الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس
(١) الطبيعيات … هي العالم الحادث
ستظل الطبيعيات هي الوسط المتعين للإنسان والمستوى الأوَّلي المبدئي … مهما كان الإباء أو اللهاث لشد الرِّحال إلى مستويات أعلى للوجود أو للمعرفة، للواقع أو للفكر، يظل التنظير للمستوى الأوَّلي — الطبيعيات — لا فكاك منه البتة.
فعلى خلاف الظن الشائع، أو بالأحرى الخطأ المعتمد، احتلت الطبيعيات في علم الكلام القديم — السائر قُدمًا نحو المتجَه الإلهي — مكانًا فسيحًا في صدر المسرح الفكري، ولئن لم تكن الطبيعة من المشكلات الكبرى أو من أصول المعتزلة الخمسة ولا من العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية، فإنها منبثة في كل هذا حتى شهدت مع المتكلمين زخمًا وثراءً.
وثمة أسلوبان لتناول علم الكلام القديم، فإما النظر إليه كفرق، وإما النظر إليه كموضوعات. بهذا الأخير نجدُ الموضوعات ستة: التوحيد، القدر، الإيمان، الوعيد، الإمامة، ثم اللطائف؛ أي الطبيعيات. الإلهيات (= العقليات) تشمل التوحيد والقدر. والسمعيات (= النقليات) تشمل الإيمان والوعيد والإمامة.
فالطبيعيات لم تكن إلا سلمًا للإلهيات، وليست مطلوبة في حد ذاتها أبدًا للفهم والتفسير، المطلوب فقط استخدامها، وبالتحديد استخدام «حدوث العالم» كدليل على العقائد الإلهية. الحادث هو الجسم الطبيعي، فكانت الطبيعيات محض صورة عقلية للإلهيات، خادمة لها وليس للإنسان في حين أنَّ الإنسان هو الذي يحيا في الطبيعية، وهو الذي يُصَارِعُها، وهو الذي يحتاج لترويضها وتطويعها.
دليل الحدوث؛ أي كون حدوث العالم أو العالم الحادث المخلوق دليلًا على وجود الله وقدرته وعلمه الشاملين، وحكمته وحياته. ذلك هو ما سلَّم به المتكلمون جميعًا تسليمًا، بل المسلمون جميعًا، أَوَليس الكلام مكنوننا النفسي … أيديولوجيتنا؟ فكان دليل الحدوث هو مدخل اشتباك علم الكلام القديم بالعالم، ومن ثم بالطبيعيات.
وكانت المشكلة المحورية للطبيعيات الكلامية هي العلاقة بين الله وبين العالمين أو العالَم أو الطبيعة التي اتخذت مبدئيًّا شكلَ الإيجاد والخلق من العدم، إحداث المحدث: هذا العالَم.
وظلَّ دليل الحدوث دائمًا إطار الطبيعيات الكلامية ككل وكأجزاء، مبررها وتسويغها، مما جعل الإلهيات هي النهاية … المتجَه والهدف والغاية مثلما كانت قبلًا هي البداية المنطلق وزخم الدفع، في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس.
•••
وهذه عقلية بيانية؛ أي إنَّ آليتها أو أداتها لإنتاج المعرفة هي البيان الذي هو أصلًا آلية لغوية، هي آلية التشبيه التي تؤسس البلاغة العربية. إن علوم اللغة والبلاغة لها ريادتها المعروفة للعقل العربي بحكم لغوية الحدث القرآني، إنه بيان.
يطلب الجابري على هذه المرحلة، وهي التي شهدت نشأة ثم ازدهار علم الكلام، اسمَ مرحلة العقل البياني؛ لأنَّ الخطاب العربي فيها يؤسسه فعل عقلي واحد؛ أي آلية ذهنية واحدة قوامها ربط أصل بفرع لمناسبة بينهما: إنه القياس بتعبير النُّحاة والفقهاء، أو هو استدلال بالشاهد على الغائب بتعبير المتكلمين؛ لذا أسماه الجابري النظام المعرفي البياني، يتلوه المرحلة أو النظام المعرفي البرهاني (= الحكمة) حيث المعقول الأرسطي، ثم النظام المعرفي (= سيادة الأشعرية والتصوف) حيث الغنوصيات المشرقية.
