الفصل الأول

ما الذي يحدث على عتبة «الله الإسلامي»؟

«إن العودة إلى الأصول تؤدي في كل مكانٍ إلى البربرية.»

نيتشه

تقديم

حين تصمت الدماء عن حقها في الصُّراخ عاليًا في وجوه المتعطشين إلى الدماء، يُكتب التاريخ من جهةٍ مغايرة لما حدث ولما لم يحدث، ولما سيحدث على نحوٍ أفظع، للآلهة أيضًا حقُّها في التحرُّر من تجَّار اللاهوت الأسود، نيتشه قال ذات نص: «إننا لن نتخلص من الآلهة؛ لأنها تسكن النحو.» لكن العالم العربي ليس له مشكلةٌ مع الله إنما مشكلته هي تجَّار الله، الذين يقتلون تحت راية الله، ويقطفون الرءوس باسمه.

يقول روبيسبيار (١٧٥٨–١٧٩٤م): «إن الثورة ليست إلا الانتقال من مملكة الجريمة إلى مملكة العدالة.» ما مدى صحة هذا الكلام في ضوء «الثورات العربية»؟ بعد حدوث ما حدث من قتل وذبح وتنكيل بالشعوب؟ هل نقول إن ما يحصل بعد الثورة يكاد يكون معكوسًا في معنى تحوُّلنا إلى ركح الجريمة بامتياز؟ أم نقول إن الثورة أمرٌ مشكوك فيه كما تريد لذلك نظريات المؤامرة أن تكون؟ ثمَّة مَن يقول إن ما وقع في العالم منذ تفجير البرجَين التوءَمَين للتجارة العالمية سنة ٢٠٠١م، هو انحدار العالم برُمته إلى عصرٍ جديد؛ هو «عصر صِدام الحضارات» (هينتنغتون) أو عصر صِدام الأصوليات (جلبرت الأشقر) أو حتى «عصر التطرف» (إريك هوبزباوم). لكن بوسعنا أن نقول أيضًا إنه إذا كان الغرب يُعاني منذ قرنٍ من الزمن من انهيار معنى العالم، فإن الإسلاميين منذ واقعة ١١ سبتمبر وتفجيرهم لمركز التجارة العالمية إنما عبَّروا بحرق العالم وبقتل العالميين عن رغبتهم الدفينة في ألَّا يكون ثمَّة عالم أصلًا.

هل ثمَّة فرقٌ بين ما يُسمَّى إرهابًا عالميًّا تحت راية تنظيم القاعدة، والإسلام السياسي الذي يتمسَّك بالسلطة في بلاد «الربيع العربي» تحت راية شرعيةٍ انتخابية انتهت صلاحياتها بفشلها في إدارة الانتقال الديمقراطي؟ هل ثمَّة شرعية بعد الدماء، هل ثمَّة شرعيةٌ دموية؟ هل ثمَّة شرعيةٌ لسقوط ضحايا تحت راية الإسلام السياسي؟ لا شيء يبرِّر القتل حتى السياسات الإلهية، ولا شيء يبرِّر سقوط الضحايا غير السياسات الفاشية.

