الفصل الثاني

الرهطيون

شريحةٌ جديدة من «الأرهاط» البشرية ظهرَت بعد «ثورات» الفقراء في العالم العربي. وهي شريحةٌ يُمكِن الإشارة إليها بعبارةٍ يلهج بها كل واقف على أو تحت أو خلف منبرٍ حكومي، ألا وهي عبارة «الحكام المؤقتين». وكنا نودُّ أن نقول بدلًا عن ذلك «الانتقاليين»، لكنهم لم يساعدونا على ذلك. وفضَّلنا الكلام عن «الرهط» دون تدقيقٍ آخر؛ لأننا ظننا بادئ الأمر أن الرهط لفظ لا يعني أكثر من الكثرة البشرية؛ قيل: الرهط ما دون العشرة وقيل إلى الأربعين من الرجال، لا يكون فيهم امرأة. إلا أننا اكتشفنا، كما يقع دومًا مع عشَّاق لغة الضاد، أنه قيل أيضًا: الرهط جلد، قَدْر ما بين الركبة والسرة، تلبسه الحائض، وكانوا في الجاهلية يطوفون عُراةً والنساء في أرهاط. والرهط أيضًا جلد يُقدُّ سُيورًا عرضُ السير أربع أصابع أو شبر تلبسه الجارية الصغيرة قبل أن تدرك. وأن «الترهيط» عِظَم اللقم وشدة الأكل والدهورة. و«الراهطاء» من حجرة اليربوع وهي أول حفيرةٍ يحتفرها … إلخ. والأفضل من كل ذلك وجودُ أن النسبة إليه «رَهْطي»؛ ومن ثَم علينا إقامة البحث عن نسبة هؤلاء «الرهطيين» وعن أصلهم وفصلهم. ليس الرهط إذن مجرد عدد، ما دام القائل يحرص على هذا التقييد: «لا تكون فيهم امرأة». ما مغزى هذا الإقصاء للمرأة من دلالة «الرهط»؟ لكن التساؤل لن يطول بنا: إن المرأة لا يتم استبعادُها من دلالة الرهط إلا لأنها كانت هناك من قبلُ. إن الرهط هو جلدٌ تلبسه الحائض أو الجارية، وخاصةً حين يطوفُ الرجال عراة في جاهليتهم. الرهط هو الفاصل «الجندري» أو الأخلاقي بين الذكر والأنثى في اللغة الدينية للجاهلية. الرهط هو فاصلٌ جندري بين طواف الرجال عُراة وطواف النساء في أرهاط؛ إذ إن الرهط هو ما يحجُب السوأة فحسب. كيف نفهم الآن حديثنا عن الأرهاط البشرية التي ظهرَت بعد الثورة؟ كشفَت الثورات عن فضيحةٍ ما؛ أن عهد الحرية لم يبدأ مع إعلانات الاستقلال الوطني، في أواسط القرن الماضي، بل فقط منذ ربيعَين، مع طرد الحاكم الهووي لدول الاستقلال الشكلي، لأنها أخفقَت في بناء الدولة المدنية، بل أدت إلى تأجيل معضلات التحديث الوجودي والقانوني لنموذج العيش في أفق شعوبنا، وذلك بتنصيبِ جهازِ حكمٍ قائم على عقدٍ أمني، وليس على عقدٍ اجتماعي. وحين فرَّ الحاكم الهووي للدولة الحديثة أصبح الطريق إلى بناء دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطية مفتوحًا.

لكن الفضيحة لم تدُم طويلًا أمام أنظارنا؛ إذ سرعان ما تمَّ تحويل وجهة الثورة إلى استحقاقاتٍ هووية ليس فقط كانت منافسة للهوية الحديثة، بل تنتمي إلى ماضيها الميتافيزيقي؛ فقبل الدولة الحديثة، كانت الملة؛ أي الجماعة الروحية التي نجحَت في ترجمة العقيدة إلى شريعة، وإنتاج فضاءٍ حيوي للعصبية تحت عنوانٍ ديني. إن الرهطيين اليوم — أي الهوويين الجدد — هم من استولى على جهاز الثورة، وحوَّل وجهته إلى الاستحقاقات الهووية للملة ليس كأمة انتماءٍ صحي للأجيال، بل كمجرد أفقٍ روحي هلامي وطاقةٍ تشكيليةٍ فظيعة للعنف التكفيري. وبما أن مدة الملة قد ولَّت، كما أرَّخ لذلك ابن خلدون جيدًا، فإن إعادة تنشيط الجهاز الهووي للملة كخطةٍ سياسية «لا-حديثة» (أي لا-دستورية ولا قانونية) لتحقيق أهداف الثورة الحيوية لفقراء الدولة/الأمة الحديثة، هو اعتداءٌ أخلاقي على البراءة التاريخية لهذه الشعوب، وإعادتها إلى عقلية الاستبداد الشرقي من الباب الكبير؛ فمهما كانت النوايا العقدية طيبة، ومهما كان الحُلم النرجسي للمسلمين رائعًا، فإن استعماله كجهازٍ دعوي — من طرف الإسلامويين في مصر وتونس — هو خطأٌ تاريخيٌّ لعلماء أو مثقَّفي هذا العصر من أهل جلدتنا.

