترت لذلك الكتاب الصغير اسم «الشرق الفنان» أردت «بالفن» أوسع معانيه، وهو أن ينظر الإنسان إلى الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة، كأنما ذلك الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الروحاني، ونظرة الشاعر، ونظرة الفنان، وهي نظرة تتم على خطوة واحدة، بخلاف العلم النظري الذي تتم نظرته إلى العالم على خطوتين: في الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعًا مباشرًا، وفي الثانية يستخلص من معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجرى الظواهر والأحداث.
فانظر إلى العالم من داخل تكن فنانًا، أو انظر إليه من خارج تكن عالمًا، انظر إلى العالم من باطن تكن شاعرًا، أو انظر إليه من ظاهر تكن من رجال التجربة والعلم، انظر إليه وجودًا واحدًا حيًّا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ الخلاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضًا أو يعقُب بعضها بعضًا تكن من أصحاب العقل النظري الذي يستدل النتائج، ويقيم الحجة والبرهان، ولك بطبيعة الحال — بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين — أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينًا والعالم حينًا.
هما نظرتان إلى الوجود مختلفتان: نظرة الفنان الذي يمس الكائنات بروحه — إذا صح هذا التعبير — ليقف عندها لأنه ينشدها في ذاتها، ونظرة العالم النظري الذي يقيم بينه وبين الكائنات حاجزًا من قوانينه ونظرياته؛ فالجزئية الواحدة تهم العلم من حيث هي مثَلٌ يوضح القانون، لكنها تهم الفنان لذاتها.
ولقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معًا، فبالنظرة العلمية إلى الأشياء ينتفع، وبالنظرة الفنية ينعم، إلا أن إحدى النظرتين قد تغلب على زيد على حين قد تغلب الأخرى على عمرو، وكذلك قد تسود إحداهما شعبًا، وتسود الأخرى شعبًا آخر، أو قد تشيع إحداهما في عصر كما تشيع الأخرى في عصر آخر، وإني لأزعم أن نظرة الشرق الأقصى إلى الوجود كانت نظرة الفنان، على حين كانت نظرة اليونان (والغرب بعد ذلك بصفة عامة) نظرة العالِم.
ولقد اجتمع الطرفان — العقل والوجدان معًا — في ثقافة الشرق الأوسط على نحو من التوازن الذي ربما لم يتحقق بالدربة نفسها في أية ثقافة أخرى، وإذا قلنا ثقافة الشرق الأوسط فإنما يعنينا منها الثقافة العربية بصفة خاصة؛ لأنها هي التي ورثناها فباتت من أهم العناصر التي تتألف منها الهوية العربية في عصرها الراهن.
ففي تراثنا اجتمع تأمل المتصوف وتحليل العالِم وصناعة العامل، حتى لقد قال «وايتهد»: إن حضارة الغرب كلها ترتد إلى أصول ثلاثة: اليونان وفلسطين ومصر، فمن اليونان فلسفة ومن فلسطين دين ومن مصر علم وصناعة.
ولقد اجتمع كثير من هذه العناصر دفعة واحدة في شوارع الإسكندرية القديمة كما يقول «إنج» في كتابه عن (أفلوطين)؛ إذ التقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية وأصحاب المهارة العملية في آنٍ واحد، وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية لم تكن النقلة تغييرًا في المكان وكفى بل كانت تغييرًا في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرخي الفكر أن يفرقوا بين مرحلتين يطلقون عليهما اسمين مختلفين وإن يكونا قريبين، هما: «الهلينية» و«الهلينستية»، الأول اسم لفلسفة اليونان الخالصة التي أنتجتها أثينا، والثاني اسم لتلك الفلسفة نفسها بعد امتزاجها في الإسكندرية بالتراث الديني والتراث العلمي والتراث الصناعي العملي للمصريين؛ فقد أدى هذا المزيج إلى ضرب من الثقافة فيه — كما أسلفنا — تأمل المتأملين وتحليل العلماء، فهي إذن ثقافة فيها عبقرية الغرب وعبقرية الشرق معًا.
جاءت الفلسفة الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فانطبعت بالطابع الشرقي الصوفي على يدي أفلوطين (وُلِدَ سنة ٢٠٥ ميلادية) وهو من أبناء أسيوط، وتعلَّم في الإسكندرية، فأنشأ ما يسمى في تاريخ الفلسفة بالأفلاطونية الجديدة، التي كان لها بالغ الأثر فيما بعد على فلاسفة المسلمين الذين أطلقوا عليها أحيانًا اسم مذهب الإسكندرانيين …
وليس بنا حاجة إلى القول عن روحانية الشرق الأوسط، إنه هو الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، فلئن كان العرف قد جرى بين مفكري الغرب على تسمية الحضارة الغربية باسم الحضارة المسيحية آنًا وباسم الحضارة اليهودية المسيحية آنًا آخر، فيحق لنا نحن أن نسأل: ومن أين جاءتهم الديانتان؟ إنهما جاءتا من مهدهما ومهبط وحيهما: الشرق الأوسط، فأقل ما يقال في ذلك هو أنه إن كان من خصائص العقيدتين أن تطبعا العقل بطابع معين في الفكر، من شأنه أن يؤدي إلى طابع معين في العمل، فيستحيل أن يكون ذلك الطابع غريبًا على أهل الشرق الأوسط الذين تلقَّوهما وآمنوا بهما قبل أن ينقلاهما إلى بلاد الغرب.
لقد كانت الإسكندرية حامية المسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي لأول مرة، ينسق بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى، مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك طوال العصور الوسطى، مما يدل على اجتماع أمرين للمصريين كما زعمنا، هما: القلب بوجدانه والعقل بتحليلاته في وقت واحد (راجع فقرة ١١ في كتاب «الشرق الفنان»).
