(١) في ضرورة التجديد
إنَّ البحث في بعث وتجديد معامل أصالتنا، أو بمصطلح أفضل خصوصيتنا الحضارية
١ — ولا مشاحة في الألفاظ كما يقولون — يكاد يكون فرض عين على المعنيين بالفكر
الفلسفي فينا، ولئن بدأ هذا الهاجس يسيطر في مطالع يقظتنا ونهضتنا الحديثة منذ بدايات
القرن
الماضي، فإنه يزدادُ إلحاحًا؛ بعد أن ماهت الفوارق بين التبعية والاستقلال الحضاري، وترسَّم
بديلًا موقفٌ هامشي هو موقف التنازلات التي أصبحت تُلامس حدود ثوابت الهوية، ووضع القومية
موضع
الاستفهام، والعروبة موضع التشكيك، والإسلام رديفًا للرجعية، ولم تبقَ إلا خطوة واحدة
ونتساءل:
ما الوطن وما الوطنية؟!
في مثل هذا الموقف يصبح تحديث الأصالة، أو التجديد في معامل خصوصيتنا، بمثابة طوق
النجاة
لنا من الانسحاق الحضاري والضياع الثقافي في خضم ما نعانيه من انخفاض معدلات التنمية
في الدول
العربية الفقيرة والثرية، واحتلال الأراضي ونهب الثروات وعلو الصهيونية، هبوط الوعي وتراجع
المشروع القومي، وشيوع التطرف وذيوع التعصب، وانحسار العقلانية وكلالة البحث العلمي.
وقبل كل هذا وبعده، العجز عن الخروج من التبعية للغرب، وانحناءة الرأس لنزعته الإمبريالية،
وهو — بمعية ربيبته وحليفته الصهيونية — يتخذ من تقدمنا وسؤددنا موقفًا منذ أن تحوَّل
البحر
المتوسط إلى بحيرة إسلامية تجوبها الألوية العربية المرتفعة، فتختنق موانئ أوروبا ويذبل
اقتصادها، يعتريها الوهن والذبول والاصفرار، وتدخل في ليل قروسطيتها الطويل.
نذكر في هذا الصدد المؤرخ البلجيكي هنري بيرن H. Pirnne
(١٨٢٦–١٩٣٥)، فقد اشتهر بتفسيراته الثاقبة للعصور الوسطى الأوروبية وعزو تدهورها إلى
التقدم
السريع للإسلام الذي أدى إلى الانقطاع عن التراث الإغريقي والروماني، وإلى نهاية وحدة
حوض
المتوسط التي لم تعد إلا مع الحروب الصليبية. وفي كتابه الشهير «محمد وشارلمان» تبدأ
العصور —
لا بسقوط الإمبراطورية الرومانية، بل — بالفتوحات العربية وسيطرتها على مرافئ البحر المتوسط
الجنوبية وطرق الملاحة والطرق البرية إلى الشرقين الأوسط والأقصى، التي كانت سببًا في
ثراء
اليونان قديمًا، ثم ثراء إيطاليا ووسط أوروبا حديثًا.
هذه السيطرة الإسلامية عزلت أوروبا عن مصادر الثروات التجارية، فتدهور اقتصادها ليبدأ
عصرها
الوسيط. والدليل على هذا — فيما يرى بيرن — أنه انتهى باكتشاف إيطاليا لطرق برية إلى
الصين في
القرن الثالث عشر، واكتشاف البرتغال لرأس الرجاء الصالح، ووصولهم إلى شرق آسيا دون الاحتكاك
بالمسلمين. وبالمثل يقول مؤرخ العلم الكبير
J. J. Crowther:
«بقضاء المسلمين على الملاحة المسيحية في البحر الأبيض المتوسط قضوا على التجارة الخارجية
والمواصلات في غرب أوروبا، وذبلت موانٍ كثيرة مثل مارسيليا ومدن تجارية على الأنهار في
داخل
البلاد؛ لانعدام موارد التجارة، وتلاشي ما بقي من الحكومة المركزية الرومانية، وأُغلقت
مكاتب
الإدارة والمحاكم والمدارس والمحطات القديمة، واختنقت دعائم النظام الإمبراطوري، ولم
يبقَ من
الطبقات الاجتماعية إلا كبار الملاك أبناء الأعيان وقوم بعضه من الفلاحين وبعضه من الأحرار
المرتبطين بالأرض، وماتت الصناعة لعدم تموينها بما تحتاج إليه، وانتهت حركة الإنشاء والعمل
إذا
استثنينا الحاجيات الضئيلة التي تتطلبها الحياة المنزلية، وبذلك لم يَعُد هناك من حاجة
لطلب
العبيد — الآلات الصحيحة للعمل — وأصبحت الحالة لا تتطلب إلا المشتغلين بالزراعة …»
٢ على الإجمال سجى على أوروبا عصرها الوسيط.
