الطبيعيات … من الكلام إلى الحكمة … ولا فَرْق
(١) من الحدوث إلى الفيض والقدم
هكذا لم يخرج الكندي عن الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية، وتصوره للطبيعة لم ينفصل البتة عن الفعل الإلهي، حتى وإن أقرَّ بخضوعها لقانون العلية العتيد، فليست العلل إلا وسائط، و«الطبيعة» هي الشيء الذي يجعل الله منه علة أولية لكل مُتحرك أو ساكن، والله — الفاعل غير المنفعل البتة كمحرك أرسطو — هو العلة الأولى لجميع المعقولات، والتي هي معلولات لفعله، إمَّا بتوسط الطبيعة أو سواها، وإمَّا بغير توسط؛ فظَلَّت الطبيعة موجهة نحو المتجه الإلهي، ولم يتحدث عنها الكندي إلا من أجل إثبات الله في النهاية.
•••
لكن كان من المنطقي أنْ تتكامل الأطر مع الفارابي؛ لأنَّه آمن إيمانًا جارفًا بوحدة الحقيقة، إنه المركز الإسلامي الصميم: عقيدة التوحيد، يتكشف في شكل هَمِّ الفارابي بوحدة الحقيقة.
الوحي ذاته ليس غيبًا مستورًا، بل ناشئًا عن المخيلة القوية للأنبياء القادرة على هذا الإدراك المتفرد للحقيقة. شغفُ الفارابي بوحدة الحقيقة وضعه على المفترق القلق بين دهرية الإغريق وبين الألوهية في الوحي الإسلامي، ووجد طوق النَّجاة أو المركَّب الجدلي من هاتين المتناقضتين في: نظرية الفيض الأفلوطينية، وهي تقوم على الأقانيم الثلاثة: المطلق – العقل – النفس الكلية، وفيض أو صدور الأقنوم عن سابقه.
المطلق/الواحد عند أفلوطين هو الله/العلة الأولى عند الفارابي الذي مارس دوره في استغلاله للقوالب الأرسطية، فوضع للطبيعة تحديدًا شبه أرسطي ذاهبًا أنها مصدر الحركة والسكون دون قوة خارجية أو مُريدة، ولكن في تصنيفه أو إحصائه للعلوم يجعل العلم الطبيعي مع العلم الإلهي علمًا واحدًا، فلا تعود الطبيعيات إلهيات مقلوبة فحسب، بل إنها هي ذاتها إلهيات.
على أنَّ دور الفارابي الفعَّال في مسار الطبيعيات الإسلامية يتلخص في أنه أوَّل مَن ناقش «حدوث العالم» ورفضه، فوضع — بديلًا — نظرية الفيض في سياق التطور التاريخي للفلسفة الإسلامية، بعد استعارة هذه النظرية كشكل وملئها بالمضمون الإسلامي.
•••
فتحت نظرية — أو قالب — الفيض آفاقًا فلسفية جديدة لمعالجة المشكلة المحورية الموجهة لمبحث الطبيعيات الإسلامية؛ أي مشكلة العلاقة بين الله والعالم المادي. وحددت المسار الفلسفي لهذه المشكلة حتى أبعد امتداداتها، فيمكن اعتبار الحلول ووحدة الوجود الصوفية، التي هي أهم إسهاماتهم الأنطولوجية امتدادًا ما لنظرية الفيض.
أمَّا حكمة الإشراق مع السهروردي المقتول — حيث تفيض الأنوار عن النور الأوَّل — فمجرد شكل آخر لها. موقف الصوفية من الطبيعيات أعمق وأكثر دهاء مما يتبدى للوهلة الأولى، فقد جاهر السهروردي — الذي تربطه صِلات فكرية بابن سينا — بأزلية العالم والحركة والزَّمان، وليس من الضروري أن نتبع سنن المشروع الغربي باعًا بباع وذراعًا بذراع، فنعتبر الفلسفة الإشراقية — كما اعتبر نفرٌ من مفكرينا — كارثة وانحرافًا؛ لأنها تناقض مسار الفكر الطبيعي في الغرب.
المهم أنَّ المتفلسفين جميعًا — حتى المتصوفة منهم — اهتموا بنظرية الفيض، وساعد خطأ نسبة كتاب ثيولوجيا أفلوطين إلى أرسطو على انتشارها بسبب المكانة التي تمتع بها أرسطو بوصفه المعلم الأول.
رفض المتكلمون نظرية الفيض؛ لأنَّها في أصلها شكل من أشكال أزلية وأبدية العالم، ونفي الحدوث والخلق من العدم، وتنفي الشروط التي تجعل من العالم فعلًا لله، وهي الإرادة والاختيار والروية والقدرة على الفعل والترك. ورأوا أنَّ ما يحدث بالفيض ليس خلقًا، بل فقط خروجًا إلى حيز الوجود، شبيهًا بالكُمُون الذي قال به زميلهم النظَّام. العالم يوجد ها هنا اضطرارًا بالطبع بينما أوجد الله العالم اختيارًا بمشيئة وتقدير مسبق لزمان محدد.
