«حرق النفس» (أو من تقنيات الذات بعد الثورة)
يبدو أن النار قد عادت إلى مركز الأحداث الإنسانية؛ فمنذ وقتٍ بعيد انسحبَت النار من واجهة الإنسان، وحُولَت إلى مجرد أداةٍ يوميةٍ بلا أي مكانةٍ أو هيبةٍ خاصة؛ فإضرام النار صار منذ فترةٍ روحيةٍ واسعة مدجنًا وآليًّا وبلا معنًى يتجاوز أفق اليومي. منذ اكتشاف النار إلى عبادة النار، كُتب تاريخٌ جليلٌ للنار وحوَّلها البشر إلى مجالٍ مخصوص للتأله؛ نار المجوس ونار هرقليطس إلى نار الإله التوحيدي؛ ولذلك فعودة النار إلى مساحة القِيَم والقرارات القصوى للحيوان البشري إنما تجعل علاقتنا بها تطرح مشكلًا غير مسبوق؛ إنه «الحرق» كموقفٍ كلي من العالم. بيد أن المثير للتفكير في أفق الحيوان البشري الجديد — الحيوان ما بعد الحديث — ليس حرق العالم من حوله بل حرق نفسه، حرق المساحة الوحيدة من النفس التي يعرفها أو يملكها، حرق «الجسد» بوصفه مجرد «جسم» مادي يمكِنه التضحية به، أو عليه أن يُشارك هو أيضًا في السخط الأخير على عالمٍ لا يعترف به. وليس أنبل من النار وسيلةً لتحقيق هذا المطلب الاستثنائي والأقصى؛ إضرام النار في النفس كطقسٍ قديم أُعيد تنشيطه لأغراضٍ «ما بعد حديثة»، ولكن من دون بقية الشعائر التي كانت تؤثِّث عالمه. عودة النار إلى حرق الأجساد البشرية، ولكن من دون العالم المقدَّس الذي كان يبرِّر ذلك سابقًا، هو أمرٌ يدعو إلى التفكير.
فمن علَّم الإنسان حرق نفسه؟ هل هو تجريبٌ على الجحيم التوحيدي كإمكانيةٍ أو تجربةٍ شخصية؟ أم هي ميمزيس فوق-بشرية للطبيعة التي تعوَّدَت على حرق نفسها بالبراكين والزوابع والحرائق العفْوية؟ أم هي قطعةٌ تائهةٌ من تاريخ الحرق الشعائري للحيوانات كقرابينَ لآلهةٍ جائعةٍ للحم البشري ومتعطشةٍ للدماء «العضوية»؟ أم أن «الجسد» (وفي فقه العربية هو الدم إذا يبس) هو نفسه كثيرًا ما ينسى أنه مادةٌ قابلةٌ للاشتعال؟ ولكن هل يشتعل إلا ما كان يحمل النار في جسمه؟ وهذا هو وضع الجسد البشري؛ إنه حجرٌ قابلٌ للاشتعال في أية لحظة. ولكن من أقنَعَه بضرورة تناسي هذا الأصل الناري وبناء حضارته على حرق كل شيء من حوله إلا نفسه؟ الإنسان حيوانٌ حارقٌ بامتياز. ومنذ اكتشاف النار وهو قد حوَّل تقنية النار إلى وسيلة بقاء استثنائية ضد كل أصناف «الخصوم» لقتلهم أو استرضائهم، أكانوا بشرًا أو حيواناتٍ أو آلهة. هناك علاقةٌ أداتيةٌ بالعالم هي التي حوَّلَت الإنسان إلى حيوانٍ حارق. ويمكِن إعادة كتابة تاريخ الحيوان البشري على الأرض على وتيرة تطوُّر تقنيَّات الحرق بين يدَيه. كل حضارة تقف على مستوى استعمالها للنار وعند تقنيات الحرق التي اخترعَتها.
