علم الكلام نحو المستقبل، كيف …؟
(١) جدلية الاستيعاب والتجاوز
اتضح في الفصل السابق أنَّ الطرح المستقبلي ينشأ أصلًا عن ضرورة التجديد، التي سيطرت على آفاق فكرنا المعاصر، وفي سياقها يأتي هذا البحث — من منظور فلسفة العلوم — طامحًا في علم كلام ينطلق نحو المستقبل مُسَلَّحًا بعتاد الطبيعيات. إنه إذن بحث تجديدي في علم الكلام.
والبحث التجديدي في علم الكلام يعني ضمنًا استيعاب وتجاوز علم الكلام القديم، كما يتمثل في نصوص تراث هو تراثنا نحن، نحتويه ويحتوينا، فيتوجب له الاستيعاب؛ لكنه نتاج لظروف تاريخية مُعَيَّنة، وقصورات معرفية جمَّة، فرضت على مُتغيراته أشكالًا ما، ولما كانت هذه الظروف قد انتهت منذ قرون عديدة خلت، وتراجعت القصورات المعرفية، واتخذت مواقعَ وصورًا مُباينة تمامًا؛ فإنه من الضروري أن يكون استيعاب علم الكلام القديم من أجل تجاوزه، مرتكزين في هذا وذلك على ثوابته.
إنَّ مقولة الاستيعاب والتجاوز تشق طريق علم الكلام إلى المستقبل؛ فهي الرفض العقلاني المثمر البنَّاء، الذي يسلِّم بالتاريخية ومراحل التاريخ، ويحقِّق الهدف بالتعامل مع المرحلة في إطار مُتعيناتها وظروفها، ويبرأ من مثلمة الانشغال بثابت أزلي يعلو على عالم الإنسان في الزَّمان والمكان، بمطلق مغترب عن الواقع في صيرورته الدائمة.
إنَّ تاريخية علم الكلام بمثابة مُصَادرة أولية أو بديهية لا بدَّ من التسليم بها؛ فالعقائد إلهية مُقَدَّسة ثابتة مُطلقة، أمَّا علم الكلام فليس البتة هكذا، بل هو علم إنساني محض، صنعه البشر في زمان محدد وموقف مُعَيَّن، واستجابة لظروف تاريخية مُعينة، هي كأية ظروف تاريخية، مُتغيرات، متغيرات سوف تنداح، لتتخلَّق ظروف تاريخية أخرى، لها مُتطلبات ومُقتضيات أخرى.
وتبدو جدلية الاستيعاب والتجاوز أداة منهجية فعالة للمِّ أشتات الماضي والحاضر والمستقبل، في إطار مُتماسك، يبدو لنا قادرًا على تقنين تاريخية علم الكلام المتجه نحو المستقبل وفقًا للمرحلة التاريخية الرَّاهنة، فيعني صيرورة إلى دورة جديدة، ومسارًا إلى الأمام، غدُهُ أكثر زخمًا وثراءً من أمسه، مما يجعل الانتقال صعوديًّا إلى مرحلة أعلى، وليس دائريًّا ينتهي إلى نقطة بدئه. هكذا يتضح أنَّ الاستيعاب والتجاوز ببساطة يجعل الكلام التراثي كائنًا حيًّا يتصف بالنماء والسيرورة، فيمكن أن يُساهم في وضعية الطبيعيات بما تحمله من إمكانيات تقدمية.
•••
وهذا يلزم عنه بالضَّرورة المنطقية إسقاط النظرة التقديسية، أو بالأصح التحجرية للتراث، التي تصادر عليها الحركات السلفية المعاصرة، في تعصبها وتطرفها المَرَضي، الذي بلغ حد إرهاب الآمنين وترويعهم.
