الفصل الأول

في الاغتيال الهووي (أو القتل ليس وجهة نظر)

منذ اللحظة التي يتم فيها اغتيالٌ سياسي أو ديني أو قومي ما؛ أي القتل عمدًا لخصمٍ انقطع خيطُ التفاوض معه بلا رجعة، تنقلب السياسة إلى جريمة والدولة نفسها إلى متَّهمٍ كبير، غير قادر على التملُّص من إمكانية محاكمته. من نتَّهم حينما يتم قتل الشخص/المواطن باسم موقفٍ سياسي مهما كانت طبيعته؟ ولكن ما الذي جعل هذا الشخص/المواطن يصل إلى هذه الدرجة من البراءة المدنية والهشاشة الشخصية، كي يُقتلَ من دون أي إطارٍ للدفاع عن نفسه؟ إن الدولة الحديثة التي جرَّدَت المواطنين من حمل السلام الشخصي أو الطائفي قد جعلَتهم في موضع الأعزل المثير للشفقة، وذلك لأول مرة في تاريخ الإنسانية. وهو أعزل من نوعٍ جديدٍ تمامًا؛ فهو بقَدْر ما يملك من الحريات الشخصية والحقوق الكونية، هو لا يتوفَّر على أي أداةٍ خاصةٍ للدفاع عن نفسه. هذا هو الثمن الأمني المباشر للعَقْد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة القانونية الحديثة. كل شخصٍ يقبل العيش في كنف دولة القانون الحديثة، التي تفسِّر نفسَها بكونها نتيجةً لعقدٍ اجتماعي حر بين المواطنين، هو في حماية هذه الدولة، التي تحتكر الحق في الاستعمال الشرعي للعنف، ولكن بما أن هذه الحماية لا تتم بشكلٍ مباشر، بل من خلال وسائطَ أمنيةٍ وقضائية وإدارية لا تُحصى، فإنها تصل دائمًا متأخرة. ولا يستفيد منها المواطن الأول الذي يتعرض إلى القتل بل الثاني أو الثالث … إلخ. كل مواطنٍ إذن ليس محميًّا من قِبل الدولة إلا بوصفه عينةً تجريبية عن تجربة إساءةٍ سوف تعمل الدولة على الوقاية منها في المستقبل، لكن من سيستفيد منها هو مواطنٌ أو مواطنون آخرون. لا تحمي الدولةُ أيَّ مواطن بشكلٍ مباشر أبدًا. بل هي حمايةٌ مؤجَّلة دائمًا «للمواطنين الآخرين». تبدو المواطنة عندئذٍ بمثابة درعٍ أخلاقي لحماية الآخرين، بعد أن تكون الإساءة قد حصلَت بعدُ ولا مجال لمنعها. هذه القابلية للتعرُّض للإساءة أو للقتل يشترك فيها جميع المواطنين باعتبارهم سكانًا عُزْلًا في إقليمٍ تحتكر فيه الدولة كل استعمالٍ شرعي للعنف. وهكذا لا يحمي المواطنة غير وعدٍ قانونيٍّ من الدولة بأنها سوف تضمَن عدمَ التمادي في قتل المواطنين الآخرين إلى ما لا نهاية له، بل سوف تتدخل وتضع حدًّا لهذا النوع من العنف العابر للأشخاص، لكن ظهور الحركات الراديكالية مهما كانت مراجعُها قد وضع الدولة الحديثة أمام امتحانٍ غيرِ مسبوقٍ لصلاحية شروط إمكانها؛ ماذا عليها أن تفعل إزاء عنفٍ تحوَّل إلى إرهاب؛ أي إلى استعمالٍ هووي للعنف؟ والعنف السياسي هو إرهاب؛ أي استعمالٌ نسَقي لنوعٍ محدَّد من العنف هو العنف الهووي. وهو عنفٌ هووي لأنه يستمد تبريره الخاص من عقيدةٍ قائمةٍ بنفسها، ولم تعُد قابلة للنقاش. وهو سياسيٌّ لأنه موجَّه ضد خصومٍ سياسيين تحديدًا؛ ولذلك فالعنفُ السياسي مختلفٌ عن التكفير مثلًا، الذي هو ظاهرةٌ أشمل من العنف السياسي؛ لأنه موجَّه ضد أي تفكيرٍ أو أخلاقٍ أو فنونٍ أو نماذجِ عيش، ليس لها مضمونٌ سياسيٌّ مباشر أو صريح بالضرورة.