بيد أن ما يقلب تاريخ النار رأسًا على عقب هو إقدامُ أحد الحيوانات التي اخترعَت النار إلى حرق نفسه. كأنه بذلك قد وجَّه النار ضد نفسها؛ حرق النار البشرية — والجسد البشري يشبه أن يكون كتلةً مطفأة من النار — وذلك بواسطة نارٍ أخرى ليست غريبة عنها. وفجأة يكتشف الكائن البشري كم هو «غير بشري»، كم هو قابل للاشتعال، مثل عود ثقاب أو كَوْمة من الحطب «غير العضوي». إن «أعضاءنا» إذن لا تحمينا من الاشتعال؛ فكون الجسد البشري مادةً عضويةُ هو أمرٌ لا يمنع أبدًا من تعامل النار معه وكأنه صلصالٌ قبل «التعضِّي» والمرور إلى استعمال تقنية الحياة العضوية. وفجأة يكتشف الحيوان البشري أنه قابلٌ للاشتعال منذ وقتٍ طويل لم يكن على علم به. هل النار هي لاوعي الجسد أو ما قبل-تاريخه السري؟ ولا سيَّما تلك التي كان يستعملها لتسخير بقية العالم أو لقهرها. وإنه ما كان يمكِن للجسد البشري أن يحترق لولا أنه يحمل النار في أعضائه. فهل ما نسمِّيه «الحياة» هو نمطُ النار الخاص بها؟ هل دفء الأجساد هو نارٌ نائمةٌ تنتظر من يُشعِلها؟
مَن حرق نفسه هو يستعمل كل ما في جسمه من حياةٍ نارية ويحوِّلها إلى طاقةٍ سوداء. وفي واقع الأمر فإن من يحرقُ نفسَه لا يهدِّدنا بأي شيءٍ غريبٍ عنا، بل هو فقط يحرج ناره إلى العمل. هذا القرار ليس مجرد «انتحار» بالمعنى السائد؛ أي نحر النفس اختيارا وعمدًا. وليس مجرد قربانٍ أو تضحية؛ لا قربان ديني ولا تضحية وثنية. لا أضحية للإله التوحيدي وتضحية من أجل شطر أو نوع من الإنسانية. فمن نقتل إذن حين نحرق أنفسنا؟
يبدو لنا أن الجسد الشخصي هنا هو مجرد شاهدٍ عرضي على حدثٍ رمزي يتجاوزه؛ فمن يحرق جسده لا يضحي به لأحد. وهذا ما يجعل حرق النفس «ما بعد الحديث» الذي أخذ ينتشر راهنًا، أمرًا غريبًا عن الاستشهاد بالمعنى التوحيدي. «حارق نفسه»، لا هو شهيد مسيحي، ولا هو شهيد إسلامي، ولا «كاميكاز» ياباني. إنه ابتكارٌ أخلاقيٌّ ووجوديٌّ خاصٌّ بالإنسانية ما بعد الحديثة، وهي «ما بعد حديثة» في معنى أنه «ما بعد قومية» و«ما بعد دينية» في كَرَّةٍ واحدة؛ إذْ ليس للجسد المحروق أية قداسةٍ خاصة ولا أية هالةٍ من المجد. إنه فقط جسدٌ «بشري» إلى النهاية؛ هذا البعد النهائي للبشرية فيه هو الذي سوف نحتفظ به طويلًا في كل أسئلتنا الأخلاقية القادمة عن التدبير المناسب لأنفسنا. من يحرقُ الجسد يُنهي البشارة الآدمية بأنفسنا، ويدشِّن تاريخًا جديدًا لاستعمال أعضائنا كمجرد أجسامٍ بلا أي وعدٍ بالخلاص، أي نوعٍ من الخلاص، لا سماوي ولا أرضي، لا قومي ولا ديني. ويبدو أن عودةَ النار هذه المرة لا تؤسِّس لأية علاقة بالجحيم التوحيدي.
هل عادت نار إبراهيم إلى العرب لتُدشِّن عصرًا روحيًّا آخر؟ هل هو هولوكوست شخصي أو للاستعمال الشخصي فحسب؟ ما الذي يدفع شبابًا رائعًا — وكل «شباب» مهما كان نوع الحيواني هو رائع بلا أي تفاوض — إلى إضرام النار في «جسده» الذي يسمِّيه «نفسه»؟ أليس له مساحةٌ أخرى يحقُّ له أو يليقُ به أن يحرقَها؟ وإلى أي مدى يمكن أن نُسمِّي هذا النوع من إضرام النار في جسمٍ من الأجسام الطبيعية حرقًا «سياسيًّا"؟ لا يبدو أن السياسة هنا كافيةٌ لفهم ما يجري أمام أعيننا؛ جسد يحترق. فمن يحرق نفسه اليوم هو يطرح علاقةً مع النار كما مع الجسد لم تعرفها الإنسانية من قبلُ إلا عرَضًا. إن الحرق المعاصر للجسد هو حرقٌ بلا أية رسالةٍ تتجاوز أفق الحيوان «البشري». وهو نمط «إنساني» علينا تمييزه عن باقي أنواع الإنسان؛ الوثني، الديني، النسكي، القومي، الشيوعي، العلماني … ثمَّة إنسانٌ جديدٌ في أفق النار، وهو لم يعُد يستطيع حتى أن يزعم أنه «الإنسان الأخير» أو أنه يقف في موقع «ما فوق الإنسان». نحن نرى أنه فقط بشريٌّ أكثر من اللازم. وهو لا يحمل أية بشرى، بل فقط الخبر البشري جدًّا للموت كآخرِ شكلٍ من السخط على صيغةٍ ما من أنفسنا، وكآخر آلةٍ عدميةٍ للتعبير. ما يطرحه حرق الجسد الخاص هو علاقةٌ جديدةٌ مع حرية التعبير؛ لأول مرة تصبح حرية التعبير استعمالًا صارمًا للموت الشخصي كآخر أو أقصى وسيلة احتجاجٍ «سلمي» على منوالٍ من السلطة.