٣
التفكير الفلسفي — أينما كان — مفتاح هام لفهم طبيعة الأمة التي ظهر فيها ذلك التفكير، فليس من المصادفات العارضة أن نرى الفلسفة الفرنسية عقلية، والفلسفة الإنجليزية تجريبية، والفلسفة الألمانية مثالية، والفلسفة الأمريكية براجماتية، فماذا نرى في الفلسفة الإسلامية مما نستدل به على طابع الشرق الأوسط في الفكر والشعور؟
في الفلسفة الإسلامية نرى المشكلات المعروضة للبحث هي مشكلات دينية، ولكن طرق معالجتها عقلية خالصة، لا فرق في ذلك بين فلاسفة الإسلام وفلاسفة المسيحية إبَّان القرون الوسطى، لا في نوع المشكلات ولا في منهج البحث، اللهم إلا أن الفريق الأول مسلم يختار مشكلاته من العقيدة الإسلامية، والفريق الثاني مسيحي يختار مشكلاته من العقيدة المسيحية، لكن كل فريق منهما يلتمس لعقيدته الدينية أساسًا من العقل، مستعينًا في ذلك بفلسفة اليونان وبالمنطق الأرسطي على وجه الخصوص، يترسم خطواته في استدلال النتائج مما ورد في النصوص التي يحللها كل منهما، ونريد بهذه المقارنة أن نوضح جانب «العقل» عند المفكر المسلم، وأنه في ذلك شبيه بالمفكر الغربي في عقلانيته، لكنه يضيف إلى ذلك جانبًا من الوجدان أبرز ظهورًا مما نجده عند زميله في الغرب.
وليس شرطًا ضروريًّا أن يجتمع العقل والوجدان معًا في كل فرد على حدة بدرجة يتساوى فيها مع سائر الأفراد؛ إذ الحكم على الثقافة المعينة إنما يُبْنَى على حاصل جمع الأفراد في المجموعة التي نحكم عليها، فإذا وجدنا في مجموعة معينة فلاسفة عقليين وشعراء ومتصوفة يتميزون بغزارة الحياة الوجدانية، كان من حقنا أن نحكم على ثقافة تلك المجموعة بأنها استطاعت الجمع بين العقل والوجدان بالدرجة التي لا تجعل الأمر فيها عارضًا عابرًا (راجع عن المتصوفة المسلمين الفقرة رقم ١٤ من كتاب «الشرق الفنان»).
٤
إذا جاز لنا أن نضع عنوانًا وصفيًّا يلخص اتجاه الثقافة العربية في كل عصورها المنتجة، قلنا: إنها عقل في خدمة الوجدان، فلئن كان العقل والوجدان مقومان أساسيان في بنية الثقافة العربية، فلست أظنهما يقعان معًا على مستوى واحد، بل إن للحياة الوجدانية — وفيها الإيمان الديني — أولوية تجعلها أسبق، ثم يأتي نشاط العقل مجسدًا في الفلسفة والعلم وما يتفرع عنهما؛ ليخدم الجانب الوجداني في تحقيق نوازعه.
ولقد صورت هذه الثنائية المتآلفة في وجهة النظر العربية بصور شتى فيما كتبته، فكتبت تحت عنوان «الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة» فصلًا طويلًا (راجع ذلك الفصل كاملًا في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») أقول فيه:
«صميم الثقافة العربية — لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها — هو أنها تفرق تفرقة حاسمة بين الله وخلقه، بين الفكرة المطلقة وعالم التحول والزوال، بين الحقيقة السرمدية وحوادث التاريخ، بين سكونية الكائن الدائم ودينامية الكائن المتغير؛ فالأول جوهر لا يتبدل والثاني عرَض يظهر ويختفي، على أنها تفرقة لا تجعل الوجودَين على مستوًى واحد، بل تتخذ من عالم الحوادث رمزًا يشير إلى عالم الخلود، فمهما تكن طبيعة الواقع والأحداث مما يقع عليه البصر والسمع، فليست هي إلا علاقات تشير — لصاحب البصيرة النافذة — إلى الكائن الروحاني الكامن وراءها، إلى مبدعها ومُجريها، وسواء نظرت إلى الإنسان باعتباره عالمًا صغيرًا، أو نظرت إلى الكون كله باعتباره إنسانًا كبيرًا — وهي مقابلة يكثر ورودها في ثقافة العرب الأقدمين — فإن مادة الجسم في كلتا الحالتين إنما هي ستار يستر وراءه روحًا يمتنع على الفناء.
تلك التفرقة الفاصلة بين ظاهر الأمر وباطنه هي المَنبت العميق الذي يوضح لنا ما يقسم رجال الثقافة عندنا في فترات التحول قسمين، أطلق عليها حينًا (في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته) أسماء القديم والجديد، وحينًا آخر (في أيامنا هذه، والإشارة هنا إلى الستينيات) أسماء الرجعية والتقدمية، وذلك أن رجال الثقافة هؤلاء كلما عصفت بهم رياح الحوادث ونظروا حولهم، فإذا هذا الهيكل الصوري راسخ كالجبال العاتية التي لا تنال منها الرياح، ظن منهم فريق أن النجاة هي في اعتصامهم بأركانه، وظن فريق آخر ألا نجاة إلا بالخروج منه ليلوذوا بهيكل ثقافي آخر أقامته حضارة أخرى أثبت العصر نجاحها، ومهَّد لها سبيل السطوة والسيادة، فأنصار القديم — أو الرجعيون — هم الذين يلوذون بالمبادئ نفسها، وبالقواعد نفسها، وبالصورة نفسها، التي ميزت الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي قلنا عنها: إنها في صميمها تفرقة بين عالم الأزل وعالم الزوال، وأما أنصار الجديد — أو التقدميون — فهم الذين يودون لو بَتروا الشجرة من جذورها، فلا يعود الظاهر مردودًا إلى الباطن، ولا الحاضر منسوبًا إلى الماضي، ولا الأحداث محكومة بمبادئ سوى المبادئ التي نقررها نحن المعاصرين لها، حتى لا تترك قيادة الأحياء للموتى …» تلك هي السطور التي افتتحت بها الفصل المذكور، ورسمت بها الهيكل الثقافي الذي نحيا على أساسه، إما انصياعًا له وإما خروجًا عليه، وهو هيكل — كما رأيت — قائم على جوهر ثابت ومتغيرات، فأما الجوهر الثابت فمتروك أمره للوجدان — الوجدان الديني بصفة خاصة، وأما المتغيرات فكثيرًا ما نراها موكولة إلى العقل يدبر لها مسالكها، وهكذا جاءت حياتنا — وتجيء — قسمةً بين وجدان وعقل: الوجدان يُملي أهدافه، والعقل يسعى إلى تحقيق تلك الأهداف.