والتوقف بإزاء هذه الحركات الإسلامية السلفية المتطرفة التي برزت ناتئة في واقعنا الحضاري ليس خروجًا عن أطر معالجة فلسفية مُنطلقة باعتبارات إبستمولوجية، بل هو التفعيل لكل هذا والذي ننشده منذ بدء البداية، والأهم أنه إثبات لفعالية جدلية الاستيعاب والتجاوز التي نطرحها كآلية لتاريخية علم الكلام.
تلك التاريخانية — مرة أخرى — مقدمة أكثر من ضرورية؛ فلئن كان الله — تعالى — قد جعل الإنسان تاج الخليقة وبطل الرِّواية الكونية، فذلك لأنَّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخًا. التاريخ هو ما يجعل عالم الإنسان مختلفًا عن عالم الحيوان والنبات والجماد الذي لا يعرف صُنع المتغيرات ولا تراكماتها؛ التاريخ هو فاعلية الإنسان، هو صيرورة الحضارات وسيرورة الثقافات، هو التغير الذي جعل الإنسان الكائن الوحيد الذي يدرك معنى الزَّمان ويصنع له حسابًا، فكان الوحيد الذي يعرف معنى الصعود والتَّقدم واختلاف الأمس عن اليوم، وهذه التاريخانية هي حجر العثرة الذي تصطدم به تلك الجماعات المتطرفة، ليتصاعد مستصغر الشرر الذي قد يضرم مستعظم النيران.
لقد تمسكوا بحديث الفِرقة النَّاجية من النار، الذي شكَّك في صحته وفي جواز الاستدلال به ابن حزم وآخرون؛ تمسكوا به ليُلزموا الطرف الأقصى الواحد والوحيد، رافضين كل المتغيرات في تدرجاتها إلى أطراف أخرى تشكِّل جميعها الواقع، ثم اتخذ هذا الرَّفضُ شكلًا تصاعد وباله كثيفًا أليمًا في مُسلسل فتن دامية وتساقط القتلى والشهداء من الجانبين، العكس بالعكس طبعًا، والجانبان من سويداء الأنا … من الوطن.
ومهما كانت نواياهم، ومهما كانت أهدافهم وأسانيدهم، فإنَّ الخطأ المحوري في استدلالاتهم الذي يؤدي إلى هذا الاصطدام الدامي، أو على الأقل العقيم، مع الواقع، لهو في إنكار تلك التاريخانية.
بدايةً الواقع مأزوم، وكلنا نعمل، أو يجب أن نعمل على تجاوز هذه الأزمة بآفاق فِكر نهضوي لا يمتنع أن يكون دينيًّا، أو بمجالات عمل تنموي لا يقتصر على أن يكون اقتصاديًّا. التنهيض والتنمية هما الشكلان الإيجابيان لرفض أزمة الواقع … لتجاوزها. كلاهما يسير على معامل المتغيرات في مسار التاريخ بحثًا عن الأفضل، دخولًا في حركة التقدم نحو المستقبل.
مشكلة الجماعات الإسلامية المتطرفة أنها لا ترفض الواقع المأزوم فحسب، بل تدفعها الثبوتية إلى رفض المتغيرات أيضًا، بل وأصلًا وانطلاقًا من رفض التاريخانية؛ فيُطابقون بين الدين وبين التراث، بين الثابت وبين المتحول، وبين الإسلام وبين «الفتاوى» لابن تيمية وتلخيصها في «الفريضة الغائبة»، «نيل الأوطار» و«فتح القدير» لتلميذه الشوكاني، وكُتب ابن القيم الجوزية، وفتح الباري للعسقلاني، و«المحلى» لابن حزم، «المغني» لابن قُدامة … حتى «المصطلحات الأربعة» — الحاكمية والأُلوهية والرَّبانية والوحدانية — للإمام أبي الأعلى المودودي … وصولًا إلى «معالم على الطريق» لسيد قطب.