إذن، فالفيض من العلامات الفاصلة بين الكلام والحكمة، من حيث إن التساؤل عن حدوث العالم وقِدمه هكذا. ولكن هل أدى هذا إلى فرق؟ لنرَ كيف سار الأمر.
•••
تستوقفنا هذه الظَّاهرة العذبة المعروفة باسم «جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ظاهرة في تاريخ الفلسفة الإسلامية بجملتها وليس التشيع فحسب؛ فهم موسوعيون أكثر منهم إسماعيليون باطنيون، وبنزعتهم الطبيعية يذكروننا بالموسوعيين الفرنسيين في العصر الحديث، وإنْ كانت موسوعية إخوان الصفاء مُشبعة بعبق الشرق ودفئه الحميم.
ولما كنا الآن معنيين بالتوجه العام للفلسفة الإسلامية، ليس بمذهب بعينه، وجدنا رسائلهم كاشفة عن هذا التوجه أكثر من سواها، ومستحقة لتناول مُفصل أكثر نسبيًّا، لا سيما وأنها أتت في أوج مد الحضارة الإسلامية — القرن الرابع الهجري.
هذا فضلًا عن أن إخوان الصفاء اهتموا كثيرًا بالطبيعيات، حتى يمكن القول إنها الرَّكيزة والإطار العام لمنطلقهم. لقد أفردوا لها المجلد الثاني من رسائلهم ومواضع أخرى، حيثُ استقصوها من جميع عناصرها: الفلك والظواهر الجوية والمناخ والتضاريس والبحار والجبال والبراري وصنوف المعادن وأجناس النبات وتكوين الحيوانات … إلخ.
قال اليوناني: الحمدُ لله الواحد الأحد الفرد الصمد (هل قال اليوناني هذا؟!) الذي كان قبل الهيولي ذات الصورة والأبعاد، كالواحد قبل الأعداد والأزواج والأفراد، والتعالي عن الأنداد والأضداد، والحمد لله الذي تفضل وتكرم وأفاض من جوده العقل الفعال، ذا العلوم والأسرار، وهو نور الأنوار وعنصر الأرواح، والحمد لله الذي أنتج من نوره العقل والبحث عن جوهر النفس الكلية الفلكية ذات الحركات، وعين الحياة والبركات.
فجعلوا العدد أساس فلسفتهم. ونسبة الباري إلى الكون كنسبة العدد واحد إلى الأرقام والعقل ٢، والنفس ٣، الهيولي ٤، الطبيعة ٥، الجسم ٦، الأفلاك ٧، الأركان ٨، المولدات ٩.
الفيض ليس في ثلاث درجات كما رأى أفلوطين، بل هو في تسع، ليس بسبب تاسوعاته، إنما لأنَّ الرقم ٩ آخر مرتبة الأرقام الآحاد، وكذلك المولدات آخر مرتبة وجود الكليات، ثم نجد المعادن في مرتبة العشرات والنبات كالمئين والحيوان كالآلاف فتكتمل دائرة الأرقام المعروفة آنذاك، وتكتمل دائرة الوجود الأنطولوجي المتجه نحو الثيولوجيا.
ويمكن مُلاحظة هذا التسلسل لدرجات الفيض التسع في النص المقتبس، ونتوقف عند الرقم ٣، النفس الكلية الفلكية، فهي الطريق الذي تسلكه الطبيعيات لتتجه، بل لتنصبَّ توًّا في الإلهيات، مستعينين بتراثهم الزاخر في التنجيم، وها هنا مناط إبداعهم، وكان توجيه الطبيعيات إلى الإلهيات همهم الأول وشغلهم الشاغل؛ فكيف كان ذلك؟
ومن الناحية الإبستمولوجية أيضًا العلماء نفوس جزئية خادمة للنفس الكلية. الفلاسفة أطباء النفوس، غرضهم نجاة النفوس الغريقة في الهيولي وإخراجهم من هاوية الكون والفساد، وإيصالها الجنة عالم الأفلاك وسعة السماوات بتذكيرها ما قد نسيت من أمر معادها.
هكذا كان توجيه الطبيعيات نحو الإلهيات المهمة المنوطة بالفيض والنفس الكلية الفلكية، وهما صلب نظرية الوجود لتساهم معهما مجامع علم التنجيم. إنَّ التوجيه اللاهوتي يكاد يكشف عن نفسه في كل سطر وأحيانًا كثيرة يأتي بصورة ساذجة، كأنْ تكون الظواهر الفلكية بشارات أو نُذُر ليرتدع العُصاة، فضلًا عما يستنطقون به الدواب والطير والهوام، واسترسالهم في هذا وكأنهم يكتبون للأطفال، ولا يفوتهم أبدًا ليُّ عنق كل مبحث طبيعي في نهايته ليصبَّ لا في المتجه الإلهي فحسب، بل في متجه وعظي إرشادي سطحي، حتى إن رسائلهم في الطبيعيات تكاد تذكرنا ببرامج العلم والإيمان في الإذاعة المرئية الآن.