٥
إن سؤالًا لينشأ — وكثيرًا ما نشأ — فارضًا نفسه على العقل يريد جوابًا، وهو السؤال عن مدى إمكان الامتزاج في نفس واحدة بين عقل ووجدان، مع أن كلًّا منهما يطلب ما يتنكر له الآخر؛ فالعقل يطلب أن تقام البراهين على كل فكرة يتقدم بها صاحبها إلى الناس، وأما الوجدان فيقبل ما يقبله ويرفض ما يرفضه بلا برهان، وماذا نعني «بالبرهان» الذي يتطلبه العقل دائمًا شرطًا لما يطلب منه قبوله؟ نعني أحد أمرين: فإذا كانت الفكرة المقدَّمة مزعومًا لها أنها متولدة عن فكرة أخرى أعم منها، كان على صاحبها أن يبين للناس كيف جاءت الفكرة الأخص من الفكرة الأعم، شريطة أن تكون هذه الفكرة الأعم نفسها متفقًا على صوابها، أو على قبولها على سبيل الافتراض، ولكن قد لا تكون الفكرة المقدمة وليدة فكرة أخرى، بل هي مستدلة من بينات محسوسة من مرئي ومسموع، فعندئذٍ يكون معنى البرهان هو أن تدل الناس على تلك الشواهد ليروها بأعينهم كما رأيتها بعينيك، أو ليسمعوها بآذانهم كما سمعتها أنت بأذنيك، فأما النوع الأول من البرهان فنراه في العلوم الرياضية وما يجري مجراها من ضروب الفكر، وأما النوع الثاني من البرهان فهو ما نراه في العلوم الطبيعية أو ما يشبهها من أفكار تتصل بالواقع الخارجي.
تلك خلاصة لما نعنيه «بالعقل»، وأما ما ندركه بالوجدان — أو بالشعور أو بالعاطفة أو بالغريزة — فشأنها شأن آخر، إن صاحب الإدراك في هذه الحالة ليس عليه إلا أن يقول: إنه «يشعر» بكذا وكيت، ولا يغير من إدراكه ذاك أن تقبله أنت أو أن ترفضه، إذا قال لك قائل: إني أحس بالقلق في هذا المكان، فلا جدوى في أن تؤكد له أنك من ناحيتك لا تجد قلقًا، وأنك تشعر في المكان نفسه بطمأنينة كاملة.
نعود الآن إلى السؤال الذي بدأنا به: أيجوز أن يلتقي في نفس واحدة عقل ووجدان معًا، كما قد زعمت أنهما يلتقيان في نفس العربي والمصري بصفة خاصة؛ إذ كان صاحب «علم» وصاحب «دين» في تاريخ واحد، والعلم «عقل» والدين «وجدان»؛ لأنه إيمان يصدق بما آمن به ولا يطلب عليه إقامة البرهان، ولقد ذكرنا فيما أسلفناه في فقرة سابقة شيئًا من الجواب عن هذا السؤال، حين قلنا — أولًا: إن اللقاء بين الجانبين لا يشترط له أن يتم في الفرد الواحد، ويكفي أن يتحقق في مجموعة الناس التي يتكون منها «أمة» ذات ثقافة متميزة، فيكون من أفرادها من هم أصحاب تفكير عقلي، ومنهم من هم أصحاب حالات وجدانية، وثانيًا حين قلنا: إن العقل والوجدان إذا ما تلاقيا معًا في ثقافة واحدة فإنما يتلاقيان على مستويين متعاقبين، فلا يكون بينهما صدام ولا تناقض؛ فقد يجيء الإدراك الوجداني المباشر أولًا، ثم يعقب ذلك إعمال لمنطق العقل فيما يحقق أهداف ذلك الإدراك الوجداني، ومثل هذا التعاقب هو الذي نراه بوضوح في الثقافة العربية؛ إذ يؤمن المؤمن أولًا، ثم لا عليه بعد ذلك أن يتناول بالتحليل العقلي ما آمن به.
وفي الفصل الذي قدمته بعنوان: «فلسفة العقاد من شعره» (راجع الفصل في كتاب «مع الشعراء») طرحت السؤال نفسه بصورة أخرى لأجيب عنه؛ إذ تساءلت بادئ ذي بدء إمكان أن تلتقي «فلسفة» و«شعر» في عمل واحد؟ ومعلوم أن الفلسفة عقل صرف وأن الشعر وجدان خالص، وكان جوابي عن ذلك كما يلي:
«تستطيع الفلسفة والشعر أن يتباينا أشد ما يكون التباين بين شيئين كما يستطيعان أن يتقاربا، حتى ليوشك الناظر إليهما أن يختلط عليه الأمر، فيحسب الشعر فلسفة والفلسفة شعرًا.