كان الأَولى بهم هو ترك هذه الشعوب تُكمِل ما بدأَت فيه؛ طرد كل بقايا وكل رواسب الحاكم الهووي للدولة/الأمة الحديثة، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، بعيدًا عن أي استحقاقاتٍ هوويةٍ عميقةٍ عاجلة. وهكذا علينا أن نميِّز في كل نقاشٍ عمومي حول أنفسنا الجديدة بين «مَن» يناصر الشعوب في حُلمها التحرُّري دون أن يفرض عليها أي برنامجٍ هوويٍّ مسبق، وبين «مَن» يستثمر في الغموض الروحي للمرحلة، ويستغل ارتباك فكرة الحرية في أفق هذه الشعوب، وذلك بصَب الزيت الهووي على جراحها الحيوية، جريًا وراء مكاسبَ عقدية أو «سلفانية» زائفة. هذا الصنف الثاني هو من قبيل شهود الزور ما بعد التاريخيين على ما يقع لفكرة الحرية في أفق هذه الثقافة العظيمة. هؤلاء هم من أنعَتُهم بنعت «الرهطيين». وليس أي طرفٍ آخر. الرهطي هو النمطُ البشري الذي يظهر على ركح الأحداث، وليس له من ورقة توتٍ يُخفي بها سَوءَته الحديثة، كي يُقبَل منه هذا التجديفُ الروحي على الذوق العام، سوى أنه «مؤقت»، وأن طرده سوف يكلِّفنا من الجهد والإزعاج العمومي أكثر من مئونة السكوت الانتقالي عنه.

ودون أن يحتسبَ ذلك أحد، تحوَّلَت الحياة اليومية لشعوب الربيع العربي إلى مسرحٍ للرهطيين، لا يملُّ من عرضِ سجالاتٍ عقدية مزيفة حول أنفسنا الجديدة. و«الرهطيون» هم مثقَّفون وسياسيون (وليسوا ساسةً لأحد) وأقلامٌ وأصواتٌ وفنانون وأشباه مفكِّرين، وجدوا مسرح الدولة فارغًا فدخلوه، وأخذوا يوزِّعون الشعب على أدوارٍ وهميةٍ مؤقَّتة مناسبة، كلٌّ حسب ملكاته الانتقالية. رحم الله أبا هريرة المسعدي: إنها، بالفعل، تجربة العدد وحديث العدد. لكنَّ الرهطيين يُصرُّون على إقناعنا، نحن المتفرجين على ما بقي من مصادر أنفسنا وهي تُنهَب باسم اللاهوت الافتراضي، بأنهم ليسوا عددًا فقط، بل يشكِّلون «أغلبية» انتخابية غير مسبوقة؛ لأنها متأتية من صناديق الاقتراع وبالتالي هي صوت الشرعية. أجل، كل ذلك صحيح. لكن الصحيح ليس حقيقيًّا. كما قال هيدغر ذات مرة. فما هو صحيحٌ بوسائلَ «حديثة»، كيف يكون صحيحًا في عُرف من ينقد الحداثة بوصفها خصمًا هوويًّا لنا ولمصادر أنفسنا؟

