في المُواطَنة المُشِطَّة
كثيرًا ما يدور الكلام على «المهمَّشين» وكأنهم من كوكبٍ آخر. والحال أن الهامش ليس هامشيًّا إلى هذا الحد؛ إنه مركزي تمامًا على طريقته. فهل أرَّخنا جيدًا يومًا ما لفكرة «الهامش» في ثقافتنا العميقة أو في أفق أنفسنا الحديثة؟ ما زال شطرٌ واسعٌ من مثقَّفي العلَف الإيبستيمولوجي ودعاة العصائد اللاهوتية في دول الحد الأدنى من الانتماء، يعتاشون على الثنائيات والإمِّيَّات الميِّتة والمتوارَثة من جيلٍ عقليٍّ ميت إلى آخر، والمتبادلة بين الفرقاء الرسميين بشكلٍ سفليٍّ واسع النطاق. وكل جيلٍ له إمِّيَّاته؛ تقدمي/رجعي، ليبرالي/شيوعي، يميني/يساري، والآن إسلامي/علماني، إسلامي/حداثوي، ولكن كلما حدَّقتَ بحثًا عن مركزٍ للإنسانية في أنفسنا الجديدة، يدور حوله النقاش الذاتي في أوطاننا، وجدتَ مكانًا قَفْرًا وخواءً. لكن ضياع المركز ليس له عندنا أية دلالةٍ ما بعد ذاتية أو ما بعد حديثة. نحن فقط نعاني من فقر دمٍ ميتافيزيقي؛ حصًى في كُلى العقل، وانسدادٌ في شرايين المستقبل. وعلى الرغم من كل الأعراض التي اجتاحت جسد الدولة والشعب معًا، ما زلنا نُصِر (دون أن نستثنيَ أحدًا) على الإشارة إلى طرفٍ من الأطراف بأنه هو مَن يمثِّل «المهمَّشين»، وطبعًا في مقابل «مركزيين» مفترَضين خارج نطاق السؤال والمساءلة. ولكن، من ذا الذي يحقُّ له أن يُنصِّب نفسه أو مجال عقله «مركزًا» ذاتيًّا لغيره؟ وفي مقابل ماذا؟
في لحظةٍ ما، «بعد» الثورة، صارت فجأة كل غرائز الحرية مذنبة أو غير مرحَّب بها في ساحات الحكومات «البعدية»؛ حكومات «الانتقال» في معنى أنها بلا مكانٍ أخلاقي ولا أفقٍ احتجاجي يخصُّها قد يمكنها الاحتماء به أو الدفاع عنه. وعلى شرعيتها، هي تنقل الناس إلى مستقبلٍ هي لا تملك أية خارطة حول وجهته. بعد ليل الدكتاتورية، دخلَت الشعوب عَنوةً في ظهيرة طويلة الأمد من الانتظار العام إلى حدِّ أن أطيافًا ليست قليلة قد أخذَت تخلطُ بين الانتظار المدني والانتظار الأخروي؛ بين المستقبل والآخرة، بين المواطن و«الساكن» في جوار الوطن.
وأنت مواطن «انتقالي» يا صاح، طالما أنك مستعد لتأجيل نفسك إلى وقت حصاد الأغلبية، وإرجاء غرائز الحرية فيك إلى أمدٍ حكوميٍّ غيرِ معلوم. أما إذا طالبتَ، مثل كل حيوانٍ جريح، بالغذاء والدواء من دون أي أجلٍ مسمًّى أو تفاوضٍ مُسبَق، فأنت سوف تخسر حقوقَ المواطنة دفعةً واحدة وتتحول إلى بقايا بشرية من العهد السابق، أو في أفضل المعاجم إلى مواطنٍ «مُشطِّ». ووجه الشطَط المدني فيه أنه لم يتبيَّن ضروراتِ المرحلة ودقَّتها، ولم يتفهَّم مقتضيات الانتقال «الديمقراطي»، ونعني بذلك حكم الشعب في غيابه وبموافقته.