العنف السياسي كارثةٌ على آداب الدولة في مجتمعٍ ما؛ إذ حين يُصبِح القتل وجهةَ نظرٍ يلجأ إليها مواطنٌ ضدَّ آخر، فذلك لا يعني سوى الاستغناء عن وجود أو ضرورة الدولة نفسها. وكل من يتجرأ على استعمال العنف بشكلٍ هووي؛ أي ضد أشخاصٍ يقع تصنيفهم بكونهم غرباءَ نسَقيين، أو أعداءً نهائيين لأنفسنا أو لنمط أنفسنا الهووية، هو شخصٌ يضع الدولة خارج المدار. وكل وضعٍ للدولة خارج المدار يعني تحديدًا تنشيط حالة الطبيعة واستعادة آلة الحرب كقوةٍ حيوية بلا أي ضماناتٍ مدنية. ذلك ما يقع كلما تم اغتيالُ ناشطٍ سياسي أو حقوقي، باعتباره عدوًّا نهائيًّا لنمط أنفسنا. وذلك ما تم عندما تمَّ اليومَ اغتيال المناضل شكري بلعيد في تونس ما بعد الثورة.

اغتيال شخصٍ ما على الهوية أو على العقيدة أو على الانتماء … إنما يعني تعليقَ سلطة الدولة، وتنصيبَ سلطة فوق الدولة، سلطة تتعالى على كل أنظمة التشريع القائمة والسخرية منها بوصفها عبئًا سلميًّا بلا نجاعة. وعلينا أن نسأل: ما الذي يُقنِع بعض الناس على تبنِّي هذا النوع من الاستعمال الهووي للعنف بوصفه إرهابًا محمودًا؟

يبدو أن أخطر ما يهدِّد أي جماعةٍ مدنية أو قانونية هو إمكانية تنصيب جماعةٍ روحيةٍ أو أخلاقيةٍ فوقها تُنافِسها في التشريع السياسي لوجود الناس. ولأنه «لا يلتقي سيفان في غمدٍ واحد»، فإن نزاعًا نسَقيًّا سوف ينفجر لا محالة بين الجماعتَين، ولكن لأن الجماعتَين الروحية والمدنية تُوجَدان في مساحةٍ بشرية وحتى انفعاليةٍ واحدة، في قلبٍ واحد وعقلٍ واحد في بعض الأحيان، فإن الحرب ليست زلة لسان بين زملاء في المهنة، بل هي استعدادٌ نسَقي لاستعمال العنف ضد عدوٍّ حدودي، لكن الصراع معه يتم دائمًا من الداخل. إن اغتيال شكري بلعيد قد تم في سياق خصومةٍ لاهوتية-سياسية أعادَها إلى الخدمة صعودُ الإسلاميين إلى سُدة الحكم، بعد انتخاباتٍ شرعية أشرف عليها اليسار نفسُه، أو على الأقل فوجٌ كبيرٌ من العلمانيين. إنه اغتيالٌ تَمَّ إذن في جوٍّ من الشرعية والانتقال الديمقراطي. وهذا بالضبط ما يجعله اغتيالًا من نوعٍ خاصٍّ تمامًا. ثمَّة طرفٌ غيرُ راضٍ كُليةً ليس فقط عن نجاح هذا الحزب أو ذاك، بل هو غيرُ راضٍ عن انتهاج درب الانتخابات أو الانتقال الديمقراطي نفسه. إن الطريق إلى الدولة المدنية؛ أي طريق الديمقراطية الذي قَبِل به الإسلاميون الرسميون أو المعتدلون، هو سرُّ المشكلة؛ اختيار هذا الطريق هو المشكل الذي سوف يجعلُ منذ الآن حياةَ أيِّ ناشطٍ حقوقي أو سياسي أو مثقَّف في موضع المُستهدَف. ربما تمَّت الاستهانة بشرعية المشي في هذه الطريق، طريق الدولة المدنية؛ فالمرء يشعر بأن الحركات الراديكالية؛ أي تلك التي لا تؤمن بشرعية الانتخابات أصلًا، ولا هي تقبل بانتهاجِ طريقِ الديمقراطية لرسم ملامحِ دستور المستقبل للشعوب التي ننتمي إليها، في الأزمنة الحديثة، هذه الحركات لم تُدرس إلى حدِّ الآن من زاوية النقاش الجذري معها، بل ظلت تُعامل من خارجِ منطقها بمجرَّد آلة النقد الحديثة. والحال أن الأَولى هو خوضُ مناظرةٍ فقهيةٍ وكلاميةٍ داخليةٍ معها لامتحانها من الداخل في ضوء الاستحقاقات الأخلاقية والسياسية للحياة الحديثة. وكلما تمَّ تأجيلُ هذا النوع من المناظرة الموجبة والتأصيلية ظلَّت هذه الحركات معصومةً من الخطأ (اللاهوتي-السياسي في الشرعيات) في عيون مريديها، في سِنٍّ عمرية أو عقدية لا يتوفَّرون فيها على مناعةٍ وجوديةٍ أو أخلاقيةٍ كافيةٍ للدفاع عن أنفسهم.

