الكلام الجديد في الطبيعيات
(١) استيعاب طبيعيات الماضي وتجاوزها إلى المستقبل
تبدَّى الآن بمزيد من الوضوح كيف أنَّ الطبيعيات في علم الكلام القديم ليست البتة شيئًا إضافيًّا زائدًا، أو مُجَرَّد ضميمة في اللطائف، كما هو معتمد في التأريخات الشائعة! بل إنَّ الطبيعيات هي العالم. وتواصلًا مع هذا، استيعابًا وتجاوزًا له، لن يكون بدعًا أن تُصبح أكثر محورية في علم الكلام الجديد السائر نحو المستقبل.
واتضح أيضًا كيف يمكن الاتفاق على أنَّ علم الكلام لا يبدأ بالذات والصفات بقدر ما يبدأ بنظرية العلم، ثم نظرية الوجود. ويمكن أن يُناظر هذا انتقال المعتزلة من أصل التوحيد إلى أصل العدل؛ أي الذات ← الصفات = التوحيد ← العدل = نظرية المعرفة ← نظرية الوجود.
وبشيء من التعيين والتوجيه القصدي نحو أطروحتنا، الطبيعيات في الكلام، وعلى سبيل التمهيد لوضعيتها المستقبلية التي ننشدها في نظرية المعرفة، هل يمكن أن يناظر هذا انتقالًا من عموم مسئولية الإنسان عن أدوات العلم والمعرفة: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا إلى مسئولية عن الشكل الجديد لتآزر هذه الأدوات — الحواس والعقل — وتكاملها في أقوى وأنضج صورة؛ أي في المنهج العلمي التجريبي، المنهج الفرضي الاستنباطي، بفاعليته المشهودة في تغيير وتطوير عالم الإنسان ووجوده المتعين.
وكما رأينا، كُلَّما تطور علم الكلام كان يقلُّ اعتماده على النص، ويزداد اعتماده على العقل، حتى كان تمامه في الحكمة حيث المعقول البرهاني. وشهد علم الكلام في بعض مراحله اتساعًا في تحليلات المعرفة والوجود، هذه التحليلات امتدت وانتشرت حتى اختفى علم الكلام، وسادت الفلسفة في النهاية. كل هذه الفعالية العقلية كان من الممكن أن تسفر عن اكتشاف بيِّن للطبيعة.
وقد أفصح هذا الاكتشاف عن نفسه في شكل اهتمام المتكلمين الفائق بالجوهر وأعراضه؛ ليكون مبحث الجواهر هو بُعد الطبيعة، بقدر ما كان مبحث الأعراض هو بُعد الإنسان، ولئن انقسمت الأعراض بدورها عند المتكلمين إلى نوعين، الأوَّل يختص بالحياة وما يتبعها من إدراكات كالعلم والقدرة والسمع والبصر، والثاني يختص بالأكوان والمحسوسات؛ أي ظواهر الطبيعة الجامدة، فإنَّه حتى في هذه القسمة يظهر الإنسان ككائن حيٍّ مدرِك، ويَظهر العالم الطبيعي كموضوع مدرَك له. هكذا نظفر ببعدَي الإنسان والطبيعة: قطبي الطبيعيات المرومين، لا سيما من حيث هي إبستمولوجية، بل ويمكن أنْ نَظفر بوجود الإنسان في الطبيعة: إنَّ الإنسان والطبيعة هما القطبان الأساسيان للموقف العلمي.
من هنا تداخلت أو بالأحرى تكاملت الطبيعيات والإلهيات، فأمكننا الآن التقاط بذور واعدة من تُراثنا، لنُحاول أن نستنبتها يقطينًا أو لينة، تنمو وتعلو، لتشق تلك الدائرة المغلقة التي كانت من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس.
فلولا سقوط هذه العناصر الواعدة لما غاب البُعد الطبيعي للإنسان من الوجدان المسلم. مطلوب الآن إحياؤها، على أن يتحول البُعد الطبيعي إلى فعالية، إلى صيرورة مُتنامية باستمرار … إلى نضال معرفي وجهاد إبستمولوجي، يتكرس له ويتفانى فيه ويستشهد من أجله أولو العزائم والشكائم حقًّا، العلماء في معاملهم … في معترك كفاحهم الضاري والنبيل.
•••
إن الضرورة الملحَّة الآن إحياء وإنماء ذلك البُعد الطبيعي. ويمكن الاستفادة بشيء من التواصل مع المعتزلة وابن رشد وسائر الطبائعيين من أجل تجذير البُعد الطبيعي في ثقافتنا، إعادة الإنسان المسلم إلى الطبيعة تمهيدًا لاستملاكها؛ هكذا يحقق مُستقبل علم الكلام تجاوزًا مُثمرًا لماضيه الذي حمل صورة الطبيعيات المتجهة إلى الثيولوجيا المسخَّرة لتأكيد وجود الله الغني عن العالمين، لا الإنسان الذي يحيا فيها ويُصارعها ويعاني جموحاتها، حتى تمخضت الطبيعة مع الأشاعرة عن جرف هارٍ تحت قدميه، بلا قانونية ولا مشروعية ولا مصداقية للعلم بها.
بهذا الاستيعاب والتجاوز يتم تعديل وضع الطبيعيات، لتغدو من أجل الإنسان الذي يظهر من خلالها مُثبتًا دوره في الكون، ووجود الطبيعة في عالم الإنسان وله وبه ومن أجله. هكذا يتأسس الموقف السليم لممارسة فهمها وإدراك قوانينها والسيطرة عليها؛ أي إنه الوضع المبدئي لما يُمكن تسميته بالموقف العلمي. وبقدر ما يتأسس هذا بقدر ما تتحقق رسالة الوحي الإسلامي كخاتمة الأديان، من حيث هو وحي طبيعي لا كهنوتي. إنَّ التوحيد يصبح كما كان وكما ينبغي أن يكون: رؤية موجهة للذهن نحو الطبيعة، وتتحول الطبيعة من موضوع حسي وجداني إلى موضوع عقلي علمي، ويتحقق مشروع الكلام الذي وضعه لنفسه وهو يبحث في نظريتي العلم والوجود، ليصنع نهضة حضارة ويؤكد سؤدد أُمَّة، وهو المشروع الذي توقف منذ القرن الثامن.