ويهمنا الآن أنَّ هذه الآلية البيانية أو قياس الغائب على الشاهد أو دليل الحدوث هو صلب الطبيعيات وهيكلها، والذي جعلها تدور في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا … وبالعكس … هذه الدائرة المغلقة حالت دون نماء بذور واعدة احتواها تصور أسلافنا للطبيعيات. على أية حال بدأ هذا التصور بدليل الحدوث الذي شقَّ طريقه ورسم مساره وحدَّد معالمه.
•••
في هذا الدور الرِّئاسي لدليل الحدوث في تصور الطبيعيات نجدُ العالم الطبيعي حادثًا؛ أي مخلوقًا؛ لأنَّه متغير، القديم فقط هو الذي لا يتغير؛ لذلك كانت أولى المشاكل الطبيعية التي بحث فيها المتكلمون؛ هل العالم ثابت أم متغير؟ وعلى طريقتهم الجدلية — بمعنى الخطابية — كما يريدون من طرح هذا السؤال إثبات أن العالم متغير.
فقد كانت الذَّرة مُحاولة لتفسير العالم الطبيعي وفهمه، أمَّا الجوهر الفرد فمُحَاولة لتفسير علاقة الله بالعالم، تبدأ من وجود الله وتنتهي إلى إثبات قدرته وعلمه الشاملين في دائرة مُغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس: الله ← العالم ← الله.
الذرة مع الإغريق أزلية لامتناهية، تتحرك حركة لامتناهية في فراغٍ لامتناهٍ، حركته تجعل الكون آليًّا ميكانيكيًّا تتكون موجوداته من التقاء الذرات، فيستغني عن الألوهية وعن فعل الخلق، أمَّا مع متكلمي الإسلام — المعتزلة والأشاعرة على السواء — فقد أصبح الجوهر الفرد مخلوقًا حادثًا مُتناهيًا، الله هو الذي أحدثه وأوجد فيه الوجودَ والعدمَ والحركةَ والسكون.
بادئ ذي بدء، أثبت الجوهر الفرد صلب عَقيدة الإسلام: التوحيد. فمن أجل إثبات أنَّ الله هو اللامتناهي الوحيد ذو العلم الشامل الذي أحصى كل شيء عددًا، كان لا بُدَّ وأن يكون العالم مُتناهيًا، وبالتالي لا يمكن أن ينقسم الجسم إلى ما لا نهاية، لا بدَّ من نهاية لانقسامه هي أجزاء لا تتجزأ، هي الجوهر/الذرات هي متناهية لها كل وجميع، وكان تناهي المادة هو دليل المتكلمين الاستقرائي على القدرة الإلهية التي تشمل هذا العالم المتناهي مثلما يشمله العلم الإلهي.
وإمعانًا في إثبات هذا جعلوا المكان أيضًا جواهر/ذرات/نقاط منفصلة. والزَّمان مجموع جواهر ذرات/آنات مُنفصلة بين كل اثنين فراغ، لا ديمومة ولا اتصال. الحركة أيضًا مُقَسَّمة كالمكان والزمان إلى أجزاء لا امتداد لها، يفصل بين كل جزء وجزء أو كل حركة وحركة سكون إذا قصرت فترة السكون كانت الحركة سريعة، وإذا طالت كانت بطيئة. هكذا يتبدى الوجود منفصلًا مفتتًا متغيرًا دائمًا.
وعلى الرغم من أنني أُحَاوِلُ قدر الإمكان رسم صورة عامة للطبيعيات الكلامية تتماهى فيها الخلافات الجزئية، إلا أنه لا بدَّ من الإشارة إلى إبراهيم بن سيار النَّظام الذي عاصر أزهى عصور المعتزلة، وساهم في تأسيس علم الكلام؛ إذ خالف جمهور المتكلمين ورفض مذهب الجوهر الفرد وتناهي التجزئة، وكان الوحيد القائل باللاتناهي، وأيضًا الوحيد الذي نفى السكون ورأى الأجسام كلها في حركة دائمة؛ لأنَّ الحركة هي العرض الوحيد الباقي في الكون بعد رفض الجواهر، إمَّا حركة اعتماد وإما حركة نقلة، وما يبدو سكونًا هو حركة في مكان واحد، وقال بنظرية الكمون والطفرة؛ الكمون يعني أنَّ الله خالقُ العالم دفعة واحدة لا متقدم ولا متأخر، أكمن المخلوقات في بعضها، يتوالى صدورها في وقتها، أمَّا الطفرة فهي الانتقال من مكان إلى آخر دون المكان المتوسط بينهما، وهي لتبرير قطع المتناهي للَّامتناهي. والمتكلمون بدورهم — المعتزلة قبل الأشاعرة — رفضوا نَظَرية النَّظام؛ لأنها تمس من حدوث العالم، ورأوا قوله بلاتناهي العالم، الذي رفضه حتى الفلاسفة، مروقًا غير مقبول ومخالفًا للقرآن، بل شركًا؛ لأنَّ الله هو اللامتناهي الوحيد.