كلا. أنت «مركزي» يا صاح؛ فأنت قاع الوطن وقرار حجر الوادي وسطح الطريق إلينا. أنت مركز الانتماء إلى هذه الأرض؛ وكل من يتكلم على تلةٍ أعلى من ألمك وصبرك وحلمك، هو دجَّالٌ تاريخي، وغير قادر على زرع وعدٍ واحدٍ في قلبك.
و«المركزيون» هم كل الصامتين في قاع الوطن ينتظرون، كعادتهم العابرة للدول ولأجيال الحيوانات السياسية، ما لم يأتِ بعدُ من جهة الوطن، وكانت غرائز الحرية قد أوشكَت في وقتٍ ما على إلقائه بين أيدينا «الدولة الأخرى».
ولكن هل «الدولة الأخرى» هذه ممكنة أصلًا في أفق هذه الشعوب؟ هل نجحَت في إبطال لعنة الاستعصاء الديمقراطي على جهاز القِيم والمعايير التي تستمد منها مصادر أنفسها؟ ومن هو «السياسي» الذي يستطيع اليوم أن يحتمل حريةً لا يُمكِنه ولا يحقُّ له السيطرة على أحلامها أو التحكُّم في غرائزها حسب منطق الدولة؟ وهل يكفي أن ننعَت هذه الحرية الأخرى، المستحيلة، المُشِطَّة، بأنها غيرُ مفيدة أو هدَّامة أو عدمية أو فوضوية، أو بأنها تتجاوز آداب الدولة الحالية؟
في الواقع علينا أن نعترف بأننا نفتقر إلى مصطلحاتٍ مناسبة لهذا النوع الآخر والأقصى والعصياني والموجب من الحرية؟ نحن لم نرَ إلى حدِّ الآن غير المعنى السالب للحرية؛ تلك التي تستمد إمكانها من سكوت القوانين عنها. لكنَّ ما صارت تشعُر الشعوب أنها حقَّقَته بلا رجعة هو نوعٌ جديد من الحرية؛ حرية موجبة، تريد الذهاب صراحةً إلى أبعدَ من شكل الحكم ومنطق الدولة كما عرفناه إلى حدِّ الآن.
ربما كلما كانت أحلام الحرية بسيطةً ومحضة، كانت شرسةً وعصيةً على التدجين. لكن ذلك لا يسوِّغ لأحدٍ أن يحاكمها من دون أن يمتلك المقام المناسب لفهمها، والأصعب هو عدم الإساءة إليها باسم قوانينَ سُنَّت في عهدٍ سابقٍ مسكوتٍ عنه. مثلًا: أن يخرج أهل سليانة من مدينتهم وتركها للوالي كي يحكمها وحده، ويكون فيها حاكمًا ومحكومًا في آن؛ أو أن يندفع أهل قرقنة باتجاه جزيرة اللمبدوزا في رحلةٍ جماعية خارج الوطن تحت حمايةٍ وطنية؛ ماذا وقع؟ شعبٌ يقرِّر أن يمارس شكلًا موجبًا وغير مسبوق من حرية استعمال الوطن، خارج مساحة الشرعية السائدة.
إن حريةً غيرَ مفهومة هي خطرٌ حقيقي، ولكن ليس على أمن الدولة، بل على قيمة المواطنة التي لا معنى لوجود الدولة من دونها. ما دولةٌ لا مواطن لها؟ أو سرَّحَته باتجاه دولةٍ أخرى؟ لكن ما نلاحظه هو أن المسئولين عن الانتقال الديمقراطي ما بعد الثورة، يتصرَّفون وكأن المواطنة محكوم عليها، بعد تسليم الدولة إلى المنتخَبين الشرعيين، أن تعود إلى المنزل، وسرعان ما تُنسى أو تُدحر قصدًا إلى الصفوف الخلفية وتتحول آخر الأمر إلى عبءٍ أخلاقي على الحاكم الشرعي. كأن الشرعية هي تعليقٌ للمواطنة وتعويضٌ لها بتمثيلية مفارقة؛ ومن ثَم فإن أقلَّ حسٍّ قوي بالمواطنة سوف يظهر في مظهر تصرُّفٍ مشطٍّ وغير مؤدَّب وهامشي تمامًا؛ لأن الدولة ما إن تبدأ عجلتُها في الدوران «الشرعي»، حتى تجد المحكوم النمطي المناسب لها، الراضي على الأوضاع العامة بشكلٍ نسَقي، والذي يوفِّر دليلًا أمنيًّا منهجيًّا على شرعية الحكم وعلى التصرُّف الرشيد للحاكم.