ما هو الإسلام السياسي؟ وإلى أية جغرافيا حزينة يجرفُنا في عصر يقف فيه الوطن العربي على حافة الكارثة؟ لم نعُد قادرين على التفكير في صخب ما يحدث إلا ونحن مفزوعون مما سوف يحدث على نحوٍ أفظع. ويصيبنا الهلع الجماعي من رؤية الجثث تتساقط كل يوم كما لو صار البشر في ديارنا إلى ذباب؛ كل ذلك تحت راية الله، وباسم شرع الله ودول الله، ما الذي يحدُث لنا؟ وأية لعنةٍ إلهية تُصيب شعوبَ الله وأحزابَ الله وحكوماتِ الله؟ أوتكون هذه الشعوب الواقفة على عتبة الله الإسلامي قد تحوَّلَت فجأة إلى رهطٍ من البشر لا يُتقِن الانتماء إلى التاريخ العالمي إلا في ثوب القتل؟ يستوي المقام حينئذٍ بين القاتل والمقتول، هل سقط عليهم تاريخُهم فسحَق بعضَهم ببعضهم الآخر؟ إحدى النِّسْويات الإسلاميات قالت ذات مرة: «أرفض العيش مع إله ظالم.» وميسون، الشاعرة الكويتية، اتُّهِمَت بالكفر لأنها قالت: «ذهبتُ إلى مكة أبحث عن الله فلم أجده.» كأن كلًّا منهما، وعلى نحوٍ ما، تُرسل صرخةَ فزعٍ من دينٍ تحوَّل من عقيدةٍ إلهية إلى جهازٍ سياسي للسطو على الحكومات.

أي معنًى لكل ما يحدث اليوم تحت راية الإسلام السياسي في بلاد «الربيع العربي»؟ وكيف نفهم هستيريا الشرعية التي يتغنى بها الإسلاميون في تونس وفي مصر تحديدًا بعد أن فشلَت الحكومات في تسيير مرحلة الانتقال الديمقراطي؟ لماذا تتمسَّك الحكومة في تونس تحديدًا بالحكم تحت غطاء شرعيةٍ انتخابيةٍ منتهية الصلوحية، خاصةً بعد كل ما وقع في ظل هذه الحكومة من رش للمواطنين في سليانة، إلى حدِّ إصابتهم بالعمى، كما لو كانوا حيواناتٍ صالحةً للصيد، واغتيالاتٍ سياسية لقادة المعارضة في عقر ديارهم بسَحل بعضهم وضَرب بعضهم بالرصاص، وذبح جنود الوطن على مرمى حجر من جيوش الوطن. أية شرعية بعد التنكيل بجثث حماة الوطن وبتر أعضائهم بشكلٍ وحشيٍّ لا نظير له؟ كل الأسئلة المجروحة تزدحم على بوابة عقولنا وتدفع بنا إلى «التفكير الحاد بأقصى سرعة»، وتصرخ كل يوم في حناجرنا الأصواتُ المغتالة في قلوب مَن رحلوا قبل موتهم غدرًا، تحت راية حكومات تُتقِن التكبير في المساجد، وتجميل الواجهة على شاشة التلفزة، بعد مسح الدماء النازفة في الشوارع بخرقة الشرعية المنتهية.

(١) المفهوم

الإسلام السياسي هو مفهومٌ غامض وعائم شبيه بنسيج العنكبوت؛ فهو يضم في خلاياه اتجاهاتٍ وحركاتٍ ودرجاتٍ في التطرف تتراوح بين السطو على السلطة والتمسك بها والقتل وتخزين الأسلحة من أجل الجهاد بها ضد شعوبها أو ضد من لا يؤمن بعقائدها، لكننا لن نرصد الظاهرة من الناحية التاريخية الصِّرفة (كما نجد ذلك في كتابٍ قيم لرضوان السيد بعنوان الإسلام المعاصر) بل سنجمعُ جملةَ مقوِّماتها الجوهرية من أجل إدراك أهدافها العميقة ومواضع خطورتها وفشلها معًا. في كتابٍ له تحت عنوان الخوف الأصولي يُشخِّص الكاتب الإنغليزي بوبي س. سيد جملةً من التحديات أمام الإسلاميين نعتبرها مقوِّماتٍ جوهريةً للإسلام السياسي؛ أولًا علاقة متوترة مع الغرب مع الاستفادة من مكاسب التقدم الغربي. ثانيًا الإسلاميون يفرضون على أنفسهم عزلةً حضارية بإصرارهم على مفهوم الأمة. ثالثًا الإسلاميون غير قادرين على بناء «ثقافة الرغبة» في مجتمعٍ محكوم بقِيَم الاستهلاك، وذلك لأن مقولة الإنسان-الفرد غير ممكنة داخل المنظومة الإسلامية القائمة على مقولة الإنسان «عبد الله»، يقول بوبي سيد: «لقد مال الإسلاميون إلى التعامل مع مسألة الرغبة بطريقةٍ عقابية بدلًا من أن تكون منتجة، ويتطلب بناء الرغبة تثقيفًا وليس ببساطة أوجُهَ منع أو تطبيقًا أقسى للقانون.» رابعًا: الإسلاميون غير قادرين على بناء تصورٍ عام عن «أسلوب حياة» في حجم الحياة المعاصرة؛ فالأحزاب الإسلامية خارج النهي عن المنكر والأمر بالمعروف إنما تعاني حسب تعبير بوبي السيد «نقصًا في الخيال الحكومي»، وهو أمرٌ يجعلها ذات «فهمٍ محدود لطبيعة الدولة». خامسًا: ميل الإسلاميين إلى تمجيد «قراءة لاهوتية لتاريخهم؛ لذلك تكون قدرتهم على إجراء حوارٍ مع ماضيهم مسألةً مقتضبة.»