منذ ذلك الزمان البعيد والحضارة الغربية تدرك خطورة أي تفوق عربي إسلامي، وتشهر العداء
بالحملات الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر، «وتشكل العدوانية العنصرية الصهيونية
الحلقة
المعاصرة من هذه الموجة.»
٣ ويعلم الله وحده متى ستنتهي حلقاتها بعد أن ساد مؤخرًا الحديث عن الثقافة باعتبارها
المحور الأساسي للصراعات الدولية القادمة، فاعتمدت السياسات الغربية منذ مطالع التسعينيات
في
القرن العشرين ما سُمي «بالحرب الثقافية»
٤ ضد الثقافات المغايرة على العموم، والثقافة الإسلامية على الخصوص؛ بهدف تحجيمها
والحيلولة دون احتلالها ناصية العلم والتقانة (التكنولوجيا). وفي تفسير هذا تتقدَّم دراسات
إدوارد سعيد لتجيب على السؤال: لماذا كان الإسلام فقط هو الدين الوحيد الذي يمثل تقدُّمه
ونهضته
تهديدًا خطيرًا للحضارة الغربية وسطوتها وقيمها؟
وتشهد أواخر المائة التي تمثل القرن العشرين كارثة الخليج التسعينية، التي لا تقل
بشاعة عن
كارثة السابع والستين؛ إذ يممنا الأبصار شطر العواقب الوخيمة والنتائج الوبيلة. وعلى
كثرة
تناحرات العرب وتطاحنهم، بل وتقاتلهم منذ حرب البسوس وحروب القبائل في الجاهلية، حتى
الفتنة
الكبرى وحروب الدويلات الإسلامية، وصولًا إلى حزيران الأسود وأيلول الأسود وآب الأسود
… وكل
شهور العرب السوداء، بلون الظلام والتخلف، بلون البغضاء والفُرقة بين الأشقاء … على كثرة
هذا
كانت مأساة الخليج كارثة لم يكرث التاريخ بمثلها من قبل.
وقد توالت تداعياتها المريرة، وأخطرُها إصابة القومية بطعنة نجلاء، فتراجعت الوحدوية
كحلم
وكواقع، كأيديولوجيا وكطوبى لصالح القطرية. ويبقى أمرُّ تداعياتها في حلوق المثقفين وكل
مهموم
بوعي الأمة، إنما هو تلك النزعة الانهزامية إزاء الحضارة الغربية، والتي بلغت حدَّ السير
في
ركاب المشروع الصهيوني تَلمُّسًا لعوامل الاستقرار والنَّماء! في حضارة شرق أوسطية لا
غربية ولا
عربية، لتكتسح بقايا المخلفات القومية. وبعد طول النِّضال ضد الاستعمار ومُباركة الكفاح
من أجل
الاستقلال … صارت الهيمنة الغربية تُجلَب وتُشترى، وصرنا نتوخى سبل الاستسلام لها كي
تحل
صراعاتنا ومشاكلنا، وكأننا نتشبَّث بموقع على هامش الحضارة الغربية، لنلتقط فتات موائدها،
دون
مشاركة في صنع صنوفها الشهية البهية.
شهد القرنان الماضيان عزمًا وحماسًا للإحياء والتجديد والتنوير والتثوير، وقد علا
الوطيس في
أعقاب ثورة ١٩١٩، وشهد أجواء مواتية في العصر الذهبي لثورة يُوليو قبل فاجعة ١٩٦٧. وعلى
أية حال
كان قد استمر دائمًا بدرجات متفاوتة، ثم أوشك أن يخبو الآن، وتطفو على السطح نوبات تشنُّج
الفرار المخبول إلى الماضي بقضِّه وقضيضه، وتتزايد حميتها، ربما كَرَدِّ فعلٍ عكسي للأحداث
التي
تترى ترسيخًا للتبعية للغرب والدوران في فلكه، لا سيما بعد انهيار القوة العالمية المناوئة؛
الاتحاد السوفييتي. يحدث هذا في أواخر المائة الميلادية العشرينية، التي تشهد مراكز توهج
حضارية
أخرى في شرق آسيا، تغلَّبت على أوروبا وأمريكا في معدلات التنمية والتنهيض.