ذلك أن للفلسفة معنيين عُرِفَت بهما، فهي إما أن تُفْهَمَ بمعنى «الحكمة» التي استخلصها صاحبها من تجربته الحية كما مارسها في حياته وعاناها، فتجيء عبارته بيانًا عن ذات نفسه وما اختلجت به تجاه الكون والإنسان، وإما أن تُفْهَمَ بمعنى التجريدات الصورية التي يستخلصها المفكر من مفاهيم العلم وقضاياه؛ ابتغاء أن يصل إلى المبادئ الأولى التي تقع من العلوم مواقع الجذور من الشجر، دون أن يدع شيئًا من أهوائه وميوله يتسلل إلى عمله، فإذا كانت الفلسفة بمعناها الأول كاشفة عن سرائر كاتبيها، فهي بالمعنى الثاني ذكية لكنها لا تُفصح عن شيء من خوالج السريرة، إنها بالمعنى الأول حياة ومضمونها، وهي بالمعنى الثاني فكر وصورته، بالمعنى الأول هي قلب ولسان وجنان ووجدان، بالمعنى الثاني هي ذهن وذكاء ومنطق وتحليل، إنها بالمعنيين معًا تعميم الأحكام، لكن التعميم في الحالة الأولى يرتكز على خبرة حياة مشخصة في فرد واحد، وأما التعميم في الحالة الثانية فلا ذكر فيه للأفراد، وإن الفلسفة والشعر ليتباعدان أشد ما يكون التباعد بين شيئين، حين تدور الفلسفة في مثل هذا التجريد المفرغ العاري، وإنهما ليتقاربان حين تكون الفلسفة هي حكمة الحياة عند صاحبها، إنهما ليتباعدان حين تريد الفلسفة أن تقول الحق خالصًا لا جمال فيه، ويريد الشعر أن يصوغ الجمال خالصًا لا حقَّ فيه، لكنهما يتقاربان حين يريد الفيلسوف أن يسوق الحق مكسوًّا بثوب الجمال، أو حين يريد الشاعر أن يصوغ الجمال منطويًا على حق.»
ثم أخذت في ذلك الفصل الذي بدأته بتوضيح العلاقة بين الفلسفة والشعر — أي بين العقل الخالص والوجدان الخالص — وهو الفصل الذي أردت به استخلاص وقفة العقاد الفلسفية من شعره، فكان مما أوردته في سياق البحث: «إن وقفات الفلاسفة من الوجود صفان: فوقفة يرى بها صاحبها الوجود وكأنه روح تفرعت عنها مادة تجسدت في الكائنات التي تراها من حولك، ووقفة أخرى يرى بها صاحبها الوجود وكأنه مادة تفرعت عنها روح تتمثل في الموجودات اللامادية التي نعرفها من عقل وحياة وغيرهما، والعقاد ينتمي إلى الصنف الأول، لكن هذا الصنف الأول يتشعب فروعًا مختلفة باختلاف الصفة الجوهرية التي توصف بها الروح: أهي في جوهرها «عقل» أم هي «إرادة»؟ أم هي شعور ووجدان؟ والعقاد — كما يبدو لي من تتبُّع شعره — مؤمن بأن الأصل الروحاني الأول قوامه وجدان وعاطفة؛ لأن جوهره الحب، ومن الحب تنشأ الحياة …» وشيء كهذا هو ما قصدت إليه حين قلت: إن الثقافة العربية قوامها عقل ووجدان معًا، يتآلفان فينتجان العلم حينًا والشعر والتصوف حينًا آخر، غير أن الأولوية بينهما للوجدان؛ لأن الأولوية عند العربي للروح.
٦
وفيما أسميته «ثنائية السماء والأرض» (راجع هذا الفصل في كتابي «تجديد الفكر العربي») وضعت فكرة التآلف بين العقل والوجدان في بنائنا الثقافي في صورة أخرى، فقلت:
«… لقد نشأت لنا في عصرنا صراعات فكرية جديدة، تولَّدت عن ظروف العصر ومُناخه، فكان لا بد لنا من وقفة إزاءها. وأهم تلك الصراعات الفكرية التي عانيناها منذ أول القرن الماضي — وما نزال نعانيها في حِدَّة — هي طريقة اللقاء التي نُوائم فيها بين علوم حديثة، شاءت تطورات التاريخ أن تظهر في أوروبا وأمريكا، وكان لزامًا علينا أن نتقبلها كما هي، أو على الأقل؛ أن نتقبل منها ما نحن قادرون على متابعته بما لدينا من إمكانات تعليمية وعلمية ومعملية. أقول: إن أهم الصراعات الفكرية التي نعانيها — منذ اتصلت الأواصر بيننا وبين الغرب الحديث — هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين تلك العلوم الحديثة من جهة، وبين تراثنا الفكري من جهة أخرى … ولو وضعنا المشكلة في عبارة مبسطة، قلنا: إنه إذا كان موضع الإشكال الفلسفي عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل؛ فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان (قاصدًا بذلك: بين العقل والوجدان).
لقد فشل الغرب نفسه — وهو واضع العلم الحديث — أن يقيم لنفسه مثل هذا اللقاء بين الطرفين، فكان له العلم، ولكنه فقد الإنسان. وليس هذا الاتهام من عندنا، بل يكفي أن نتتبع الأدب في أوروبا وأمريكا اليوم — والأدب هو المرآة المصوِّرة للإنسان وما يعتمل في نفسه — لنرى ما يُحسه الناس هناك في دخائل صدورهم من ملل وسأم وضيق وحَيْرة وضياع. إن الإنسان هناك يساير عصره العلمي في مقتضياته، لكنه لا يجد الفراغ ليخلوَ إلى نفسه ويُصغيَ إليها، كأنما كل فرد هناك هو فاوست، أغراه الشيطان بأن يبيع نفسه من أجل علمٍ يحصِّله أو مالٍ يكسبه، أو قوةٍ يستبدُّ بها ويَطغَى. ولسنا نقول ذلك وفي أذهاننا أقل ذرَّة من رغبة في التهوين من شأن العلم والمال والقوة، بل نقوله لنؤكد ضرورة أن يُضاف إليها شيءٌ آخر هو القيم الخُلقية والجمالية التي تجعل من الإنسان إنسانًا بالعمق، بعد أن جعل منه العلم والمال والقوة إنسانًا بالطول والعرض.