ثم إنهم — كفلاسفة — بوجه عام يُفسرون الطبيعيات في إطار العلل الأرسطية الأربع: الهيولي والصورة والفاعل والغاية. والفاعل هو العِلَّة الأولى ونقطة البدء، أمَّا العلة الغائية فهي السهم المنطلق توًّا إلى الإلهيات، فتدور الطبيعيات من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس في الدائرة المغلقة، التي لم يفتح الانتقال من الكلام إلى الحكمة طريقًا للخروج منها … فلا فرق.
•••
ثم يأتينا الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا (٣٧٠–٤٢٨ﻫ/٩٨٠–١٠٣٧م) بفلسفة طبيعية أنضج نسبيًّا في تسخيرها لنظرية الفيض، لم تبرأ من تهاويم التنجيم المهيمنة، لكن تخلو من تلك الملامح الطفولية، وتخلو أيضًا من الإبداع أو إضافة ذات بال عمَّا قاله المعلم الثاني الفارابي. ينقل ابن سينا عن الفارابي ترتيب الموجودات في فيضها عن الله نقلًا حرفيًّا.
- (١)
المبادئ العامة كالمادة والصورة، وإثباتها للمُحرك الأول.
- (٢)
الأركان؛ أي السماوات المرادفة للعالم؛ لأنها تحوي الأشياء الطبيعية كلها، والعناصر الأربعة.
- (٣)
الكون والفساد والتوليد والنشوء والبِلى والاستحالة ولطيف الصُّنع الإلهي في ربط السماوات بالأرضيات.
- (٤)
أحوال العناصر الأربعة قبل الامتزاج لما يعرض لها من أنواع الحركات والتخلخل والتكاثف، بتأثير السماوات فيها، فنتكلم بالعلامات والشهب والأمطار والرعد والرياح والزلازل والبحار.
- (٥)
المعادن.
- (٦)
النبات.
- (٧)
الحيوان.
- (٨) النفس والقوى المدركة في الحيوانات خصوصًا الإنسان، وتبيان أنَّ النفس الإنسانية لا تموت بموت البدن، وأنها جوهر روحاني إلهي.٢٩
هكذا، في تلك الأقسام الأصلية للحكمة الطبيعية لم يلقَ ابن سينا أدنى صعوبة في توجيه التقسيم الأرسطي نحو المتجه الإلهي. إنَّ القسم الأول يتعلق بالمحرك الأول، والثامن الأخير يتعلق بالجوهر الروحاني الإلهي، لتدور الطبيعيات في الدائرة الثيولوجية المغلقة.
أمَّا الأقسام الفرعية للحكمة الطبيعية فلن تغير شيئًا، لا من النظرة الأنطولوجية ولا من النظرة الإبستمولوجية، فهي الطب وأحكام النجوم والفراسة وعلم التعبير والاستدلال على الغيب، والطلسمات والنيرنجيات والسيمياء لتحويل المعادن إلى ذهب وفضة.
وحين ننتقل إلى الرياضيات نجدُ أقسامها الأصلية هي العدد والهندسة والفلك والموسيقى، لكلٍّ منها فروعه في الأقسام الفرعية للرياضيات. أمَّا أقسام العلوم الإلهية، فإنها الإعلان الصريح والبيان الفصيح عن المتجه الإلهي للطبيعيات والدائرة الثيولوجية المغلقة.
- (١)
المعاني العامة لجميع الموجودات من الهوية والوحدة والكثرة والوفاق والخلاف والتضاد والقوة والفعل والعلة والمعلول.
- (٢)
النظر في الأصول والمبادئ مثل علم الطبيعيين والرياضيين وعلم المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة فيهما.
- (٣)
إثبات الحق الأول وتوحيده والدلالة على تفرده وربوبيته، وأنه واجب الوجود بذاته … إلخ.
- (٤)
إثبات الجواهر الأولى الروحانية التي هي أعز مبدعاته وأقرب مخلوقاته (الملائكة). ثم:
- (٥) تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية، وارتباط الأرضيات بالسماوات وبيان أنَّ الكل مبدع لا فطور (هكذا: فطور) فيه، وأن مجراه على مقتضى الخير، وأنَّ الشر ليس محضًا، بل لحكمةٍ.٣١
هكذا يحكم القسم الخامس والأخير إغلاق الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية تمامًا، أمَّا الأقسام الفرعية للعلوم الإلهية فهي من قبيل نزول الوحي ومعجزاته المخالفة للطبيعية ومآل الأتقياء الأبرار وكراماتهم، ثم علم المعادن … إلخ.
إنَّ الإلهيات الفرعية هي الجزئيات التي ابتعدت خطوة عن الطبيعة، مثلما كانت الطبيعيات الفرعية هي الجزئيات التي ابتعدت خطوة عن الإلهيات، لكنها لن تنفصل عن الأقسام الأصلية ليدور الكل — الأصلي والفرعي جميعًا — في الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية المغلقة حول المركز/الوحي.