وإذا سار علم الكلام في هذا الاتجاه لن تعود الروح العلمية غربية غريبة، مجلوبة من الخارج مُنفصلة عن إطارنا الحضاري الذي يعد الوحي مركزه، وعلينا أن نجد فيه بواعث الموقف الطبيعي وموجِّهات السلوك العلمي، كالتجريب ونبذ التقليد والدعوة إلى إعمال العقل والتأمل في الطبيعة والسير في الأرض واكتشاف مناكبها … ودعوة القرآن الدَّائمة إلى النظر في تصريف الرياح وتعاقُب الليل والنهار والسحب والسماء ذات النجوم والكواكب السابحة في فضاء لامتناهٍ.
بهذه الفعالية المستقاة من موجهات الحي إلى الطبيعة ومن التنزيه يكون الفكر الديني تأصيلًا للفكر العلمي، ويكون الفكر العلمي نماءً وتطويرًا للفكر الديني، ويكون الكلام بإسقاطه الفكر العلمي والبعد الطبيعي كلية ودورانه في الدائرة الأنطولوجية الثيولوجية المغلقة قد ألغى مراحل من التقدم تم إحرازها. إنَّ المهمة المنشودة من التوجه المستقبلي لعلم الكلام هي إعادة الطبيعة إلى الإنسان وتأسيس موقفه الطبيعي العقلاني.
(٢) الطبيعيات من الأيديولوجيات إلى الإبستمولوجيا، وبالعكس
ولا بدَّ الآن من استئناف الطريق إلى الخطوة الأبعد والأكثر حسمًا، إلى الموقف الإبستمولوجي العلمي، حيثُ تسخير استطاعات المنطق الاختباري والمنهج التجريبي.
فهذا العصر الذي نحياه على مشارف القرن الحادي والعشرين لهو عصر السباق المحموم في السيطرة على الطبيعة وترويضها وتطويعها وصيانتها بيئيًّا، وتساهم النقاط المحرزة في هذا السباق، لا في انقسام الدول إلى مراكز وأطراف فسحب، بل أيضًا إلى دائنة ومدينة، تابعة ومتبوعة، قاهرة ومقهورة، تجلب رغيف الخبز بالديون التي هي همٌّ بالليل وذل بالنهار، أو تستجلب الجيوش الأجنبية دفاعًا عن حماها المقدس.
الآن الصراع الحقيقي الذي يُواجه المسلم ولا يرضى الله أبدًا التقاعس عن البلاء فيه، ليس مع العقائد الشعوبية أو سواها من تحديات واجهت القدامى، بل هو الصراع مع جحافل الطبيعة الضنينة قهرًا للجهل والفقر والعجز والعيِّ والمرض والوباء والفيضان والجفاف والتصحر ونضوب الثروات وندرة الموارد …
في مواجهة هذه الجحافل الضارية، وفي ذلك الصراع والسباق، ينتصب مارد المنهج «العلمي» لينتج أينع صور الألفة مع الطبيعة، من حيثُ يثمر نسق العلم ذا الإشباع الذي لا يُضاهى للعقل البشري ونزوعه لفهم الطبيعة وتفسيرها واستكناه أسرارها، ناهيك عن أنَّه يفتح ضمنًا الطريق الوحيد للسيطرة عليها وترويض شراستها بواسطة التقانة (التكنولوجيا) نجيبة العلم الشرعية الأثيرة وربيبته المدللة، ويا لها من واسطة امتلكت فعالية لم يحلم الإنسان بمعشارها يومًا ما! وما كان هذا ليكون إلا لأنَّ نسق «العلم» قد تعملق.
في كل هذا يتجلَّى العلم الطبيعي — كمقابل لكل صنوف الأيديولوجيات، ولأنَّه ليس بأيديولوجيا البتة — يتجلى بوصفه المشروع الوحيد الذي يُنجزه الإنسان بنجاح. مهما قيل إن الإسلام دين التقدم والمدنية … لكن المسلمين هم المتخلفون، أو أنَّ المسيحية دين المحبة والغفران … لكن الأوربيين قراصنة استعماريون، أو أنَّ الليبرالية للحرية والفردية والكرامة وحقوق الإنسان … لكن الأمريكيين رعاة بقر مهجنون إمبرياليون، أو أن الشيوعية هي اليوتوبيا الموعودة للكادحين … لكنَّ أعضاء الحزب الشيوعي السوفييتي حفنة لصوص، أو أنَّ القومية العربية أشد واقعية من الدم الذي يسري في الشرايين … لكنَّ الحكام العرب كانوا خونة وعملاء … ومهما قيل وقيل لا يجرؤ أحد البتة على أن يقول: المنهج «العلمي» فعالية جبارة وآلية رائعة … لكن العُلماء كسالى خائبون! ولا حتى مناقشة إخفاقات العلم والمشاكل التي عجز عن حلها. المنهج العلمي بلا ريب هكذا: فعالية جبارة وآلية رائعة، لكن لأنَّه جعل العلماء يضطلعون بمشروعهم اضطلاعًا لا يُدانيه الملام ولا العتاب، لا من بين أيديهم ولا من خلفهم … وهل يدانيهم سوى الإعجاب والانبهار؟ لذلك التطابق بين الواقع والمثال، بل لذلك الواقع العلمي الذي يُحطم المثال تلو المثال، باحثًا دومًا عن مثال أعلى، عن تقدم أبعد … لذلك النجاح الذي لم يعرف الإنسان له مثيلًا.