يبدو أن هذا التحليل للظاهرة الإسلامية لا يزال يحافظ على بريقه اليوم بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم، هؤلاء الحكام الذين يحكمون تحت راية الإسلام أثبتوا إذن أنهم يعيشون على علاقةٍ متوتِّرة بالحداثة الغربية، وأنهم يُعانون من الازدواجية في مخاطبة شعوبهم بين المواطنين الأحرار وعباد الله المطالبين بالطاعة كما لو كانوا رعية، وأنهم يُعانون أيضًا من «نقص في الخيال الحكومي» في اقتراح «أسلوب حياة» قادر على التأقلم مع متطلبات العالم الحالي … إلخ.

يعتبر مارسيال غوشييه في كتاب بعنوان الدين في الديمقراطية، أن الثورات الحديثة قد أنزلَت السلطة إلى الأرض، بعد أن كان الحاكم في العصور الوسطى يحكم تحت راية سلطةٍ إلهية، صار في العصور الحديثة يحكُم تحت راية مشروعيةٍ قانونية؛ أي بتفويضٍ انتخابي من إرادة الشعب الجماعية، من أجل مجتمعٍ مدني قائم على قِيم المواطنة. يقول غوشييه: «لقد كانت السلطة مُنزلةً من فوق وتفرض نفسها فوق إرادة البشر، فأعادتها الثورات الحديثة إلى الأرض، ووضعَتها على مستوى الإنسان …» هذا النص يجعلنا أمام التساؤل التالي: إذا كانت الثورات الغربية الحديثة قد أنزلَت السلطة إلى أيادي البشر، فما الذي يحدُث لدينا بعد الثورات العربية المعاصرة؛ هل دفعنا بعجَلة التاريخ إلى الماضي ثانية؟ أم نحن ثقافةٌ ممنوعة من المستقبل؟ لم نخرج بعدُ من أمثولة الكهف، لكن ماذا تخبِّئ كهوفُنا في بطونها المدجَّجة بالعبوات الناسفة؟ أصفاد البؤس في الأسفل … وفي الأعلى لا شيء غير أوهامهم وإلهٍ متضرِّر من سَطْو الإسلاميين عليه، وفيما أبعد من الصحراء ثمَّة مؤامرات أمريكا والعنكبوت الخليجي وشبكات الإرهاب العالمي واللوبي الصهيوني … لا شيء يُنقِذ العالم العربي غير قصةٍ أخرى؛ أبطالها بهلوانيون ومهرِّجو سيرك.