•••
يصعب اعتبار محنتنا الرَّاهنة أمرًا طارئًا، إذا تذكرنا كتاب الإمام جلال الدين السيوطي
(٩١١ﻫ): «التنبئة بمن يبعث الله على رأس كل مائة»، وهو يقوم على أنَّ المحن الاجتماعية
تقتضي
التجديد، جبرًا لما حصل من الوهن بالمحن. إنهم يعدُّون محن الظلم السياسي والاجتماعي
على رءوس
المئين، فيذكرون الحَجَّاج ومحنة خلق القرآن، وخروج القرامطة وأفاعيل الحاكم بأمر الله،
واستيلاء الفرنج على كثير من البلاد الشامية ومن بينها بيت المقدس … ويعدُّون على رأس
كل قرن محنة.
٥
وحينما تكون المحنة دهماء — من قبيل استيلاء الفرنج على بيت المقدس — فإننا نجدُ أستاذ
الأصوليين في التجديد وأستاذ المجددين في الأصولية الشيخ أمين الخولي يفضِّل مجددًا في
أصول
العقائد — هو متكلم — على مجدد في الفروع والعبادات — هو فقيه.
يعترض أمين الخولي بشدة على قولٍ لشيخ الأزهر يقصر فيه التطور على أحكام العبادات،
وينأى به
عن الأصول والعقائد، مؤكدًا أنَّ التطور سنَّة شاملة، والقرآن يُقَرِّر أنه بالتغير يعامل
المتغير، فيقول الخولي: «كل شيء يتغيَّر مع الزمن، لا سيما المتطاول منه، تتغير صورته
الذهنية
ومفهومه العقلي، ويتغير تبعًا لذلك وقعه على النفس، ويتغير أيضًا التعبير عنه والتمثل
له، وكل
أولئك تغيرات تطرأ على أي شيء، ويجب على صاحب الدين أن يقدِّرها، فيغيِّر تعبيره وعرضه
واستدلاله.»
٦ إنَّ التغير وبالتالي التجديد سُنَّة مُقَرَّرة، وأصل ثابت بيَّنه الرسول.
٧
الإمام السيوطي يستهل كتابه المذكور «التنبئة» بقوله: «الحمد لله الذي خصَّ هذه الأمة
الشريفة بخصائص واضحة للمُجتهدين، وبعثَ على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر الدين.»
ويقول: لا
يجوز خلو العصر من مجتهد، واستعاذ بالله من صيرورة الأمر إلى هذا الحد!
٨
ولما كان التغير والتجديد أصلًا ثابتًا في العقيدة، فإنَّه بدوره أمر واقعٌ في الحياة
الاعتقادية إبان القرون الأولى للحضارة الإسلامية وعصرها الذهبي، حيث تتكشف اختلافات،
بل صراعات
جمة حول العقيدة؛ ومن العقائد ما بلغ الاختلاف حولها حدَّ سفك الدِّماء كالذات والصفات
وخلق
القرآن. وبالطبع ليس مثل هذا التغيير — ولا موضوعاته أصلًا وفروعًا — هو المنشود؛ ولكنَّ
المهم
— كما يقول أمين الخولي — أنه بيان لإمكانية الاختلاف، وبالتالي قابلية التطوير والتجديد،
فينتهي الخولي إلى أنَّ: «تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجبٌ لحاجة الحياة إليه، وحاجة
الدين
إلى تقريره.»
٩
والتجديد قد يكون دوريًّا مع التغيرات الدورية، وقد يكون جذريًّا مع المحن عند رءوس
المئين،
وعن مثل هذا التجديد الجذري المستجيب لاحتياجات الواقع، يقول الخولي: «إنَّ ذلك التجديد
في رءوس
القرون هو العمل الثوري الكبير الذي تحتاجه الأمة، كأنما هو ثورة اجتماعية دورية يقوم
بها عارف
بالحياة متصل بها وعميق الفكرة عنها.»
١٠
وتحتاجه الأمة الآن أكثر من احتياجها إياه في أية مرحلة أخرى، أو على رأس أية مائة
سابقة،
هجرية أو ميلادية، وفي مواجهة جحافل التبعية والاستسلام التي استهللنا بها الحديث تلح
الحاجة
إلى إعادة قراءة أُصولنا الدينية قراءة تاريخية علمية وتجديدية، لا أن ننفصل عنها أو
نتنكر لها،
إمعانًا في الاستسلام والتبعية، هذا ما يمليه واقعنا، ومن زاوية الفكر: «الدين يبقى في
حاجة
دائمًا إلى فكر ثوري الطبيعة والمناهج؛ ليحدث فيه الثورة من داخل، خصوصًا متى كانت عناصر
الثورة
في أصوله نصًّا ومنهجًا وممارسة. وهي كذلك في الدين الإسلامي … عنيت بها العقلانية والعلمية
والاجتهادية … غير أنَّ السياسة التي سادت باسم الدين كممتها وأطفأتها ضمانًا لصالح أربابها.»