•••
ولأنه لم يحدث مثل هذا التحديد المصطلحي في مجمل حضارتنا (في جامعة القاهرة العريقة: كلية العلوم وكلية دار العلوم) يتسم مصطلح العلم لدينا بالميوعة التي تنعكس في ميوعة وضع «العلم» في أيديولوجيتنا، لدرجة تستدعي الملام.
•••
إنَّنا الآن بصدد قضية محورية هي تحديد علاقة الأيديولوجيا بالعلم، وناهيك عن تحقيق العلاقة المثمرة بينها وبين العلم الحديث والمنهج العلمي، وهي ليست قضية بسيطة أو تقبل طرحًا مُباشرًا، فلئن كان ضروريًّا أن تتأهب الأيديولوجيا دومًا للواقع العلمي المتسارع، فإنَّ الأيديولوجيا ذاتها ليست علمًا ولن تكون، ولعل الانهيار المدوي للأيديولوجيا الماركسية بعد أن أسرفت في التمسح بالمسوح العلمية خير شاهد.
وإن كان العلم بالطبع يخرج بنتائج وفعاليات تُفيد، بل هي ضرورة في تحقيق ما ينبغي أن يكون من طوباويات الأيديولوجيات.
كل طوبي في عالمنا النامي أو المتخلف الفقير، كل أيديولوجيا تنويرية له، تكون طوبى ونهوض بقدر ما تلتحم بالحلم العلمي التقاني.
التقانة (التكنولوجيا) بلا جدال نتيجة العلم البحت، وترتبط به ارتباط الثمرة بجذع الشجرة، لكن اللافت حقًّا أن العقود الأخيرة شهدت تمايزًا وشيئًا من الانفصال بين نشاط البحث العلمي وبين نشاط التطوير التقاني، وبينما يظل العلم البحت فوق كل خصوصيات أيديولوجية، يمكن أنْ تترك هذه الخصوصيات بصماتها على أنشطة التطوير التقاني، ولا رؤية — أو رؤيا — مستقبلية دون المساهمة في الاثنين معًا؛ العلم والتقانة، ومن منَّا لا يحلم بغدٍ نساهم فيه بنصيبنا في البحث العلمي، لتنساب نواتجه التقانية في ربوعنا، عاملةً على تحقيق أهدافنا.
•••
إنَّ خدمة العلم الطبيعي للمشروع الأيديولوجي كما تتمثل في نتائجه وتطبيقاته — أي التقانة — تتمثل أيضًا وقبلًا في أصله ومنطلقه، هيكله وعماده — أي المنهج العلمي.
واحتياجنا لعلم كلام جديد هو عينه احتياجنا لأيديولوجيا ثورية تهيئ لخلق إنسان عربي مسلم جديد. أهم مهامها توطين المنهج العلمي في حس الجماعة بأن تزرعه في ثقافتنا وتُجَذِّره في تربتنا، لنتمرس على مواجهة الواقع الصلب العنيد الذي يتأبى علينا ونفشل في تطويعه، فنستورد دائمًا حلولًا لمشاكله، في استنزاف للموارد وتعويق للنماء والتقدم، والمطلوب الخروج بالمنهج العلمي إلى الآفاق الأيديولوجية، فلا يقتصر على المنظور الترانسندانتالي المتعالي للثقافة كموضوع للحوار بين صفوة المثقفين أو أبحاث بعض المتخصصين، بل تشريب المواطن بآفاق المنهج ليغذو أسلوبنا في الإنشاء وفي الإدارة، في التخطيط والتنمية، في الإنتاج وفي الاستهلاك، في مواجهة وقائع الحياة اليومية.
فليس منهاج العلوم الطبيعية — أي المنهج الفرضي الاستنباطي — إلا تجسيدًا لطريقة التفكير المثمرة السديدة، للعقل حين ينطلق بمجمل طاقته لوضع الفروض العلمية، لكنها دونًا عن كل انطلاقات العقل مُلتزمة بمعطيات الواقع، ما تنبئ به التجربة، لتتعدل الفروض أو تقبل أو ترفض وفقًا له، فالتجربة اختبار للفرض، ناقد قاسٍ لا يعرف الرَّحمة في تعيينه لمواضع الخطأ والقصور، قاضٍ حاتم ذو حكم موجب النَّفاذ، إنها المسئولية العسيرة أمام الواقع والوقائع التي لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة للتفكير الملتزم بالواقع وبالانتقال من المشكلة إلى محاولة حلها، لتعقيل السير نحو الهدف، للوسيلة التي امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعه الأولي المعاش — الطبيعة — وسبيل الظفر في خضم هذا العالم الواقعي ومشكلاته، وهو لهذا يعد أكثر من ضروري، يُفيد أيديولوجيتنا إلى أقصى الحدود … أو إلى أقصى آفاق المستقبل.
لا تجديد مغنيًا للتراث، لا بحث فعالًا عن مُستقبل لعلم الكلام، لا تنوير ولا تثوير في أيديولوجيتنا، إنْ لم يعمل هذا على إزالة العوائق التي تحول دون تسرب المنهج العلمي إلى ثقافتنا وشخصيتنا القومية. أهم هذه العوائق وأخطرها وأساسها الذي يتمخض عن بقيتها هو النظرة التغريبية للعلم ومنهجه، فصياغته جاءت كنتاج للحضارة الغربية، وبالتالي يتم اكتسابه على حساب أصالتنا وخصوصيتنا الأيديولوجية، هذا في حين أنَّ المنهج العلمي التجريبي أجل صيغ وتبلور في الغرب، لتمثل نشأته في حضارتهم قطيعة ونقلة محورية، لكن فقط بالنظر إلى طبيعة الحقبة الأوروبية السابقة، الحقبة الوسيطة التي رأت الانشغال بالمادة عارًا وشنارًا، وليس الأمر هكذا في الحضارة الإسلامية التي كانت حاملة للواء التجريب والمنهج العلمي آنذاك.