وقبل أن نُغادر ابن سينا، والفلسفة المشرقية إجمالًا، نلفت الأنظار إلى أننا عيَّنَّا المتجَه الإلهي لفلسفته فقط بتقرير من قلب منطلقاته الأرسطية، ولا ينقصنا المزيد والمدد من منطلقاته أو مراسيه الإشراقية والغنوصية، هذا لنؤكد ما أشرنا إليه أكثر من مرة من أنه لا داعي لاتباع السنن الغربية باعًا بباع وذراعًا بذراع، لنُفرط في إدانة الفلسفة الإشراقية، وكل ما يخرج من التراث الغربي القديم الذي يتربع أرسطو على قمته.
(٢) من المشرق للمغرب … ولا فَرْق
يبقى من أساطين الفلسفة الإسلامية وأركانها العمد أبو الوليد بن رشد (٥٢٦–٥٩٥ﻫ/١١٢٦–١١٩٨م)، لا سيما وأنَّ به تكتمل المعالجة السابقة لفلسفة المشرق بتتبعها في المغرب، وسوف يتقدم قاضي قرطبة المبجل وطبيبها الفقيه على قرنائه من منظور الطبيعيات والعلم بها الذي يستوجب العقلانية، فهو يبز الجميع في الإيمان بالعقل والزود عن سلطانه، بحيث يعد رافع لواء العقلانية في فلسفة العصور الوسطى بأسرها؛ الإسلامية والمسيحية على السواء.
وثمة شبه اتفاق على أنَّ سوناتا الكلام وكونشيرتو الحكمة قد ارتفعا على يديه إلى سيمفونية بوليفونية، أَوَليست تتناغم فيها «الحقيقتان» الإلهية والفلسفية؟! وقد وضع قواعد تأويل المجاز في القرآن والفهم المقاصدي للشريعة من أجل إنجاز هارمونية هذا التناغم على أساس أنَّ الحق لا يضاد الحق، بل يُوافقه ويشهد له، إنها «وحدة الحق»، الذي ظهر مرتين؛ الأولى في كل ما قاله أرسطو والثانية مع القرآن.
الحقيقة الأولى — أي الحكمة الأرسطية — هي للخاصة، حرَّفها الفلاسفة. الحقيقة الثانية — أي الوحي الديني والشريعة — هي للعامة، حرَّفها المتكلمون والفقهاء والصوفية. وبهجومه النقدي الضاري على المتكلمين والفلاسفة على السواء، وجهاده الباسل لإنقاذ الحق بالعود مُباشرة إلى الأصول الأرسطية والقرآنية، كان تأسيس مشروعه القائم على الفصل بين الحقيقتين، بين الفلسفة والدين، ورفض قياس الغائب على الشاهد — الذي رأيناه أساس الكلام وعماده — لأنَّ عالم الغيب مُطلق بينما عالم الشهادة مُقيد.
ومن يُجادل في أنَّه بهذا اضطلع بدوره البطولي في قصة العقلانية وعلى المسرح العالمي بأسره؟
ولست أرى في هذا شوفونية كما رأى محمود أمين العالم وعلي حرب؛ لأنَّ علم الكلام ليس وصمة والتبرؤ منه ليس زهوًا، إِلا إذا كان هذا تبتلًا للنموذج الأوروبي. إنَّ الكلام فلسفة خصبة زاخرة متميزة بحضارة ومميزة لها، وأطروحة الجابري لا تنطوي على شوفونية مغربية بقدر ما تنطوي على مغالطة صريحة؛ فعلم الكلام أصل فلسفة المشرق التي هي بدورها أصل — بل مادة — فلسفة المغرب؛ أي إن الكلام الأصل الأصيل والتربة الخصيبة للفلسفة الإسلامية بأسرها، وهذه الأخيرة — أي المغربية — امتدادٌ عادي جدًّا وتطور طبيعي لفلسفة المشرق، وما كانت — بداهة — لتقوم البتة بدونها.
في الطبيعيات كان هجوم ابن رشد المضري على الفيض؛ لأنَّ أرسطو لم يَقُل به، ورفض طبيعيات المتكلمين والفلاسفة على السواء. الأولى — الكلامية — رفضها لأنها جدلية وليست بُرهانية أرسطية؛ والثانية — الحكمة الطبيعية — وإن كانت أرسطية، فقد رفضها لأنها ليست خالصة في هذا بما يكفي.
الله هو الفاعل المطلق، أما الفاعل المقيد فهو العلل، ومنها إلى المعلولات أو المفعولات، أو العالم الذي يخضع للضرورة والحتمية.