(٢) مقوِّمات الإسلام السياسي

لو أردنا ملامسة الظاهرة عن قُربٍ لجمعنا مقوِّمات الإسلام السياسي فيما يلي:

  • (١)

    السؤال الأساسي الذي يواجهه الإسلام السياسي اليوم هو التالي: ما هو مدى استعداد هذه الثقافة الإسلامية إلى العلمنة كشرطٍ أساسي للانتماء إلى العالم الحالي؟ ما هو مدى استعدادنا للانتماء الإيجابي للتاريخ العالمي المعاصر؟ ذلك أن الإسلام السياسي ينجح في استقطاب الجموع على الانخراط في رَكْبه، كلما نجح في شيطنة الغرب للتملص من مكتسبات الحداثة. إنهم يضعون بين قوسَين كل التراث الإنساني الحديث، في حين أن هذا التراث هو تراثٌ عالمي يخترق الجميع في شكل نوعٍ من القدَر التاريخي، الذي لا يستشير أحدًا في التسلل إلى بيته تحت كل المسمَّيات؛ التكنولوجية والرقمية والترفيهية. نحن نقصد الحداثة كشكل حياة عالمي وليس كمنتوجٍ غربي. متى سندرك أن الحداثة ليست تراثًا خاصًّا بالغرب وحده؟ أو بعبارة للدكتور فتحي المسكيني: «إلى متى سنظل مترجمين سيئين لإمكانات أنفسنا القديمة في معجم الإنسانية الحالية؟»

  • (٢)

    الإسلام السياسي لا يؤمن بالثورات، لكنه لا يخجل من الاستحواذ عليها وتحويلها إلى انتصاراتٍ انتخابيةٍ مفبركة وحكوماتٍ لفرض الوصاية على الشعوب. ليس ثمَّة عقيدةُ ثورة لدى الإسلاميين، ثمَّة دومًا طقوسٌ للجهاد في سبيل الله بالتكفير والرش والغزو والاغتيال والذبح والتفجير … إلخ.

  • (٣)
    الإسلام السياسي يشكو من زكيزوفرانيا فظيعة في خطابه؛ بين الخلافة والدولة، بين المواطن والرعية، بين أخلاق الطاعة وقيم الحرية، بين قِيم المساواة المدنية ومبادئ العدل الإلهي والقضاء والقدَر؛ فهو يُسوِّق خطابًا عن المواطنة والديمقراطية والحرية، وحين يعود إلى شيوخه يتمسَّك بالشريعة الإسلامية تمسُّكًا باتولوجيًّا. وتخالُك وأنت بحضرتهم كأن الإسلام دينٌ جديد هم مَن اخترعه وهم الأوصياء الوحيدون عليه … هستيريا يختلط فيها الإدمان على الشرع بالإدمان على الشرعية. تجارة للدين على قدم وساق، وسوق أينعَت بأرواحٍ هشة وأجسادٍ نحيلة تقاطعَت على أوجاعها كل الحكومات البائدة والمؤقتة.
  • (٤)

    الإسلام السياسي لا يؤمن بالإسلام بوصفه عقيدة، بل بالإسلام بوصفه سياسة وطريقًا إلى السلطة. إن الإسلام واقعةٌ تاريخية والإسلاميون واقعةٌ تاريخية أخرى؛ إسلام الملة هو إسلامٌ تاريخي، وفي أقصى الحالات هو مدونة أخلاقية للمجتمع، في حين أن الإسلاميين حركةٌ سياسية حديثة تريد أن تكون الوصي على الذاكرة العميقة؛ أي على الهوية، ثم تستعمل حصادها ذاك كخطاب للوصول إلى الحكم؛ أي لإنتاج نوعٍ من الشرعية؛ أي القانونية القابلة للاستعمال الرعوي. هذا إن لم نقُل إن الإسلاميين ليسوا هم المسلمون؛ لأنه ثمَّة فرقٌ بين الإيمان بالإسلام كعقيدة وتجارة الإسلام كدولة.