ومع هذا أخذ بعضُ أصحاب الجوهر الفرد من النظَّام فكرة الطفرة لتفسير الحركة — معقله الأثير — فقالوا إنَّ الحركة طفرة من نقطة لأخرى، والزمان طفرة من آنٍ إلى آنٍ في الفراغ أو الخلاء الذي تتحرك فيه الذرات أو الجواهر الفردة.
•••
هكذا يُظهر تصور الطبيعة القدرة الإلهية، وكأنَّ إثباتها لن يتأتَّى إلا على حساب العالم والعلم وليس لحسابهما! وقد كان المتكلمون من أجل هذا على استعداد دائم للتضحية بالطبيعة، فهم — مثلًا — يرفضون النظرية الضوئية في الإدراك البصري حرصًا على تفسير صفات السمع والبصر في الله بلا حاسة أو شعاع أو شيء، وهذا الاستعداد للتضحية بالطبيعة وضع تعقلها في موضع هامشي، مما فتح الباب لتقلص الفكر الموضوعي، فينفسح المجال للإيمان بالمعجزات وخوارق الأولياء وكَرَاماتهم في تسخير وهمي للطبيعة، يعني في حقيقة الأمر انفلاتها من بين يدَي العقل الإسلامي، من حيثُ يعني تلاشي العقل ذاته.
هذه التضحية بالطبيعة وتهميشها ساعد عليها أن تواضع الوسائل التجريبية والحصائل الهزيلة للعلوم الطبيعية في عصرهم البعيد لم يكن ليشحذ عزمًا للزود عنها، ولكن الآن بعد أن تبدَّلت العصور وتخلَّقت أطر معرفية جديدة، لا تنقصنا الذرائع للاعتراض على طريقهم والقطيعة المعرفية معهم وتأكيد احترام الطبيعة وضرورة إدراك قوانينها وتسخيرها لإرادة الإنسان ومن أجل صالحه، فلم يَعُد هذا في عصرنا شرط التقدم فحسب، بل شرط البقاء.
•••
في مقابل ولع النظام بالحركة يقول زميله في الاعتزال معمر بن عباد السلمي إنَّ الأجسام مُتحركة في اللغة ساكنة في الحقيقة. السكون هو الكون لا غير ذلك، وأنْ تكون الحركة في اللغة فقط فهذا بُعد من أبعاد «المذهب الأسمى»، الذي انتشر في علم الكلام خصوصًا بين مُعتزلة بغداد وأتباع معمر القائلين بمذهب المعاني، بمعنى أنَّ الكليات مُجرد أسماء أو معانٍ في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان.
إنه نفي الكليات والإقرار بأنطولوجية الجزئي فقط، ولئن كان قد عاد إلى الظهور بقوة في الفَلسفة المعاصرة خُصوصًا مع الوضعية المنطقية، وفي المنطق الرِّياضي الحديث، فإنه مع المتكلمين أدى إلى نتائج وبيلة هي نفي المعقوليات، فليس للجوهر امتداد ولا كمية ولا عدد، كلها اعتبارات ذهنية أو ذاتية لا موضُوعية تبتدعها المخيلة ويفترضها الفكر، وأوَّل ما أنكروه من الكليات والمعقولات هو المقدار؛ لأنَّ الجسم مكون من أجزاء لا تتجزأ فلا تكميم ولا قياس، وتلك من الضربات القاتلة للطبيعيات الكلامية.
