خاتمة

في انتظار الشعب

لقد صار مفهوم «الشعب» من فَرْط استعماله بعد الثورة مفهومًا لزجًا وهشًّا وزئبقيًّا وقابلًا للضرر؛ فكل الأحزاب تتكلم باسم الشعب وباسم أبناء الشعب وباسم كرامة الشعب وباسم مستقبل الشعب، فما الذي يتكلم عنه الجميع بصوتٍ واحد؟ من هو الشعب؟ هل هو الأمة التي تسجُد في بهو المساجد، أم هم المواطنون الذين يرتادون المقاهي، أم هم الفقراء الذين يجوبون الشوارع بجيوبٍ فارغة؟ ثمَّة مَن يحتج باسم الشعب، وثمَّة من يتاجر بجوع المهمَّشين من أبناء الشعب، وثمَّة من يفتخر بالشرعية الشعبية.

ينتمي مفهوم الشعب إلى عائلةٍ لغويةٍ واسعة هي عائلة أشكال الجماعة البشرية التي تحتضن قومًا أو عِرقًا أو ملةً أو مجتمعًا أو وطنًا، بوصفها أشكالًا من الوجود معًا ومن الاشتراك في العالم. ويتضمَّن مفهوم الشعب دلالةً مزدوجة؛ فالشعب هو من جهة السواد الأعظم من الناس، وهو من جهة أخرى يعني الوحدة والسيادة معًا. وليس من باب المجَّانية اللغوية أن يتفق السجل الواسع المُتاح لنا في اللغة العربية على الدلالة السلبية لعبارات الرعاع والرعية والعوام والعامة والدهماء والسواد الأعظم من الشعب، وهي عباراتٌ تدُل على العدد الكبير من جهة، وعلى الفقر المدقع من جهةٍ ثانية، وعلى الجهل المنبوذ من جهة ثالثة، إلى حد تمسُّك حجة الإسلام «الغزالي» بضرورة «إلجام العوام عن علم الكلام».

غير أن ارتباط مفهوم الشعب بالفقر والجهل، وبالحرمان من ألقاب النبل والشرف، إنما هو مُتأصل منذ البداية لدى اليونان القدامى؛ حيث يقع حرمان الفقراء من الحياة السياسية لأنهم يعملون، في حين ينفرد الأغنياء بالسياسة والتفكير؛ لأنهم النبلاء والأسياد. وذلك يعني أن الدلالة السلبية لعبارة الشعب إنما هي إرث من عصر العبودية سوف تتحرر منه الإنسانية مع التصور الحديث للإنسان. مع جون جاك روسو سوف نعثر على أول تعريفٍ حديث لمفهوم الشعب؛ حيث يعلن روسو على ضرورة التعاقد كشرطٍ جوهري لبناء المجتمع، هل أن العَقْد الاجتماعي هو الذي يخترع الشعوب أم أن الشعب مُعطًى تاريخي يُوجَد بشكلٍ سابق عن عملية التعاقد؟ هل نحن شعوب لأننا نملك هُوية، أم أننا لن نكون شعبًا الا عَبْر دولةٍ مدنيةٍ حرة، هل نحن شعبٌ بالهُوية أم بالحرية؟

هل سيصير شعبنا شعبًا بالمعنى الحديث للكلمة؟ هل نحن مواطنون؛ لأن المواطن لا يُحرم من حقه في التظاهر والاحتجاج، والمواطن لا يُغتصب في مراكز البوليس، والمواطن لا يُستبلَه في مقرات الأحزاب الكرتونية، والمواطن لا يعاني من أي شكلٍ من الوصاية الدينية أو السياسية أو الأخلاقية. والمواطن لا يُضرب بالرش المصنوع لضرب الحيوانات، ولا يقع الهجوم عليه بالهِراوات، ولا يُهش عليه بعصا الأغنام.

هل سنعبُر بالوطن من الرعايا إلى الشعب الحر أم سنظل نتيه من الرعاع إلى الرعاع، ومن قُطْعان الدولة الأمنية إلى قطعان الطاغوت واللاهوت المضاد للتاريخ الكوني ولطموحات الإنسانية الحالية؟ أسئلة لن يُجيبَ عنها غير أبناء المستقبل. لكن المستقبل قد لا يأتي من الجهة المُناسبة، وقد يُخيب المستقبل انتظاراتنا، وقد يأتينا من الماضي السحيق. وقد يتعطل في الوصول إلينا. وربما تصح قولة أحد المفكِّرين المعاصرين «ليس ثمَّة مستقبل في انتظارنا، بل ثمَّة فحسب الكثير من العمل بالنسبة لكل من يريد ألَّا يموتَ غبيًّا، وتبًّا للمتعبين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