    وقد يكون بوسعنا أن نقول إن الإسلام قد انتهى كدين وبدأ كسياسة ترغب في السطو على العالم … وهذا قد وقع منذ ١١سبتمبر حيث أعلن الجميع أن «الإسلام قد خُطف من طرف الإرهابيين.» أما اليوم في قلب ناعورة «الربيع العربي» فإن الإسلام السياسي الذي تسنده أجنداتٌ عالمية أمريكية وغربية من الخارج، فهو يترعرع من الداخل بأصوات المنسيين والمهمَلين في الأنظمة الاستبدادية السابقة، الذين انخرطوا في لعبة صناديق الاقتراع أملًا في تحسين لوضعياتهم … لكن لا شيء انضاف إلى حياتهم غير جوعٍ إضافي وبؤسٍ أعمق.
  • (٥)
    يستعمل الإسلام السياسي وسائل عدة للإشهار الديني والتعبئة الانتخابية؛ قنوات فضائية تموَّل بآلاف الملايين من الدولارات، ودعاة ينتشرون عَبْر العالم ينثرون الفتاوى، وُيسوِّقون علوم الآخرة لذوي العقول الهشة والقلوب المذعورة … أما دُور العبادة فقد تحوَّلَت من مساجد لإعلاء كلمة الله ونشر أخلاق التسامح والرحمة والمحبة، إلى مؤسسات سياسية للتكفير والتخوين والتأثيم والدعوة إلى الفتنة والاقتتال. أما المواسم الدينية والأعياد فقد تحوَّلَت هي الأخرى في يد مكنة الإسلام السياسي إلى مناسباتٍ حكومية للتعبئة الحزبية … كأنما الإسلام قد صار إلى مؤسسةٍ إشهارية لاستقطاب المستهلكين لنظامٍ جاهز للسطو على القلوب والعقول.

(٣) هستيريا الشرعية

ثمَّة لعبة لغوية ماكرة في نسيج مفهوم الشرعية بين شرعية الشرع؛ أي الشرع الإلهي ومشروعية القوانين المدنية. هذه اللعبة تتقنها لغة الضاد، وتتلكأ فيها لغة اللاتين بين légalité وlégitimité.

إن تمسُّك حكومات الربيع العربي بالشرعية بعد كل الأحداث الدموية التي وقعَت في حيزها، يجعلنا نتحدث عن نوعٍ من هستيريا الشرعية، في معنى ضربٍ من الحالة النفسية العامة، التي خرجَت فيها حكوماتٌ وأحزابٌ برُمتها عن طور العقل وعن طور المشروعية … لا شيء يبصرون مما يحدث من إفلاس اقتصادي وبؤس اجتماعي وفوضى مدنية، غير كونهم يملكون الشرعية الانتخابية … شرعية الصناديق التي دفعَت بخيرة أبنائها إلى التوابيت … شرعيون إلى حد إراقة الدماء … كيف نفهم هذه الهستيريا الشرعية؟

يبدو أن الإسلام السياسي الحالي إنما يقوم في جوهره على سوء فهمٍ للمعنى الحديث للشرعية. هذا إذا استثنينا الحديث عن انتهازيةٍ سياسية في معنى استعمال الانتخابات للقضاء على فكرة الديمقراطية؛ صندوق الاقتراع يصلح مرةً واحدة؛ أي من أجل صعودهم إلى الحكم … ثم يقع غلقُ باب الديمقراطية. ويتمثل سوء الفهم هذا فيما يلي:

  • (١)

    إذا كانت الشرعية هي مجرد نجاحٍ انتخابي لحزب دون آخر وفقًا لقاعدة التداول على السلطة، فإن الإسلاميين يدافعون عن الشرعية وكأنها منحةٌ دينية من الله لأنصار الشريعة أو لممثلي الأمة. وهنا يتم الخلط بين الشرع بالمعنى الديني والشرعية بالمعنى القانوني الحديث.