معظمها أعمال قيِّمة، لكن تنبع قيمتها من قدرتها على تمثيل روح عصرها والاستجابة لمتطلباته وتحدياته، التي تختلف عن مُتطلبات وتحديات عصرنا، كلها خارجة من الثابت في حضارتنا: الكتاب والسنة. لكنهم ليسوا أوصياء علينا، ونحنُ لسنا قاصرين عاجزين عن الإبداع والاجتهاد مثلهم، والخروج من هذا المعين الثابت بما يسد حاجات عصرنا. وكما قال الشيخ أمين الخولي: لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعلَ بالنعلِ.
إنها «أوثان المسرح» التي حذَّر منها فرنسيس بيكون، النابعة من الافتتان بممثلي أو أعلام الفكر السابقين. كما ينبهر مُتفرج المسرح ببراعة الممثل في تجسيد الدور، «أو براعة المفكر في تجسيد روح عصره ومُتطلباته»، وينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، يتألم لمآسي الممثل ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى وإن كان بين المتفرج ومحبوبته فرَاسِخَ وأميال! كذلك تمامًا تعيش الجماعات المتطرفة في واقع تلك المصنفات التراثية التي كانت نتاجًا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروف واقعنا، ولا يلتفتون إلى أنَّ فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة القوى الإمبريالية المعاصرة، وأنَّ معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة النَّاصرية الاشتراكية التي أصبحت الآن أثرًا بعد عين. من هنا يتصاعد الشرر، من المطابقة بين الدين والتراث، بين العقائد من ناحية، ومن الناحية الأخرى حصائل الجهد البشري في مرحلة تاريخية مُعينة، فيريدون صياغة الحاضر على غرار الماضي، من حيثُ المحتوى المعرفي والمفاهيم، حتى تفصيلات الأنماط السلوكية! تنشغل إسرائيل بالأسلحة النووية والقنابل الذكية، وينشغلون هم بالشهب والحراب على من حرَّم النقاب، مُتَصَاغرين مُتَخَاذلين في تحدي الإسلام الحقيقي أمام الآخر الغربي الذي نزع النقاب عن المادة ليكشف الذرة، ثم نزع النقاب عن الذرة ليكشف الجسيمات، ثم نزع النقاب عن الجسيمات الذرية ليكشف — أخيرًا — الكواركات، ولا يكتفي أبدًا. أي النقابَيْن الانشغال به الآن خير وأبقى؟! بديهي أنَّ هدف بحثنا هذا بأَسْرِهِ توجيهُ الاهتمام نحو النِّقاب الثاني؛ لأننا نحسبه عند الله وعند عباده خيرًا وأجدى.
أمَّا تلك المطابقة الخاطئة بين الإسلام وتراثه، بين العقائد وتنظيرها؛ أي كلامها في مرحلة تاريخية مُعَيَّنة، فتضر بالإسلام قبل سواه؛ لأنها تفترض فيه تحجُّرًا عند مرحلة أسبق، تحجُّرًا زائفًا لا يُوجد إلا في عقولهم؛ فالدين رسالة … مسئولية أبت أن تحملها السماوات والأرض وحملها الإنسان … إنه إيجابية؛ أي عمران ونماء وتطور.
بل إنهم يفعلون بفكرة التقدم ما هو أكثر من النفي؛ إذ يعكسونه، يجعلون التقدم قهقريًّا، مما يجعل التاريخ يتساقط من واقع خارج الزمان ينفي الحركة ويئد التطور ويلغي التقدم. إنهم ينطلقون من مقدمة تسلِّم بأن ذروة التقدم كائنة في الماضي، مُستعينين بالحديث الشريف: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم …» وقد تشكَّك فيه ابن حزم وآخرون. هم يفضِّلون القرون الأربعة الأولى، ورُبما القرن الأول فقط، وكُلَّما سرنا قُدُمًا مع مسار التاريخ سرنا طرديًّا مع سقوط مستمر وانهيار تدريجي ومتوالٍ لتلك الذروة التقدمية، حتى نَصِلَ إلى عصرنا الحالي، فنصل إلى أدنى درجات الانهيار، وكل عصر آتٍ درجة أدنى من الانهيار؛ ليكون تقدُّم التاريخ قد أصبح انهيارًا تامًّا وسقوطًا شاملًا، فيصبح التقدم الحقيقي هو التقدم القهقرى؛ الرُّجوع إلى الوراء، واللحاق بالعصر الذي ولَّى وفات.