لقد كان نفي المعقولات والكُلِّيات من الخطورة بحيثُ شقَّ خندقًا بين الطبيعيات وبين المعرفة أدى إلى الانفصال البائن بينها وبين المشكلة الإبستمولوجية، لتبقى أنطولوجية أولًا وأخيرًا، والأنطولوجيا الكلامية لم تكن إلا ثيولوجية.
(٢) الحدوث في محنة المعتزلة وكارثة الأشاعرة
كان هذا هو الطريق الذي سار فيه الأشاعرة إلى آخر المدى، أو بالأحرى إلى قاع الهاوية، إلى نظرة تدميرية للعالم، تُسرف في تأكيد عجز الذات العارفة مُقابل تأكيد القدرة الإلهية التي تجري وفقها الأحداثُ في كل لحظة.
الأحداث كلها مع الأشاعرة مُستندة إلى الله ابتداء بلا وجوب، فلا قوانين ولا طبائع ولا حتمية ولا نظام في الطبيعية، وكما هو معروف، نفوا أي ترابط سببي عليٍّ بين الأحداث؛ لأنهم رأوا العلية كقوة محدثة شركًا؛ إذ تُعطِّلُ عملَ الخالقِ، فضلًا عن خطرها على فكرة المعجزة. وللتخفيف من وقع المصادفة التي ما كان العقل الطبيعي يتقبلها آنذاك وضعوا نظرية الاقتران والعادة.
فنحن نفسر الاقتران بين الأحداث على أنه تلازم عليٍّ؛ لأننا «اعتدنا» رؤيته دائمًا، العادة فقط هي التي تظهر الكون في امتداده، بينما هو في تغير مُستمر غير قابل لتعقل الإنسان، وبهذا رفع العقل يده تمامًا عن عملية المعرفة بالطبيعيات.
لم يكتفِ الأشاعرة بإخراج الطبيعيات من الإبستمولوجيا، بل إنهم ببساطة حذفوا المشكلة الإبستمولوجية أصلًا ونفوا إمكانية ومشروعية ومصداقية وجدوى المعرفة الطبيعية، إيذانًا بدليل عجز العقل الإسلامي أمام الواقع والوقائع.
•••
إنَّ هذا الإسراف لا يلتفت إلى جدلية العلاقة بين الفكر والواقع؛ فالواقِعُ الذي بدأ في التفكك والتردي منذ العصر العباسي الثاني كان يحمل في ذاته عوامل النكوص، رُبَّما من حيث كان يحمل عوامل سؤدد الأشعرية. لعل الأشاعرة مكرِّسُوه، لكنهم بالتأكيد ليسوا خالقيه أو صانعيه، بل إنهم في حقيقة الأمر أيديولوجيون مُرتبطون بالواقع أكثر من المعتزلة، أو هم أكثر تعبيرًا عن الموقف العام للجماهير، ولا نستطيع إنكار أنهم استقطبوا الجماهير لوقوفهم موقفًا وسطًا فض النزاع الضارب بين غلاة النقليين ويمثلهم الحنابلة وغلاة العقليين ويمثلهم المعتزلة.
إن هي إلا صفحات قلائل وأقوم بدوري في إحقاق حق المعتزلة وتقدير مواطن تألقهم وعطائهم، ولا يمنع هذا من رفض المنطق الانفعالي والحكم الحدِّي بالصواب والخطأ … الأبيض والأسود … نعم ولا، ليكون الأشاعرة هم كل الشر يحملون وحدهم مسئولية كل تخلُّف، ويكون المعتزلة هم كل الخير حاملون المفاتيح الذاتية الصنع لفراديس التقدم السبع المعلقة، فلا يدانيهم الخطأ ولا الملام من بين أيديهم ولا من خلفهم، وكل ما يعوزنا مد طريقهم إلى يومنا هذا، وما سيتلوه بلا حاجة للإضافة أو الإبداع، ناهيك عن القطع المعرفي.