العلِّية شاملة صارمة، ولا بدَّ وأن تتوقف سلسلة العلل عند علة أولى هي المحرك الأول الأرسطي أو رب الإسلام. هكذا لا يكون الله فاعلًا بالطبع، بل عن طريق العلل؛ لأنه أشرف الموجودات وموهبها الوجود، فكيف يكون فاعلًا مثلها؟! الفعل الإلهي ليس مباشرًا، بل يسري عن طريق العلل الطبيعية التي أودعها الله قوة التغيير، إنَّه سريان العلة، فهي قوة طبيعية في الأجسام. فكان ابن رشد من أصحاب الطبائع، أقرَّ بفعل الطبع والطبيعة مستقلًّا عن الله، وكما هو معروف شنَّ هجومه الضاري على الأشاعرة والغزالي لرَفضهم العلِّية والطبائع والضرورة، فالأشياء عند ابن رشد — كما عند أرسطو — لها خصائصها الذاتية والملازمة لوجودها، والتي تفعل طبقًا لها.
هذا حسنٌ، لكن لا يحتاج الأمر لخوض أكثر لتبيان أنَّ العقلانية عنده مطابقة للأرسطية؛ فقد كان مُتحمسًا للعقلانية بقدر ما كان مهووسًا بالأرسطية، كان إصراره المبدئي على أنَّ أرسطو الفيلسوف المطلق ولا ينطق إلا بالحق المبين. وحكمته أقصى حد يصل إليه العقل، وبالتالي هدف العاقلين الخلوص للأرسطية ومحاربة كل المتغيرات المتوالية … بهذا التصور للأرسطية التي تنفصل عنه بسبعمائتين من السنين يُقدم لنا ابن رشد أنضج وأبلغ تعبير من غياب التاريخ ومفهوم التقدم من تراثنا وحلول القهقرى والعود إلى الوراء محله.
لقد فصل ابن رشد بين الحقيقة الإلهية والحقيقة الفلسفية، لينفرد بالأخيرة ويجعلها في واقع الأمر تشكيلًا للفلسفة الأرسطية، فكان أقرب فلاسفة الإسلام لمعايير الآخر الغربي، فهل لهذا نُصِرُّ على أنه أعلى من سواه؟
لقد أدنتُ سابقًا — ودائمًا — الرَّفض الآلي لإيجابيات الحضارة الغربية، وليس أرسطو منها. فبوصفه المعلم «الأول» يُؤكد تفريد الحضارة الغربية ومصادرها اليونانية، فتبدو وكأنها تملك في صلب ذاتها حيثيات بدئها المكتمل، وفيما عدا هذا لا قيمة كبيرة لأرسطو الآن. وكما أشار د. زكي نجيب محمود، الوقت الذي يُنفق مع أرسطو ومنطقه ضائع سدى. وإذا كنَّا ننشد آفاق المستقبل ومشارف القرن الحادي والعشرين، فلا مندوحة عن الاستفادة من أروع وأنبل منجزات الحضارة الغربية: ظاهرة العلم الحديث.
ولما كانت التفاصيل معروفة، وخضتُ فيها في أكثر من بحث سابق لي، فتكفينا الآن الإشارة إلى أنَّ نشأة وتخلُّق ونماء العلم الحديث كان على وجه الدِّقة هو تخلُّق ونشأة ونماء التحرر من الأرسطية، التي عرقلت العلم الطبيعي ألف عام أو يزيد، ولولاها لتسارعت خُطاه؛ فقد كانت الأرسطية تجريدًا وتمثيلًا لروح الحضارة الإغريقية التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل، مثَّلها أرسطو بمنطقه القياسي العقيم، بعد أن أدَّت دورها التاريخي واستنفدت مقتضياتها وآذنت شمسها بالغروب؛ لذلك لم تساهم الأرسطية كثيرًا في تقدم البشرية. وبالنِّسبة للعلم الطبيعي كانت عقبة كئود، دفعت برتراند رسل لتأكيد أنَّ الله لم يبتلِ البشرية بالفقر ولا بالجهل ولا بالمرض، بل ابتلاها بأرسطو.
ونعود إلى موضوعنا: المتجه الإلهي، لنجد الأرسطية مع ابن رشد تمامًا مثلما مع ابن سينا أيسر السُّبل لتوجيه الطبيعيات في المتجه الإلهي. وبصرف النظر تمامًا عن حكمة الإشراق السينوية نجد أنَّ فلسفة أرسطو الطبيعية أو الفيزيقية كلها موجهة في اتجاه ميتافيزيقاه، التي يقفُ على قمتها المحرك الأول. وما أيسر أن نستبدل به الله الواحد الأحد الفرد الصمد، لتتجه إليه الفلسفة الطبيعية!