وإذا كان الغرب قد استغل نقلته المحورية صوب التجريب أعمق وأروع استغلال، فليس يعني هذا أنهم خالقوه أو محتكروه، ويخبرنا تاريخ العلم بدور العرب في خلق فصول من قصته، ودوره في خلق فصول من قصتهم.
وتتقدم فلسفة العلم لتعلمنا كيف أنَّ المنهج العلمي التجريبي مجرد تطوير وبلورة لفعالية مفطورة في صلب العقل البشري من حيث هو عقل، ومن حق وواجب البشر أجمعين — ليس الغرب فحسب — تسخيره واستغلاله في كل جزئية من جزئيات الواقع.
•••
إذن؛ أيديولوجيتنا يمكنها، بل يجب عليها، الاستفادة من العلم الطبيعي المعاصر، ليس فقط صلب مساره الناشر للضوء الكثيف، بل أيضًا من طرفيه الأقصيين: المنهج والتقانة.
أمَّا إذا كانت أيديولوجيا الحضارة الغربية قد اتخذت منها بشكل ما أحد مراكزها، فذلك موضوع آخر، إنه اختيارهم الذي لا يلزمنا بشيء، وليس من الضروري أن نتمركز مثلهم حولها، لكن من الضروري جدًّا جدًّا أن نُعطيها كامل حقها، معترفين باستقلاليتها، التي تستلزم فريقًا بل جيشًا من الباحثين يتكرس لها في حد ذاتها.
في موضع سابق كان التوقف عند الأيديولوجيا لتأخذ حقها، حين تكرس لهذا الجزء الثاني من الفصل الأول، والآن دور الإبستمولوجيا العلمية وإعطائها حقها.
ومهما اختلفنا أو اتفقنا في سعة، بل هلامية تصور الأيديولوجيا، فقد اتفقنا في علم الكلام بالذات؛ فلا جدال في أنه هو مناط أيديولوجيا، بوصفها حضارة تدور حول مركز الوحي، ولأنَّ علم الكلام الجديد أو أيديولوجيتنا المستقبلية لا بدَّ أن تعطي الإبستمولوجيا العلمية حقها، كان من الضروري استئناف الطريق لكي يمتد «الموقف الطبيعي» للمسلم إلى اضطلاع بفعالية حية مُتنامية باستمرار. هذه الفعالية … التنامي … الصيرورة … الحركة الديناميكية المستمرة للعلم الطبيعي، هي على وجه التعيين والتحديد روح العصر التي يتوجب على طبيعيات علم الكلام الجديد استقطابها، تمثلها وتمثيلها، والتي من أجلها لا بدَّ وأن تُصبح الطبيعيات مُشكلة إبستمولوجية أولًا وأخيرًا.
•••
هذا التصحيح الذاتي المستمر هو الذي يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية، ومحض توالي بحوثهم المنهجية، يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقًا أوسع، معنى هذا أنه مهما أحرزت العلوم الطبيعية من تقدم، فسوف يظل إحرازها هذا يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة، بعبارة أخرى كل إجابة يطرحها العلم يطرح معها تساؤلات جديدة أبعد مرامًا.
أجل! يُمثل العلم الطبيعي مُتصلًا صاعدًا، دونًا عن شتى مناحي الإبداع الإنساني كالفن والأدب والفكر والفلسفة والأنظمة التي تحمل سيماء الأيديولوجيا التي نشأت في إطارها فتنمو جميعها في صورة تراكم كمي واتساع أفقي، لا يلغي القديم فيه الجديد ولا يتجاوزه ولا يفوقه، بل يقف بجواره. وأن تمثل الإنجازات المتوالية مُتصلًا صاعدًا يقترب دومًا من الصواب، متجاوزًا مثالب الوضع السابق أو مواطن كذبه، وباحثًا عن مثالب أخرى في وضعه الجديد ليتجاوزها ويقترب من الأصوب، فذلك هو التعبير المنطقي عما يعرف بمقولة التقدم العلمي، التي هي عينها صلب طبيعة العلم. من هنا … ومن كل صوب وحدب شاع القول إن العلم هو التقدم.
إن التقدمية، وليس العقلانية، هي صلب طبيعة العلم؛ فهذه الأخيرة — أي العقلانية العلمية — تعرضت لتغيرات عاصفة، وظلَّ مفهومها يتبدل مع الانقلابات الثورية وأشكال القطع المعرفي التي شهدها العلم الطبيعي المعاصر، حتى كادت تلك العقلانية العلمية أن تفقد مدلولها المألوف، وينصرف هَمُّ جمع من فلاسفة العلم الطبيعي الآن — خصوصًا بول فييرابند — في محاولة تحديد المفهوم الجديد المعاصر للعقلانية العلمية.
ومهما تصاعد كفاحنا من أجل خصوصيتنا الأيديولوجية، في مواجهة الآخر الغربي، فلا مناص من اعتبار العلوم الطبيعية المعاصرة هي وحدها الآن مقياس التقدم العلمي … ذلك لأنَّ هذه الطبيعة التقدمية الدائمة تجعل مقياس العلم يوجد حيث أعلى درجة من تقدمه، أو بالأحرى من إمكانيات تقدمه المتوالي … وهذه الدرجة في الغرب. العلم الطبيعي في شرق آسيا استمرار لتقدمية العلم الذي قدِّر له أن ينشأ في الغرب، ولئن تفوَّقت شرق آسيا على الحضارة الغربية في بعض أشكال التقانة والأبحاث التي تهدف إلى تطوير التقاني، فإنها حتى هذه اللحظة لم تتفوق عليها في العلم البحت، وإن كان من المتوقع أن يحدث هذا في المستقبل القريب. وسواء حدث أو لم يحدث، فإنَّ العلم الطبيعي دائم التقدم، في الشرق أو الغرب، في الشمال أو في الجنوب، نسق واحد ووحيد.