على أنَّ مذهب الطبائع ليس حِكرًا على المعتزلة، وليس شاملًا لكل رجالاتهم، فقد رفضها العلَّاف ورفضها أيضًا القاضي عبد الجبار المعتزلي، قائلًا: إنَّ تعليق الحوادث بالطبع تعليق لها بما لا يعقل. أصحاب الطبائع في الواقع هم أصحاب النزعة المادية. قال بها من المتكلمين النظَّام، والجاحظ، ومعمر بن عباد السلمي، وثمامة بن الأشرس، وهشام بن عبد الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، قال بها أيضًا ابن رشد، ودعاة المنطق الحسي من الفقهاء، ويمكن أن نجدها بشكل ما في بعض تجليات وحدة الوجود الصوفية، التي تعود في أصولها الأولى إلى شكل ما من وحدة الوجود المادية المستندة على تجسيم الله كمذهب الكرامية أصحاب ابن كرام (ت٢٥٥ﻫ)، الذين أمعنوا في إثبات الصفات والعرش حتى ذهبوا إلى تصور جسم واحد قديم أزلي أبدي، ولا فرق فيه بين خالق ومخلوق، وتحدثوا عن حدوث العالم في ذات الله. وثمة هشام بن عبد الحكم وهو من رواد الطبائع وأيضًا من رواد التجسيم في الإسلام، ذهب إلى أن الله جسم مادي، مستندًا في هذا إلى ظاهر بعض الآيات القرآنية التي توحي بذلك نقليًّا أو سمعيًّا. أمَّا عقليًّا فقد استند على أنَّ الشبيه يدلُّ على الشبيه، وما دمنا نستدل على وجود الله من الأجسام الطبيعية الحادثة فلا بدَّ أن الله أيضًا جسم.
وبديهي أنَّ المعتزلة بنزعتهم التنزيهية الخالصة ونفي الصفات عن الذات الإلهية، قد جرَّدوا مذهب الطبائع من هذه الترهات وبلغ على أيديهم نضجًا رائعًا.
وأخيرًا يتقدم ابن خلدون الذي يكاد يكون أوَّل مفكر في العالم القديم — شرقًا أو غربًا — يُحاول مد فكرة الطبائع من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان أو بمصطلحاته عالم العمران، وكان ابن خلدون بهذا يحدث قطيعة مع التراث السابق عليه بأسره، والذي لم يتصور — بتأثير أرسطو وسواه — قوانين للتبدل أو طبائع تحكم عالم التاريخ. فعل ابن خلدون هذا على الرغم من أشعريته ومن مشاركته الأشاعرة في الهجوم على المعتزلة بغير أن يمنعه هذا من الاعتراف بفضلهم.
وبخلاف ابن خلدون، نجدُ الأشاعرة جميعًا ينهالون بنقد عنيف على مذهب الطبائع، بالرغم من اتساقه — الذي عني المعتزلة بتبيانه، كما اتضح فيما سبق — مع الإرادة الإلهية؛ فقد اعتبروا استغناء الأحداث عن الفاعل المختار وجريانها بمقتضى الطبيعة نوعًا من الشرك.
•••
وفي النِّهاية نجد الأشاعرة، بما آل إليهم من سطوة معرفية وسؤدد أيديولوجي، قد أزاحوا مذهب الطبائع من مسار الفكر الإسلامي، ولعله كان كفيلًا بتوجيه هذا الفكر إلى ما هو أفضل مما انتهى إليه حال الطبيعيات، لكنَّ الرفض السابق للأحكام الانفعالية الحدية والإصرار على النَّجاة من التطرف الذي يلهي عن تاريخانية ونسبوية كل مقولة، مهما كان نصيبها من الصواب، يجعلنا نقول: ليس صحيحًا أن عودتنا إلى أصحاب الطبائع من الاعتزاليين هي كل المنشود، مما قد يغني عن قطيعة معرفية.
إنَّ الطموح في أن تبدأ طبيعياتنا من حيث انتهى الآخر الغربي، لا سيما وأنَّ مَسار العلم الطبيعي لا يسمح بغير هذا، فلا مندوحة عن القطع المعرفي مع طبيعيات علم الكلام القديم، وإن ازدهت بفكرة الطبائع.
•••
في النهاية اتفق المعتزلة مع الأشاعرة على عدم بقاء الأعراض؛ من أجل تخصيص وصف البقاء للذات الإلهية فقط، فضلًا عن أنَّ قول المعتزلة بالتجويز أقرب بهم من لا عليَّة الأشاعرة؛ فكانت معظم التساؤلات الكلامية حول الجواهر والأعراض، سواء اعتزالية أو أشعرية، من أجل إثباتٍ صريح أو ضمني لقدرة مُطلقة مُشخصة؛ إثبات وجود الله.
