رحلة في دنيا التراث
١
اشتدت بي الرغبة — في أواخر الستينيات — أن أرسم لنفسي صورة متماسكة غنية — نسبيًّا — بتفصيلاتها عن الثقافة العربية إبَّان القرون الخمسة الأولى بعد ظهور الإسلام، فلقد شعرت يومئذٍ أنني على كثرة ما قرأتُه من ذلك التراث قراءة كانت دائمًا لا تستهدف غايةً تريد الوصول إليها، اللهم إلا المعرفة لِذات المعرفة، لم تزَل تنقصني الروابط التي تصل أشتات المقروء بعضها ببعض في صورة واحدة، فتستطيع أن تقول إنني كنت إلى ذلك الحين قد خزنت في نفسي أكداسًا من حقائق عن الثقافة العربية إبَّان تلك القرون الخمسة التي أردت دراستها، لكن تلك الحقائق كانت عندي بغير «تاريخ» يربطها في سيرة متصلة المراحل لتصبح «حياة» لها دوافعها وأهدافها؛ فاشتدت بي الرغبة في أن أنصرف بمعظم جهدي بضع سنوات — نحو الدراسة المنشودة — لعلي أكمل النقص الذي أحسست به في معرفتي بالتراث.
لكنني ما إن هممت بالتنفيذ وحولي مكتبة جامعية على درجة كبيرة من الغنى بما احتوت عليه من أصول ومراجع، حتى رأيتني كمن وقف على شاطئ محيط متسع الآفاق عميق الأغوار، قائلًا لنفسي: دونك المحيط فاسبح إلى حيث شئت من شطآنه النائية! فكيف أبدأ وإلى أين أتجه؟ ماذا أختار من هذه المراجع التي تُعَد بالألوف؟ وماذا أدع مطمئنًّا لما اخترت وما تركت؟
إنه لا بد من خُطة سَيْر أرسم بها طريقي؛ أعني أنه لا بد لي من «منهج» ينظم لي الخطوات المتعاقبة في رحلتي، فكان أول سؤال طرحتُه على نفسي لأرسم منهج الرحلة على أساس الإجابة عنه، هو: ما هدفك مما أنت مُقْدِم عليه؟ ولم ألبث أن أجبتُ: أريد أن أتعقب طريق «العقل» العربي في مساره، عندما كان العرب في ذروة عنفوانه، ولماذا «العقل» وطريقه دون سائر الجوانب التي منها ما هو خطير وهام كالوجدان الديني والإبداع الفني وغيرهما مما يتصل بالطبيعة الإنسانية في أعمق أعماقها؟ اخترت طريق «العقل» في مساره إطارًا يجمع لي الأشتات التي أعرفها والتي لم أكن قد عرفتها بعدُ من الثقافة العربية؛ لعدة أسباب أدركتُها فور اختياري: فالاتجاه العقلي أولًا أبرز ما يميزني إزاءَ مواقف الحياة. وثانيًا لأن طريق العقل هو وحده الذي تأتي فيه الخطوات المتعاقبة مكملة بعضها لبعض إما صعودًا أو هبوطًا؛ فالخطوة اللاحقة تجيء لتكمل الخطوة السابقة في اتجاهها وفي سرعتها وفي أهم مقوماتها. وثالثًا لأننا إذا كنا نريد اليوم أن نلتمس رباطًا قويًّا يصل حاضرنا بماضينا، فيحسن أن نلتمسه في دنيا «المعقولات»؛ لأنها هي التي يمكن أن تدوم مع الأيام، فكما كانت «معقولة» للسابقين، تكون «معقولة» كذلك عند اللاحقين.
ولكن ماذا أردت «بالعقل» عندما اخترت في تلك اللحظة أن يكون طريق العقل في الثقافة العربية منهجي في البحث والاختيار؟ أردت به شيئين، يكفي أن يتوافر أحدهما في موقف ما لأصف ذلك الموقف بأنه عقلاني في نزعته، أحدهما أن تكون حركة الفكر حيال المشكلة المعروضة سائرة بصورة صريحة على منهج المنطق الذي يقدم المقدمات ثم ينتزع منها النتائج كما هو واضح — مثلًا — في الفكر الرياضي أو في فكر الفقهاء المسلمين، أو في طريقة التناول التي نراها بين الفلاسفة ومن يطلَق عليهم في الفكر الإسلامي بالمتكلمين. وأما ثانيهما فهو أن يعالجَ الإنسانُ مشكلةً عَرَضتْ له معالجةً لا تردها إلى «مقدماتها»، بل تسير بها إلى ما يحلها ويزيل عنها موضع الإشكال، ففي أمثال هذه الحالات تلمح ما يمكن أن نسميه بالإدراك الفطري السليم الذي يعرف كيف يخرج من مأزق تأزَّم في حياته، دون أن يعرف شيئًا عن المقومات النظرية ولا عند قواعد الاستدلال الصحيح التي يشترطها أصحاب المنطق الصوري.
ولم يكد الأمر يتبلور أمامي على هذه الصورة، من حيث اختياري لطريق العقل في مسار الثقافة العربية محورًا أنتقي على أساسه ما أقرؤه، حتى أراد لي الله أن تقفز إلى ذهني آية النور، مقرونة بتفسير الإمام الغزالي لها في كتابه «مشكاة الأنوار»، فكنت عندئذٍ كمن كان تائهًا في فَلاةٍ لا تحددها معالم، وفجأة انفتح أمامه طريق السير واضحًا مضيئًا مفصَّل المراحل والخطوات. تقول الآية الكريمة: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ.
