العنف والهوية
«يمكن للهُوية أن تقتل، وأن يكون قتلُها ذريعًا …»
«إن كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية.»
مقدمة
ثمَّة مفاهيم تفكِّر فيها عقولنا، وثمَّة مفاهيم تستهوينا وتُنعش قلوبنا، لكن ثمَّة مفاهيم لا تفكِّر فيها غير الشرايين. إلى الصنف الأول تنتمي مفاهيم العدالة والخير والفضيلة، إلى الصنف الثاني تنتمي مفاهيم الرغبة والجمال والمتعة. أما مفهوم العنف فهو من الصنف الثالث؛ لأنه أكثر المفاهيم عداوةً للتعقل والطمأنينة والسلم الدائمة. يقول الفيلسوف الفرنسي الكبير جيل دولوز عن التفكير: «ضربات المِقرَعة التي تدوي كأنها شرايين.» وهو في ذلك يذكِّرنا بكلمة لنيتشه: «كلماتي ليست كلمات، بل هي ديناميت فلسفي.»
على وقع الديناميت نعيش هذه الأيام في بلاد الربيع العربي. نحن الذين اعتقدنا أننا نسير نحو أحلامنا فإذا بنا نسقط في الكوابيس، ربيع سرعان ما تحوَّل إلى لغمٍ عربي بكل أسماء المكان؛ حيثما ولَّيتَ وجهَك تَرَ المجزرة. وحيثما خطوتَ تكاد تفجِّر لغمًا تحت ساقَيك. تمهَّلْ أيها الربيعي المسلم والعربي الوهابي أحيانًا، الشيعي أحيانًا أخرى، تمهَّلْ، هذه الأرض ستمور قريبًا من بين يدَيك، وسيَفزَع الزمان من جلبابك الأسود الذي لم يعُد يحمل الله، بل صار وكرًا للتعاويذ ولتأثيم الأعضاء وتحويلها إلى عورة. في زمانٍ خرج عن طَوره يسود العنف المعمَّم على ركحنا كأجمل ركح يصلح للتجريب، تجريب الاستعمار تارة، وتجريب التحديث العنيف تارةً أخرى، وتجريب الإسلام السياسي كآخر مخابر ينتجها الغرب كي يتسلى. والشعوب العربية تتحول كلَّ مرة إلى نوع الفئران المطلوبة لنجاح التجربة، وسرعان ما تتأقلم مع الكارثة، فتستلف نهارًا قليلًا من الوجود المؤقت ثم تُصلي ليلًا إلى الله كآخرِ مساندٍ للفقراء، ثم تنام على أمل موتٍ رحيم وجنةٍ سوف تأتي.
حنا آرندت في كتابها في العنف الذي كتبَتْه في ظل عالمٍ منهوكٍ خارجٍ لتَوِّه من حربَين عالميتَين تقول: «لا يملك أحدٌ اليوم جوابًا عن السؤال المتعلق بالكيفية التي سيُمكِننا بها أن ننتزع أنفسنا من العبثية الكلية لمثل هذا الوضع.» وهي تُنبِّه بذلك أن السؤال عن ماهية العنف إنما ينتمي إلى ميدان اللامتوقَّع. ثمَّة ضرورةٌ للتمييز ها هنا بين أسئلةٍ تنتمي إلى حقل الممكن، وأخرى إلى باحة المستحيل، وثالثة إلى أفق اللامتوقَّع؛ فنحن نفعل الممكن كي نتأقلم مع الواقع، ونطلب المستحيل كي نغيِّر العالم، لكننا لا نملك أي شيء إزاء اللامتوقَّع غير الانبهار به أو الرعب منه. ثمَّة أسئلةٌ حمقاء وأخرى مغلوطة وثمَّة أيضًا أسئلة لا تؤدي، وربما يمكننا الحديث عن أسئلة من أمرِ آلهةٍ جُدُد. علينا إذن حسب عبارات حنا آرندت ألا نغفُل عن «عنصر اللامتوقَّع الذي نلتقيه في اللحظة التي نقترب فيها من ميدان العنف. ولئن كانت الحرب ماثلةً على الدوام في دواخلنا فإن مُثُولها ليس ناتجًا لا عن رغبةِ قتلٍ دفينةٍ موجودة لدى النوع البشري، ولا عن غريزةٍ عدوانية لا يمكن قمعُها.» ما هو أصل العنف إذن لو لم يكن يتأصل في الطبيعة البشرية، كما يذهب إلى ذلك كل التصور السياسي التقليدي من أرسطو إلى هوبز؟ ومن كاليغولا إلى كتاب الأمير لمكيافيلي.