يستوي في هذا المعتزلة والأشاعرة. هكذا بدأنا من الالتقاء بينهما في المنطلقات والأسس وانتهينا إلى الالتقاء في الغايات والخواتيم، لنخلص إلى أنَّ الخلاف بينهما — أو تلك العناصر الواعدة في طبيعيات المعتزلة — لن يُقدِّم ولن يُؤخِّر في إنقاذ الوضع البائس للطبيعيات في حضارتنا، مما يستوجبُ قطعًا معرفيًّا لا محيص عنه إن رُمنا مثل هذا الإنقاذ.
ورُبَّ معترضٍ على هذا القطع بأنَّ الكلام لم ينتهِ بمحنة المعتزلة ولا بكارثة الأشاعرة، بل واصل نماءه في علوم الحكمة، والحكماء جميعًا أقروا بالعلية وثبوت الطبيعة والطبائع؛ فماذا عن هذا؟
(٣) تمام الكلام … في الحكمة
من منظور فلسفة العلوم في عصرنا تتبدى سلبيات علم الكلام، التي تفرضها الحدود الحضارية والقصورات المعرفية لذلك العصر البعيد، ولكن تبقى دائمًا إيجابيته العُظمى في أنَّه تشكل للعقل العربي الصميم، وكان — كما أشرنا في الفصل الأوَّل — الفلسفة الإسلامية الخاصَّة، التي شقت الطريق ومهدته نحو الفلسفة الإسلامية العامة أو الحكمة.
ولئن كان كلٌّ من الكلام والفلسفة طريقًا مُسْتَقلًّا نِسْبيًّا في سياق الحضارة الإسلامية، فإنَّ الحدود بينهما مموهة إلى حدٍّ ما، فلم يكن علم الكلام إلا مُمارسة للتفكير الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي. ومن حيثُ هي ممارسة متكفلة بمهمة التمثيل الأيديولوجي فقد اتخذت شكل البحث الديني في العقائد؛ لأنَّه الشكل الأيديولوجي المتفاعل والمثير للقضايا الفكرية والفلسفية التي شغلتهم. ثم استفاد علم الكلام من المنطق كثيرًا، فكان ينمو ويتطور حتى نضج بفعل أتون التفلسف العقلاني؛ أي المنطق.
فلم تكن الفلسفة في النِّهاية إلا تطويرًا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن استوفى نضجه، إنَّ الفلسفة الإسلامية أو الحكمة تمثل دائرة أو مَرْحَلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي، أصبح الفكر والواقع مهيئين لها. وكانت الفلسفة أو الحكمة أكثر اتصالًا بسيرورة العقل البشري، وفي حِلٍّ عن التمثيل الأيديولوجي المباشر الصريح، إن كانت بالطبع لن تتحلل من روابطها به، فتميزت من الكلام بأنها؛ أولًا: انطلقت من المفاهيم والمضمون الفكري، لا من القضايا المثارة في المجتمع/النص بصورة مباشرة. ثانيًا: لم تتخذ عن عقائد الدِّين أو من النَّص ذاته مُسَلَّمة أولية أو قاعدة مُباشرة للبحث.
وبصدد فضل علم الكلام في وصول العقل الإسلامي إلى بَرِّ الحكمة أو دائرة الفلسفة الخالصة، يتبوأ المعتزلة المنزلة الأعلى والفضل الأعم؛ فلم يكن علم الكلام المعتزلي بالذات إلا فلسفة صريحة، بل وفلسفة ناضِجَة. ومن حيثُ هم أهل العدل والتوحيد كانوا فلاسفة الحرية والعقل معًا في آنٍ واحد، ليس فقط بسبب ما أشرت إليه من قولهم بإرادة الحتم وإرادة التفويض، فأمرهم أعمق من ذلك.