لهذا انبثقت الصياغة السلفية عن كراهية الحاضر ونفور منه، وعجز عن التعامل معه، حتى شكلها الحنين الدافق والهيام الرومانطيقي المشبوب بالماضي فتلوذ بعوالمه المنفصلة عن العصر، مُتَوَهِّمة إحياء الدين في الواقع، وإحياء الواقع بالدين، وهي في حقيقة الأمر تنطوي على قرني إحراج يدمر الطرفين معًا؛ فهي تدمر الواقع حين تنفيه، أو تتصور إمكانية نفيه، بكل زخمه الحضاري، وكل إشكالياته المتعينة ونواتجها غير المتوقعة وظروفه المتولدة والمولدة لحيثيات أُخرى، وكل إنجازاته وعثراته وتحدياته المستجدة، وتفرُّ إلى واقع انتهى منذ قرون طويلة خلت، ولم يَعُد له وجود إلا من حيثُ تمخض عن تراث قابل للاستيعاب والتجاوز، والتعامل الخلاق مع تخلُّق حيثيات حضارية جديدة.
وهي تُدَمِّر الدين حين تنفي عنه الديناميكية والحياة والقدرة على التواصل والاستمرارية، وبالتالي إمكانية أن يُؤدي المهام المنوطة به حين تختلف الأزمنة والأمكنة، هكذا تنتهي الصياغة السلفية المتطرفة إلى تدمير، أو على الأقل استلاب الحياة والفعالية من الدين ومن الواقع على السواء.
كان لا بُدَّ أن يكون هذا هو مآل الصياغة السلفية ما دامت تنطلق من التسليم باغتراب الواقع الرَّاهن عن الدين، واغتراب الدين عنه، كوضع منتهٍ لا مخرج منه إلا النفي، نفي الواقع بالسلب واللا والتكفير والهجرة منه، أو نفي الدين إلى عوالم أخرى ماضوية، يتصورونها أكثر حضورًا من أي حاضر، فتنتهي الحركة السلفية من حيثُ بدأت: واقع راهن مُتأزم ودين مُغترب عنه.
ولا غرو، فالدوران المنطقي واللف في المتاهات المغلقة هو مآل كل من ينفصل عن الواقع الرَّاهن، محاولًا أنْ ينفيه وهو غير قابل للنفي، أو يعجز عن التعامل معه، وهو تعامل لا مندوحة عنه.
•••
وإذا كان هذا هو مآل التوجه الذي يتصاعد الآن كثيفًا وبيلًا، فإنَّ علم الكلام الجديد ينطلق نحو المستقبل، بحركة جدلية من ذينك الطرفين: الدين/التراث والواقع/الأزمة، ولكن ليس بما يُدَمِّر أحدهما أو كليهما، أو يفر منهما كدأب السلفية، بل انطلاقة بما يُشبه المركَّب الجدلي الذي يستوعب كلا الطرفين ويتجاوزهما إلى المركَّب الشامل المنشود الذي يفضي بدوره إلى مرحلة جديدة.
من هنا طرحت جدلية الاستيعاب والتجاوز كأداة تمهيدية فعَّالة في يد علم الكلام تُساهم في شق الطريق وتعبيده، وحين تصل إلى مركبها الجدلي ستتضح أهميتها، بل ضروريتها في انضباط وضع الطبيعيات بمنظومة علم الكلام الجديد الذي نرومه سائرًا نحو المستقبل.