وإني لأعتقد أن مثل هذا الصراع بين الطرفين — بين مقتضيات العلم ومقوِّمات الإنسان — والرغبة في إيجاد الحلقة التي توفق بينهما فتزيل الصراع، هو ما تختلج به نفوسنا نحن أبناءَ الأمة العربية اليوم …»
ثم حاولتُ المحاولة نفسها — محاولة أن أبيِّن ما تكتمل به الشخصية العربية — فعرضت الأمر في صورة أخرى، نظرت فيها نظرة مستقبلية أكثر مما نظرت فيها إلى تاريخنا الماضي، وذلك في فصل بعنوان «ثنائية الطبيعة والفن» (راجع الفصل في كتاب «تجديد الفكر العربي») فبدأت فيه الحديث قائلًا:
«نريد للمواطن العربي أن يولَد من جديد ولادة تتقاطع عندها خصائص الماضي وملامح الحاضر. والحق أن كل ولادة — لو استقام لها الطبع — هي حدث جديد، يضمن البقاءَ للأبوين ثم يضيف إليهما جديدًا يتميز به، فردًا بغير شبيه، ولو جاء الولد صورة لأبويه لكان إلى نتاج المصانع والمطابع أقرب منه إلى غرس الحياة ونَبْتها؛ فعجلات المطبعة تُخْرِج لك من الأصل الواحد أُلوف الصور، كل نسخة منها ككل نسخة، الخطأ هنا كالخطأ هناك، والصواب هنا كالصواب هناك، والصفحات تتماثل بداية ونهاية، وتتشابه أسطرًا وسياقًا. إنها كثرة عددية لكنها كثرة تحكي الحكاية عينها؛ فالواحدة منها تغْنِي عن سائرها، وما هكذا الحياة الخصبة الغنية الولود، فشجيرات التفاح تنتمي إلى أسرة واحدة، ولكن أَبَتْ لها الحياة إلا أن تجيء كل شجيرة منها وقد تميزت من أخواتها في شيءٍ قَلَّ أو كَثُر …»
وبعد هذه الفاتحة التي بدأتُ بها الحديث، ملحًّا على أن يجيء مستقبلنا مختلفًا عن ماضينا اختلافًا يعلو به نحو الأفضل؛ شريطةَ أن تظل الروابط موصولة بيننا وبين آبائنا، ولكن كيف؟ يكون ذلك إذا نحن حافظنا على الهيكل العام الذي بُنِيَت عليه ثقافتنا الأصلية، لكن لنا أن نملأ الإطار بمضمون حيوي جديد، فكما أن علوم الطبيعة وإبداعات الفُنون تسيران معًا في خطين متوازيين: ففي علوم الطبيعة «عقل» يعمل، ويسوِّي بين البشر أجمعين، وأما في بدائع الفن فلكل فنان طابعه الفردي الخاص يستمده من حياته الباطنية التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، فكذلك يكون موقعنا: نشارك العالم الراهن في عُلومه، ونتفرَّد بما هو وجدان قومي خاص، وأهم ما في هذا الجانب الوجداني الخاص المميز؛ عقيدتنا الدينية، وبعض تقاليدنا الأسرية، وملامح ذوقنا في مجال الأدب والفن.
٧
إن هذه العلاقات المتداخلة المتشابكة بيننا اليوم وبين حاضرنا وماضينا لَتَبْلُغ من التعقيد أحيانًا ذلك الحد الذي لا ندري معه ماذا ندع وماذا نختار، بل ولا ندري كيف نختار ما نختاره ولا كيف نهمل ما نهمله؛ وذلك لأن مواقف حياتنا كثيرة ومنوعة، وما يصلح لأحدها لا يصلح للآخر، فلا جدوى من أن نرسل المبادئ والقواعد إرسالًا مطلقًا من القيود، ثم نظن أننا قد حللنا المشكلة حلًّا صحيحًا، فإذا كنا — مثلًا — في موقف ننشئ فيه مصانع للحديد والصلب، فلا محل للسؤال: ماذا نأخذ من ماضينا؟ وإذا كنا في موقف ندرس فيه بعض معالم العمارة الإسلامية، فلا محل لسؤالنا عن العصر وعمارته. على أن الكثرة الغالبة من المواقف فيها ما يستدعي الاهتداء بماضينا — القريب أو البعيد — وفيها ما يَستوجِب النظر فيما يقرره عصرنا الحاضر بشأنه.
والسؤال الذي أَحصر الحديث فيه الآن هو عن الحالات التي ننقل فيها عن ماضينا لحاضرنا، كيف يكون هذا النقل؟ إنه لا يعقل أن يجيء هذا النقل حرفًا بحرف، فمحال أن تتشابه الظروف مدى قرون تُعَد بالعشرات.
فماذا يصنع العربي المعاصر تجاه ماضيه؟ لقد طرحتُ هذا السؤال على نفسي مرة بعد مرة، وأجبت عنه في محاولات متكررة وبصور مختلفة، لكن الفكرة جوهرها واحد في جميع المحاولات، وهو أن نجيء امتدادًا للماضي من حيث الإطار لكننا نغير في المضمون الحي ما تغيرت ظروف الموقف، وما ذلك الإطار إلا أن نصنع صنيع آبائنا في المجاورة بين العقل والوجدان في توازن، فلا يكون رجحانًا لجوانب الواقع الحسي والنظرة العلمية الحسابية، كما لا يكون رجحانًا لجوانب العاطفة والرغبة والانفعال والغريزة، فلكلٍّ ميدانه ولكلٍّ منهاجه ولكلٍّ وسائله وأهدافه.
وكان بين تلك المحاولات ما كتبته بعنوان «ترجمة الماضي إلى حاضر» (راجع ذلك في كتاب «هموم المثقفين»)، حيث شبهت الموقف هنا بطريقة الترجمة عندما يتصدى شاعر لترجمة شعر من لغة إلى أخرى، فعندئذٍ يختلف الأمر عن الترجمة العلمية التي يلتزم فيها المترجم كلمات النص الذي يترجمه.