  • (٢)

    ينبغي التمييز إذن بين الشرعية والمشروعية؛ فالشرعية هي قانونيةٌ دومًا؛ لأنها مجرد تطبيقٍ صوري للقواعد الانتخابية داخل مجتمعٍ مدني حديث. شرعيٌّ هنا يرادف قانونيًّا. أما المشروعية فهي أخلاقيةٌ بالأساس أو معيارية. إنها تعبيرٌ عن جملة القِيم والمعايير التي يستمد منها مجتمعٌ ما شروط فهمه لنفسه، وأشكال التعبير عن هويته.

  • (٣)

    الإسلام السياسي يظهر في شكلٍ مريب على المستوى السياسي، وذلك بعد أن قَبِل المشاركة في الانتخابات المدنية كطريق للوصول إلى السلطة؛ فهو من جهةٍ يدافع عن الشرعية في معناها القانوني الحديث، والحال أنه من المفترض في انتمائه إلى منظومةٍ إسلامية أن يدافع عن المشروعية في معنًى دقيق جدًّا؛ لأن الإسلام السياسي هو تعبيرٌ هووي عن السلطة وليس تعبيرًا مدنيًّا. وهنا بالضبط يكمُن عنصر الريبة في دخول الإسلاميين إلى الانتخابات وصعودهم إلى السلطة عبر أغلبيةٍ مفبركة سلفًا؛ فهم يلبسون قِناع الشرعية، والحال أن كل خطابٍ عنها يُضمِر خطابًا هوويًّا؛ أي خطابًا يدافع عن مشروعية التصور الإسلامي للعالم.

  • (٤)

    ينطوي الإسلام السياسي على نزاعٍ دفين بين النموذج الرعوي (أي مفهوم الزعامة الدينية في شخص الشيخ أو المرشد أو الداعية أو الإمام الشيعي …) وبين النموذج المدني؛ أي الشكل القانوني للشرعية في نطاق المواطنة؛ فالإسلام السياسي يخاطب رعية، ويستعمل خطاب المواطنة، ويخلط عندئذٍ بين الطاعة والحرية.

  • (٥)
    يقوم مفهوم الشرعية على مفهوم الأغلبية، لكن ما هُوية هذه الأغلبية التي جعلَت صعود الإسلاميين إلى الحكم ممكنة؟ هل هم رعاع أم هم شعوب أم جموع … أم أغلبيةٌ مؤقتة تم جمعُها من أحياء الفقر بمقابلٍ يتراوح بين النقد، والتزويج، والختان، وعلُّوش العيد …؟ مما يجعل مفهوم الأغلبية التي يُزايد بها الإسلام السياسي على من يسمِّيهم «الصفر فاصل» موضعَ شك وريبة. في كتاب «سيكولوجيا الجماهير في الفاشية» (١٩٣٣م) يتساءل وليام رايخ طويلًا عن سر صعود هتلر إلى الحكم قائلًا: «كيف استطاع هتلر فَرْض نفسه؟ كيف يُمكِن لشعبٍ من سبعين مليونَ نسمةٍ من الأفراد المثقَّفين والعاملين أن يدَع نفسه يُفتَن بشخصٍ مضطرب العقل بشكلٍ واضح؟» ويجيب: «إنها وظيفة الإغواء الكاريزماتيكية للزعيم الذي يتكلم ويخطب … وعبادة الانضباط والاحتفالات … والخضوع المازوشي للرؤساء المدفوع حتى التضحية …» وفي كتاب بعنوان «علم نفس الجماهير» (١٨٩٥م) لغوستاف لوبون، الذي انشغل بظاهرة العدد، يُعرِّف المؤلِّف فكرة الأغلبية كما يلي: «… بواسطة هذه الكيمياء الاجتماعية الغريبة تتحوَّل الكثرة إلى كائنٍ جماعي … مزوَّد بنفسية وذاكرة، بوعي وبإرادة وبمجموعة سمات … سرعة الغضب، سرعة التصديق والنزوع حتمًا إلى العنف …» رغم أن هذا التحليل لم يعُد قادرًا على فهم ما يحصل في مفهوم الأغلبيات والأقليات الانتخابية، فإن شيئًا ما في سيكولوجيا الجماهير هذه، التي يمكن استثمارها في ألاعيبَ ومؤامراتٍ سياسية، ما زال عالقًا فيما حصل من انتصاراتٍ انتخابية للإسلام السياسي في «الربيع العربي».
  • (٦)