مرة أخرى وأخيرة نقول إنه لا علاقة له بالخصوصيات الأيديولوجية التي يُمكن أن تتمثل في برامج تطوير التقانة، الأمن القومي، أولوية الاهتمام بين التخصصات العلمية المختلفة … لكن لن تختلف طبيعة الضوء الموجبة/الجسيمة باختلاف الأيديولوجيات. لن تضيف فرنسا للموجات أو تدافع اليابان عن الفوتونات، لن تضيف أيديولوجية الصين إحدى الجسيمات للذرة، ولنْ تحذف عقائد الهند إحدى الترددات الإشعاعية.
(٣) مستقبل الكلام في الطبيعيات المعرفية
إبستمولوجية الطبيعيات، أو الطبيعيات المعرفية، هي أثمن إيجابيات الحضارة الغربية، الإيجابية المستفادة حقًّا منها بكل المعايير المثالية والواقعية والأيديولوجية.
وكما انتهينا في الفصل السابق، أسرف تراثنا الفلسفي — الكلام والحكمة على السواء — في جعل الطبيعيات أنطولوجية، حتى بات القطع المعرفي ضروريًّا لكي نجعلها إبستمولوجية، وتلحق بمسيرة العصر.
فهل يستطيعُ علم الكلام لكي يشق طريقه نحو المستقبل أن يجعل الطبيعيات مُشكلة معرفية، بحيثُ تكون إبستمولوجية الطبيعيات نابعة من تراثنا وليست مجلوبة من الغرب؟
الاجتهاد دائمًا مشرُوعٌ، والمحاولة ممكنة، وما دُمنا في سيرورة حضارتنا بمركزها الوحي/النص فثمة دائمًا خط استمرارية وتواصلية، ولم تكن الطبيعيات الكلامية أنطولوجية إلا لأنَّ الأنطولوجيا شاهد على الغائب، على العقائد الإلهية، وبالمثل جعل الحكماء — كما رأينا — الطبيعيات مُتجهة نحو الإلهيات في دائرة مغلقة؛ وفي كل حال كانت الطبيعيات في نظرية الوجود، كوسيلة معرفية للخوض في قضايا إلهية/عقلية.
والآن، متى بدأ الإعلان الغربي الصريح بتحويل الطبيعيات إلى قضية أو إشكالية إبستمولوجية؟ كما هو معروف، بدأ هذا حين أطلق جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢) صيحته الشهيرة «كتاب الطبيعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات».
فحين كان العلم الطبيعي الحديث يشق أولى خطواته الغضة في القرنين السادس عشر والسابع عشر لم يكن يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم، وتفاصيل الصراع الدامي بينه وبين السلطة المعرفية التي كانت لا تزال في يد رجال الكنيسة معروفة جيدًا، وقد استمد رجالُ الدين سلطانهم المعرفي، فقط لأنَّهم أقدر البشر طرًّا على قراءة وفهم الكتاب المقدس.
أمَّا في قلب التيار العلمي وحتى نهايات القرن السابع عشر، فقد ظلَّت العقيدة الدينية الحارة للعلماء — كما يقول باومر — تساهم في دفع حركة العلم حتى نهايات القرن السابع عشر، خصوصًا وأنَّ هذه المرحلة المبكرة من تاريخ العلم الحديث سادتها فكرة القانون المفروض على الطبيعة من لدن الرب، ولم يبدأ العلم في الجور على الإيمان الديني لعُلماء الطبيعة إلا في القرن التالي، ولم يزعزعه إلا في القرن التاسع عشر، لعل هذا بدوره قد تزعزع هو نفسه مع ثورة العلم المعاصر في القرن العشرين.
فكيف فاتنا الرَّكب إلى كل هذا الحد المزري والموجع؟! وقد كان الأحرى بنا نحن اختصار مَرَاحل من تاريخ العلم الطبيعي انشغل فيها العلم بفض نزاعه مع سلطة الكنيسة والدين؛ فالحضارة الإسلامية لا تعرف أبدًا ذلك الصراع الغربي بينهما الذي استعر أواره في القرن السادس عشر.
وكان العلم الطبيعي في الشرق الإسلامي يسري في إطار حضارة مركزها الوحي، بهديه وتحت رعاية السلطة؛ فالإسلام دين للدنيا والآخرة، للشهادة والغيب، للطبيعة والإنسان، لم ترَ قيمة الإنسانية ما رأته القيم الكاثوليكية الغربية في الطبيعة: مجرد مصدر لكل إثم ودنس وخطيئة، لم يكن البحث في الطبيعة ضد البحث في الدين.
ليس قراءة كتاب الطبيعة في مواجهة قراءة القرآن، لم يكن رجال العلم فريقًا ينازع فريق رجال الدين، بل كان الفقهاء أصوليين وعلماء يضعون نظرية للعلم تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا؛ لأنَّ العلم الديني القديم كان شاملًا لعلم الطبيعة والإنسان، بينما نجد علوم الطبيعة والإنسان في الغرب شاملة للعلم الديني، رأينا الطبيعة عند أسلافنا هي العالم، العلامة الدالة، وليست فقط الطبيعيات المادة المنفصلة عن القيمة كما هو الحال في الغرب، نشأت العلوم الطبيعية في تراثنا من ثنايا التصور القيمي للعالم.