«… ماذا نصنع لنعيش ماضينا في حاضرنا؟ … لقد طاف بفكري أن يكون المطلوب شيئًا من «الترجمة» الحضارية، فكما أن عملية الترجمة تحوِّل النص المترجَم إلى صورة جديدة، مع احتفاظها بمعنى النص كاملًا، فكذلك قد تكون عملية التحول التي نريدها؛ إذ إن لدينا ما يشبه النص الذي نتشبث بأن يظل لُبُّه مَصونًا من العبث، لكننا في الوقت نفسه نريد له أن يتخذ صورة جديدة مقروءة لمن يعجِز عن قراءته في صورته الأصلية.
وما إن طافت هذه الخاطرة بفكري، حتى رأيت أن تكون خطوتي الأولى في تناول الموضوع نظرة فاحصة بعض الشيء لعملية الترجمة نفسها، لعلها تُضيء الطريق، وكان أول ما ورد إلى ذاكرتي عندئذٍ عبارةٌ كنتُ قرأتها لكاتبٍ هنديٍّ، قال فيها: إن للترجمة تاريخًا طويلًا راسخًا في الفكر العربي، وكان ذلك منذ عصر المأمون حين أنشأ «دار الحكمة» في بغداد؛ لتقوم على ترجمة التراث اليوناني من فلسفة وعلم، ولم تكن الهند كذلك — كما قال هذا الكاتب الهندي — إذ لبثت الثقافة الهندية طوال عصورها محرومة من مثل هذه الروافد، ولم تأخذ في فتح أبوابها للترجمة إلا منذ القرن التاسع عشر.
فلا بأس إذن بالنسبة إلينا — نحن العربَ — في أن يكون النموذج الماثل في عملية الترجمة معيارًا يُقاس إليه. غير أن الترجمة ليست كلها على غرار واحد، وإن اتفقت على أن تكون دائمة أمينة بقدر المستطاع على المضمون المراد نقله من حالة إلى حالة؛ فهنالك — أولًا — الترجمة التي تلتزم النص جملةً جملةً، وأكاد أقول كلمة كلمة، لولا أني أعلم أن ذلك مُحال، وتلك هي الترجمة التي تكون في النصوص العلمية أو ما يشبهها، فها هنا لا مَناص من تتبع الأصل كما هو، فلا يجوز للمترجم أن يضيف إليه من عنده، ولا أن يحذف منه ما لا يتفق مع هواه، إنه قد يجد في العبارة الأصلية تكرارًا؛ وعندئذٍ ينبغي له أن يورِد مثل هذا التكرار في ترجمته، أو قد يجد فيها ما يظنه سخفًا أو خطأً؛ فلا يجوز له أن يحول السخف إلى جمال يتبرع به، ولا أن يصحح الخطأ بصواب من عنده. وهنا نذكر عبارة قالها الدكتور جونسون — الأديب الإنجليزي في القرن الثامن عشر — إذ قال: لا تحاول قطُّ يا سيدي أن تتفوق على من تترجمه. وليس هذا النوع من الترجمة الحرفية — كما يقولون — هو ما نعنيه؛ إذ نتساءل: هل يمكن وكيف يمكن أن نترجم تراثنا ترجمة حضارية؛ بمعنى أن نحافظ على عبيره في حياة معاصرة؟ أقول: إن هذا النوع من الترجمة ليس هو ما نعنيه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك؛ لأعدنا القديم نفسه بلا تغيير، سوى أن نحول المخطوط — مثلًا — إلى مطبوع، أو أن نحوِّل المطبوع إلى مطبوع ومشروع، أو أن نغير الورق الأصفر إلى أبيض ناصع مصقول.
لكن للترجمة صورًا أخرى، منها ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى، صحيح أن الرأي يُجْمِع على أن ترجمة الشعر مستحيلة … غير أن تاريخ الآداب العالمية قد شهد ترجمات للشعر، فتُرْجِمَ شيكسبير إلى لغات كثيرة، وتُرْجِمَت إلياذة هومر … وتُرْجِمَ الخَيَّامُ ترجماتٍ ذائعةَ الصِّيت؛ كترجمة «فتز جرولد» لها، فلنقف هنا وقفة متأنية، باحثين عن جوهر الترجمة عندما تكون نقلًا للشعر من لغة إلى لغة؛ لأننا نلمح في مثل هذه الترجمة شيئًا هامًّا مما نريد تحقيقه عند «ترجمتنا الحضارية» التي تضع تراثنا في إطار جديد، هو إطار العصر الحاضر بكل ما فيه من علوم وتقنيات.