«النور» في تأويل الإمام الغزالي لهذه الآية الكريمة هو قوة الإدراك السليم، ولما كان مثل هذا الإدراك إنما يتصاعد درجات، جاء «النور» في الآية على درجات تزداد قوةً درجة فوق درجة، وهذه الدرجات في تعاقبها بمثابة مراحل ينمو بها العقل ويكتمل، فأولى درجات الإدراك هي مجرد إحساس الحاسة بما ينطبع عليها ويؤثر فيها، وهي الدرجة التي تمثلها الآية بالمشكاة، والمشكاة كالنافذة مفتوحة تتلقى الضوء، ثم تأتي الدرجة التالية التي هي المصباح داخل المشكاة، والمصباح هنا يرمز للعقل الذي يتلقى المؤثرات الخارجية فيحولها إلى معانٍ، وتبقى تلك المعاني مبهمة الحدود إلى أن تحيط الزجاجة بالمصباح فتثبت شعلة الضوء وتظهر حدودها ويزداد لمعانها؛ فالزجاجة هنا هي كالمخيِّلة عند الإنسان في عمليات الإدراك، تعمل عمل القالب الذي تنصبُّ فيه مادة لم تتشكل؛ فتنخرط في شكل يرسم حدودها، ولكن من أين تستمد المخيِّلة قوتها تلك؟ إنها تستمدها من «شجرة مباركة»، وهي ترمز هنا إلى وحي أو إلهام من الله سبحانه وتعالى. وهنا ينتهي التسلسل لأن قوة الإلهام لا يُسأل عن مصدرها؛ إذ هي كالزيتونة تضيء بزيتها وليست بحاجة إلى مصدر خارج ذاتها، فلو أننا رتبنا درجات الإدراك من أعلى إلى أسفل قلنا: إن الوحي الإلهي يَهدي أولًا، فتستقيم بهدايته مخيِّلة الإنسان في تشكيلها للمعاني، وكانت تلك المعاني قد تكونت بحدود مبهَمة بفعل العقل، وفعل العقل إنما ينصبُّ على ما تتلقاه الحواس بصرًا وسمعًا وغير ذلك. أو إذا رتبنا درجات الإدراك صعودًا بها من أدناها إلى أعلاها، كانت بداية الشوط انطباعات تتلقاها الحواس من عين وأذن وغيرها، فيتناول العقل تلك المادة الحسية ليستخرج منها معانيَها، ثم تؤدي المخيِّلة دورها في صقل تلك المعاني والدقة في تحديدها، ومصدر هذه القوة آخر الأمر مبادئ أولية يدركها الإنسان بلمعات من بصيرته، ولا موضع بعد ذلك لسؤال يسأل عن البصيرة ما مصدرها؛ لأنها عيان مباشر يتفجر من فطرة الإنسان بمشيئة الله.
أسلفتُ لك القول بأنني ما كدتُ أرسم لنفسي منهجًا أختار على أساسه ما أختاره من ذلك الخِضَمِّ الزاخر من حولي — الذي هو «التراث» العربي في أصوله ومراجعه — حتى قفزتْ إلى ذهني آيةُ النور، وتأويل الغزالي للنور بأنه قوة الإدراك، تتدرج من مجرد الحس بما هو موجود، صعودًا إلى الذروة الإدراكية المتمثلة في رؤية الحق إدراكًا مباشرًا.
فكان السؤال الذي نشأ عندي، هو: أتكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها الخطوات التي يتدرج فيها العقل عند نمائه؟ وهي نفسها المراحل الثقافية التي تتدرج بها أمة إبَّان صعودها الحضاري؟ إنه مجرد فرض فرضتُه لأقيمَ عليه النتائج التي تهديني في السير، فإذا صدق هذا الفرض على الثقافة العربية كنتُ قَمِينًا أن أجدَ أول ما أجد مرحلة من الإدراك الفطري النقي السليم، الذي يَحكم على الأشياء وعلى المواقف بقوة البديهة وحدَها، ولا يطالب نفسه بالتنظير الذي يبحث عن العلل والبراهين. ووجدت بعد ذلك مرحلة تتلوها، تتسم بما تتسم به العملية العقلية، ألا وهي تقعيد القواعد للمادة المحصَّلة قبل ذلك بقوة الإدراك الفطري. ووجدت ثالثًا مرحلة تواصل العملية العقلية بمزيد من الدقة النظرية، وربط القوانين العلمية بعضها ببعض. ووجدت رابعًا وأخيرًا مرحلةً يقف فيها صاحب الإدراك موقف المتصوفة، الذي ينشد رؤية الحق بمواجهة مباشرة، فهو — مرة أخرى — ضَرْب من الإدراك الفطري الذي بدأنا به، لكنه كان في المرحلة الأولى إدراكًا لجزئيات تأتي فُرادَى، وهو الآن آخرَ الشوط إدراكٌ للمبدأ الأول في صورته الكلية الضرورية اليقينية الشاملة.
هكذا فرضتُ الفَرض، واستخرجت منه ترتيب المراحل الثقافية التي اجتازها الفكر العربي إبَّان قوته ونمائه، ذلك إذا صدق الفرض على الواقع.
فلم يكن أمامي بعد ذلك إلا أن أطالع نماذج من نتاج القرون الخمسة الأولى التي أردتُ دراستها، باحثًا في كل قرن منها عن أهم ما أثير من مسائل فكرية وأهم ما قيل في تلك المسائل من آراء، وأبرز من أسهموا فيها من الرجال. فإذا بي وكأني أرى المراحل الإدراكية التي حدَّدتْها آيةُ النور ماثلة أمامي واحدة بعد واحدة، في الأولى وجدتُ إدراكًا للأمور بالفطرة الذكية، وفي الثانية وجدت إدراكًا علميًّا عقليًّا يَستخلص القواعد والقوانين والمبادئ في مجالات المعرفة كاللغة والفقه، وفي الثالثة وجدت مزيدًا من دقة الإدراك العلمي والفلسفي، وفي الرابعة وجدت إدراكًا موفيًا للحق يعلو على عمليات العقل في استخراج القواعد وصياغة القوانين؛ إذن فها هو ذا طريقي، ولم يبقَ إلا أن أسير على بركة الله.