علم التوحيد؛ أي علم الكلام يضم في نفس الوقت الإلهيات والطبيعيات، بدايةً بالطبيعيات. قبل جاليليو وراي وقرنائهما بمئات السنين رأينا أبا الهذيل العلَّاف والنظَّام وابن الهيثم والبيروني وابن سينا وابن رشد … وسائر الأسماء التي سطعت نجومًا لامعة، بل هادية في فضاء الفصلين السابقين، وهي تستدل على وجود الله، وتقرأ حكمته وبديع صنعه في عقلنة الطبيعة واستكناه أغوارها.
كُنَّا الأسبق في الانتقال الجدلي من قراءة الكتاب المقدس إلى قراءة كتاب الطبيعة المجيد، في تعقيل الطبيعة وتطبيع العقل، تعقيلًا وتطبيعًا للوحي، وللاستدلال على وجود الله … زدناه عُمقًا حين انشغلنا بالتقابل بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، لكن ما جدوى الأسبقية التاريخية؟ والعلم الغربي قد جعلهما — أي العقل والطبيعة — صنوين، بينهما يكشف العربي والمسلم المعاصر عن عجز موئس وتخلف مشين في مجرد مواجهة الطبيعة … ما جدواها؟ يمكن أن نبلها ونشرب ماءها إن هي لم تنمُ نموها المشروع لينشأ فكر طبيعي في وعينا الثقافي، وبُعد طبيعي علمي في أيديولوجيتنا.
•••
أجل! تجاوز العلم الطبيعي الحديث تلك المرحلة، ولم يَعُد الآن — إطلاقًا — مجرد قراءة لكتاب الطبيعة.
العلم المعاصر هو ابتداع فروض جريئة تحكم وقائع الطبيعة وتستطيع إخضاعها استطاعة تسير في تقدم غير متناهٍ، لكن كانت تلك المرحلة الكلاسيكية جذعًا متينًا، انبثقت منه الأفنان المعاصرة الريَّانة، لتنمو وتعلو وتشق أجواز الفضاء، حقيقةً ومجازًا.
ورأينا هذا الجذع تمتد له في تربة كلامنا جذورٌ أعمق، حتى جعل أسلافُنا من الطبيعيات دائرة مُغلقة من الإلهيات؛ إنه التوحيد الذي يضم الله والقيمة والعالم والإنسان في كل موحَّد وموحِّد، ها هنا عنصر خصوصيتنا الأيديولوجية والتواصل الذي يستحق الدفاع عن استمراريته، شريطة أن يتقدم الإنسان المسلم بمساهمة في الطبيعيات من حيث هي إشكالية معرفية.
وتلك الجذور العميقة أو الأصول لا تكفي طبعًا لجعل الطبيعيات إبستمولوجية، فهي لم تَحُل بينهم وبين وضعها في نظرية الوجود؛ المطلوب الآن استئنافها بقطع معرفي يضعها في نظرية المعرفة، هذا القطع لن يلغي التواصل. أوَلم نرَ الأقدمين يجعلون الطبيعيات اللطائف، دقيق الكلام الذي هو مجال العقل وحده، مقابل جليل الكلام؛ أي العقائد التي يُفزع فيها إلى كتاب الله؟ [انظر الفصل الثالث: الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس – الطبيعيات … هي العالم الحادث] لا نُريد أكثر من هذا، أن تكون الطبيعيات مجال العقل العلمي وحده.
وإذ يستطيع علم الكلام الجديد أن يفعل هذا، فإنه يقوم بدوره فيما يختص بوضع الطبيعيات في عصر تعملُق العلم الطبيعي، ويكون علم الكلام بهذا قد أدى واجبه وجعل الوحي رسالة يضطلع بها الإنسان. ويشد الكلام أزر العلم الإنساني، لا العلم الإلهي الغني، فينفسح المجال على مصراعيه للاجتهاد الإنساني، ما دمنا نتَحَدَّث في نظرية العلم الذي هو من صنع الإنسان، وليس في نظرية الوجود الذي هو من صنع الله.
المطلوب الآن أن تكون الطبيعيات الإبستمولوجية متوشجة في بنية علم الكلام الجديد بوصفه أيديولوجية حضارة تواصلية، لكنها معاصرة، وناهضة متجهة نحو المستقبل. فكيف يتم هذا بكلمة واحدة، يتم بإبستمولوجية العلم الطبيعي وكيف تتولد عن أيديولوجية الدين.
مرة أخرى نجد خط التواصل في اهتمام المتكلمين المسبق بنظرية العلم، هذه قاعدة منهجية جيدة، بصرف النظر عن موضوع تطبيقها، فقد رأينا اهتمامهم بنظرية العلم، وَسَبْقها على نظرية الوجود، مما يعني أنَّ الوجود موضوع العلم هو المعلوم، وليس البتة مُستقلًّا عن العلم. إنَّ نظرية العلم هي الأساس، ولن يصعب زرع الطبيعيات في تربتها الخصيبة (ولا ندري هل تفيد ميوعة مصطلح العلم هنا أم تضر؟!)
•••
نظرية العلم أو السؤال كيف أعلم أو أعرف؟ لم تظهر في المؤلفات المبكرة التي كانت مجرد عرض لقواعد الإيمان ومبادئ العقيدة، ثم كان ظهورها تطورًا طبيعيًّا للإيمان، وتحويله إلى مستوى النظر بفعل الحوار مع الحضارات المناهضة، فتعامل علم الكلام مع هذه الحضارات بأسلوبها واستعمل مناهجها. في هذا السياق تولدت نظرية العلم وتنامت وتكاملت، فكان أن تأسست تأسيسًا حضاريًّا/أيديولوجيًّا.