ماذا يصنع مترجِم الشعر؟ إنه بالبداهة لا ينقل عن النص كلمة كلمة، بل هو لا ينقله جملة جملة، إنما هو ينقله — على أحسن الفروض — مقطوعة مقطوعة … فالشاعر الإنجليزي عندما ترجم رباعيات الشاعر الفارسي (الخيام) كان أقرب إلى مَنْ يحوِّل الخبز واللحم في طعامه إلى دماء تجري في عروقه؛ فهذه الدماء هي في الحقيقة «ترجمة» لما كان أكله من لحم وخبز … ها هنا تكون الترجمة خَلْقًا جديدًا، لكنها في الوقت نفسه هي هي الأصل الذي هي ترجمته، إنها أقرب إلى ما يصنعه النحل وهو يحول الزهر إلى عسل منها إلى النمل الذي يدع طعامه مخزونًا كما وجده …»
٨
علاقتنا الفكرية والوجدانية بأسلافنا تحتاج إلى مزيد من التوضيح؛ لأنها مصدر كثير من الخلط والخطأ؛ فهنالك مقدمتان يجب التسليم بهما ابتداءً، ومع ذلك فهما مقدِّمتان قد تبدوان متناقضتين لا تجتمعان معًا على صواب واحد، وهما: أولًا الإقرار بوجوب أن تكون بيننا وبين آبائنا صلة موصولة الحلقات بحيث لا يتعذر على الفاحص أن يرى الخط الفكري والوجداني مستمرًّا بيننا وبينهم؛ لأنه بغير هذه الاستمرارية ينتفي أن يكون لنا معهم تاريخ واحد مترابط الفصول والمراحل. وثانيًا الإصرار على أن يكون لنا حياة فكرية ووجدانية خاصة بنا ومتميزة، وإلا كنا أجيالًا من أشباح وظلال جاءت لتحاكي الأولين الأصلاء. وإذا نحن أقررنا هاتين المقدمتين معًا — برغم ما بينهما من شبهة التناقض — فكيف إذن يمكن الجمع بينهما في حياة ثقافية واحدة؟
فأما المقدمة الأولى، التي تحتِّم أن يكون بيننا وبين الأسلاف صلة تضمن استمرارية السير في طريق واحد، فأحسب أنها لا تثير خلافًا، اللهم إلا عند جماعة تريد لنا أن ننشق على ماضينا لنضم أنفسنا إلى ثقافات أجنبية وكأننا جزء منهم، لكنها جماعة يغلب عليها الانفعال الذي لا يترك شيئًا يمكث في الأرض، وإنما الذي يدعو إلى الوقفة المتأنية العاقلة، هو ما جاءت المقدمة الثانية لتقرره، وهو ضرورة أن يكون لنا نحن المعاصرين استقلال متميز فكرًا ووجدانًا، بحيث تكون الصلة الرابطة بين الأوائل والأواخر شبيهة بالصلة بين أوراق الشجر وجذورها، فهنالك بين الطرفين خط حيوي لا يُنْكَر، وإلا لما وَجدت الأوراق غذاءها، ولكن الأوراق — مع ذلك — ليست هي الجذور، بل ولا تشبهها من الظاهر في شيء.
وأبسط برهان نسوقه على وجوب الاختلاف العميق بين حاضرنا الفكري والوجداني وماضينا، من حيث المضمون حتى وإن ظللنا على تشابه مع أسلافنا في الإطار وطريقة البنيان، هو اختلاف معاني الكلمات الأساسية بيننا وبينهم في كثير جدًّا من ميادين الفكر والأدب والفن؛ فاللفظة المعينة تظل قائمة بيننا كما كانت قائمة بين أسلافنا، وأما معناها عندنا ومعناها عندهم فلم يعد بينهما إلا أوهَى الصلات، حتى لأتصور أنه لو بُعِثَ اليوم سلفٌ وأراد التحدث إلى نظرائه من المعاصرين؛ لحدث بين الطرفين من استحالة التفاهم ما حدث لأهل الكهف حين استيقظوا من سُباتهم الطويل وأرادوا تعاملًا وتبادلًا مع أهل المدينة. وهاك مثلًا لذلك: لفظتا «الجمال» و«الجلال» ماذا فهم الأسلاف منهما؟ وماذا نفهم منهما نحن اليوم؟
أما نحن اليوم فقد نختلف فيما بيننا على معنى «الجميل» و«الجليل» — في دنيا الفنون — اختلافات كثيرة، لكننا جميعًا نقع في إطار فكري واحد، هو الإطار الذي يربط الفكرتين بآثار الفن أو بكائنات الطبيعة، وما قد تُحدثه في نفس المُشاهد أو السامع من نشوة، إذا ما حاولنا تحديدها اختلفنا في ذلك التحديد لا في النشوة المعينة التي تسري في الإنسان حين يُنعِم النظر أو يُرهِف السمع لأثرٍ من آثار الموسيقى أو الشعر أو التصوير. والتفرقة بين نشوة المتلقي لما هو «جميل» ونشوة المتلقي لما هو «جليل» — في مجال الفنون ونقدها — هي التفرقة بين ما يُحِسه الرائي لزهرة رقيقة أو لآنية دقيقة الصنع أو لقصيدة غنائية، وما يحسه الرائي للجبل العاتي أو البحرِ الخِضَمِّ أو الصحراء الممتدة. الحالة الأولى «جمال» والحالة الثانية «جلال»، وكلتا الحالتين تندرجان في مقولة النشوة الفنية.
فإذا ما ارتددنا إلى الأسلاف لنرى كيف فهموا «الجمال» و«الجلال» لعلنا نلتقي معهم أو لا نلتقي في نظرية استاطيقية واحدة، فوجئنا بشيء آخر لا يمتُّ بصِلة أو يوشك ألا يمتَّ بصِلة بما يطوف في أذهان المعاصرين من معانٍ للجميل والجليل؛ فاقرأ — مثلًا — رسالة صغيرة لابن عربي عنوانها «كتاب الجلال والجمال» لترى في أي عالم ينظر. بدأت الرسالة بتفرقة لطيفة ونافذة لم أجد لدقتها مثيلًا في كل ما قرأت عن «الجمال» و«الجلال» في كتابات المحدثين؛ وذلك أنه وصف الحالة التي تعتور الإنسان أمام «الجميل» بأنها «أُنس»، والحالة الأخرى التي يحسها الإنسان أمام «الجليل» بأنها «هَيْبة»، نعم، فنحن نأنس لرؤية بساتين الزهر وحقول القمح — مثلًا — لكننا نشعر بالهيبة أمام الصحراء والبحر والجبل. ثم جاءت بعد تلك التفرقة اللطيفة ملاحظة هي عندي من أصدق ما يلحظه باحث في هذا المجال، وهي أن الشعور بالأُنس والشعور بالهيبة — أمام الجميل وأمام الجليل — إنما هو شعور خاص بالإنسان المشاهِد لا بالشيء الذي تنصب عليه المشاهدة، إلى هنا نرى الحديث مألوفًا لا غرابة فيه.