هل يمكن للعنف أن يكون أداةً للانتقال الديمقراطي في مدن لم تعرف من الانتقال والنقل إلى حدِّ الآن غيرَ ركوب الحافلات العمومية، ولا تعرف من الديمقراطية غير أبواق التكفير وغسل الأدمغة ودعوة الناس إلى القتال؟
ينتمي مفهوم العنف إلى عائلةٍ من المفاهيم المثيرة للرعب من قبيل: الحرب، والموت، والجريمة، والإرهاب، والاغتيال، والاغتصاب، والاحتراق، والرش، والشنق، والقمع، والهيمنة، والسطو، والطغيان، والظلم، والفقر.
وتتراوح درجاتُ العنف بين ثلاث درجات:
-
(١)
عنف مخفف: كالعنف اللفظي (الشتم والثلب والتجريح) والعنف الرمزي (التكفير والتخوين والتأثيم) والعنف الاجتماعي (الفقر والتجويع والتهميش).
-
(٢)
عنف مكثِّف (الحرب والاغتصاب والقمع والظلم).
-
(٣)
عنف مطلَق (الذي يشمل كل أشكال القتل). وينتمي الاغتيال السياسي إلى هذه الدرجة القصوى من العنف حيث يصل العنف إلى الاعتداء على حرمة الحياة نفسها. وعلينا أن نلاحظ هنا بأن الاغتيال عنفٌ لا يمكن أن نبرِّره بأي شكل من الأشكال، في حين يمكننا الحديث أحيانًا عن عنفٍ مبرَّر (الحرب) أو عن عنفٍ ثوري (الثورة لدى ماركس) أو عنفٍ مشروع (الدولة لدى ماكس فيبير).
تقول حنا آرندت: «إن العنف لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة، وإنما التغيير هو الوصف الأجدر بها، ولا يمكننا الحديث عن الثورة إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعنى بدايةٍ جديدة، وإلا حين يُستخدم العنف لتكوين شكلٍ مختلف للحكومة لتأليف كيانٍ سياسيٍّ جديد، وإلا حين يهدف التحرر من الاضطهاد إلى تكوين حرية» (ص٤٧ من كتاب في الثورة).
كل الثورات ارتبطَت بالعنف كشرط إمكان لتأسيس بدايةٍ جديدة وكيانٍ سياسي جديد يحرِّر من الاضطهاد والطغيان، ويضمن الحرية والعيش الكريم. لكن ما يحدث اليوم في المسارات الثورية التي نعيشها في البلاد العربية هو واقعٌ مغاير؛ حدثَت انتفاضات، ووقع القضاء على طغاة، لكن لا شيء ينبئ ببدايةٍ جديدة. ما يحدث هو عودةٌ قويةٌ مدجَّجة بأوهامٍ لاهوتية إلى نمطٍ من الطغيان القديم تحت راية تأهيل نموذجٍ رعوي للكيان السياسي، وذلك الأمر أدى إلى تحوُّل الركح السياسي الحالي في بلداننا إلى ركح لممارسة العنف ضد الشعوب؛ عنف على العقول بأدلجتها وتحويلها إلى غرف نوم على تمائم الدعاة ودخان البخور، وعنف على القلوب بنشر الرعب فيها من عذابات القبور، وعنف على الأجساد بتحويلها إلى أجهزةٍ أخلاقيةٍ للحرام وللتحريم وللتأثيم، وفي الخريطة الخبيثة لهذا العنف ثمَّة مكانٌ أيضًا لاغتيال الأرواح وقتلها غيلة.