المهم الآن أنه في هذا الطريق السائر قُدمًا — على عكس اتجاه الطريق اليميني السالف — لن نجد علاقة حاضر علم الكلام بماضيه علاقةَ اتصال سلبي، تجعل الماضي فاعلًا والحاضر مفعولًا فيه أو به، والأقدمين أوصياء علينا وكلاء عنَّا في الفعل والإنجاز والتشييد، ومُحاولات الإجابة عن تساؤلات عصرنا الملحة التي لم يطرحها عصرهم، ولعلها لم تَدُر بخلدهم، وهي أيضًا — بطبيعة الحال — ليست علاقة انفصال بائن تجعل الحاضر منبت الجذور، وكأنه نبتة شيطانية نشأت عن فراغ. إنها جدلية الانفصال/الاتصال التي تؤذن بالمركب الشامل، والمرحلة الجدلية الجديدة، ودورة حضارية أخرى هي مرحلتنا المعاصرة، التي ننشدها منطلقة نحو المستقبل.
(٢) القطيعة المعرفية … آلية مُستقبلية
هكذا تتشابك جدليتا «الاستيعاب/التجاوز» و«الانفصال/الاتصال» لتمثلا الأداة التمهيدية الفعَّالة في يد علم الكلام، القادرة حقًّا على أنْ تَشُقَّ به طريقًا جديدًا نحو المستقبل.
وفيما يختص بوضع الطبيعيات تُصبح تلك الأداة الفَعَّالة سِلاحًا مَاضيًا أو آلية ناجزة قادرة على الحسم والإنجاز والإضافة؛ إذ يبلغ علم الكلام بهما؛ بهاتين الجدليتين مركبهما الشامل الذي يعني وضع «القطيعة المعرفية». وما دُمنا قد ناهزنا حدود الطبيعيات فمن الضروري أنْ نُجيب على التساؤل: ما القطيعة المعرفية؟ ومن الملائم أن تأتي الإجابة الآن في هذا السياق الجدلي.
إن المعرفة العلمية — كما أوضح باشلار — تسير دائمًا عبر عقبات وقهرها. يتحقق الانتصار على العقبة بتصحيح الأخطاء ورفض مواطنها — تكذيب النظرية المقبولة بتعبير بوبر — والانتقال الكلي إلى عقبة جديدة، قطيعة معرفية، والانتقال إلى إنجاز جديد وقهر عقبة جديدة ثم قطيعة أخرى، وانتقال آخر وإنجاز آخر وقهر عقبة أخرى … وهكذا دواليك في متوالية التقدم العلمي الذي لا يتوقف أبدًا.
(٣) القطيعة بين الإبستمولوجيا والأيديولوجيا
اختلف ألتوسير عن لينين وجورج لوكاتش (١٨٩١–١٩٣٧)، في تأكيده أنَّ الأيديولوجيا ليست مجرد الوعي الطبقي أو الاجتماعي، بل هي — كما سبق أن أشار ماركس — نقيضة العلم، لكنه اختلف مع ماركس أيضًا بإضافة أنَّ المعرفة تبدأ من الأيديولوجيا، ثم يتعيَّن التخلص منها وإحلال العلم محلها فيما أسماه بالقطيعة المعرفية. هكذا كانت القطيعة لإفساح الطريق أمام العلم، وأمام الاشتراكية العلمية، وكان هذا الاستخدام إيذانًا بنمو المفهوم، أو تمثيلًا لخروجه من أعطاف فلسفة العلوم الطبيعية ومن قلب صيرورة البحث العلمي، ليعمَّ ويسود بعد ذلك ويصبح بمثابة «موضة شائعة» في كل مجالات الفكر والأدب والفن أيضًا، وقد عبَّر عنها الأدب تعبيرًا رديئًا بات قولًا مأثورًا هو: «انظر وراءك في غضب.»
وكان ألتوسير قد برع في استخدام «القطيعة» لتفسير تطور الفكر الماركسي ذاته ونشأة المادية التاريخية، كما استخدمها ميشيل فوكوه للفصل بين الحقب المعرفية، لقد تحررت القطيعة من ارتباطها بتطور العلم الطبيعي البحت.