١١ وقد بات من الضروري إحياؤها؛ استنقاذًا للوعي وللشخصية القومية. من الضروري تجديد
منطلقاتنا الفكرية كي تشق طريقها نحو المستقبل.
إن التجديد ينصب في الموقفين القومي العروبي والإسلامي على السواء، فالعروبة تقع من
الإسلام
موقع سويداء القلب، والإسلام يقع منها موقع آفاق الروح، والامتداد الحضاري. الأهم أنَّ
كليهما —
القومي والإسلامي — ينطلق موتورًا من نفس الميراث الاستعماري، ويرابض في نفس خندق مواجهة
التغريب وذوبان الشخصية والخصوصية في محاولات الغرب الدءوبة لاستقطاب العالم بأسره تحت
لواء
ثقافته التي يجدُّ في الزعم بأنها عالمية.
وسواء أكنا قوميين أو إسلاميين نتفق جميعًا على ضرورة العمل من أجل انبعاثة روح حضارتنا
وتأكيدها في مواجهة الآخر الغربي المسيطر، حتى إنَّ عبد الله العروي — وبعد أن حمل كتابه
«العرب
والفكر التاريخي» تسليمًا بهيمنة المشروع الثقافي الغربي — يعود في عمل آخر ليُشير إلى
أنَّ
«الانبعاث لا يعني إحياء إنجازات الماضي بقدر ما يعني استعادة العرب للمركز القيادي الذي
احتلوه
فيما سبق بطول الوطن العربي وعرضه.»
١٢
إنها استعادة الانبعاث للفاعلية في المكان، بمعنى استغلاله علميًّا وتسخيره والسيطرة
والاستقلال به، واستعادة الانبعاث للفاعلية في الزَّمان، بمعنى فاعلية الأمة في مواجهاتها
ومحاوراتها مع الأمم الأخرى، وبالتالي إثبات وجودها الحضاري والتاريخي والوطني والإنساني؛
على
الإجمال الانبعاثُ هو انبعاثه روح الحضارة. وحين يطرح العروي السؤال: ما هي روح الحضارة
الإسلامية؟ يخلص إلى أنَّ: «الخوض في مسألة روح الحضارة ينتهي حتمًا إلى تأسيس علم كلام
مستحدث.»
١٣
(٢) علم الكلام … أيديولوجيًّا
في مثل هذه المقاربات لصلب ثقافتنا — أو حضارتنا، وأيضًا لا مشاحة في الألفاظ — كان
لا بدَّ
وأن يتبوأر علم الكلام الذي هو نبتة إسلامية أصيلة، نشأ قبل عصر الترجمة، قبل التأثر
بالفلسفة
اليونانية، كأول محاولة للتعبير عن النصوص الدينية وفهمها فهمًا عقليًّا خالصًا، وتحويلها
إلى
معانٍ كحركة طبيعية في تجاوز النص الديني إلى المعنى العقلي،
١٤ فكان بحق أوسع وأهم المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري «العقلانيةَ العربية
الإسلامية»، أو أنه — كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرزاق — الفلسفة الإسلامية الشاملة، حتى
لعلم
أصول الفقه بكل تألقه المنهجي.
إنَّ العرب في جاهليتهم لم يعرفوا الفلسفة البتة، هذا صحيح؛ لأنهم ببساطة «لم يعنوا
بأوَّل
أدوات الحضارة النظرية وهي التدوين وتأليف الكتب.»
١٥ ولكن طويلًا ما رددنا أنَّ حركة التفلسف العربية — فيما بعد — بدأت بالترجمة،
واستقرَّ هذا في وعينا كبديهية أولى في درسنا للفلسفة الإسلامية، وبالطبع لا جدال في
أهمية
وفاعلية حركة الترجمة، ولكن أن تكون هي نقطة البدء والمحرك الأوَّل، فهذا يعني أنَّ الفلسفة
الإسلامية محض نتاج للمؤثر الخارجي اليوناني، فتكون أصلًا وامتدادًا في وضع المنفعل المتلقي،
ويظلُّ الغرب وتراثه ابتداءً وأبدًا في وضع الفاعل الملقن، وتتأكد مركزيتهم وهامشيتنا،
وكما
يقول حسين مروة عن الزعم بانفعال الفكر العربي الإسلامي بالمصادر الخارجية: «الانفعال
وحسب
يتضمن القول بأنَّ المنفعل تابع ومُقلد وناقل فحسب دون إبداع.»