هذا المقال سوف يكتفي بالوقوف عند دلالة العنف في علاقته بالكيان السياسي من جهة، وفي علاقته بالهوية من جهةٍ ثانية. العنف ههنا يتأرجح بين جهازَين؛ جهاز الدولة وجهاز الهوية. هل يمكن أن يلتقيا هذان الجهازان؟ وما نتائج العودة إلى دولة الهوية بعد انتفاضات الحرية؟ سوف تقودنا في هذا المقال خطوطٌ استكشافية نختبرها من خلال الاسئلة التالية: هل يكون العنف شرطًا ملازمًا لكل مسارٍ ثوري؟ وأي نوعٍ من العنف تستوجبه الثورات؟ هل ثمَّة عنفٌ ثوري وعنفٌ إرهابي؟ ألا يكون العنف نتاجًا لعدم قدرة مشروعٍ سياسيٍّ ما على تحمُّل كمية الحرية الثاوية في مسارٍ ثوريٍّ ما؟
(١) الإنسان ذئب للإنسان
ثمَّة جيلٌ كامل من المفكِّرين في التصور السياسي الحديث للدولة قد انخرط في ربطٍ وثيق بين العنف والطبيعة البشرية من أجل أن يبرِّر أصل العنف في كل سلطة. لقد ذهب هوبز إلى أن «الإنسان ذئب للإنسان» وأن العنف رغبةٌ عدوانية غريزية في طبيعة البشر. وهي طبيعةٌ قائمة في جوهرها على الشر وغريزة القتل والخوف الدائم من الموت. تقول حنا آرندت في كتابها حول العنف: «إن هوبز هو فيلسوف السياسة الوحيد الذي يلعب لديه الموت دورًا محوريًّا على شكل خوف من الموت العنيف. لكن المساواة أمام العنف لم تكن العامل الحاسم لدى هوبز؛ فالعامل الرئيسي لديه هو المساواة في الخوف الناتج عن قدرةٍ متساويةٍ بين البشر على القتل، وهذه المساواة هي ما يقنع الناس الذين يعيشون في مجتمعٍ طبيعي، بأن يتجمعوا في جماعةٍ ذاتِ مصالحٍ مشتركة.»
وعلى عكس هوبز يذهب روسو إلى أن الإنسان من طبيعةٍ خيِّرة لذلك لا يكون الهدف من العقد الاجتماعي هو السيطرة على الأهواء والانفعالات العنيفة في الإنسان، بل هو ضمان الحريات الطبيعية في شكل حرياتٍ مدنية؛ فالعنف لا يبدأ وفقًا لهذه الرؤية إلا متى وقع تهديد هذه الحريات الطبيعية. إن الدولة التعاقدية تقوم على ارادة الشعب التي هي في قوامها قرار كل عضو من أعضائه التنازل عن حرياته الطبيعية لفائدة حرياتٍ مدنية تنظِّمها القوانين من أجل التعايش داخل مجتمعٍ مدني يكفل حقوق الجميع. روسو يقول: «كلما انتهت سلطة القوانين كلما صار العنف مشروعًا.» فالعنف لا ينتج إلا حين تنهزم دولةٌ ما في ضمان أمن مواطنيها بسلطة القانون؛ لذلك يقول هوبز: «إن المواثيق في غياب السيف ليست سوى كلماتٍ لا معنى لها، ولا قدرة على ضمان أمن البشر.»