من السهل اتهامُ الدين بما هو كذلك، وتقديمُه كشمَّاعة لتعليق إخفاقات النُّخْبة السياسية عليها؛ فالفشل في تحقيق أهداف الثورة للنُّخب الموجودة في الحكم أو في المعارضة ليس مشكلًا دينيًّا، بل سياسي. ولو كانت هذه النُّخب قد نجحَت في نقل الدولة نحو الديمقراطية لكانت قطعَت الطريق على كل الحركات الراديكالية التي تتربَّص أصلًا بالدولة المدنية، وتعاملها كجريمةٍ أخلاقيةٍ ضد الدين.

وعلى الرغم من أن الاغتيال السياسي هو استعمالٌ هووي للعنف فإن ظاهرة الاغتيال قديمةٌ جدًّا، ولا وطن أو دين لها. لقد اغتيل الخلفاء عمر وعثمان وعلي، كما اغتيل الشعراء والفنانون والمفكرون، اغتيل تروتسكي وحسن البنا ومارن لوثر كنغ وفرحات حشاد، وأحمد ياسين وكمال جنبلاط وغسان كنفاني، لا فرق بين القتلى ليس فقط لحظة الاغتيال بل في رمزية الموت. إن الأمر يتعلق بتصفيةٍ اقتصادية للخصم؛ إذ بدلًا من منازلة أو محاربة شريفة أو تقليدية، يتمُّ اللجوء إلى التصفية البشرية كاقتصادٍ في الصراع؛ أي استعمال هشاشة الشخص الإنساني كعامل تفوُّقٍ عليه. ولا يتمُّ ذلك إلا عندما يقع رفع الحصانة الأخلاقية على حرمة الجسد الإنساني بعامة.

حين يُقتل الشخص وهو أعزل أو في حالة السلم فهذا يعني قتلَه في لحظة الهشاشة البشرية لجسده. وذلك يعني بعد التخلي عن أدب احترام الحقوق الأخلاقية الدنيا للشخص بما هو كذلك، ومعاملته في لحظة السلم كما لو كان في لحظة الحرب؛ ولذلك فالاغتيال هو عملٌ جبان دائمًا؛ أي يُستعمَل حالة السلم أو لحظة البراءة أو لحظة العزلة من السلام، باعتبارها نقطةَ ضعفٍ بالمعنى الأمني أو العسكري. إنها عملية ابتزازٍ للجسد البشري باستعمال براءته أو هشاشته ضده. وهكذا فما يعتبره المواطن الحديث مكسبًا قانونيًّا وأخلاقيًّا — أي عدم حمل السلام الشخصي وإيكال مهمة حمايته إلى الدولة — إنما يتم استخدامه ضده لنقطة ضعفٍ مركزية ولا علاج لها؛ ولذلك نفهم سببَ حرصِ بعض المجتمعات على الاحتفاظ بالسلاح الشخصي التقليدي للدفاع عن النفس، ولو أن ذلك قد تحوَّل في غالب الأحيان إلى زيٍّ فلكلوري أو علامةٍ وطنية، وليس سلاحًا. يبدو إذن أن وجود الحركات الراديكالية التي تتجرأ على استعمال العنف الهووي ضد الخصوم المحدَثين أو العلمانيين، وخاصةً استعمال القتل كوجهة نظر في النقاش العمومي أو في حل المشاكل الكبرى لمصير شعبٍ ما، هو نتيجةٌ مباشرة لحالة العزلة أو البراءة أو حالة عدم حمل السلاح التي تشترطُها الدولة الحديثة على مواطنيها؛ إذْ لا يُقتل غيلةً اليوم إلا المواطن الأعزل. أما المحارب فلا يُقتل إلا حربًا. وحرب المحارب دون علمه هو خدعة أو خديعة، وليس اغتيالًا. فما هو الحل؟

هل علينا أن نتسلَّح مثل كل الراديكاليين الذين لا يؤمنون بالمواطنة ولا بآداب الدولة المدنية؟ أم علينا أن نتمسَّك أكثر من أي وقتٍ مضى بأخلاق النقاش العمومي وبضرورة تعليم الناشئة مزيد الالتزام الأخلاقي بدولة القانون والمؤسسات القوية؟ لن نستطيع الاستغناء عن الحاجة إلى حملِ السلاحِ ضد المتطرفين والغُلاة إلا إذا كانت الدولة قويةً وقادرةً على تأمين حمايةٍ جمهوريةٍ لمواطنيها. ما عدا ذلك سوف يُضطَر الناس في النهاية إلى الدفاع عن أنفسهم، والدخول في حربٍ أهلية؛ ولذلك فإن التمسك بالحل الثاني ليس نقطةَ ضعفٍ أخلاقية أو وجودية للمواطن الحديث، بل هو اختيار الدولة المدنية بما هي كذلك. وهو اختيارٌ عنصر القوة فيه هو كونُه الاختيار الذي اعتمدَتْه الإنسانية الحديثة واقترحَتْه على باقي الثقافات. وليس مجهولًا أن ثقافتنا العربية الإسلامية قد سبق لها أن قدَّمَت نموذجًا عن الدولة العامة وأمثلةً لا تُحصى عن أشكال العيش المدني في كنَف الدولة السلطانية القوية ليس فقط للمسلمين، بل لكل الأصناف من أهل الذمة.