إذ كان واضحًا دائمًا أنَّ الحرية الإنسانية — أو الاختيار بمصطلحاتهم — هو المضمون المحوري لمفهوم العدل المعتزلي، لكن لم يتضح أنَّ الحرية مضمون محوري للفلسفة بأسرِها إلا منذ القرن السابع عشر وما تلاه؛ حين استقام نجيب العقل الأثير — أي نسق العلم الحديث — عملاقًا واعدًا محصنًا بتلك الحتمية الإبستمولوجية الصارمة، يلقيها على الوجود بأسره أنطولوجيًّا لتنتفي حرية الإنسان، فكان التناقص بين العلم بحتميته والإنسان بحريته محورًا دارت بين رحاه الفلسفة الأوروبية الحديثة، أصابها بما أسميته شيزوفرنيا أو انفصامًا حادًّا بين عالمين أحدهما للحتمية العلمية والآخر للحرية الإنسانية.
هذا عن العدل (= الحرية)، أمَّا عن التوحيد (= العقل) فقد أدَّى مع المعتزلة إلى نفي الصفات، وبالتالي التنزيه المطلق الذي استند على مبادئ فلسفية مُجردة، حتى تأتي بعض مناقشاتهم أحيانًا نسقًا مصمتًا من المفاهيم الفلسفية، وكلها في إطار العقل والحرية، بلا شيزوفرنيا أو انفصام كشأن الفلسفة الأوروبية. فماذا ننتظر أكثر من هذا لنعدَّهم فلاسفة روادًا وآباء شرعيين للفلسفة الإسلامية؟! بل هم أهلوها الأصلاء.
وخلاصة هذا أنَّ الكلام والحكمة لا يُفهم أحدهما بدون الآخر كأصل أو كامتداد، وبالتالي لا بدَّ للمقاربة المتكاملة لأية قضية من قضايا التراث الإسلامي أن نبحث في أصولها الكلامية، أو في امتداداتها الفلسفية، ولكي يكتمل تناولنا لطبيعيات علم الكلام القديم لا بدَّ من متابعتها في طبيعيات الفلاسفة، أو في الحكمة الطبيعة. فماذا عن هذا؟ ما الذي طرأ على الطبيعيات الكلامية حين واصلت المسير وانتقلت من دائرة الكلام إلى دائرة الحكمة؟ في الإجابة على هذا السؤل بشكل عام نجد الطبيعة ومباحثها أكثر وضوحًا وتميزًا عند الفلاسفة منها عند المتكلمين، فقد سلموا جميعًا بأنها قسم من أقسام الحكمة الثلاثة: العقليات والطبيعيات والإلهيات، ثم تفرعت إلى فروعها عند كل منهم، أفردوا لها مصنفات أو رسائل أو فصولًا، إنها أصبحت عنوانًا للبحث وموضوعًا محوريًّا للحديث.
ولئن ناقش نفرٌ من أهلِ الاعتزال فكرةَ خلق القديم، فقد سلَّم المتكلمون جميعًا — من أولهم لآخرهم — بأنَّ: العالم حادث. بدأ الفلاسفة بالتسليم بهذه القضية، لكن بوصفها محل نظر ومحتاجة لبرهان «الكندي»، وتحت تأثير فلسفة الإغريق الذين عجزوا تمامًا عن تصور الخلق من العدم، وتأكيد أرسطو أنَّ العالم قديم غير مخلوق، راح فلاسفة الإسلام يتلمَّسون سُبل التعامل مع أطر قضية حدوث العالم. لجئوا إلى الفيض والصدور كبديل (الفارابي وابن سينا). ثم رفض ابن رشد هذا البديل وأسرف في تبيان أنَّ العالم قديم ومخلوق، هذا في فلسفته الطبيعية الأنضج نسبيًّا من حيث إنها المركب الشامل في تلك الصيرورة الجدلية: محدثة/فيض/قديمة.
في كل هذه التوترات المتتالية ظلت الطبيعة قابعة دائمًا في قلب الأنطولوجيا المتجهة أولًا وأخيرًا نحو المتجه الإلهي … نحو الثيولوجيا … أي إنه لا فَرْق.
لكن هذا الحكم الخطير ينطوي على تقييم جريء للتراث القديم برمته، ولا يمكن إسناده إلى تصور مُجمل أو إجابة بشكل عام، لا بدَّ من تفصيلها استكمالًا لصورة الطبيعيات في تُراثنا القديم … وهذا هو موضوع الفصل التالي.