٢
لم يكن عسيرًا على العين في أن ترى في المرحلة الأولى من مراحل السير — وهي القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) — كيف كان الموقف مزيجًا من أدب وشعر وفروسية وسياسة؛ فالسياسي أديب وفارس، والفارس أديب وسياسي. ولقد اخترت الإمام عليًّا نموذجًا لتلك المرحلة، فهو كل العناصر التي ذكرناها، وأحكامه ومواقفه لا تحتاج منه إلى دراسة منهجية واستشارة للمراجع، بل هو بديهة قوية ترى بلمع البصيرة ولمحها.
على أن أهم ما استوقف نظري في تلك المرحلة الأولى: هو الصلة الوثيقة الحميمة بين الفكر والواقع؛ فالمشكلات التي تُطْرَح تحت أنظار المفكرين إنما هي نَبْتٌ نَبَتَ من أرض الحوادث الجارية وما تثيره من أسئلة تنتظر الحلول، فمن معركتي الجَمَل وصِفِّين — اللتين نشبتا بسبب الخلافة ومَنْ ذا يكون حقيقًا بها — نشأتْ عدة أسئلة كانت هي أول ما طُرِحَ على المسلمين في مجال الفكر النظري، وكان من أهمها مشكلة الذنوب الكبيرة ومقترفيها؛ فها هي ذي حرب بين فريقين من المسلمين فيهم صفوة من صفوة المسلمين، وحسبنا أن يكون فيهم عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين. نعم، ها هي ذي حرب ناشبة بين فريقين من هؤلاء، سُفِكَت فيها دماء، وما داما فريقين متخاصمَيْن على قضية معيَّنة، فلا بد أن يكون من الفريقين فريقٌ واحد — على الأقل — قد جانَبَ الحق؛ إذ لو كان كلاهما على حق لما اختلفا وتقاتلا، فماذا يكون الحكم فيمن يثبت عليه الخطأ منهما؟ ألا يكون هو المسئول عن الدماء المسفوكة؟ فهل يُعَد مع هذا الذنب الكبير مسلمًا كما كان، أم يُعَدُّ خارجًا على الإسلام؟ … طُرِحَ السؤال، فجاءت عنه إجابات ثلاث، لو تحدثنا عنها هنا بمفاهيم عصرنا هذا، لقلنا: إن إجابة منها جاءت من يسار متطرف — وهم الخوارج — تقول إنهم بذنبهم ذاك يكونون كفارًا، وإجابة ثانية جاءت من يمين متطرف، تقول بل إنهم جميعًا يظلون مسلمين كما هم، وإجابة ثالثة جاءت من وسط معتدل، تقول بل إنَّ من يثبت عليهم الخطأ لا هم مسلمون أكمل الإسلام، ولا هم خارجون على الإسلام، بل هم في منزلة وسطى بين المنزلتين، هي منزلة «المسلم العاصي». كان هذا الوسط المعتدل متمثلًا أول ما تمثل في واصل بن عطاء، وكان في حلقةٍ دراسية حول شيخها الحسن البصري، عندما طرح السؤال المذكور، فما كان من واصل إلا أن أبدى الرأي المعتدل الذي ذكرناه، ولعله لم يصادف قبولًا عند شيخه؛ فترك الحلقة وجلس على مقربة منها ليلحق به من يؤيده في فكرته تلك، وعندئذٍ قال شيخه الحسن البصري عنه: قد اعتزل عنا واصل، فأصبح اسم «المعتزلة» يُطْلَق على أتباع واصل، ثم اتسعت الدائرة على مر السنين وتشعب المعتزلة وتنوعت قضاياهم الفكرية، لكنهم عُرِفُوا جميعًا بطابع مميز هو «عقلانية» النظر واعتدال الأحكام. وهكذا نشأ تيار فكري أعتقد أنه من أقوى ما شهد المسلمون الأولون في دنيا الفكر النظري. وأعود فأكرر ما أسلفتُه، وهو أن ما يستوقف النظر مما يفيدنا نحن اليوم هو الطريقة التي خرجتْ بها المشكلة الفكرية من أحداث الواقع، كما ينبغي لكل فكر أن يكون.
ولم تلبث أن تفرعت من ذلك مشكلةٌ أخرى كانت أول ما عرض على الفكر الإسلامي من قضايا السياسة، ألا وهي مشكلة الخلافة ومَنْ ذا يكون أحق بها؟ وسرعان ما انتقل التفكير من مجرد النظر في الأمر على أنه مشكلة جزئية تنحصر في أشخاص الفريقين المتحاربَيْن في موقعتي الجَمَل وصِفِّين؛ ليصبح تفكيرًا في النظرية السياسية من حيث هي، فهل هنالك ما يقتضي أن تنحصر الخلافة في بيت الرسول؟ أو أنها حق لكل مسلم تتبين صلاحيته للحكم دون الآخرين؟ فكانت تلك هي اللحظة التي انشعبت عندها الآراء في مذاهب، كان أهمها الرأي الذي جعل الحكم حقًّا لعليٍّ وبَنِيه مِن بعدِه، وهؤلاء هم «الشيعة» — شيعة علي — وبجانبه رأي مضادٌّ هو رأي «الخوارج» الذين خرجوا على تبعيتهم لابن أبي طالب، قائلين إن الحكم إنما يكون لأصلح الناس له من المسلمين أجمعين، عربًا أو عجمًا على السواء، ومن بيت الرسول أو من خارج البيت.