ولذلك كل من يلجأ إلى الاغتيال السياسي كوجهة نظر من أجل إفحام الخصم هو شخصٌ يفترض أن ثقافتنا السياسية الكلاسيكية؛ أي أن السياسة الشرعية للمسلمين التاريخيين، لا تمتلك وسائل النقاش الشرعي حول المشاكل السياسية. وبما أن ذلك غيرُ صحيحٍ فهذا يعني أن اللجوء إلى الاغتيال ليس سلوكًا إسلاميًّا بالضرورة، بل هو علامةٌ على فشلٍ في التأقلم داخل العوائل السياسية الحديثة، بما فيها تلك التي تعتمد مصادر التشريع الإسلامي كعنصرِ استلهامٍ أساسي.

ولأن الإسلام هو أفقٌ أخلاقي للجميع في ثقافتنا وليس حكرًا على طرفٍ دون غيره، فإنه من الرائع فعلًا هو مواصلة تسمية المقتول شهيدًا من طرف الجميع؛ إسلاميين وعلمانيين. وليس في ذلك أية مناورةٍ سياسية في الخطاب. فعلًا ليس ثمَّة في معجمنا الأخلاقي العميق أفضل من اسم الشهيد للإشارة إلى المقتول غيلةً من أجل أفكاره أو معتقده أو هُويته. وكان الأَولى أن يكون المنتمون إلى «الإسلامية» كصفةٍ حصرية لنموذج أنفسهم أن يكونوا قدوةً أخلاقيةً كونية لرفقائهم، وليس خطرًا هوويًّا مُحْدِقًا يبلغ حدَّ التصفية الجسدية لأشخاصهم. ربما كان القاتل الهووي يتمثل بمثل سلف من أسلافنا في الجهاد ضد المشركين أو الكفار، ولكن أين وُجد هؤلاء؟ هل سقط العصر الوثني علينا دون أن نشعر؟ هل انزلق روح العالم في «دار الإسلام» فسقط من أعلى الأزمنة الحديثة في هاوية القرون الوسطى دون أن نعلم؟ من أفتى لهذا الشباب اللاهوتي بقتل مسلمٍ آخر من دون أي تحفُّظٍ عقدي أو شرعي أو كلامي؟ من أين استمد أئمة الاغتيال فتواهم بقتل إخوتهم في الدين واللغة والأمة والانتماء والمذهب بهذه الراحة الأخلاقية وبهذه الثقة الدينية؟ أي نوعٍ من الفقه يمكن أن يشرِّع لهذا الكم الهائل من العداوة الجذرية، وأية عقيدة تسوِّغ هذا الحجمَ الفظيعَ من الكراهية الهووية؟ هل لدينا آخرُ لاهوتي بين ظهرانَينا دون أن نعلم؟ ومن استطاع أن يُعيد تصنيفَنا أو ترتيبَ قلوبنا وضمائرنا من الداخل بكل هذا الحذق الفقهي أو المهارة الكلامية؟

قد يُقال: «الفتنة أشد من القتل.» لكن الفتنة الحديثة ليست دينيةً في شيء. بل هي خلافٌ حيوي بين الشركاء في الوطن. في أفق الإنسانية الحالية لا وجود لفتنةٍ دينية. نحن ننتمي إلى مجتمعات ما بعد دينية ونرجو أن تكون أيضًا ما بعد علمانية؛ أي قادرة على توفير إطار ترجمةٍ معياريةٍ متبادلة بين المعجم الديني والمعجم المدني، ينتهي إلى تواصلٍ أخلاقي-سياسي كوني. وهذا مكسبٌ حقَّقَت منه الإنسانية جزءً كبيرا.

ولذلك فإن القتل هو الطريقة التي يستقيل فيها العقل في ثقافةٍ ما، ويُلقي بشعبٍ من الشعوب في الماضي البربري للإنسانية. القتل ليس وجهة نظر لأحد. بل هو سياسة السكوت الأكثر فظاعة في تاريخ النوع. ولأن الكلام الحر يصبح بمثابة الكفر، فإن القتل الهووي يعني: ما لا يمكن سماعُه ينبغي قتلُه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