نداء الصامتين (أو تأريخٌ مشطٌّ لغضبٍ لا يحب المؤرخين)
هل يمكن لشعبٍ أن يتآمر على نفسه إلى هذا الحد؟ وإلا فكيف نفسِّر كل هذا التجريب على حريته؟ هل هو الشعب الوحيد الذي ثار في يومٍ من الأيام؟ لقد أصبح كل الناس ثوريين. وهذا هو المكسب الوحيد لثورات الربيع العربي. لكنهم لم يصبحوا بذلك قادرين على الحرية. سقط القناع عن هشاشة الدولة، وأنها حزمة من الادعاءات التي طوَرها جيلٌ رائع انتهى إلى التآكل من الداخل، وانهار على نفسه. نعني تحوَّل إلى فريقٍ من مستبدي التحرير ولكن بلا حرية. وماذا عوضه؟ فريق من الهوويين من كل نوع؛ ليبراليون بلا ليبرالية، يساريون بلا يسارية، علمانيون بلا علمانية، إسلاميون بلا إسلامية، قوميون بلا قومية. لن يحسدنا أحد على إنجازات الحرية الجديدة في أفق أنفسنا ما بعد الحديثة. وأينما وليتَ وجهك، يعترضك معترضٌ على وجودك وعلى رأيك وعلى من تكون. وأنتَ يتيمٌ هووي في كل الحالات؛ إما استفقتَ من سُبات الحياة اليومية الجبانة، أو جئتَ من أعماق العصور الوسطى، أو سقطتَ من أكتاف فرنسا، أو عُدتَ على دبابات أمريكا، أو خرجتَ من سراديب الحاكم الهووي الذي هرب أو قُتل أو صار جثةً وطنية للجر على ناقلات العدالة الانتقالية، فمن نحن إذن، أيها الثائرون بلا ثورة؟
جرَّب الشعب كل ما دار في خلَده من أشكال التمرد على حكومات ما بعد الثورة؛ نزل إلى الشوارع، واحتل الميادين، واعتصم في الساحات، وأضرب عن العمل، وهتف بالشعارات، ورفع اللافتات، ورتل الأناشيد الوطنية، وأنفق أيامًا طويلة من البطالة النفسية، وأحرق نفسه وقدم الشهداء و… كل ذلك بشكلٍ سلمي، كأننا في مشهدٍ سريالي أو فضائي، يمثله ملائكة أمام جمهور من الشياطين. وماذا بعد؟
لقد انقسمنا على نحوٍ غير مسبوق، وصار كل طرفٍ شعبًا برأسه. هل ثمَّة كارثةٌ تاريخية وأخلاقية أكثر من ذلك؟ شعوب تفقد وحدتها، وتتحول شيئًا فشيئًا إلى شراذم بشرية كل فريقٍ بهويتهم فرحون. أما الحكام الجدد فهم شرعيون. وهذا بحد ذاته يكفي لتبرير أي خسارةٍ بشرية أو انهيارٍ تاريخي للدولة أو تأجيلٍ أبدي لتحقيق أهداف الثورة. ولكن هل يمكن للشعوب أن تنتظر إلى الأبد؟ ومن يضمن ذلك؟ ومن يملك حق جعل شعبٍ بأكمله يجلس القرفصاء خارج التاريخ في انتظار دولة القيامة؟
كيف تحولت الثورة إلى نقاشٍ لا نهائي عن الشرعية؟ وكيف انقلبَت آمال الحرية إلى مجموعةٍ فظيعة من المجادلات حول تركيبة اللجان والمجالس وتوزيع المناصب وسياسة التعيينات وخطط العزل وطرق المحاصصة الحزبية؟ هل كنا متقدمين إلى هذا الحد في ترجمة آلام الشعوب إلى حواراتٍ تلفزية متأنِّقة وباردة في برامج الأحزاب؟ من سمَح لهؤلاء الساسة الرسميين وغير الرسميين، حكومات ومعارضات، بإهدار كل هذا الوقت الميتافيزيقي للشعوب في بناء أكثر ما يمكن من سياسات الانتظار لما لا يأتي أبدًا ولن يتحقق؟ فقط لأنه خارج أفق الانتظار أصلًا. أليس في مصلحة أي طرف أن تمُر الشعوب إلى تحقيق أهداف الثورة؟ نعني التوفير الرسمي لشروط الحرية في كل المجالات.