١٦
إنَّ نشأة علم الكلام في التربية الإسلامية ونموه في مناخها الموار الفائر، بفعل
مكوناتها
وصراعاتها، حتى وصل بفضل عوامل عديدة، منها حركة الترجمة، إلى طور الفلسفة الإسلامية،
يطيح بذلك
الوهم الذي يجعلنا منفعلين فحسب، ومن الضروري هنا الإشارة إلى لفتة حسين مروة الثاقبة،
حين أوضح
بالتفصيل المدروس كيف أنَّ المحرك الأول للعقل العربي، وبالتالي النقطة الأولى المفضية
للفلسفة
الإسلامية لم تكن حركة الترجمة، بل كانت عقيدة الجبر التي رفعها الأُمويون لتبرير حكمهم
الجائر
القائم على الدَّم الطاهر المراق، وبالتالي ظهرت الثورة عليهم في شكل رفض أيديولوجيتهم
السلطوية؛ أي رفض عقيدة الجبر على يد الثالوث من شهداء القدرية أو الحرية: معبد الجهني
وعمرو
القصاص وغيلان الدمشقي، الذين هم أسلاف المعتزلة. والمعتزلة بدورهم أسلاف الفلاسفة الإسلاميين.
١٧ ومن هذه الثورة الشعبية ضد السلطة الجائرة، أو هذا الصراع الأيديولوجي بين الجبرية
والقدرية في الرُّبع الأخير من القرن الهجري الأول، بدأت رحلة العقل العربي إلى عالم
التفلسف
مصداقًا للقول الشهير: تاريخ الفلسفة هو تاريخ الحرية.
بكل هذا الدور الحاسم والفعالية الشَّاملة لعلم الكلام، ولأنه أصيل، بمعنى الكلمة
وخصوصي،
تخلَّق في رحم الحضارة الإسلامية، وأيضًا لأنه يدور بصورة أو بأخرى حول التنظير العقلي
للعقائد
الإسلامية التي هي المخزون النفسي والبناء الشعوري للجماهير، النسيج القيمي، ملامح المجتمع
وقسماته وأُطر معاييره … على الإجمال الموجهات العامَّة للوعي وللسلوك، فقد أصبح التمثيل
العام
للأيديولوجيا الإسلامية، لا سيما وأنَّ علم الكلام بالذات، ودونًا عن سائر علوم تراثنا
القديم،
هو الذي نشأ في أتون الصراع السياسي، وأنَّ المتكلمين كانوا دائمًا هم أيديولوجيو الدول
الإسلامية. المعتزلة جنَّدتهم الدولة العباسية الأولى في حربها ضد خطر الشعوبيات عليها،
وما
حملته من تيارات فكرية مناهضة للعقلية الإسلامية كالمانوية والمجوسية والغنوصية؛ «فكان
المعتزلة
هم أيديولوجيو الدولة آنذاك، يعملون على نشر وتكريس العقل الديني الإسلامي، وبالتالي
سلطة الدولة.»
١٨ ولما تعاظم شأن المعتزلة — لتعاظم شأن العقل معهم — وقوي بناؤهم الأيديولوجيُّ وبات
خطرًا يُهدِّد الدولة الاستبدادية التي بدأت عوامل الضعف والتفكك تتسرَّب إليها، نهض
الأشاعرة
للردِّ عليهم وتحجيمهم، فأصبح الأشاعرة أيديولوجيي الدولة الإسلامية في العصر العباسي
الثاني
وما تلاه. ومن قبلُ حين تكلم الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين
بن الحسين
بن علي بن أبي طالب (٨٣–١٤٨ﻫ) أسس جعفر بكلامه أيديولوجية الدولة الشيعية، وقد كان للشيعة
دورهم
في نشأة علم الكلام وفي تطور مباحثه.
لقد تشكَّل علم الكلام كاستجابة للمُشَكِّل السياسي وللمُتغيرات الحضارية التي لا
تنفصل
بدورها عن الفتوحات العسكرية والامتداد السياسي. «كانت المواقف السياسية يُبحث لها عن
سند عام
في الدين، كان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسست ما سيطلق عليه فيما بعد «علم الكلام».
إذن
فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجرد كلام في العقيدة، بل كان ممارسة للسياسة
في الدين.»
١٩ على الإجمال؛ أتى علم الكلام القديم نتاجًا لتفاعل ثلاثة مقومات، هي: العقائد،
المعترك السياسي، العقل الفلسفي أو على الأقل النظري.