ثمَّة تجارةٌ إيبستيمولوجية في كل خطاب «لا-حديث» (هووي) عن الحداثة، تقوم على استعمال الحداثة السياسية التي تحقَّقَت على أيدي شعوب الغرب، استعمالًا هوويًّا، نعني، ليس باعتبارها غايةً مدنيةً كونيةً للإنسانية جمعاء، بل بوصفها مجرد جهاز أو أداة أو مرحلة أو مبضع، يمكن استيراده واستهلاكه، فقط درءًا للشبهات الديمقراطية للمعاصرين. قد يقول قائل، عن حق: إن الخلفية الأخلاقية هنا هي أن تراثنا العربي الإسلامي يمتلك كل القيم والمعايير اللازمة لتطوير «حداثة سياسية» منافسة أو موازية للحداثة الغربية. ولكن على الرغم من وجاهة هذا الافتراض الرائع، فإن دعاته — في الصيغة الحالية لعقولهم وأنفسهم وتجارب المعنى التي خاضوها — غير مؤهَّلين تمامًا لتحمُّل المسئولية التاريخية عن هذه الدعوى؛ فهم لم يفعلوا إلى حدِّ الآن غير توفير الأرضية التاريخية والتبرير الأخلاقي العميق للحاجة السياسية إلى العنف الكبير. العنف السياسي كاستعمالٍ هوويٍّ لقوة التدمير الحيوي للبشر بعامة. وليس أكثر إيلامًا من منظر جامعيين أو «علماء» يتحوَّلون إلى رهطيين؛ أي إلى أصواتٍ حكومية بلا أي توقيعٍ شخصي. ما أكثر المسئولين عنا، بدون أي مسئوليةٍ أخلاقيةٍ أمام الإنسانية، نعني أمام المكاسب الوجودية والنفسية والمدنية للشخص الإنساني في عصرنا. «المسئول» الرهطي هو الذي قَبل من الحكومة القائمة أن يبرِّر كل أخطائها، ولو كلَّفه ذلك أن يضحِّي بكل مكاسب الإنسانية، وأن يبخسَها باعتبارها مجرد ظواهرَ ثقافيةٍ خاصة بشعوبٍ أخرى، وليس مكسبًا كونيًّا للإنسان بما هو إنسان. وفجأةً ترى أن فكرة الحداثة قد باتت تهمةً رهطيةً تصبغ وجودك العمومي بصبغة العمالة الأخلاقية أو الميتافيزيقية لجهةٍ أخرى من العالم. والحال أن هذا التخرُّص على الحداثة ومنجزاتها هو أيسر الطرق للتملص من استحقاقاتها الإنسانية. إن ما تم التقليص منه اليوم بواسطة الذاكرة الدعوية للدين ليس شيئًا بسيطًا؛ إنه الإنسان. ثوراتٌ أدت من حيث لا تدري إلى التقليص من مساحة الإنسانية في وعينا. يظهَر الرهطيون من أجل إقناعنا بأن علوم الغرب مجرد إرادةِ هيمنةٍ علينا (!) أو أن التقدم لا علاقة له بالتكنولوجيا (!) أو أن حقوق الإنسان ليست كونية (!) أو أن الدولة ليست مدنيةً بالضرورة (!) أو أن المساواة بين الجنسَين هي تقليعةٌ غربية (!) أو أن الثورة قضاءٌ وقدَر (!) أو أن هويِّتنا الشخصية هي هذا الدين وهذا المذهب بالذات (!) … إلخ.

ولكن هل تحتاج شعوبُنا حقًّا إلى استعمال كل هذا العنف على نفسها من أجل استحقاقاتٍ هووية؟ أليس من الترف الديني أن تدخل الفئة العالمة من ثقافتنا الحالية في سجالاتٍ هووية ليس لها أي فائدةٍ مدنية أو حيوية لأطفالنا في المستقبل؟

علينا أن نقبل بأن الإنسانية لا تقفل مرحلةً من مراحل تطوُّر فكرة الحرية في أفق الشعوب ثم تعود إلى فتحها متى تشاء. لا يمكن لأي شعب أن يعيش تاريخه خارج أفق الإنسانية. وما هو «كوني» هو هذا؛ أن عالمك الخاص ليس ملكًا لك، بل هو لغةٌ لتكلم لغة الإنسانية في عصرك. وليس «الإسلام» غير لغةٍ فقط، لغةٍ عالمية، نجحَت في ترجمة نفسها في عصر الإنسانية الذي خرجَت منه الأزمنة الحديثة. ربما كان الإسلام أروع إنجازٍ لغوي في تاريخ الشرق؛ لغة للعالم من دون أي انتماءٍ آخر؛ ولذلك لا معنى لأي محاولة لفك الارتباط التاريخي مع الحداثة، لمجرد أن جيلًا من الناس، يعاني من صعوبةٍ في التأقلم الأخلاقي مع الذات الحديثة، قد قرَّر ذلك وجنَّد له كل ما يملكه من وسائلَ هوويةٍ ميتة. ليس الإسلام (في فكرة الحرية التي تحرِّكه، وليس في البضاعة الدعوية له) غير صيغةٍ تاريخية من صِيَغ فكرة الحداثة؛ أي من فكرة الحرية القائمة على التغيير الذاتي للإنسان بوصفه شخصًا «فقهيًّا» أي قانونيًّا؛ فليس «الفقه» غير فلسفة القانون المتاحة في أفق الملة. ولذلك فإن انتقال المسلمين من أفق الملة إلى أفق الدولة الحديثة لا يجب أن يُزعِجَ مصادر أنفسنا العميقة في شيء. علينا فقط أن نثقَ في قدرة شعوبنا على تغيير ما بنفسها، بنفسها، وليس بالانصياع إلى أي أوامرَ عقديةٍ من «أولي الأمر»؛ ففي أفق التحديث الذي قطعَت فيه هذه الشعوب أطوارًا كبيرة، لم يعُد ثمَّة شيء اسمه «أولو الأمر». هذا الجهاز اللاهوتي-السياسي للملة لم يعُد ممكنًا في أفق المواطنة الحديثة. لم يبقَ أمام شعوبنا غير الدخول في تمارينَ واسعة النطاق في العدالة الانتقالية؛ أن تحاسب نفسها كجملةٍ أخلاقيةٍ واحدة، وليس كفرقٍ متناحرة، لن يخرج منها خاسرًا إلا دولة القانون نفسها. على الجميع أن يقبل بأنه انتقالي وليس مؤقتًا. أنه جزء من صيرورةٍ أكبر منه، وليس مسئولًا عن معنى ما سيقع في المرحلة المقبلة. لا أحد يمكنه أن يشرِّع لحرية لا تزال قيد الإنشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