وأخذت المسائل الفكرية تتفرع في موضوعاتها، ويتفرع معها المفكرون مذاهب وتيارات، لكنها جميعًا تعكس واقع الحياة، حتى ما قد يُظن منها أنه فكر نظري بَحْت، ففي أواخر المرحلة الأولى في رحلتنا الثقافية هذه — ونحن الآن قد جاوزنا مرحلة الفطرة والبداهة إلى مرحلة «العقل» ومنطقه في معالجة ما ينشأ من مشكلات — كانت دراسة اللغة والنحو على أشُدِّها؛ فالهدف هو الكتاب الكريم وإجادة فهمه، ولا بد للفهم الجيد من إتقانٍ لدراسة اللغة وكل ما يتعلق بها، فماذا عسى أن تقول إذا ما نظرتَ فوجدت جماعتين من الدارسين: إحداهما في البصرة، والأخرى في الكوفة، فإذا هما تختلفان إحداهما عن الأخرى في الأساس العميق الذي تُبْنَى عليه الدراسة اللغوية؛ فجماعة البصرة — وفيها الخليل بن أحمد وسيبويه — ذهبتْ إلى أن يكون العقل بتقسيماته المنطقية هو أساس الدراسة، بمعنى أن منطق التقسيم لو أخرج لنا لفظة مشتقة من أخرى على قواعد الاشتقاق النظرية؛ وجب اعتبارها صحيحة حتى ولو لم يكن القدماء — الجاهلية — قد استعملوها. وأما جماعة الكوفة — ومنها الكسائي — فترى أن ما لم يستعمله العرب الأولون فهو غير صحيح ولا يجوز استعماله، فليست العبرة بالقواعد النظرية وتطبيقها، بل العبرة بتاريخ العرب وما قالوه بالفعل. أقول: ماذا عسى أن تقوله إذا ما نظرتَ فوجدت هاتين الجماعتين منهمكتين في دراستهما اللغوية إلا أن تقول إنه علم للعلم في ذاته، حتى وإن كان بينهما اختلاف على الأساس، ولكن أَمْعِن النظر تجد في جماعة البصرة مَنْ هم من أصول فارسية، وأن جماعة الكوفة من الأرومة العربية الخالصة، أفلا تأخذك الريبة إزاءَ هذا أن تكون جماعة البصرة قد لجأت إلى إعمال العقل وحده حتى لا يتركوا أفضليةً لمن هو سليل أصل عربي، وأن جماعة الكوفة قد جعلت مرجعهم في الصواب والخطأ ما قاله العرب أو لم يقولوه؛ ليحتفظوا لأنفسهم بالمنزلة الأولى؟ على أن ما يهمنا في هذا كله هو الصلة الحيوية القائمة بين العمل العلمي والثقافي من جهة، واهتمامات الناس وهمومهم الحقيقة من جهة أخرى.
وكان لا بد أن ينصرف المفكرون بكثير من جهدهم نحو طائفة من جوانب العقيدة الإسلامية ليتناولوها بالتحليل ابتغاءَ الوضوح، ومن أهم تلك الجوانب فكرة التوحيد ذاتها التي هي رسالة الإسلام الأساسية، فماذا تتضمنه «الوحدانية» من معنًى؟ لأنه إذا كانت واحدية الذات الإلهية لا تتطلب كثيرًا من العناء لفهمها، فماذا يقال في «الصفات» التي توصف بها تلك الذات؟ هي صفات كثيرة كالحياة والعلم والإرادة والخلق والرحمة إلى آخر ما يحفظه المسلم منها، أفلا تنطوي على «تعدد» إذا نحن فهمناها على أن لها استقلالًا بذاتها؟ وها هنا كنت تجد الاختلاف قائمًا بين المعتزلة وأهل السنة: الأولون يقولون إن تلك الصفات لا تُفْهَم إلا من حيث هي الذات نفسها، فإذا قلنا عن الله سبحانه وتعالى إنه «عليم» كان معنى ذلك أن العلم الإلهي هو نفسه الذات في علمها، وهو «خالق» كان الخلق هو الذات نفسها وهي خالقة، وهكذا. لكن أهل السنة لم يريدوا لأنفسهم مثل هذا التعقيد في فهم المعاني، فظاهر العبارة التي تقول عن الله إنه عليم، يدل على أن للعلم معنًى قائمًا وحده والذات موصوفة به.
وإذا انتقلت إلى حلقة أخرى من حلقات البحث والنقاش — ونحن الآن في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) وفي مدينة البصرة التي كانت تعجُّ برجال الفكر — فترى موضوعًا آخر محورًا للخلاف هو موضوع «العدل» الإلهي؛ إذ من فكرة العدل ينشأ سؤال عن حرية إرادة الإنسان في فعله ليكون مسئولًا أمام الله يوم الحساب عن اختياره، وبهذه الحرية والتبعة الأخلاقية التي تترتب عليها كان يقول المعتزلة، لكن فريق الجهمية يتصدى لهم؛ لأن ذلك الفريق يأخذ بالجبرية المطلقة، مستندين في ذلك إلى نصوص قرآنية كثيرة تدل على أن كل ما يفعله الإنسان إنما هو بمشيئة الله.
٣
كانت المرحلة الثانية من الرحلة الثقافية التي ارتحلتها دارسًا ومتأملًا في دنيا التراث في مدينة البصرة إبَّان القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، وها نحن أُولاءِ على أبواب المرحلة الثالثة، وسوف ننتقل فيها إلى بغداد التي كان بنو العباس قد أنشأوها لتكون مقرًّا للخلافة الجديدة، وستمتد بنا هذه المرحلة ما يقرب من قرنين كاملين؛ الثالث والرابع من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر من تاريخ الميلاد)، وفي هذه الفترة بلغ العرب بثقافتهم إلى أوج أوجها.