لكن بعد أن تأسست أصبحت مقدمة ضرورية لعلم الكلام، سواء من حيث هو تاريخ فرق أو من حيثُ هو بناء لنسق العقائد. بعض المصنفات التي تجمع بين التأريخ والبناء، كالفصل لابن حزم تبدأ بنظرية العلم وتنتهي بها، ويكون العلم تطبيقًا لهذه النظرية.
النظر الإجمالي واجب على الجميع؛ لأنه التصور العام للعالم. أمَّا النظر التفصيلي فيتفاوت من فرد إلى فرد طبقًا لدرجة التفقه والقدرة على النظر. من زاوية الطبيعيات، النظر التفصيلي هو النظر التخصصي، كُلَّما ازداد الوعي اتسعت مساحة النظر التفصيلي، وزاد المتخصصون في العلوم الطبيعية، المطلوب أن يتحول وجوب النظر إلى تكليف شرعي.
رأى الأشاعرة أنَّ ارتباط النظر بالعلم مجرد عادة؛ لأنَّ العلم كسبي إلهي، وليس بفعل النظر، لكن قال المعتزلة: إن النَّظر يؤدي إلى العلم عن طريق التوليد، التوليد مُوجب للعلم إيجاب العلة لمعلولها، لكن الصلة بينهما ليست آلية، بل يتولد العلم عن النظر إذا توافرت شروط التوليد، ويمكنُ أن نجدها في منطق الكشف العلمي الحديث من ضرورة الإلمام بموقف المشكلة المطروحة للبحث … وعناصرها والجهود السابقة، ثم طرح فرض علمي لحلها وفحصه منطقيًّا وتجريبيًّا … إلخ.
اهتمام المتكلمين بالعلم الفطري أو الضروري يعني أن مبدأ العلم مساوق لوجود الإنسان ومطابق لفطرته، ورأوا مادته في المسلمات العقلية والبداهات وأوائل العقول وشهادات الوجدان وتواتر الأخبار ومجرى العادات … كلها تستلزم إنسانًا حيًّا ذا حسٍّ وتجربة وحدس وعقل وتواتر.
في كل هذا نستوعب تراث الأقدمين ونتجاوزه، حيثُ كان العلم في زمانهم مزدهرًا نسبيًّا، لكن بوصفه دائرة من الدوائر التي ترسمت حول الوحي. وتعيين أوليات الإبستمولوجيا الطبيعية في نظرية المعرفة — صدر المقدمات — يمكنُ أن يجعل العلم الطبيعي في عصرنا محورًا وليس مجرد دائرة.
على العموم أصبحت نظرية العلم في آخر صورها نظرية في المنطق. وهذا ما ظهر بوضوح في الفلسفة التي أصبح المنطق فيها بديلًا عن نظرية العلم وسابقًا على الطبيعيات والإلهيات، فهو آلة العلوم كلها تكريسًا لبقاء الطبيعيات في نظرية الوجود، وهذا ما حاولنا قطعه فيما سبق.
لعل الإمام الشيعي المعصوم أو الزعيم … المعلم، أمير الجماعة … كلها بدائل لنظرية العلم أكدت اختفاءها، الذي تفاقم في بعض الحركات السلفية التي برزت أخيرًا، لتبلور خطورة تراجع نظرية العلم، وخطورة تجمد حركية التجديد وتقوقع الموروث على ذاته، حتى يُستطاع إلباس الدين ثوب الإرهاب وترويع الآمنين! ولله في خلقه شئون!
وفي كل هذا، ماذا عسى أن يُفيد علم الكلام الجديد؟ وكيف له أن يتجه إلى المستقبل، إنْ لم ينفُض كل غبار لتراجع الطبيعيات ونظرية العلم وصيرورة التجديد، ويَرْمِ بكل ثقله على تلك العناصر التي تم تعيينها — في نظرية المعرفة — ثم تطويرها، ليتشبَّع وعي المسلم المعاصر بأصوليات المنهج العلمي كأسلوب لمواجهة العالم المعلوم، وليس فقط العالم العلامة، وبأن النظر في العقائد … علم الكلام أو علم التوحيد … يفضي إلى الاضطلاع بإشكاليات الطبيعيات المعرفية، كحق وكواجب وكشرف وكحياة … ومن قبل ومن بعد كتحقيق لرسالة الوحي.
بهذه الخلفية الأيديولوجية يمكن أن ينهض الإنسان العربي المسلم ليلحق بعجلة التاريخ، ويجد لنفسه مكانًا في بانوراما المستقبل.
•••
لو استطاع علم الكلام أن يَفعل هذا لكان حقًّا أيديولوجيا مستقبلية تثبت وجود الإنسان المسلم.
في عصر الفيزياء التيوتونية الكلاسيكية ساد المنهج الاستقرائي، الذي يبدأ من الملاحظة ثم يعممها في فرض واختبار هذا الفرض … ولا حاجة إلى الإنسان المبدع الخلاق، حتى أكد بيكون أنَّ البحث العلمي مُتاح لذوي العقول المتوسطة. انهار المنهج الاستقرائي، وانهارت مُثل الفيزياء الكلاسيكية الآلية الحتمية، بثورة النسبية والكمومية (الكوانتم) في مطالع القرن العشرين، واتضح أنَّ المنهج التجريبي هو المنهج الفرضي الاستنباطي.
وكما يقول فيرنر هيزنبرج — أبو مبدأ اللاتعين الخطير: إنَّ أي نظرية من نظريات العلم الفيزيائي ليست سوى حلقة من السلسلة اللامتناهية لحلقات الحوار بين الإنسان والطبيعة.