لكنَّ المفهوم أولًا وقبل كل شيء من مفاهيم فلسفة العلوم الطبيعية، آلية من آليات العقل العلمي، كما أوضحنا. لم يُعرف ولم يتبلور إلا بعد تطورات العلم الأخيرة، وعلى وجه التعيين ثورته العظمى في مَطَالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكمومية (الكوانتم) التي أحدثت قطيعة معرفية مع مثاليات الفيزياء الكلاسيكية النيوتونية كالحتمية والعِلِّية والضرورة واليقين … بعد أن كان يُظنُّ أنَّ هذه المثاليات تأطير لكشف حقيقة الكون، لم يبقَ إلا رتوش لكي تكتمل الصورة النهائية للعلم الكامل بمطلق الوجود الطبيعي، بل وأيضًا الحيوي والإنساني.
ولئن كانت الظروف المتعينة للحضارة الغربية جعلتها هي التي تشهد وتستملك تجربة التقدم العلمي الحديث، فالذي ينبغي الاتفاق عليه هو أن آليات العقل العلمي لا شأن لها بالأيديولوجيا والصراع بين الثقافات؛ لأنها ملك للعقل من حيث هو عقل، للعلمي من حيث هو علمي … ملك للبشر أجمعين، ومنها مفهوم أو آلية القطيعة المعرفية، لا سيما وأننا سوف نستخدمها استخدامًا معرفيًّا من أجل توظيف إبستمولوجي، ولن يمتد لآفاق شاملة لمجمل الأيديولوجيا كما حدث في التجربة الأوروبية.
إذن فتشغيلنا للقطيعة التي هي إبستمولوجيَّة لن يعني مطابقة الأيديولوجيا الغربية وتماهي خصوصيتنا الأيديولوجية، فمن أجل هذه الخصوصية وتواصلها، أو الأصالة وتحديثها، كان تعويلنا على علم الكلام. بعبارة موجزة؛ القطيعة هنا إبستمولوجية ولن تصبح حضارية أو أيديولوجية.
•••
ليس كل استخدام لآلية القطيعة «المعرفية» يعني انسلاخًا حضاريًّا أو يمتد ليصبح موقفًا حضاريًّا شاملًا، يحيط بمجمل الغطاء النظري للواقع الحضاري، أو يحيط بالواقع الحضاري ذاته ليرادف الانسلاخ الذي لا يكون إلا فرديًّا.
ولكن إذا كانت القطيعة قد أصبحت توصيفًا للأيديولوجيا الأوروبية، ونحنُ لا نُريدها توصيفًا لأيديولوجيتنا، هل معنى هذا أنَّ مشروعنا قائم على «التواصل» تمامًا ليحمل كل الأصالة بلا شبهة تحديث، بينما المشروع الغربي قائم على «انقطاع» إطلاقًا ليحمل كل «الحداثة» بلا شائبة من أصالة؟!
والحق أنَّ الواقع الحضاري والواقع الإنساني … الواقع إجمالًا، لا يقوم على توصيفات كيفية جامعة مانعة، تطرح خيارات «إما … أو»: إما تَواصل وإمَّا انقطاع، بل ثمة آليات ومكونات عامة تتواجد في المشاريع جميعها أو في الحضارات من حيثُ هي حضارات. إنَّ الاختلاف دائمًا، لا سيما من النظرة العلمية، اختلاف في الدَّرجة وليس في النوع، أو اختلاف في ترتيب الأولويات.
فمثلًا أشرت آنفًا إلى أنَّ ما يميز الحضارة الغربية الحديثة هو السمة العلمية، العلم هو الذي حدد حلبات الصراع وفحواها، ارتبطت به الفَلسفة وانعكس فيها، وتشكلت على أساسه الأيديولوجيا، وترك بصماته على مسار الآداب والفنون — إنْ سلبًا وإنْ إيجابًا.