لكنني إذا أردت فهمًا صحيحًا للروح التي سادت تلك الفترة من الناحية الثقافية، لم يكن يكفيني أن أسرد المنتجات سردًا عدديًّا، فأقول إنهم كتبوا كذا وكذا وترجموا كَيْتَ وكَيْت؛ فهذه المعلومات الإحصائية لها أهمية أولى عند الوراقين، أما من كانت الأولوية عندهم للثقافة في روحها ومعدِنها، فعدد المنتجات لا يكفيه، فتراه يبحث عن العوامل التي اصطرعَتْ لتؤديَ إلى ظهور تلك المنتجات.
وفي حالتنا هذه التي بين أيدينا — وأعني الحياة الثقافية العربية خلال الفترة التي حددناها — إذا ما كشفنا عن بعض العوامل الرئيسية التي فَعلتْ فِعلها؛ انكشف لنا خبيءٌ ما كان لينكشف لو أننا اكتفينا بالإحصاءات العددية لما كتبوه وما ترجموه، وإني لأقولها هنا في غير تواضع لكي أتحمل التبعة كلها، وهي أن تلك العوامل التي رأيتها مفسِّرة للروح الثقافية التي سادت عندئذٍ هي رؤيتي وحدي، فإذا كان استدلالي خاطئًا فأنا وحدي الذي أخطأ أو مصيبًا فأنا الذي أصاب.
فلقد كانت مرحلتي الثانية التي صورتها في الفقرة السابقة إبَّان الخلافة الأُموية، وأما المرحلة الثالثة التي أهمُّ الآن بتصويرها فقد وقعت في خلافة بني العباس، وإذا نحن لم ندرك — في انتقال الخلافة من الأُمويين إلى العباسيين — كيف كان التحالف وثيقًا بين السياسة والثقافة فاتنا شيء كثير.
فلنذكرْ بادئَ ذي بَدْء أن البيت الأُموي كان عربيًّا خالصًا، وأراد أن تكون السيادة للعرب وحدهم دون سائر المسلمين من غير العرب وبصفة خاصة الفُرس، ولقد أُطْلِقَت كلمة «الموالي» على الفُرس المسلمين؛ فكان من الطبيعي أن يَضيق هؤلاء الموالي؛ فهم يعلمون عن الإسلام أنه لا يفرق بين مسلم ومسلم إلا بالتقوى، ولكن ها هم أُولاءِ يروْنَ — من الناحية العملية — أن الخلافة العربية تتعصب للعرب وتخصهم وحدهم بمكان السيادة، فماذا يحدث لهؤلاء الموالي من الفُرس إلا أن يرتد بعضهم من الساخطين إلى عقائدهم الدينية الأولى قبل الإسلام، وأن يجعلوا ردتهم تلك سرًّا في صدورهم؛ ومن هنا شاعت موجة من أوهام الخرافة، هي التي يطلقون عليها اسم «الزندقة»، كما شاعت منافسات وطنية إقليمية، كل فريق يُعْلِي من شأن إقليمه وثقافته وتاريخه: العرب الخلص من ناحية، والفرس من ناحية أخرى، وتلك هي الحركة التي يطلقون عليها اسم «الشعوبية».
بدأ بنو العباس يتحركون للإطاحة بالدولة الأُموية والاستيلاء على الخلافة، فأول ما يخطر لهم أن يفعلوه هو الاستعانة بالموالي الساخطين. وبهذا التحالف استطاع العباسيون أن يقتلعوا الأُمويين، وأن يتولوا الخلافة سنة ٧٥٠ ميلادية، وأنشئوا بغداد لتكون مقرًّا لخلافتهم. لكن الذي يهمنا في هذا المقام ليس هو الأحداث السياسية في ذاتها، بل هو التحولات الثقافية التي تسبق تلك الأحداث وتصاحبها وتلحق بها، فلئن كانت مصلحة الأُمويين — وهم في الحكم — قد اقتضتهم أن يُعْلوا من شأن الثقافة العربية وحدها، وألا يعملوا جادِّين على فتح الأبواب لسائر الثقافات، فمصلحة العباسيين قد اقتضتهم شيئًا آخر، هو أن يُفسحوا المجال للثقافات الأخرى — وفي مقدمتها ثقافة الفرس — إرضاءً للموالي الذين ساعدوا بني العباس في الإطاحة ببني أمية، ثم ما هو إلا أن بدأت حركة النقل على أوسع نطاق من ثقافة اليونان.
فإذا رأينا المأمون يقيم للترجمة عن اليونان فلسفتهم وعلومهم «دار الحكمة» في بغداد، فكان ما كان من سريان فكر جديد في شرايين الثقافة العربية؛ أدى بها إلى الارتفاع كما ارتفعت خلال القرنين الثالث والرابع من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر من التاريخ الميلادي)، فمن المهم أن نحسن فهم الأسباب التي كانت وراء الحركة كلها — وهي أسباب سياسية في أساسها — لنعلم كيف تتآلف السياسة مع الثقافة في حركات النهوض.
ولن تكوِّن لنفسك صورة صحيحة عن مدى ما تغيرت به الثقافة العربية نتيجة لذلك التحول إلا إذا قرأت لبعض الأعلام شيئًا مما أنتجوه، وعندئذٍ ترى كم هي جديدة تلك الصورة الثقافية الجديدة، فلم يكن للعرب سابق عهد بمثل هذا التفكير، ولا كان لأصحاب المصادر المنقولة إلى العربية في حركة الترجمة سابق عهد بمثل هذه الكتابة، فنحن الآن أمام فكر جديد سيق لنا بأسلوب جديد.