ولأن صلب هذه المغامرات وطرفيها الأقصيين المنهج والتقانة ضرورة الآن لكل أيديولوجيا نهضوية مُستقبلية، كانت أولى واجبات علم الكلام المتجه نحو المستقبل أن يفسح لنا الحلبة، ويلقي في روعنا أو في نسيجنا العقائدي، العزائم والجسارة لخوض أمثال هذه المغامرات.
(٤) مسك الختام
كان هذا استيعابًا وتجاوزًا لعلم الكلام القديم، رفضًا جدليًّا لإسرافه في تدمير الطبيعة مُتوهمًا أنَّه يفعل هذا لحساب الله، ولا جُناح عليهم، فقد أملت مرحلتهم التاريخية ضرورة إثبات العقائد الإلهية بأي سعرٍ كان.
في مرحلتنا المعاصرة ينطلق علم الكلام الجديد من العقيدة المثبتة، كمُقدمة تفضي إلى تأكيد وجود الإنسان المسلم، أولًا وقبل كل شيء في العالم الطبيعي الذي يحيا فيه، واستلزم هذا قطعًا معرفيًّا لطبيعيات الأقدمين، كآلية للعقل العلمي الطبيعي (الفيزيوكيماوي) وكتطور مشروع للصيرورة الجدلية.
إثبات وجود الإنسان العربي المسلم في حضارة اليوم والغد، واستخلافه في الأرض في النماء والعمران … هو الهدف المحوري الذي تتآزر من أجله الجهود.
ولما كان العبء في تحقيق هذا على كاهل الكلام بوصفه مناط الأيديولوجيا الإسلامية، كان كل هذا يعني أنَّ الألوهية أفق ضروري لكي يثبت الإنسان المسلم وجوده الحضاري المتميز — لكن المعاصر والمستقبلي — بتأكيد الموقف الطبيعي العلمي.
ومشروعنا هذا لشق طريق مستقبلي للطبيعيات في علم الكلام يبلغ الآن مسك ختامه وسدرة المنتهى؛ حيث يحلِّق حول رُبى الألوهية، وهي بطبيعة الحال محور علم الكلام في الماضي وفي المستقبل على السواء، فطالما اعتبر الفقهاء والمتكلمون أسماء الله الحسنى مُثلًا عُليا كي نتبارى في التحلي بها، مما يفتح أمام الوعي المسلم أفقًا لانهائيًّا، تقدمًا غير متناهٍ، مشروعًا لا يقبل الإنجاز النهائي أبدًا.
وهل من حلبة لتحقيق مثل هذا التقدم، للتباري في التحلي بالمُثل العليا التي تتمثل في الأسماء الحسنى، أكثر شرعية ومشروعية وأصولية من حلبة العلوم الطبيعية.
فكما تناثر في سياق الحديث السالف: العلم علم، والله العليم … العلم حياة والله الحي … العلم ذروةٌ من ذرى تطور الحكمة، والله الحكيم … العلم خبرة، والله الخبير … العلم فارس الحلبة في عالم الشهادة، والله الشهيد … العلم تبديد لظلمات الجهل، والله النور … العلم قدرة، والله القادر المقتدر القدير … العلم هيمنة على الطبيعة، والله المهيمن … العلم جبروت، والله الجبار … العلم إبداع وخلق لنظريات تفسيرية، والله البديع الخالق البارئ المصور … ولاختبار تلك النظريات أسرف العلم في الأجهزة المعملية التي تراقب ما لا يُبصر، وترصد ما لا يُسمع، وتحصي ما لا يُعد، والله السميع البصير الرقيب الحسيب المحصي …
ثم يتمخض العلم عن تقاناته، وهي ضرورية لتحقيق الأمن الغذائي، والله المُقيت الرزاق المنعم … ولإبراء المرضى، والله الشافي … إنها رحمة بالمجذومين والمصروعين والمعتوهين، والله الرحمن الرحيم … كل التقانات السلمية خلاص ومغفرة وتوبة من القحط والجوع والضعف والمرض والعجز والألم والسأم، والله العفو الرءوف المحسن الغفور الغفار التواب … وبالمثل تخلق تقانات العلم قوة عسكرية، والله القوي … قادرة على الرَّدع وتأمين الحدود للعيش في سلم، والله السلام … على الفتك بالأعداء، والله المنتقم … ليس فقط السلاح النووي؛ إذ يخلق العلم في يد أربابه أشكالًا جمة، كالإعلام، الإنتاج بالجملة، تخليق المواد الأولية … إلخ، للانتقام والسحق وإلحاق الأذى والضرر بالخصوم؛ حفاظًا على المصلحة والعزة القومية والتفوق الأيديولوجي … ويا ويل الخصم الأيديولوجي إن كان مجردًا من العلم، عاجزًا عن دفع الضر والأذى بمثله أو أقوى منه، ليس أمامه إلا الذل والهوان والتبعية، والله العزيز الغني المغني القاهر، الضار النافع المعز المذل الخافض الرافع القابض الباسط … المؤخر … المقدم.
حلَّق العلم الطبيعي في رُبى التحلي بأسماء الله الحسنى كمُثل عليا، وقد حثَّ الفقهاء على التباري في هذا … ولكن العلم هو الذي أحرز في المباراة هاتيك الذرى السوامق التي لم يدانِها أي متبارٍ سواه. هذا لأن العلم الطبيعي رؤية إنسانية موحدة للطبيعة، تطرح الموضوع بالطريقة التي يتفق عليها جميع راصديه … إنه التوحيد الحقيقي، المفضي توًّا إلى التوحيد الشامل صلب عقيدة الإسلام.
فكيف بالله يتوانى الإنسان المسلم عن رفع هذه الراية المعاصرة الخفاقة للتوحيد/العلم … علم التوحيد … علم الكلام المنطلق نحو المستقبل.
وقارن بين، يمنى الخولي، فلسفة كارل بوبر، ص١٣٠ وما بعدها.