لكن امضِ مع ابن عربي في رسالته عن الجمال والجلال، فإذا هو يَعني بهما أمورًا لا يتوقعها قارئ معاصر؛ إذ هو يَعني بهاتين اللفظتين حالتين مختلفتين في توجيه الله سبحانه وتعالى لآياته إلى الناس، فهو آنًا «يجاملهم» (وهذا هو الجمال) ويتبسط معهم ويُبدي لهم جانب الرحمة، وآنًا آخر يتوعدهم (وهذا هو الجلال). وينطلق ابن عربي بعد ذلك ليبين لنا أنه ما من موضع في القرآن الكريم كان فيه الجمال إلا وقد قابله بموضع كان فيه الجلال، فقوله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ يقابله قوله: شَدِيدِ الْعِقَابِ، وقوله: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ يقابله وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ يقابله قوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، وهكذا يبين ابن عربي في رسالته عن الجمال والجلال أمثلة كثيرة لهذا التقابل بين «إشارات الجمال» و«إشارات الجلال» كما يسميها، فأين هذا مما يكتبه فيلسوف الاستاطيقا في عصورنا الحديثة في هذا الباب؟ ومن أين تأتي نقطة التلاقي بين مفكر عربي معاصر ينظر في موضوع كهذا ومفكر عربي قديم نظر فيه؟ (راجع مقالة «بين ماضٍ وحاضر» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
٩
سأذكر من حياتي لحظتين: حاولت في إحداهما أن أعيش مع ماضينا في حياته العقلية، وحاولت في الأخرى أن أعيش معه في حياته الوجدانية؛ لأصور بما أذكره من ذلك عمق الرغبة التي أحسستها — لا سيما منذ أول الستينيات — نحو أن أدمج الماضي مع الحاضر في كياني؛ إيمانًا مني بأن هذا هو الطريق الأمثل لأمة تريد أن تصون جوهرها، وأن تضمن لذلك الجوهر نفسه أن يزداد مع الأيام غزارةً وثراءً.
أما أولى اللحظتين، فقصتها هي أنني كنت ذات يوم أحاضر طلابي في كلية الآداب بجامعة القاهرة في فلسفة العلوم الطبيعية، وكانت الأمثلة التي عرضتُها مستمدة كلها من علماء الغرب وفلاسفتهم، ولم يكن ذلك ضلالًا مني عن الجادَّة؛ لأنني كنت أعلم — وما زلت — أن العلوم الطبيعية إنما اكتملت ولادتها في أوروبا الحديثة بدءًا من النهضة، وأما ما قبل ذلك فكانت بدايات تمهد الطريق وينقصها المنهج الصحيح لهذا المجال. وهنا لا بد لي أن ألاحظ بأن العلوم التي كان السابقون قد مهروا فيها واشتد نضجهم هي العلوم الرياضية.
وعلى أية حال؛ فالذي حدث في تلك اللحظة التي أشرت إليها هي أنني ما كدت أفرغ من محاضرتي تلك عن فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها حتى سألني طالب — وكانت في سؤاله رنة العاتب: لماذا لم تجعل من أمثلتك المعروضة مثلًا من علماء العرب؟ ألم يكن للعرب علم يُرْجَع إليه ويُستفاد من مناهجه؟ وبرغم يقيني من أن العلم قد انتقل اليوم نقلة فسيحة، بعدت به عما كان عليه في العصور الوسطى، في الشرق وفي الغرب على السواء، وأن اختلاف علم اليوم عن علم الأمس لا يقتصر على مقدار الحقائق المحصَّلة وحدها، بل إن اختلافهما قد جاوز الكم إلى الكيف؛ فالأساس نفسه قد تغير، وتغير معه اللون الغالب كله. أقول: إنه برغم يقيني من ذلك، إلا أنني أحسست بشيء من الحق في اعتراض الطالب؛ لأنه مهما بعدت مسافة الخَلَف بين اليوم والأمس، فما كان علم اليوم لتقوم له قائمة لولا علم الأمس؛ وإذن فلا شك أن واجبنا العلمي يقتضينا أن ننظر فيما كان؛ لنقدره قدره أولًا، ولنزداد به فهمًا لما هو كائن ثانيًا. وإذا كان هذا هو ما يقتضيه الواجب العلمي على إطلاقه، فإن هذا الواجب تجاه علمائنا العرب الأولين ليزداد إلحاحًا علينا بأن ينهض منا مَن يؤديه.
وصحَّت مني العزيمة منذ ذلك الحي، أن ألبِّيَ رغبة الطالب؛ لأنها في الحقيقة رغبة وطن ناهض أراد أن يجمع في نهضته النظرة إلى أمام واللفتة إلى وراء، حتى يجيء طريق السير موصول الحلقات مرتبط المراحل. وبدأتُ بإمام العلوم الطبيعية عند العرب، ألا وهو جابر بن حيان (راجع كتابي «جابر بن حيان»).
تلك هي قصة اللحظة الأولى، وأما اللحظة الثانية التي حاولت بها العيش مع السلف في حياته الوجدانية؛ فقد كانت بدايتها لمحة وردت عند «يروست» (الأديب الفرنسي) في حديثه عن الصلة بين الحاضر والماضي في كتابه «البحث عن الزمن الضائع»؛ إذ يقول: إن الفن من شأنه أن يجمِّد لحظات من الماضي تظل قائمة حية في الحاضر؛ فيتيح لنا هذا أن نحطم حواجز الزمن بيننا وبين أسلافنا بأن نعيش تلك اللحظات، إن لحظة واحدة نعيشها اليوم مع مَنْ عاشوها في الماضي كفيلة وحدها أن تفك عنا قيود الزمن التي فَصلت حاضرنا عن ماضينا، وأحسب أني قد عشت لحظة كهذه مع أبي العلاء، حينما أوقفني التأمل عند قوله: «أبكَتْ تِلْكُمُ الحمامةُ أم غَنَّتْ؟» (راجع مقالة «لحظة مع الماضي» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).