اقرأ الجاحظ من القرن التاسع الميلادي، ونظيره أبا حيان التوحيدي من القرن العاشر، اقرأ لأعلام المتكلمين كالنظَّام والعلاف؛ لترى على أية صورة باتت الأفكار الإسلامية الخالصة تُعرض في تحليل منطقي بلغ من الدقة غاية قصوى، واقرأ — من نتاج القرن العاشر — رسائل إخوان الصفا، أو مَنْ شئت من الفلاسفة في تلك الفترة: الفارابي أو ابن سينا، بل اقرأ لشعراء ذلك العصر: المتنبي أو أبي العلاء المعري، أو اقرأ لأعلام النقد الأدبي في القرنين التاسع والعاشر معًا كابن سلَّام والقاضي الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني، اقرأ من كل تلك الكنوز ما شئت تجد ثمرة فكرية جديدة، فيها نضج وعمق وبصيرة؛ جاءت نتيجة التزاوج بين ثقافة عربية تقليدية أراد المتعصبون من بني أمية أن يقصروا أنفسهم عليها، وثقافات أخرى مختلفة المنحنى والمذاق، أرادت لها السياسة بادئَ الأمر أن تسري في العقل العربي؛ فارتفعت الثقافة وارتفع الإنسان.
٤
وكأنما هو ضد طبائع الأشياء أن يولد جديد في الثقافة أو في الحضارة دون أن يتصدى له قديم ليبرز عيوبه وليمحوه من الوجود إذا استطاع، وربما كانت هذه الحراسة من التقاليد القائمة لما عسى أن ينجم من الجديد من تشويه لمعالم الشخصية الأصيلة؛ فتتصدى له بالتحدي حتى تلجم خطاه. أقول: ربما كانت هذه الحراسة الثقافية في صالح الأمة بصفة عامة حتى لا تلعب بها النزوات والأهواء، لكنها أيضًا قد تكون مصدر ضرر بالغ إذا بولغ فيها مبالغة من شأنها أن تقتل براعم الإبداع الفكري والفني كلما بزغت لتينع وتزدهر. ومهما يكن من أمر فقد حدث للثقافة العربية الجديدة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة أن نهض من يقاومها مقاومة عنيدة، مقيمًا حُجته على أساس أن الجديد غريب على الروح العربية الأصيلة وضارٌّ بها وليس بذي نفع لأبنائها، لكننا نلحظ في أولئك الذين نهضوا لمقاومة الثقافة الجديدة أنهم فعلوا ذلك بعد أن أُشْرِبُوا حتى ارتوَوْا من تلك الثقافة نفسها التي يقاومونها؛ ولذلك جاءت مقاومتهم لها مستخدمة أدواتها وأسلحتها. وأقوى مَثَل نسوقه لذلك هو الغزالي في حملته ضد الفلسفة اليونانية في كتابه «تهافت الفلاسفة».
ولقد كنت أتحدث عن مراحل رحلتي الثقافية في دنيا التراث، متدرجًا معه خلال القرون الخمسة الأولى من تاريخ المسلمين، ومهتديًا بدرجات الإدراك المتصاعدة في قوتها وسطوعها، كما وردت في آية النور: مشكاة فمصباح فزجاجة فكوكب دُرِّيٌّ فشجرة مباركة. المشكاة لتأثر الحواس بما تتلقاه مما حولها من مؤثرات، والمصباح للعقل في تكوينه للمعاني بناءً على ما استخلصه من إدراك الحواس، والزجاجة لانضباط تلك المعاني بما يحددها ويزيدها جلاءً، والكوكب الدُّرِّيُّ للدرجة القصوى من لمع العقل، وهذه الخطوات كلها أجملناها إجمالًا سريعًا فيما أسلفناه، ثم تأتي الدرجة الأخيرة التي هي الشجرة المباركة رمزًا لاعتراف العلم، لا من الخارج بل من النبع الباطني، من طبيعة الذات الداخلية، وهو ضرب من الإدراك يجيء إلى صاحبه برؤية باطنية مباشرة، فلا استدلال لأفكارٍ مِن أفكار سواها، ولا إقامة برهان على فكرة بفكرة أخرى، فمثل هذه المعرفة اللدُنِّية التي تَغترف من خلجات النفس لا شك في يقين صوابها — عند صاحبها — حتى ولو عارضته فيها الدنيا بأسرها؛ لأنه أحسها بوجدانه كما يُحس العاشق عشقه لمن يعشقه، وكما يُحس الخائف خوفه، والمتألم ألمه، والنشوان نشوته.
مرحلة «الشجرة المباركة» التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تَمْسَسه نار، هي المرحلة الأخيرة من رحلتي الثقافية في دنيا التراث، حيث سمعتُ دعوةً إلى رفض الحواسِّ ورفض العقل (إلا في الميادين الخاصة بهما)، واللجوء إلى رؤية الباطن رؤية مباشرة لشهود «الحق». وكان صاحب الدعوى الذي اخترناه ليكون الناطق بها والمفصح عن فحواها هو الإمام الغزالي.
لكنها وقفة ذات وجهين؛ لأنها إذ تدعو إلى رؤية الحق بالشهود المباشر، فهي في الوقت نفسه تدعو إلى نبذ أداة العقل كما تَمثل في فلسفة اليونان — وفلسفة أرسطو في صورتها السينوية (أي عند ابن سينا) بصفة خاصة؛ ومن هنا جاء كتابه «تهافت الفلاسفة» ليبين كيف تتناقض تلك الفلسفة مع نفسها، فكان كتابه ذاك بمثابة إغلاق الباب الذي تسللت منه أضواء الثقافة الجديدة الساطعة التي حدثْتُك عنها. ولسوء حظ الثقافة العربية أنْ كان الغزالي من القوة بحيث جاءت حركته تلك إغلاقًا لَبِث فعله يؤثِّر في مجرى الفكر العربي نحو ثمانية قرون كاملة، لم تظهر فيها حركة فتح مضادة تلغيها إلا ابتداءً من القرن التاسع عشر، وحتى رد ابن رشد على كتاب الغزالي بكتاب «تهافت التهافت» (أي إن التناقض ليس في فلسفة أرسطو، بل هو في كتاب الغزالي) أقول: حتى ابن رشد بكتابه «تهافت التهافت» لم يغير من الأمر شيئًا؛ إذ كاد تأثير ابن رشد يقتصر على الغرب، فكأنما جعلناها قسمة ثقافية: الغزالي لأبناء الشرق وابن رشد لأبناء الغرب (الرحلة الثقافية في دنيا التراث هي التي فصلت أخبارها وثمارها في كتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»).