    إن الإسلام السياسي يشتغل وَفْق تأجيج الانفعالات الدينية والعِرقية والتاريخية الأكثر عمقًا في النسيج البعيد للأغلبية التي كوَّنها تحت راية صناديق الاقتراع المدنية، من أجل استخدامها «حطبًا رعويًّا» وعددًا انتخابيًّا يدوس به على أحلام الشعوب وثوراتهم. ثمَّة نوعٌ من «طاعون الانفعالات» الذي يُحوِّل الحشود خاصةً في المساجد وقد صارت إلى منابرَ سياسية، إلى كتلةٍ انفعاليةٍ متجانسةٍ صاخبة تعتقد أنها أخوية بأُخوةٍ إلهيةٍ صافيةٍ ضد كل من يُعادي معتقداتها وانفعالاتها. وهو ما يحدُث اليوم من تعبئة للمساندين للشرعية (في تونس وفي مصر) عبر تعبئةٍ انفعالية (تحت راية الإيمان والكفر)، وحتى بمقابلٍ مالي أحيانًا، وذلك في نوعٍ من الإنتاج المثير لأغلبية تصلُح للاستهلاك السياسي المؤقَّت.

  • (٧)

    إن السؤال المُحرِج للإسلاميين اليوم هو التالي: هل تخلى الإسلام السياسي المتمسك اليوم حقًّا عن خيار الجهاد؛ أي عن ثقافة الدعوة العنيفة، أم أنه غيَّر الوسائل واحتفظ بالغايات؟ إن فشل الإسلاميين في الحكم رغم صعودهم إليه عَبْر انتخاباتٍ شرعية، هو علامةٌ كبيرةٌ على التناقض العميق الموجود في خطابهم بين الشرعية كمكسبٍ انتخابي، وطريقة الحكم كحكمٍ دعوي ورعوي لا يحترم قِيم الدولة المدنية؛ المواطنة، المعارضة، المشاركة، الاستقلالية … حرية المعتقد، منظومة حقوق الإنسان الكونية … إنهم يصلون إلى الحكم بشكلٍ شرعي لكنهم يحكمون بشكلٍ رعوي؛ فكل من يعارضهم أو يخالفهم يقع تهديدُه بالقمع ويكفَّر ويخوَّن، وقد ينتهي به الأمر إلى القتل في عقر داره. إنهم يَصِلون إلى الدولة بطرقٍ مدنية ويمارسون الحكم بطرقٍ دينية. وفي الحقيقة علينا أن نقول إن مفهوم الجهاد في سبيل الله وثقافة القتل من أجل إرضاء الله ليست حكرًا على الإسلاميين، بل هي موجودة في عمق ديانات التوحيد. وهنا نستحضر نصًّا فظيعًا للوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م) المصلح الديني المسيحي المعروف في كل الغرب المسيحي. يقول في كتابه «ضد عصابات الفلاحين النهَّابة والقتَّالة» ما يلي: «أيها السادة الأعزاء، اطعنوا بالخنجر، هاجموا واذبحوا بشكلٍ أفضل. وإذا لقيتُم الموت، فهذا أفضل لكم، فأبدًا لن تستطيعوا أن تلقَوا موتًا أكثر سعادة؛ لأنكم تموتون وأنتم تطيعون أمر الله وكلامه.»