وعلينا أن نُذكِّر هنا بأن روسو هو أوَّل من حارب هذا التأصيل للعنف في الطبيعة البشرية. وذلك في الفصل الثالث من العقد الاجتماعي الذي يفنِّد فيه روسو «حق الأقوى». يقول روسو: «لا يملك الأقوى قَط من القوة ما يكفي ليبقى السيد على الدوام، ما يحول قوَّته إلى حق والطاعة إلى واجب. لننظر لحظةً إلى هذا الحق المزعوم. أقول إنه لا ينتُج عنه سوى هُراء يستعصي على الفهم.»
تلك هي أطروحة العقد الاجتماعي الذي كتبه روسو من أجل دحض نظرية الإنسان ذئب للإنسان. وهي نظرية تجد أصولها مثلما رسمها دريدا (في كتاب الوحش والسيد) في كوميديا بلوت، وجمهورية أفلاطون (الكتاب الثامن) ونظرية كاليغولا الذي يعتبر أن «الملوك كانوا آلهة، وأن الشعوب كانوا حيوانات.»
يقول كانط في الفصل الأول من كتابه الدين في حدود مجرد العقل (١٧٩٣م) ما يلي: «إن العالم خبيثٌ ولا يُطمأن إليه؛ هي شكوى قديمة قِدم أقدم فنون الشعر، بل قديمةٌ قِدم الأقدم من بين كل الأشعار، قِدم دين الكُهَّان. كلها أيضًا تجعل العالم يبدأ بالخير؛ بالعصر الذهبي والحياة في الفردوس أو بحياةٍ أكثر سعادة، صحبة جماعةٍ من الكائنات السماوية. إلا أنها سرعان ما تُبدِّد هذه السعادة مثل حُلم، وها هي تُعجِّل لنا بالسقوط في الشر، نكدًا وأذيةً لنا في سقطةٍ متهاوية. إن الإنسان في جنسه لا هو بالخيِّر ولا هو بالشرِّير، أو هو قد يمكن أن يكون أيضًا؛ أحدهما بقَدْر ما هو الآخر، خيِّرٌ في شطرٍ منه، شريرٌ في شطره الآخر، ولكن حتى لا يصطدم المرء من أول وهلة بعبارة طبيعية ويستهجنها، فإنه ينبغي أن نلاحظ أن ما يُفهم هنا تحت طبيعة الإنسان هو فقط الأساس الذاتي لاستعمال حريته بعامة.»
ورغم ذلك يمكننا القول إن كل هؤلاء المفكرين، هوبز وروسو وكانط، ينتمون إلى براديغم الطبيعة البشرية الذي يقوم على أن الإنسان له طبيعةٌ سابقة على وجوده التاريخي. وهي أطروحةٌ سيقع تجاوزُها مع كلٍّ من هيغل وماركس انطلاقًا من اكتشاف هيغل لمملكة التاريخ بوصفها شرط إمكان وجود الإنسان نفسه؛ فالإنسان كائنٌ تاريخي وهو ابن عصره، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يخرج عن عصره، كما لا يمكنه أن يخرج عن جلدته. إن هيغل يطابق بين الدولة والعقل في سلوكٍ فلسفيٍّ خاصٍّ به قائم على تبرير الواقع بوصفه دومًا واقعًا عقليًّا؛ ذلك أن «لا شيء، وَفْق عبارته، سوف ينتج غير ما هو قائم بالفعل.» وبذلك كل ما يقع، يمكن تبريره بالعقل حتى العنف نفسه. لكن انطلاقًا من ماركس لن تكون الدولة عقلية، ولن تكون السلطة غيرَ أداةِ قمعٍ للصراع الطبقي المحرِّك للتاريخ. لا ينبغي أن نُبرِّر العالم بل ينبغي أن نغيِّره. ليست الدولة غيرَ أداةِ عنفٍ تملكها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج لقمع الطبقة المالكة لقوة العمل.