ومع ذلك فإن المحكوم والمواطن شيئان مختلفان إلى حد اللعنة. لا يكفي لأن تجد دولةٌ ما جملةً من «المحكومين» حتى تزعم أن لديها «مواطنين». مثلما أن الدولة ليست مجرد فريقٍ حكومي يلعب ضد الشيطان. بين المحكوم والمواطن، كما بين الدولة والحكومة، هناك مساحة الحرية الأخرى، تلك التي لم يمكن تدجينها بوسائل التطبيع العمومي بواسطة القوانين الأمنية (والموروثة غالبًا عن عهدٍ بائدٍ ما).
تفرَّسوا في وجه الحاكم الهووي الجديد؛ إنه يُخفي فرحةً مريبة وكلبية بما ورثه عن الدكتاتورية التي تحولَت بعد الثورة إلى طبقةٍ سفليةٍ مترسبة تحت جلد الدولة العجوز، بما ورثه من ترسانةٍ سخيةٍ من التشريعات والقوانين الصامتة المناسبة تمامًا لقهر العقول الحرة من داخل خطابها، بأساليبَ شرعية تمامًا؛ ولذلك لا يبذل الحاكم الجديد «ما بعد» الثورة والمتسلح بتراثٍ دكتاتوري صامت من البنود المضادة للحرية تحت عباءة القانون، لا يبذل أي جهدٍ خاص للتملص من المستحقَّات الحيوية والسفلية للثورة، وتحويلها إلى كرنفالِ فقراء بلا وعودٍ تاريخية.
وحذارِ من أي تشكيك في «شرعية» هذا الحاكم الهووي المحروس برطانةٍ لاهوتيةٍ متنكِّرة تحت بسماتٍ ليبراليةٍ معقَّمة أعادت صورة «المستبدِّ المستنير» إلى الخدمة، ولكن في الوقت الضائع للثورة. وكل تشكيكٍ في شرعية مجيء هذا الحاكم الهووي إلى سُدَّة الحكم، سوف يُعرِّضك إلى تهمةٍ ما بعد ثورية أيضًا، ألا وهي «مضادة الثورة»، حتى ولو كنتَ من الذين قاموا بها، ودفَعوا ثمنها حيويًّا في سجون الدولة الأمنية. وكلما جهدتَ للنجاة من حوادث التطبيع الأخلاقي مع هذا الحاكم الجديد، كلما أصابَتْك لعنة المواطنة المُشِطَّة وصرتَ حيوانًا سياسيًّا يُعاني من «مركزية» الهامش.
لكن كرم المواطنة المُشطَّة هو أنها لا تفرِّق بين حر وحر إلا بالتقوى الحيوية؛ لا تميِّز في وقع إضراب الجوع الوحشي على الأجسام البشرية بين سلفي وعلماني؛ الجوع وحشٌ بشريٌّ عاد إلى الخدمة، وهو لا يميِّز بين الأجسام الحرة، ويسخَر من كل فصلٍ أخلاقوي بين أجسادنا؛ فأنت مواطنٌ مُشطٌّ، حين يُقمع صوتُك، ولا يهم إن كان صوتُك صلاةً أو شتيمة؛ فحين يكون الصوت البشري مظلومًا وكظيمًا وصادرًا عن كهف من الآلام الخرساء، التي لم تجد مكانًا لها في المعجم القانوني للدولة الحديثة، فهو مقدَّس وأعلى من كل ترتيباتنا الأخلاقية عن النجاح السياسي والفشل الاقتصادي والتصالح الهووي. وأنت مواطنٌ مُشطٌّ حين تكون مبدعًا أكثر مما تستسيغه الأذن الكسولة والعين الحسيرة والأذواق الترابية والملامس المتخشِّبة. وما أحمقَ دولةً لم تعُد تحتمل حواسَّ مواطنيها، وصارت تضيق ضرعًا بقدرة شعبها على الضحك من آلامه، أو على التهكُّم من حكمته العميقة أو على التمرُّد على أخلاقه ومعتقداته البالية. كل اعتصامٍ أو وقفة احتجاجٍ أو تظاهرٍ أو إضرابٍ أو شعارٍ مناهض أو درعٍ بشري أو مسيرةٍ أو دفاعٍ رمزي، هو ضربٌ من المواطنة المشطَّة.