العقائد: أولًا هي صلب الأيديولوجيا الإسلامية ونخاعها، وثانيًا لا تكتسب الجماعة
هويتها
إلا من خلال الهوية السياسية، وبعد رُسوخ مفهوم الدولة في العصر الحديث؛ فإنَّ الأيديولوجيا
الآن لا تنفصل البتة عن السياسة، ولا يتضح دورها إلا من خلالها، «وقد احتفظ مفهوم الأيديولوجيا
دائمًا، ورغم التغيرات في محتواه، بنفس المعيار السياسي للحقيقة والواقع.»
٢٠ وثالثًا سوف نرى لاحقًا أنَّ الأيديولوجيا إن أُريد لها النَّماءُ والصيرورة
والفاعلية والمواءمة مع المتغيرات، فلا مندوحة لها عن الاستعانة مُجددًا بالتنظير وبالعقل
الفلسفي، لكل ذلك يغدو مشروعًا أن نضع علم الكلام في وضع الإنابة ما دمنا بصدد المشكل
الأيديولوجي؛ إقرارًا بشمولية الأيديولوجيا للخصوصية الحضارية.
•••
ومهما تصاعد الجدل حول مصطلح «الأيديولوجيا» فإنها تظل دائمًا حاجة وضرورة مُلازِمة
للوجود
الإنساني، من حيث إنها التعبير عن معتقدات الجماعة التي تجعلها «جماعة» ذات هوية، وليست
مجرد
حاصل جمع آحاد الأفراد. ولئن كانت الأيديولوجيا منظومة نظرية؛ فإنها لا تتناهى تجريديًّا،
بل لا
بد لها أن تأتي تعبيرًا عن واقعات جماعية محددة … عن معتقداتها المتجهة نحو مصالحها اتجاهًا
ينبع من متعينات واقعها، مما يجعل الأيديولوجيا حاملة لإمكانيات الحركية والتغيير والتطوير
نحو
مثاليات الجماعة وطموحاتها. إنَّ بها منظومة فكرية تدعو إلى تفسير العالم وتغييره في
آنٍ واحد،
من هُنا كانت الأيديولوجيا مُتضافرة دائمًا مع الطوباوية أو اليوتوبية
Utopism وتصور ما ينبغي أن يكون، ولئن كانت الأيديولوجيا — كما أوضح كارل
مانهايم — تتعايش مع الحالة الرَّاهنة في المجتمع، بينما الطوباوية دائمًا في وضع التعارض
مع
الحالة الرَّاهنة، فإنَّ العنصر الأيديولوجي والعنصر الطوباوي في الفكر الإنساني لا يُولدان
مُنفصلين عن بعضهما؛ طوباويات الطبقات الصاعدة كثيرًا ما تتحول إلى أيديولوجيا، «ومعيار
التفريق
بينهما هو درجة تحقيق الطوباوية في التاريخ وتحولها إلى أيديولوجيا.»
٢١ لذلك اعتبر إمجه
Emge اليوتوبيا — أو الطوباوية —
أيديولوجيا مرئية يتوقع حدوثها، إنها تسعى لتحقيق النظام الاجتماعي الذي ترسم معالمه،
فتطالب
بتغيير جذري للعلاقات المجتمعية والسياسية، تنفي أوضاعًا راهنة وتستحث نظامًا جديدًا،
فيقول
الفيلسوف البولاني الماركسي كولاكوفسكي: إن اليوتوبيا قوة حقيقية، إنها المثل الأعلى
لنظم جديدة
والهدف المستكن لواقع تاريخي، ولكنها في الوقت نفسه أداة للتأثير في الواقع، ولتخطيط
العمل
المجتمعي بصورة مُسْبَقة.
٢٢ وفي كل حال تنطلق اليوتوبيا — كما الأيديولوجيا — من موقف اجتماعي مُعَيَّن وتحتوي
على حقائق تاريخية معينة — كما أوضح إرنست بلوخ
E. Bloch.
وبهذا التضافر مع اليوتوبيا أو الطوبى، تحمل الأيديولوجيا قوة لتأكيد وترسيخ المجتمع،
كما يراها
البعض كمانهايم، من حيث تحمل قوة دافعية لحركيته، كما يراها البعض الآخر كجورج سوريل.