إنَّ العلم — أي علاقة العقل بالطبيعة ومُحاولته السيطرة عليها — مكوِّن أساسي في كل الحضارات وفي كل وجود إنساني، ولكن بدرجات مُتفاوتة وبترتيب مختلف في سلم الأولويات، تميزت الحضارة الغربية الحديثة بأنها رفعته على رءوس الأشهاد وعلى جثث الشهداء إلى مركز الصدارة، وانطبعت بمعالمه وتشكَّلت أيديولوجيتها على أساسه، إنْ سلبًا وإنْ إيجابًا، بينما كان العلم في الحضارة الإسلامية إبان عصرها الذهبي أدنى في سُلم الأولويات بعد الدين ونصوصه وعلومه ومُتطلبات مُواجهاته، كان العلم بعدًا من أبعاد هذا.
هو بُعدٌ وليس مركزًا، بل بُعدٌ فرعي إلى حدٍّ ما، فكان العلم التجريبي والرِّياضي ينمو في إطار الأيديولوجيا وتحت رعايتها — ورعاية السلطة — ولم يرتفع أبدًا إلى حلبات الصراع الأيديولوجي ولم يُساهم في تشكيل فصوله.
إذن فهل الحضارة الإسلامية المنشودة تواصلية إطلاقًا بينما الحضارة الغربية انقطاعية بتاتًا؟ أم أنَّ الحضارة الإسلامية العربية أكثر تواصلًا والحضارة الغربية أكثر انقطاعًا؟
إذن فالحرصُ على عامل التواصل الحضاري ليس بدعًا، لا هو إبداع ولا هو بِدعة، بل هو تكثيف وتركيز على آلية من آليات النهوض لتتميز حضارتنا الحديثة بأنها أكثر الحضارات استغلالًا لهذا التواصل في صون مقومات شخصية حضارية مُتميزة، شريطة أن تكون قادرة على النماء والتطور … على الانطلاق نحو المستقبل.
(٤) القطيعة المعرفية … في علم الكلام الجديد
وكما وقفنا على قدر التواصلية في الحضارة الغربية لا ينفي تميزها بالانقطاع، يمكن بالتالي أن نطالب بقدر من الانقطاعية في أيديولوجيتنا العربية الإسلامية، لا ينفي تميزها بالتواصلية التي ترتَدُّ في استمرارية علم الكلام الذي نرومه مُنْطَلقًا من الماضي إلى المستقبل، من أجل هذه الاستمرارية وفي سياقها يكون تشغيل القطيعة بوصفها آلية من آليات العقل المعرفي، ومن المعاملات الجوهرية لتوالي جهوده.
ولنعد إلى ما انتهينا إليه، إلى أنَّ القطيعة المعرفية — وليس الانسلاخ الحضاري — لا تعني المحور والإلغاء وإفناء الماضي، ليكون البدء المطلق والمستحيل معرفيًّا وليس ورائي شيء البتة … كما بدأ إنسان نياندرتال أو كما بدأ آدم … كلا بالطبع وبالقطع، القطيعة المعرفية أن أبدأ درجة أعلى ليست تكرارية ولا إضافية كمية، بل هي حلقة جديدة في سلسلة التقدم المتوالية، لم أصل إليها إلا بعد الحلقات السابقات. فترفض القطيعة — بوصفها مقولة إبستمولوجية مجدية وفعالة — فكرةَ الانسلاخ والافتراق البائن الذي يقطع جذوره في كل ماضٍ، ويبحث عن مستقبل هائم بقفز ووثب لا يصنع حضارة ولا يُقيم نهضة.