لكن ابن رشد أحرز خطوة تقدمية، حين انشغل بالمشكلة التي رأينا الثقافة الإسلامية — حيث مركزية الوحي — تفرضها؛ أي العلاقة بين الله والعالم الطبيعي. وقعت فلسفة أرسطو في مأزق عدم وجود صلة أنطولوجية بين المحرك الأول والعالم، أما محرك/إله ابن رشد فقد أصبح إسلاميًّا، واختلف عن محرك أرسطو بما يردم هذه الهوة بينه وبين العالم. فالله ينتج الوجود. إنما بصورة مختلفة عن تصور المتكلمين. فقد أنتجه كما تنتج العلة معلولها، وبقدر ما يتضمن المعلول وجود العلة، يتضمن العالم وجود الله. لذلك تجاوز ابن رشد أيضًا ثنائية الفيض الفارابية والسينوية وجعل الله أشبه بعقل العالم الساري فيه والممسك به. وكما تسري أحكام الرئيس في المدينة تسري إرادة الله في العالم. وبغير الألوهية لا تصوُّر فلسفيًّا للعالم، وقد اعتبر الدهريين النقيض الحقيقي للفلاسفة.
وهو في «فصل المقال» يعرِّف الفلسفة أو الحكمة بأنها النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتمَّ كانت المعرفة بالصانع أتمَّ، والعكس أيضًا صحيح. معرفة الصانع لا تكون إلا بالنظر في الكائنات التي خلقها، وكانت أدلة وجود الله عنده: العناية والاختراع والحركة، كلها منصبة على — أو مستقاه من — العالم الطبيعي الذي يعني عنده كل شيء سوى الله والأجرام السماوية.
هكذا تتبدى أمامنا الدَّائرة الثيولوجية الأنطولوجية المغلقة، وإن كانت عقلانية ابن رشد لا تجعلها مغلقة بمثل ذلك الإحكام الذي رأيناه فيما سبق … ولكن هل يمثل هذا قطعًا معرفيًّا؟ وطبيعياته ظلَّت في كل حال سائرة نحو المتجه الإلهي؟!
•••
في وقت مبكر، منذ القرن الثاني، وقع رائدهم التجريبي الشهير جابر بن حيان في إسار إيمانه الطاغي بحيوية الطبيعة وكل شيء فيها، بل رآها عاقلة مُريدة. والكواكب قوى حيَّة علوية تمارس تأثيرها. الفرق بينها وبين الله هو دخول المادة فيها، ولعل إفراط جابر في حيوية الطبيعة والتنجيم — وهو الذي يتصدَّر باكورة الاهتمام الإسلامي التوَّاق بالطبيعة — هو الذي أدَّى إلى ثبوتهما المزعج في الطبيعيات الإسلامية.
ويكاد يكون الرازي أكمل تمثيل تلك الفلسفة الحرانية؛ أنكر مثلهم المعجزات والنبوة؛ لأنَّ الناس سواسية في إمكان الاتصال بالعالم العلوي عن طريق تطهير النفس ومُفارقة المحسوسات، وقال بقدمائهم الخمسة: الهيولي والصورة أو النفس، والزَّمان والمكان والحركة، كلها لامُتناهية وكل لامتناهٍ قديم، والخلق من العدم مستحيل. الخلق حدث من اشتياق النفس إلى الهيولي. إنَّ الرازي يسخِّر نظرية الفيض ذات الأصول المثالية، لكن التطور النِّسبي لمنجزات العلوم الطبيعية في عصره عمومًا، وعلى يديه خصوصًا، مكَّنه من توجيه نظرية الفيض توجيهًا ماديًّا أكثر.
•••
هكذا تحيط الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية بالطبيعيات الإسلامية من كل صوب وحدب، لتنصب في المتجه الإلهي حتى انصبت جهود الطبيعيين أنفسهم فيه. لم يَعُق هذا حملهم للواء التجريبية طوال العصور الوسطى؛ لأنَّ بحوثهم العلمية — كما أشرت في الفصل الثاني — اتصلت بالوقائع الجزئية دون القوانين الكلية، فضلًا عن الأنساق العلمية.
مع هذا تجمُل الإشارة إلى أنَّ المتجه الإلهي وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا، فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة إلى آخر المدى.
وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينية أيضًا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي، وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية؛ قد تحرمه من استقلاله، أمَّا وجوده الموضوعي فكلا؛ لأنَّ العالم الطبيعي فعلٌ مُتعين للقدرة الإلهية. إنَّ المصطلحات اليونانية تقوم فقط بدور ظاهري.
وكانت الفلسفة الإسلامية تيارًا مُستقلًّا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين المادية/المثالية، وتجاوزهما إلى مركَّب جدلي أشمل. لم يكن محض انتقاء بينهما أو توفيق لهما مع الشريعة، بل كان خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي عرفت كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي وتوجهها اللاهوتي الذي فرضته ظروف العصر.
(٣) الطبيعيات في نظرية الوجود
اتضح لنا الآن كيف أنَّ انتقال الطبيعيات إلى دائرة يفترض أنها أعلى — أي من الكلام إلى الحكمة — لم يُغَيِّر من الأمر شيئًا، وظلت الطبيعيات مُتجهة نحو الإلهيات أو مُقدمة إلهية، وليس هذا كل — ولا حتى أهم — ما يكشف عنه هذا الفصل. ولكي ندرك عمق الحكم: لا فرق — مما يستوجب قطعًا معرفيًّا عن كل التراث القديم — ينبغي أن نُلاحظ قبلًا كيف أنَّ الطبيعيات في الحكمة تُكافئ نظرية الوجود في الكلام … إنها الأنطولوجيا.