لقد آن الأوان للتساؤل عن مدى صلاحية أشكال المعارضة، السلمية جدًّا والليبرالية جدًّا، لحكومات الشرعية ما بعد الثورة. حين تعارض حاكمًا منتخبًا بشكلٍ شرعي فأنت تضع بنية الدولة نفسها في خطر، ما دمت تطالب في نهاية التحليل بإجراء انتخاباتٍ جديدة حول شرعيةٍ جديدة، ولكن في المقابل، هل يحق للشرعيين أن يُحوِّلوا شرعيتهم إلى دينٍ جديد لا يمكن تغييره أو مراجعته؟ أليست كل شرعية هي مجرد نتيجةٍ عدديةٍ لانتخاباتٍ عددية لعددٍ من الناس في وقتٍ ما؟ مَن حوَّل هذا العدد إلى شرعيةٍ مقدَّسة؟ أليس فكرة «الشعب»؟ لقد انتصر الإسلاميون في صناديق الاقتراع باسم فكرة «الشعب» الحديثة، نعني باسم فكرة الشعب «العلمانية» الصِّرفة. ولم ينتصروا تحت مسمَّيات الأمة أو الملة أو الشريعة، إلا عرضًا. إذن لماذا لا يتم إرجاع الأمانة إلى صاحبها بهدوءٍ مدني مناسب؟ ألا يمكن بذلك سحب البساط من تحت أرجل المعتصمين باسم «الشعب»؟ إن التمسك الأخروي والمطلَق بالشرعية قد حوَّل وجود الدولة عندنا إلى رهينة لدى طرف دون غيره. وصار «الشعب» مشتَّتًا تحت أسماءٍ متكثِّرة بشكلٍ سخيف ومزعج. لقد صِرنا أرهاطًا، ولم نعُد وطنًا.
ليس في حركات التمرد على الشرعية الانتخابية أي عنصرٍ غريب عن وضعية ما بعد الثورة؛ فهي وضعية تسمح بتجريب الحرية في اتجاهاتٍ شتى وفي نفس الوقت. وكان على حكومات ما بعد الثورة أن تفهم ذلك، وتقتنع بأنها مجرد إفرازاتٍ لوضعيةٍ استثنائية وغير صحية؛ وبالتالي فإن شرعيتها ليست من جنس الشرعية القانونية العادية، التي تتحقق في وقتٍ مدني يتوفر على صحةٍ اجتماعية وسياسية وتاريخية مستقرة. كل الأطراف مؤقتة بشكلٍ مُشِطٍّ، ولا أحد يمكنه أن يفاخر بأنه أقرب إلى روح الشعب من غيره؛ فإن «الشعب» نفسه كيانُ حرية متحيِّر لم تستقر هُويته الجديدة بعدُ. ذلك يعني أن الجدال بين الأحزاب الآن هو حوارٌ مزيف لأنه لم يكتشف بعد أنه يتم مع الطرف الخطأ؛ إن الحوار الوحيد المناسب ليس بين الإسلاميين ومعارضيهم من العلمانيين، بل يجب أن يكون فقط بين «النخبة» وشعوبها. الطرف الوحيد الذي ينبغي الإنصاتُ إليه ليس هذا الممثل أو ذاك من المعارضة، بل تلك الأغلبية الصامتة، غير الهووية، التي تقبع بين براثن الفقر والمرض والجهل والبطالة، ولا تزال تنتظر مجيء الدولة إلى القرية. ما عدا ذلك هو هُراءٌ ديمقراطي، يُديره أجانبُ حول قضايا هووية، إسلامية أو علمانية، بلا أي قدرة على تحقيق الحياة الكريمة للسكان الأصليين لهذا التراب، فمن يبلغه هذا النداء من الصامتين؟
حذارِ ممن يدفع شعبًا بأكمله إلى اليأس من قدرته على الحياة، نعني على الحرية؛ فحين يجرب شعبٌ ما كل طرق التمرد السلمية، وحين يستفرغ كل وسائل التعبير التي لا تقتل أحدًا ولا تفسد في الأرض ولا تهدم الدولة، فهو ينتظر في المقابل أن يتم الإنصاتُ إليه إنصاتًا منصفًا؛ أي في مستوى الذكاء التاريخي الذي صار يمتلكه. كل سياسةٍ أخرى من شأنها أن تُهدِّد تقدير هذا الشعب لنفسه وتُهينَه في فضيلة الحرية التي صارت هي شكل الكرامة الوحيد الذي يؤمن به، وعندئذٍ لن يبقَى أمامه إلا … وهذه اﻟ «إلا» لا أحد يُمكِنه أن يدَّعيَ أنه يملكُ مُسبقًا وسائل السيطرة على غضبها أو تدجينه؛ فالغضب انفعالٌ حزين فقد مَلَكة الفرح وتحوَّل إلى ضغينة بلا أفق، فمن يريد أن يكون قبرًا لجثة كهذه؟