وكانت القطيعة المعرفية قد رفضت أولًا الاتصال الآلي والتراكم الميكانيكي، وهو أعلى صورة للحركة يستطيعها اليمين الثبوتي الذي يجعل الحضارة امتدادًا صِرفًا للماضي؛ ليخلص في النهاية إلى تماثلهما كيفًا وإن اختلفا كمًّا. إنَّ القطيعة — كما أوضحنا — مركَّب جدلي من الاتصال/الانفصال، المنبثق عن جدلية الاستيعاب/التجاوز، فنستطيع أن ننفض اليد من مرحلة انتهت ونحط الرحال على مرحلة جديدة بكل أبعاد الجدة والحداثة، فنواجه إشكاليات جديدة، ونتكفل بمهام مستحدثة.
في مرحلتنا الحضارية الراهنة أصبح إثبات العقيدة أو العقيدة المثبتة هي نقطة البداية التي يسلم بها ويصادر عليها علم الكلام الجديد وينطلق منها.
وسواء اعتبرنا العقيدة المثبتة بنية للتراث أو لتجديده أو إطارًا للواقع أو حدودًا للعقل أو مخزونًا نفسيًّا للجماهير أو النسيج الشعوري والقيمي بها أو قوة التثوير أو المشروع الأيديولوجي أو كل هذا وسواه … مما تعمل به المشاريع المختلفة في الفكر العربي الآن … فستظل الدِّلالة البالغة الوضوح على وجود القطيعة في أنَّ خاتمة المطاف والغاية المنشودة أصبحت هي نقطة البدء والمصادرة الأولية، وبالتالي بدلًا من أن يكون الإنسان والعالم المخلوق فيه مقدمة لإثبات الوجود الإلهي الواحد الأحد، يُصبح الله الواحد وعالمه الخالق إياه مقدمة لإثبات حضور الإنسان المسلم في تيار التاريخ.
هذا في علم الكلام الجديد بصفة عامة، وفي طبيعياته بصفة خاصة؛ نجد هذا بالضبط في كلمة واحدة جملة الهدف وقصارى المنشود وغاية الكلام في المرام. فقد كانت الطبيعيات المتبدية في علم الكلام القديم مُقدمة للبرهنة على وجود الله، ووسيلة لإثبات عقيدة التوحيد، والمطلوب من علم الكلام الجديد العكس؛ البدء من الإيمان بالله القارِّ في الشعور وعقيدة التوحيد المثبتة في الأبنية النفسية للجماهير، كمقدمة لإثبات وجود العالم، ووسيلة لدفعنا للخوض في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها، تجذير هذا في أيديولوجيتنا وتوطين الروح العلمية في تربتنا الحضارية.
والقطيعة المعرفية تعني ذلك الانتقال الجذري إلى مرحلة جديدة، وفي نفس الوقت كانت قد وضعت أصلًا — كما أوضحنا — من أجل تفسير طبيعة التقدم في العلوم الفيزيائية كسلسلة مستمرة من الثورات … فيتداعى إلى الذهن جدلية الفكر العربي المعاصر بين قطبي التنوير والتثوير.
ولكن ما دُمنا ننطلق من منظور فلسفة العلوم ونهدف إلى غاية إبستمولوجية هي انضباط وضع الطبيعيات في منظومة علم الكلام، فلا بدَّ أن نستفيد من سيمانطيقية لفظة التثوير والثورة بأصولها الفيلولوجية في اللغة الإنجليزية لا العربية.
في خلاصة ما سبق، في جدلية الاستيعاب/التجاوز والانفصال/الاتصال، المفضية إلى مركب شامل يؤذن بقطيعة معرفية، وهي مصطلح صيغ في فلسفة العلوم الطبيعية لتنظير تقدمها المتفجر … في هذا تكمن الإجابة على التساؤل بشأن وضع الطبيعيات في علم الكلام السائر نحو المستقبل.
ولكن من زاوية الاستيعاب والاتصال، ماذا — قبلًا — عن الطبيعيات في علم الكلام الآتي من الماضي؟
«والحرية العلمانية: حرب شطري فرنسا ومبدأ الحداثة»: Liberte Laicite: Le guerre des deux France et La principle de la modernité, Paris. 1987.