ونُرْجِئ الآن مسألة تقابل وتصارع الأيديولوجيا مع العلم التجريبي
٢٣ أو مع الفلسفة؛ إذ ها هنا يهمنا فقط وظيفتها، والتي أكد عليها لويس ألتوسير
L. Althusser
تأكيدًا، ربما لأنها تماثل الوظيفة المعرفية
للعلم التجريبي؛ إذ يقدم العلم إطارًا لتعقُّل حوادث الطبيعة وتفهُّمها تمهيدًا للسيطرة
عليها،
كذلك تقدم الأيديولوجيا إطارًا لتمثُّل العلاقات الاجتماعية وتنظيمها، بل وربما القدرة
التوجيهية لها، بمقتضى منطق أو قاعدة أو مبدأ أو قيمة، يتواضع الناس عليها، ويحصل الإجماع
بينهم
على اعتمادها، وهذا أحد الأسباب القوية التي تؤدي إلى صمود الدين وخلوده على الرغم من
غزوات
العقلانية وبطولات العلم؛ وذلك لأنَّ الدين نجح كأيديولوجيا في تزويد الناس برؤية مُتَجانسة
تحقق لهم التوازن الذَّاتي أمام الطبيعة والمحيط الاجتماعي، وتمنحهم قواعد وأطر وأدوات
لتنظيم وجودهم.
٢٤
ومن ناحية أخرى يمكن الدخول في مُقاربة ومُقارنة مُثمرة وبنَّاءة لعلاقة الأيديولوجيا
بالفلسفة؛ فالأولى تسعى إلى غاية اجتماعية قومية محدودة، بينما تسعى الثانية إلى غاية
إنسانية
عامة شاملة. لكن الفلسفة كأي نتاج اجتماعي ما كان لها أن تُوجَدَ إلا من خلال أيديولوجيا،
كما
أنَّ النظر الفلسفي يبقى ضرورة للأيديولوجيا في إثارته الأسئلة الجوهرية، وتعيين المشكلات
الأولية التي منها تتفرَّع المشكلات الثانوية. وحقَّ القول إنه: «يقي الأيديولوجيا مغبة
السقوط
لعدم تمييزها بين الأصول والفروع وبين الكليات والجزئيات، ويدفعها إلى تجنب الاكتفاء
بالإجابة
على التساؤلات دون النفاذ إلى الأعمق والأشمل من المعطيات الحاضرة والماضية، والنظر الفلسفي
في
ذلك يجرد الأيديولوجيا من مثال الإطلاقية التي تضع الأيديولوجيا خارج التاريخ، ويتسرب
نتيجة
لذلك الوعي الزائف في تفسيرها واقعات التاريخ تفسيرًا إسقاطيًّا أو تفسيرًا قصديًّا،
فتسحب رؤية
الماضي على الحاضر، ورؤية الحاضر على المستقبل.»
٢٥ هكذا تتبدى لنا أهمية التجديد الفلسفي لعلم الكلام من حيث هو أيديولوجيا.
•••
إنَّ علم الكلام يملك المساهمة الكبرى في التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية،
على أساس
أنَّ الأيديولوجيا هي الوجود الواعي للأمة، من حيث هي مجموعة الأفكار المبدئية العامة
لكل جماعة
معينة بشأن أصولها وأهدافها ومعاييرها وقيمها ومصالحها الحضارية.
٢٦ هكذا أتانا علم الكلام القديم حاملًا الإطار العام لأيديولوجية المجتمع آنذاك، بشتى
توجهاتها وفرقها، لا سيما المعتزلة والأشاعرة، وسيادة الأخيرة، وينتظر من علم الكلام
الجديد
الذي نرومه مُتجهًا نحو المستقبل، أن يصلح إطارًا وموجهًا أمثل للحضارة الإسلامية الحديثة
على
مشارف القرن الحادي والعشرين، وأن يكون قادرًا على التلاؤم مع روح العصر المثقل بإشكالياته
الجمة الخاصة به، قصوراته القديمة ومحنه الطارئة وتحدياته المستجدة، والنَّازع إلى النهوض
رغم
التأزم والعقبات، نُريده علم كلام قادرًا على مواجهة الواقع الراهن ومُتطلباته وتحدياته
الضروس.
بكلمة واحدة، لا بدَّ وأن يكون أيديولوجيا لحضارة مُتأزمة ونَاهضة معًا، تحاول الوقوف
على أسباب
الأزمة؛ للخروج منها إلى آليات النهوض.