٥
- الأول: أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه — وبسبب سلطانه السياسي — صاحب «الرأي»، لا أن يكون صاحب «رأي» (بغير أداة التعريف)، بحيث لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم.
- الثاني: أن يكون للسلف كل هذا الضغط الفكري علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه وأعادوه ألف ألف مرة، لا أقول: إنهم أعادوه بصورة مختلفة، بل أعادوه بصورة واحدة، تتكرر في مؤلفات كثيرة، فكلما مات مؤلف لبس ثوبه مؤلف آخر، وأطلق على مؤلَّفه اسمًا جديدًا، فظُن أن الطعام الواحد يصبح أطعمة كثيرة إذا تعددت له الأسماء.
- الثالث: الإيمان بقدرة الإنسان — لا كل إنسان؛ المقربون منهم — على تعطيل قوانين الطبيعة عن العمل كلما شاءوا على غرار ما يستطيعه القادرون النافذون — على صعيد الدولة — أن يعطلوا قوانين الدولة في أي وقت أرادت لهم أهواؤهم أن يعطلوها (راجع الفصل الثاني من كتاب «تجديد الفكر العربي»).
إنني حين انصرفت بمعظم جهدي إلى دراسة التراث العربي في أمهاته — وكان ذلك في أواخر الستينيات وما بعدها — لم أفعل ذلك وفي نيتي أن أكون عبدًا لما أقرؤه، ولا أن أكون سيدًا متعاليًا عليه، كلا، ولا كان في نيتي أن أقف مما أقرأ موقف المؤرخ الذي يقصر نفسه على الفترة التي يدرسها دون أن يأذن لنفسه بالحكم عليها وتقويمها بموازين عصره هو، بل يجعل موازين أحكامه وتقديراته ما كان يحيط بالفترة التي يدرسها من ظروف، لا، لم يكن شيء من ذلك هدفي، بل قرأت ما قرأته ليكون حكمي عليه قائمًا على معايير عصرنا نحن، من حيث انتفاع الناس به وعدم انتفاعهم. إنني قرأت ما قرأته من التراث العربي قراءة مثقف يعيش في القرن العشرين، ويتنفس في مُناخ حضاري له خصائصه ومقوماته، ويريد أن يرى الحبل موصولًا بينه وبين أسلافه، لكنه في الوقت نفسه يشعر بأنه ما كل ما عاشه أولئك الأسلاف صالح له هو ولزمانه، ولكنه لا بد — بحكم طبائع الأمور ذاتها — أن يكون في حياة الأسلاف كذلك ما يجوز — بل ما يجب — أن يبقى ليبقى الرباط؛ فاللغة — مثلًا — التي أتحدث بها وأكتبها «عربية»، وهي نفسها ما كان يتحدث به الأسلاف وما كانوا يكتبون به — من حيث الروح والأسس إن لم يكن من حيث التفصيلات؛ وإذن فهذا رباط يجب الحفاظ عليه، ومع ذلك فحتى هذا الرباط نفسه هو كأية أداة أخرى من أدوات العيش، ينبغي أن تُسْتَخدم فيما يخدم عصرنا نحن، فأملأُ أوعيتها علمًا من علم العصر، ووجدًا من وجدان العصر.
… لننظر في حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا؛ لسبب بسيط، وهو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفتْ أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول، وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي، وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرجاء الحياة المعاصرة، معظمها إن لم يكن جميعها، وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين.
فقد كانت فكرة «الحرية» تنصرف عندهم إلى المعنى الذي يقابل «الرِّق»؛ فالفرد من الناس إما أن يكون حرًّا ذا حقوق وواجبات، وإما أن يكون عبدًا مملوكًا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن له به هؤلاء، وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم، فأولًا قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامَنا إلا مجموعة من المواطنين هم أنفسهم مجموعة الأحرار، ثم اتسع المعنى — ثانيًا — ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة، وهي الجوانب السياسية التي من شأنها أن تقام الحكومة بانتخاب المواطنين، إما بطريق مباشر وإما بطريق غير مباشر، على الصورة التي نألفها — على اختلاف أشكالها — في الدول الحديثة. لقد كان يسيرًا علينا، أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها، أن نقفوَ أثر أوروبا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلونهم أمام من تُسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة كلها في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد، لا من قبل الحاكم ولا من قبل المحكوم. أقول: إن نقل هذه الأنظمة كان يسيرًا علينا من الوجهة النظرية الشفوية، وهل يتعذر أن ننتقيَ عددًا من المواد نجمعها في بعض صفحات، لنقول هذا هو دستورنا الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عنا في كل ما نهتم له من شئون التشريع؟
لكن الفجوة فسيحة وعميقة بين أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية، وبين صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف، فعلى طول التاريخ العربي ندر — وكدت أقول «استحال» لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة — ندر أنْ زالت حكومةٌ لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير أخذ الحكم وراثة أو أخذه عَنْوة، وفي كلتا الحالتين لا يزعزعه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن أو ما رأيت من سبل تكون في وسع المتآمر عليه، فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك حق العزل، ولا القلة التي لهم الصدارة في المجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئًا إلا الطاعة أو العصيان أو المؤامرة (راجع الفصل الثالث، بعنوان «ثقافة في تراثنا لا نعيشها» في كتاب «تجديد الفكر العربي»).