رأينا كيف انقسمت الحكمة إلى عقليات: منطق ورياضة، ثم طبيعيات محسوسة ثم إلهيات وشريعة، وكأننا بإزاء تقسيم الفلسفة الذي لم يستقر إلا في القرن التاسع عشر إلى إبستمولوجيا وأنطولوجيا وأكسيولوجيا، لا سيما مع ما تعنيه الإلهيات الإسلامية من نسق قيمي مهيب، وما تحمله الشريعة من جهاز أخلاقي جبار. على أنَّ أخطر ما في الأمر هو إخراج الطبيعيات تمامًا من الإبستمولوجيا وانفصالها عن العقليات والمنطق. لقد تقوقعت تمامًا في قلب نظرية الوجود المتجهة إلى الإلهيات.
ولا فرق. فهذا هو نفس الوضع في الكلام، انقسم أيضًا إلى نظرية العلم ونظرية الوجود ثم إلهيات، وإن لم يتبلور هذا إلا في مرحلة متأخرة، في مقابل الحكمة التي عرفت التقسيم منذ مرحلة الافتتاح الأولى التي دشَّنها الكندي. وأيضًا أخرج المتكلمون الطبيعيات تمامًا من المشكلة المعرفية؛ أي من نظرية العلم التي تكافئ المنطق في الحكمة، ووضعوها في قلب مشكلة أو نظرية الوجود والسؤال عن الموجود والمعلوم. والواقعُ أنَّ المباحث الطبيعية في الكلام — وبالتحديد مبحثا الجواهر والأعراض — صلب نظرية الوجود.
هذا الوضع للطبيعيات/الجواهر والأعراض في قلب نظرية الوجود هو الذي أدَّى — وكان لا بدَّ وأن يُؤدي — إلى جعلها طبيعيات إلهية أو متجهة نحو الإلهيات، ولا مندوحة عن هذا؛ لأننا حضارة مركزها الوحي/النص. والواقع أنَّه لم يحدث أصلًا فصل بين نظرية الوجود وبين الإلهيات في مُقدمات علم الكلام إلا في المصنفات المتأخرة بعد مرحلة النضج.
•••
نظرية العلم ونظرية الوجود، أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا، كلتاهما سائرة نحو المتجه الإلهي إثباتًا للعقيدة، وصلبها وجود الله الواحد الأحد الموجد من العدم، وفي إثبات هذا كما أوضحنا لَعِبَ دليل الحدوث دورًا رئاسيًّا.
وقد كان دليل الحدوث منشأ البحث في الطبيعيات، وظلَّ دائمًا هيكلها، وأي دليل من حيث هو دليل يلامس الإبستمولوجيا؛ فكان دليل الحدوث يُلامس الكفتين: الوجود والمعرفة، ويمثل حلقة الوصل بينهما. وبكل ثقله كمبتدأ بل وكموضوع لمبحث الوجود: ساهم في نزع الطبيعيات تمامًا من نظرية العلم وإلقائها في قلب نظرية الوجود.
ترك المتكلمون الإبستمولوجيا للمُشتغلين بالمنطق من أهل الحكمة، وراحت نظرية العلم في الاختفاء من الكلام، ليكون البدء بنظرية الوجود بحثًا في دليل الحدود، وكأن موضوع المعرفة سابق على الذات العارفة وأهم منها. لقد تراجع العلم وفازت أخيرًا نظرية الوجود.
لقد حَمَل التراث الإسلامي — خصوصًا أصله الأصيل علم أصول الفقه الذي اشتغل به كل المعتزلة تقريبًا — كنزًا مَذخُورًا لنظرية المعرفة من مناهج بحث وأساليب استدلال وأشكال قياس، فضلًا عن الطرق التجريبية. لكن ظلَّت الطبيعيات بتقوقعها في نظرية الوجود بمنأى عن كل هذا، وانصبت في المتجه الإلهي الذي حال بينها وبين أن تكون مجالًا للفعالية الإنسانية، وبالتالي التغير والصيرورة والنماء والتطور، فانتهى بنا المآل إلى ما نحنُ عليه من استيراد كامل للطبيعيات وتقاناتها.
كان إقصاء الطبيعة عن نظرية العلم، والذي ساهم فيه المعتزلة والأشاعرة على السواء، هو السبب والعلة والأصل؛ أمَّا المعلول والنتيجة والأثر فهو أنْ أصبحت الطبيعيات إلهية، تدور في الدائرة المغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس؛ لأنَّ الوجود إثبات لله، والمعرفة إثبات للإنسان.
علم الكلام وضع الطبيعة في نظرية الوجود؛ لأنَّه لا يُريد إلا إثبات الله، وعلم الكلام الجديد سوف يضع الطبيعة في نظرية المعرفة؛ لأنه يريد إثبات وجود الإنسان المسلم في خضم الحياة المعاصرة.