والمواطن المشطُّ هو الذي لم يعُد يحتمل دولةً من الصمت أو حكومةً من الدمى الشرعية؛ لأن تصوُّره للحرية يفوق مطالب الطاعة الرسمية المأمولة منه. وبعد تنصيب الأغلبيات المريحة، عاد الحاكم الهووي يُعلِّب الوعي العمومي، كعادته، ويستفيد من كسَله النسَقي لإرساء أشكالٍ جديدة من التكريس للسلطة كمخزونِ ترهيبٍ لا ينفَد. وفي مقابل سلطةٍ حيوانيةٍ لم تستقرَّ ماهيتُها القانونيةُ بعدُ، لا يمكِن أن تظهر الحرية الحرة إلا في مظهر مواطنةٍ مُشطَّة وعصيانية. لكن الشطط ليس عنفًا. إنه طاقة حريةٍ سوداء غير قابلةٍ للتدجين التنويري، مهما كان معجمه. لكن ما تراهن عليه كل دولة، سواء قبل أو بعد الثورة، هو مدى نجاحها في تحويل طاقة الحرية الحرة هذه إلى احتفالٍ رسميٍّ واسع النطاق بانسحاب الجمهور من الحلَبة وترك الدولة تُمارِس مسرح «الوان مان شو» دون أي حرجٍ يُذكر.
أجل. لقد صار الإمضاء تحت الدولة مزعجًا مرةً أخرى بشكلٍ لا يُصدق؛ فالدولة لا تُوجَد في مشاعر الناس إلا بقَدْر ما تُقنِعهم بأنهم حقًّا مواطنون؛ أي شركاء في حكم أنفسهم؛ إذ إن المحكوم ليس مواطنًا بالضرورة. ولأنه لا يمكِن لأحدٍ أن يتحرر أكثر من جسده، فإنه لا ينبغي أن يبقى من ملجأ آخر للحرية الحرة غير نموذج الحياة الذي تدافع عنه. وليس عيبًا أخلاقيًّا أن يشعر أحدُهم أنه لم يعُد مواطنًا لأي دولة، وأن يهاجر؛ فالهجرة نوع من وضع الدولة بين قوسَين، والتجرُّؤ على الكشف عن هشاشة إقليميَّتها؛ فالإقليم حين يصبح عبئًا على قدرة الناس على الحياة، يتحول إلى حدودٍ ورقيةٍ في العقول الحرة. ولا بد من زعزعة بداهته القانونية الصِّرفة، ومهاجمته أخلاقيًّا بحركة الأجسام الحية. وحين يصبح المحتجُّ أو المتظاهر أو المعتصم شخصيةً جماعية لسكان قرية أو جزيرة، فهذا يعني أن «أيًّا كان» قد أصبح محاورًا حيويًّا كفئًا للدولة، وليس مجرَّد محكوم. لقد تجرَّأ على أن يعبِّر عن نفسه على نحوٍ أقل من إنسان وأكثر من مواطن؛ ومن ثَم فقد آن الأوان للاستماع إليه في لغته الخاصة، وليس بالتعكُّز على أي معجمٍ غريبٍ عنه، مهما كان مقدَّسًا.