٦
إنه كلما أثيرت قضية التراث وما ينبغي أن يكون موقفنا منه أخذًا ونبذًا أثارت معها الصعاب، كأنها سؤال بغير جواب أو مشكلة بلا حل، فهذا هو ما تركه أسلافنا من فكر وشعر، من علم وأدب، من فقه وتاريخ ورحلات، من فلسفة ونقد، فماذا نحن صانعون به؟ قد يكون فيه ما تظل له حيويته وضرورته إلى عصرنا هذا وما بعد عصرنا، كاللغة من حيث هي أداة لا بد منها للتعبير والتفاهم، وما فيه من شعر ونثر فني لا تبلى جِدَّته لأنه فن، والفن لا يفنى ما دام صادقًا، وجوانب أخرى كثيرة لا ضَير علينا من سريانها في شرايين حياتنا، بل لا مناص لنا ولها من ذلك السريان؛ لأنه حتم تاريخي ما دامت الأمة الواحدة موصولة الحلقات حاضرها بماضيها، لكن تلك الجوانب من التراث تعرض نفسها علينا مختلطة بغيرها مما لم يعد لنا به شأن؛ ومن هنا ينشأ السؤال الذي كثيرًا جدًّا ما يتردد اليوم على ألسنتنا وأقلامنا: ماذا نصنع أمام تراث لم يعد صالحًا لنبض الحياة؟
وفي مقالة عنوانها: «نحن نصنع الماضي» (راجعها في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة») رسمت صورة تخيلتها لشابين كانا يتحدثان معًا في حضوري، أحدهما يرفض أن نشغل أنفسنا بذلك التراث ما دام زمانه قد ذهب، وما دمنا نعيش في زماننا نحن متميزًا بظروفه، وأما الآخر فلا يجد الحياة ممكنة في زماننا هذا دون أن نستمد بعض غذائها من تراث الأسلاف، ثم أكملت الصورة المتخيَّلة للحوار بين الشابين بأنْ جعلتهما يحتكمان إليَّ باعتباري أستاذهم فيما مضى من سنين، فقلت مجيبًا بما هو رأيي في قضية الماضي:
«… إنكما تتكلمان عن الماضي وكأنه قطعة من الحجر الصوَّان، إما قبلتها كما هي، وإما رفضتها كما هي، أو كأن ذلك الماضي كتاب اكتملت صفحاته، لم تعد تَزِيد صفحة ولا تنقص صفحة، وعلى القارئ أن يتلوه من فاتحته إلى ختامه، أو أن يكف عنه من غِلافه إلى غِلافه.»
ولكن أمر الماضي ليس كذلك، فأولًا ليس باختيارنا أن نأخذ ماضينا أو نتركه؛ لأن هذا الماضي إنما هو ماضٍ لحاضر، ولو بَترْنا العلاقة بينهما لما جاز لنا بعد ذلك أن نسميَ الماضي ماضيًا، بل يصبح مجموعة من أحداث عائمة على تيار الزمن، دون أن تربطها الروابط بهذه الأمة أو بتلك، لكن ماضينا هو ماضينا نحن، موصول الحلقات بالحاضر الذي نعيشه نحن، ولكل شعب آخر ماضيه وحاضره، وذلك يشبه أن تكون طفولتي هي طفولتي أنا دون أي إنسان آخر، موصولة الروابط بشبابي وكهولتي، وليست هي مجرد طفولة سابحة في الهواء. إنه إذا كانت حياتنا كتابًا من عدة أجزاء؛ فالحاضر هو الجزء الأخير من تلك السلسلة، يتلوه بعد ذلك أجزاء جديدة تظهر على التوالي، على أن آخِر الأجزاء لا يُفْهَم إلا على ضوء سوابقه.
وثانيًا: إن ماضينا كالسَّجادة المزخرفة بالصور المتشابكة، ويدخل في نسيجها عدد ضخم من خيوط اللُّحمة وخيوط السَّدَى، تتقاطع بعضها مع بعض؛ وإذن فلا بد للرائي أن يختار لنفسه من هذا الكل المركب خطًّا واحدًا لتعقبه، كأن يختار خط النباتات المصورة على الرقعة أو خط الحيوان أو خط الأشكال الهندسية وما شابه ذلك.
إنه قد يتبادر إلى أذهاننا أن الماضي شيء مفروض علينا، لا قِبَل لنا بعمليةٍ اختيارية نتحكم بها فيما نأخذه وما نتركه، وأن هذه الحرية في التركيب والبناء مقصورة على تصورنا للمستقبل، ولا تمتد كذلك إلى تصورنا للماضي، لكن أَمْعِن النظر قليلًا تجد ألا فرق في حرية الصنع والبناء بين ماضٍ ومستقبل، كلاهما هو ما نصنعه نحن باختيارنا، كل ما في الأمر من اختلاف بين الحالتين، هو أننا بإزاء الماضي أمام أكوام مركومة من مواد البناء، فنتقدم ونأخذ منها ما يحلو لنا أن نأخذه، ثم نقيمه في البناء الذي يحلو لنا أن نقيمه لأنفسنا، على حين أننا بإزاء المستقبل نحفر القنوات التي يتسرب فيها الحاضر على نحو ما نريد له أن يتسرب؛ لتتكون الصورة التي نحب لها أن تكون.
الماضي والحاضر كلاهما من صُنعنا، وإن هذا الصنع ليجيء نتيجة لاهتماماتنا نحن في الآونة الحاضرة …