خاتمة

ثمَّة أطروحةٌ فلسفيةٌ معاصرةٌ تقول ما يلي: هناك فشلٌ عالمي في بناءٍ إيجابي لكينونةٍ بشريةٍ مشتركة. وهذا الفشل هو الذي أدى إلى إحياء النعرات الدينية وصدام الأصوليات، ودفَع بهذا العصر إلى «عصر التطرف». هذه الأطروحة هي لجون لوك نانسي، أحد المفكِّرين الفرنسيين المعاصرين، الذي يذهب إلى أن المشكلة التي تواجه العالم اليوم هي «شكل الحياة» الذي يمكن للإنسانية أن تشترك فيه على المستوى العالمي، في ظل رأسماليةٍ متوحشة وشبكاتِ إرهابٍ عالمية لا يمثل الإسلام السياسي غير تعبيرٍ من تعبيراتها الدنيا. يذهب نانسي إلى «أنه لا يمكننا اليوم أن نُعلمِنَ فكرة الله ما دامت العلمنة تعني النظام الخارجي لما هو إلهي … فإما أن السياسة لا يمكنها أبدًا أن تبتلع الدين، وإما أنه ليس ثمَّة دينٌ مستقل أصلًا، وأن الدين هو دومًا وسيلة لسياسةٍ ما.» لكن نانسي يستدرك كي يميِّز الإله التوحيدي عن الديانات الوثنية يقول: «داخل الإلهي الوثني ليس ثمَّة مجالٌ للتفرقة بين الدين والسياسة؛ فلا شيء منهما موجودٌ فعلًا … أما داخل الإلهي التوحيدي فثمَّة دومًا توتُّر في الفصل بينهما لأن أحدهما يمحو الآخر …» هل يمكن للإسلام السياسي أن يتغلب على هذا التوتُّر بين الديني والمدني؟ من أجل ذلك عليه أن يتدرَّب على الانخراط في الحياة المدنية كعضوٍ شريك، وليس كحزب وصيٍّ على مصيرِ شعبٍ برُمته.

لا خيار إذن أمام رُكَّاب الإسلام السياسي إلا أن يصبحوا شركاء في العملية السياسية، بوصفهم جزءًا من الدولة الحديثة وليس بوصفهم أوصياء على الأمة التي لا وجود لها سياسيًّا، بل هي بالأساس منظومةٌ أخلاقية يستمد منها المجتمع هويَّته، لكنه يرفض أن يصبح رهينًا لها من الناحية السياسية. الإسلام السياسي مُطالَبٌ إذن بالتدرُّب على أخلاق العيش معًا في وطنٍ ديمقراطي. وذلك لا يعني القدرة على تجميع الحشود في شكل عددٍ انتخابيٍّ أحمق، أو تحت راية أغلبيةٍ عنيفة، بل القدرة على أن يشترك الجميع في وطنٍ يضمن الكرامة والعدالة والسعادة للجميع. أما عن علاقتنا بالعالم، فالإسلاميون ما زالوا بعيدين اليومَ عن بناء علاقةٍ صحيةٍ مع الحداثة العالمية. في حين لا يمكن لأية ملة أن تتخلص من دائرة التاريخ العالمي إلا وقد لفظَتها فكرة الإنسانية، كأنما الأمر يتعلق برهطٍ آخر من الكائنات البهلوانية.

قائمة المراجع المستعملة

  • (١)
    فرانسوا شاتليه، أوليفيه دوهاميل، إيفلين بيزيه، معجم المؤلَّفات السياسية، ترجمة محمد عرب صاصيلا، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ١٩٩٧م.
  • (٢)
    بوبي س. سيد، الخوف الأصولي، المركزية الأوروبية وبروز الإسلام، ترجمة عبد الرحمن أياس، بيروت، الفارابي، ٢٠٠٧م.
  • (٣)
    مارسيل غوشييه، الدين في الديمقراطية، ترجمة د. شفيق محسن، بيروت، مركز الوحدة العربية، ٢٠٠٧م.
  • (٤)
    رضوان السيد، الإسلام المعاصر، نظرات في الحاضر والمستقبل، بيروت، ٢٠١١م.
  • (٥)
    د. فتحي المسكيني، الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، بيروت، ٢٠١١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