في انتظار دولة الفقراء
بالأمس، لأول مرة رأيتُ في ساحة باردو، نوابًا برلمانيين معتصمين، يجلسون على الرصيف، قبل أذان المغرب، محاطين بأعين المتظاهرين الفارغة من الخوف، ينتظرون بعضَ الأكل الحر من جيران ميدان الاحتجاج؛ حيث يتوقف الزمن الوطني، ويرفع المطالب بأفواهٍ لا تملك من قوةٍ غير كمية الجسم الحي كوسيلة مقاومةٍ أخيرة ضد عطالة الدولة. ها هنا رأيتُ، إذ رأيتُ، من يأتي كي يُهدِرَ دمه بنفسه، ومن يعلِّق وظيفته السامية، ومن يعرِّض بدنه الوحيد، وفي بعض الأحيان، المريض من الوطن، لخطرٍ لا تفسير له سوى البحث عن حريةٍ أخرى لم تصل بعدُ.
وإذا بأصوات، في جهةٍ تريد أن تصبح مقابلًا مناسبًا لما يجري، دون نجاحٍ واضحٍ سوى عويل المدعوِّين إلى حفلٍ لا يعرفون أهلَه ولا عروسته، وليس لهم من عدَّة للبقاء فيه سوى انتظار موائد الحكومة، التي تحوَّلَت إلى برنامجِ شهوةٍ لفقراء ليس لهم ما يخسرونه سوى جوعهم. كل من يوالي حكومةً ما، مهما كانت شرعية، هو جائعٌ ينتظر مائدةً ما. كل صوتٍ يشجِّع الحكام على شهية الحكم يؤخِّر حريته إلى إنسانيةٍ أخرى، لن يكون جزء منها.
ما الذي يدفع شعبًا كريمًا وقاسيًا على نفسه وبسيطًا لأنْ يعلق ثقته بمصيره، ويدخل في الاحتجاج الأخير ضد حكومته؟ القهر. إن شعورًا بالقهر الباطن قد أصبح البديل الرسمي عن كل انفعالات الحرية التي أتت بها الثورة. يشعر «المواطن» (ونحن نسمِّيه مواطنًا بين ظفرَين بشكلٍ مقصود) بأنه فقَد وطنه، حين سلَّمه إلى حكامٍ لهم أجندةٌ أخرى تمامًا غير استحقاقات الثورة، نعني بالتحديد ثورة الفقراء حول شروط الخروج من ميتافيزيقا الفقر؛ الكرامة كبديلٍ ساخط عن كل أنواع الهوية. رأس الداء ليس «شرعية» من يحكُم، بل مدى نجاح الحاكم في حماية الحُلْم من كل الذين لا يؤمنون به. دولة الفقراء هي حُلمٌ سياسيٌّ قديم، ظل يبحث لنفسه في كل العصور عن أفقٍ مدنيٍّ يناسبه. وليست الأديان العالمية غير طرقٍ أخلاقيةٍ واسعة النطاق لإرساء دولة الفقراء. كل نبيٍّ هو نبيٌّ للفقراء ومبشِّر بدولة الفقراء أو هو نبيٌّ كاذب.
ما وقع منذ زمنٍ طويل هو الاستيلاء الفقهي على حُلْم الفُقراء بدولة الفقراء وتحويله إلى جهازِ آخرة، ومعاقبة كل مَن لا ينصاع إلى هذا الجهاز «الفُقَرائي» لتدمير الحرية الحرة، باسم سلطةٍ تريد، مثل كل سلطةٍ أخرى، بأن تتمتَّع بقوة القانون النهائي؛ أي الشرعي بلا رجعة. وليس إنتاجُ الشهداء صدفةً في تاريخ الفقهاء، بل هو جزء من صناعة السلطة التي يُتقِنونها. من دون شهداء لا يُمكِن لجهاز الآخرة أن يعمل. ومن دون «متشدِّدين» لا يمكن لدول الفشل الهووي أن تدافع عن وجودها.
تُخفي الدولة تحت جلبابها طمعًا أخرويًّا مقدَّسًا في تحويلنا إلى فقراءَ نسَقيين لا يملكون فقرَهم، بل يسلِّمونه إلى حكومةٍ منتخَبةٍ للغرض، حتى تصنعَ منه شرعيةً لا تُغتفَر. ولا فرق بين أن تكون «رعية» أو «مواطنا»، في عرف الشرعيات التي تُبنى من أجل الشرعية المطلَقة والنهائية، كتبريرٍ أخيرٍ وأخروي للسلطة، كل أجسام السكان هي مساحةٌ هووية للحكم؛ ولذلك لا يبدو أن العرب المسلمين الذين شاركوا في ثورات «الربيع» العربي، جاهزون اليوم للانتقال إلى الخطوة الثانية من إنجاز الحرية الحرة. عليهم أولًا أن يخوضوا معركة المواطنة ضد دول الهوية. كل دولة هوية هي جهازُ انتماءٍ فارغ من أي التزامٍ أخلاقي بفكرة الإنسانية؛ ولذلك هي لا ترى إلى السكان باعتبارهم شركاء في وطن ليس أكثر، بل تحاسبهم وفقًا لترتيباتٍ أخلاقيةٍ لا علاقة لها بالوطن. وكل حديثٍ أخروي عن الدولة المدنية هو خداعٌ بصري للعُمْيان.