لقد تعثَّرت محاولات التحديث، أو أنها على الأقل وبعد ما يقرب من قرنين من الزمان
لم تؤتِ
أُكلها المنشود، لا سيما إذا قورنت بتجارب تحديث أخرى، كنا الأسبق منها زمانيًّا من قبيل
التجربة اليابانية، وسوف تستمر محاولاتنا التحديثية في تعثرها طالما تصطدم بالتراث كمخزون
نفسي
للجماهير، ولا تستوعبها أيديولوجيا واضحة المعالم تجسد نزوع الأمة، ويجد فيها الواقع
تَعبيرًا
عن ذاته. من هنا كان التوجه العام للبحث عن أيديولوجيا إسلامية مقابل أيديولوجيات التحديث
المعاصر التي تتشكَّل بخطوط غربية. فكَمَا لُوحظ مرارًا وتكرارًا: «لقد عوَّل الفكر العربي
على
العديد من الأيديولوجيات، فانتهى إلى المزيد من التفكك والتبعية، فلماذا لا يكون الإسلام
قرآنًا
وسنَّةً وتاريخًا هو أيديولوجيا الوحدة والتحرير؟»
٢٧
إن الإسلام هو البديل المطلوب؛ لأنه يرتبط بالجماهير، ويُوَفِّر لها الغذاء المعنوي
في
وقوفها ضد الهيمنة الأمريكية التي تستهدف السيطرة الاقتصادية والسياسية التامة على البلاد
العربية.
٢٨
أمَّا أصحاب النزعة التحديثية المتطرفة، السَّائرون في اتجاه العدمية التراثية، بتعبير
طيب
تيزيني، المؤتمُّون بإسماعيل مظهر وشبلي شميل وسلامة موسى … والتالين لهم، أولئك الذين
لا يرون
في الإسلام أصلًا وفروعًا، جملة وتفصيلًا، شكلًا ومضمونًا، إلا مُعاملًا لكل تخلف ورجعية،
فعليهم الالتفات إلى تحدينا الأكبر إزاء الصهيونية، وهو إن لم يَعُد تحديًا عسكريًّا
فسيظل
دائمًا تحديًا حضاريًّا، والصهيونية فكر ديني متشدد؛ باسم الدين في إسرائيل يكون الوطن
والوطنية
والقومية والهُوية والجنسية والحرب والسلام والمفاوضات والمعاهدات والحقوق والاستثناءات
والامتيازات والتنازلات والتشددات والنكوصات، وأيضًا المجازر والمذابح والاعتقالات …
إلخ،
٢٩ ونحنُ لا نستطيع التَّراجع عن تحدٍّ أو صراع هو في جوهره ديني، وإذا كان الدِّين هو
الذي يرسم حدود الحلبة؛ فإن مخزوننا النَّفسي ونسيجنا الشعوري وطبيعة حضارتنا — والدين
فيما
يُقال اختراع مصري — تجعلنا أَوْلى من غيرنا بترسيم مثل تلك الحدود.
والواقعُ أنَّ الدين دائمًا أيديولوجيا، من حيثُ هو نسق من المعتقدات تلجأ إليه الجماعة
«يُرضي حاجات نفسية فردية جماعية؛ أهمها التماسك والشعور المشترك بوسائل شتى من الشعائر
والطقوس
والتعاليم المقدسة. من هذه الزاوية يملك الدين قدرة تعبوية هائلة ينعدم فيها غالبًا الشك
والتساؤل والانقسام.»
٣٠
لكل ذلك كان علم الكلام هو التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، فهو القادر على
تأطير
حضارتنا بكل خصوصيتها، من أجل انبعاثه في عصر التحديات الضروس المستجدة، شريطة أن يكون
بدوره
مُستجدًّا … علمَ كلامٍ جديدًا نازعًا نحو المستقبل، فعدم تطوير علم الكلام القديم، وتقوقع
الموروث إجمالًا على ذاته، هو ما ارتد في الواقع المعاصر إلى تطرُّف وعدوانية ظهرت مُؤخرًا
في
الجماعات الإرهابية الجانحة، التي تُساهم في إبراز أهمية التجديد بقدر ما تبدَّت أهمية
علم
الكلام.
إنها أهمية علم الكلام الجديد … السائر نحو المستقبل.
•••
ولا شكَّ أن تجديد علم الكلام، ونفض رواسب الجمود عن كواهله، شقًّا لطريق المستقبل،
يحتاج
إلى فريق عمل … بل فِرق. إنها مسئولية جيل ليضطلع كلٌّ بما يستطيعه، بهذه الرؤية أو تلك،
من هذه
الزاوية أو تلك، في هذا الوضع أو ذاك … ومنطلق فلسفة العلوم يفرض علينا موضعًا مُتعينًا
هو
الطبيعيات التي طال انفلاتها من بين أيدينا. لن يشقَّ علم الكلام طريق المستقبل ما لم
ينضبط وضع
الطبيعيات فيه، ومن ثمَّ في وعي الجماعة، ما لم يتسلح بوضعية مُستجدة ومكينة للطبيعيات،
فيكون
أيديولوجيا مؤهلة للالتحام الخلَّاق بالحلم العلمي التقاني.
لكن كيف؟ كيف السبيل لهذا؛ ولأنْ يشق الكلام أجوازًا؟