إنَّ الوجود صنيعة الله، والعلم صنيعة الإنسان، الوجود قديم والعلم حادث، الوجود ثابت والعلم مُتغير، الوجود باقٍ والعلم نامٍ، والوجود حتم والعلم حرية، الوجود مفعول فيه والعلم فاعلية، الوجود كينونة والعلم صيرورة.
وإخراج الطبيعيات من العلم، من مجال الإنسان ووضعها في مجال الألوهية، هو السبب في انفلاتها من يدي المسلم المعاصر … المعاصر لعصر أحرز فيه الآخر الغربي سيطرة على الطبيعة تجاوزت كل آفاق الرؤى والأساطير. وغنيٌّ عن الذكر ما نجم عن انفلات الطبيعة من ضعف وهزائم وتنازل، وتخلف واستنزاف للموارد الطبيعية في استيراد عقيم وتبعية وفقر ودينونة لجلب رغيف الخبز، ثم الاستسلام تلو الاستسلام.
إنَّ السيطرة على الطبيعة قرينة بوضعها في قلب وعلى رأس المشكلة الإبستمولوجية … نظرية المعرفة. لم يكتفِ الآخر الغربي بهذا فوضعها في نظرية المنطق ومناهج البحث، التي هي أصلًا مدخل لنظرية المعرفة، فكان له ما كان. وفي مجال العلم — المجال الإنساني الخالص — ثمة مُعامل مُشترك، ما هو إنساني عام، وهو أكثر أولية ومبدئية وعمومية من الأيديولوجية؛ إنها آليات العقل العلمي، وحين ننظر إلى حيثُ انتهى الآخر الغربي، إلى حيث يجبُ أن نبدأ نحنُ منه، نجد في مجال العلم أيضًا الحوار والاشتباك بين الحضارات، ونجد التحدي الحقيقي والإنجاز الذي يأتي بأقوى إثبات للذات الحضارية، أصدق تحقيق للأيديولوجيا. ثمة تنافس وصراع، الانتصار فيه … أو حتى مجرد القدرة على اقتحام حلبته، هي عند الله وعند الناس خير وأبقى.
أما الوجود فهو مجال التمايز بين الحضارات، مجال الأصالة والخصوصية. لكل حضارة عالمها وأنطولوجيتها، حذف الآخر الغربي الألوهية من جُلِّ توترات سؤاله الحديث عن الوجود. وخصوصية حضارتنا في تميز أنطولوجيتها بآفاق الألوهية، منذ هبوط الوحي فيها. إنَّ خصوصيتها الحضارية الثمينة حقًّا في أنطولوجيا ذات أبعاد إلهية، إنها نظرة أنطولوجية إسلامية، من الصعب أن نتنازل نحن عنها — نحن ضمير الجماعة بأيديولوجيتها المتميزة — لتظل الألوهية معلم حضارتنا ووهجها الذي يشع أبعادًا دفيئة، افتقادها في حضارة الآخر الغربي أصبح يستصرخ أديم الأرض. ثم تأتي العلاقة بين الوجود والمعرفة لتجعل ذلك التميز الحضاري الأنطولوجي ينعكس بشكل ما في نظرية المعرفة.
•••
الطبيعيات الكلامية إلهية أنطولوجية، ونحنُ نُريد أنْ نجعلها إنسانية إبستمولوجية؛ لأنَّ إبستمولوجية الطبيعيات الآن على وجه التحديد والتعيين الشديد هي الحلبة الكبرى للفعالية الإنسانية، والتغير المتوالي والتقدم المطرد.
ولن يجدينا في هذا ترقيعٌ ولا تنقيحٌ ولا استبدال مصطلحات بأخرى، ما دامت الطبيعة كائنة في قلب نظرية الوجود، لن ينفعنا أي استئناف كان لطريق الأقدمين.
لا بدَّ من قطيعة معرفية لطريقهم وشق طريق جديد كل الجدة، توضع فيه الطبيعيات في قلب المشكلة المعرفية … في سويداء نظرية العلم.
ولكن … كيف؟ تلك هي المهمة المنوطة بعلم الكلام الجديد، إنْ أُريد له أن يُيَمِّمَ الأبصار شطر المستقبل.
وعن تحليل النشأة المشرقية الواعدة للرياضيات العربية: مقدمة دراستنا «في الرياضيات وفلسفتها عند العرب»، وهو تقديم وترجمة وتعليق لبحث الدكتور رشدي راشد: القابلية للتصور والقابلية للتخيل، والقابلية للإثبات في التفكير البرهاني، السجزي وابن ميمون في القضية ١٤، الكتاب الثاني من «القطوع المخروطية لأبو لونيوس»، (دار الثقافة، القاهرة، ١٩٩٤).
ويُراجع: نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة ودراسة وتعليق د. محمد مهران، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٥، ص١٦٢-١٦٣.