وعلينا أن نسأل آخر الأمر: هل كانت دولة الإسلام الأولى، بالفعل، دولة هوية؟ أم كانت دولة فقراء بالمعنى الدقيق للكلمة؟ دولة الفقراء لا تهمُّها أبدًا نقاشات الهوية، مهما كانت جليلة. كل نقاشٍ هووي هو نقاشُ أغنياء؛ أي ذلك الشطر من السكان الذي ينجح في كل مرة في تأجيل سقوط الدولة عليه. والانتظار خارج السرب للراحة الأخلاقية من تعب ووطأة الوطن، هذا الجسم العاري من الشروط الحيوية للبقاء في شكل فقرٍ نسَقي ورسمي وطويل الأمد. ليس الإسلام غير طريقة الفقراء في تأجيل سقوط الدولة عليهم. وأما اليوم فقد تحوَّل هذا الأفق الأخلاقي الرائع إلى شبحٍ هووي يترصَّد الأحرار ويهدِّدهم بالهِراوات الفقهية لشبابٍ فقد معنى الوطن فلم يجد من بديلٍ وجداني عنه سوى تجارب الآخرة في دقيقة. كل سلفي هو آخرةٌ في دقيقة، كتلةٌ من الحرية التي لم تتحرَّر بعد؛ ولذلك هي تحت التصرُّف، ولا سيما تصرُّف فقهاء السلطة الذين ينجحون دومًا من صدر الإسلام إلى اليوم في سرقة حُلْم الفقراء وتحويله إلى برنامجِ شرعيةٍ نهائي لسلطتهم المزعومة. كيف نحرِّر الطبقة «السلفية» من مصادر أنفسنا القديمة؟ كيف نحرِّر حرية الفقراء من أطماع الفقهاء الجدد، المتنكِّرين في زي الدولة المدنية الحديثة؟ كيف نمنع تحويلَ شبابٍ سلفيٍّ يافع إلى أدواتٍ أمنية لتبرير حكوماتٍ فاشلة؟
ليس الدين بحدِّ ذاته، إذن، هو مشكل الدولة اليومية التي وقعَت علينا، بل الاستعمال الفقهي للدين كوسيلة قمعٍ أخلاقيٍّ ضد الخصوم السياسيين. وكل مَن يتحدث عن شرعية الصناديق اليوم، في مصر وتونس، هو يتحدث عن وسيلةٍ علمانيةٍ من وسائل الحرية الحديثة، لا يملك أفقَ الفهم المناسب لتأويلها. ولذلك هو يخلط بين الشرعية (القانونية) والمشروعية (الأخلاقية) للحكم. إن أهمية الانتخاب لا تكمُن في سريته أو حرية اختياره، بل في كونه نابعًا من تصورٍ ميتافيزيقيٍّ حديث للإنسان بوصفه «ذاتًا» مفكرة. وحدها ذاتٌ حرة تستحق وتملك حق الانتخاب؛ أي اختيار النائب القانوني والأخلاقي عنها. لكن مجرد الشرعية؛ أي الحصول على أصوات الناس، ليس هو جوهر الحرية الحديثة. إن الحرية الحديثة هي حريةٌ حرة، وليس مجرد رأيٍ موافق أو رافض لحاكمٍ ما. والأرجح أن الإسلاميين لدينا يفهمون «الشرعية» بالمعنى الفقهي؛ أي ما أثبته «الشرع» (شريعة الحكم) بشكلٍ لا رجعة فيه. والحال أن الشرعية الحديثة لا علاقة لها بأيِّ نصٍّ مقدَّس أو أحكامٍ لا يمكن مراجعتُها لأنها جزءٌ من شريعة يصلي بها الناس في المساجد.
وعلينا أن نُذكِّر بأن الدين هو أحد الاختراعات الفذة للفقراء في العصور القديمة. وسوف يظل أحد الأدوات الوجدانية لبقائهم؛ ولذلك كل من يتاجر بالدين هو أخطر من أي تاجر مخدرات في العالم. إنه يسرق من الفقراء ثروتهم الوجدانية ويُحوِّلهم إلى متسولي دولة. والحال أن الفقير يُوجَد أصلًا خارج مسطَّح الدولة، ولا يمكنه أن ينتمي إليها إلا عرضًا.