إن هذا التصوُّر للعنف على أنه ينتُج عن سلطة الدولة تقاسَمَه الماركسيون وردَّدوه مع ماركس؛ يقول أنغلز: «في كل مكانٍ تتناقض فيه بِنية السلطة لبلدٍ ما مع النمو الاقتصادي لهذا البلد، تكون الهزيمة من نصيب السلطة السياسية وأدوات العنف التي تلجأ لها.» ويقول ماو تسي تونغ: «إن السلطة تنبُع من فوَّهة البندقية.»
يمكننا أن نجمع نتائج هذا العنصر الأول من البحث في ماهية العنف في النقاط التالية:
- أولًا: يشترك كلٌّ من هوبز وروسو وماركس؛ أي أقطاب الحداثة السياسية الكلاسيكية، في الربط بين الدولة والعنف. وهو ما سيُردِّده بعدهم ماكس فيبيير قائلًا: «إن الدولة هي سلطة الناس على الناس قائمة على أساس العنف المشروع.» ورايت ميلز يقول: «كل سياسة إنما هي صراع من أجل السلطة، والعنف هو أقصى درجات السلطة.»
- ثانيًا: إن هذا القول باقترانٍ حميم بين السلطة والعنف يؤدي إلى مأزقَين خطيرَين؛ أن كل دولة هي بالضرورة دولةٌ عنيفة؛ بالتالي أنه بإمكاننا أن نبرِّر الاستبداد. من أجل ذلك ينبغي تحرير الناس من الدولة إذا ما أردنا تحريرهم من العنف والقمع والاضطهاد؛ وبالتالي: إما الطغيان أو الفوضى أو مجتمع اللادولة.
(٢) ليس ثمَّة عنفٌ مشروع
للخروج من هذا المأزق النظري تقترح علينا حنا آرندت ضرورة تجاوُز الأطروحة السياسية الكلاسيكية التي تجعل من العنف واقعةً ملازمة للسلطة؛ تقول حنا آرندت: «إن السلطة والعنف يتعارضان؛ فحين يحكم أحدهما حكمًا مطلقًا يكون الآخر غائبًا. والعنف يظهر حين تكون السلطة مهدَّدة، لكنه إن تُرك على سَجيَّته فسينتهي الأمر باختفاء السلطة.»
غير أن هذا التعارض بين السلطة القائمة على مشروعية القوانين المدنية والعنف، الذي هو أداةٌ لإحلال الأمن (كلما وقع الاعتداء على مشروعية القوانين)، لا يعني أبدًا أن ثمَّة سلطةً غيرَ عنيفة. وهو ما تُصرِّح به حنا آرندت قائلة: «إن الحديث عن سلطةٍ لا عنيفة هُراء لا معنى له؛ فبإمكان العنف أن يُدمِّر السلطة، لكنه عاجزٌ عن خَلْقها.» فما يخلُق السلطة إنما هو الإرادة العامة للشعب، التي يقع ترجمتُها في قوانينَ مدنية تحت سقف دولةٍ ديمقراطية.
لكن ما الذي يجعلنا نقرن دومًا بين السلطة والعنف؟ تُجيب آرندت: إنه الاعتقاد التقليدي القائل إن «الحكومة هي سيطرة الإنسان على الإنسان بواسطة العنف.» وهنا تدعونا آرندت للتحرُّر من هذه الأطروحة الكلاسيكية إلى ضرورة التمييز بين العنف والسلطة؛ ذلك أن السلطة تكمُن في جوهر كل حكومة، لكن العنف من طبيعةٍ أداتية، وفي حين تحتاج السلطة إلى المشروعية يحتاج العنف إلى التبرير: «إن العنف، على حد تعبيرها، قد يُبرَّر لكنه لن يحوزَ أبدًا على مشروعيته.» لذلك «لم يحدث أبدًا لحكومة أن وطَّدَت سُلطتَها على أساس أدوات العنف.»
وفي هذا السياق تُميِّز آرندت بين السلطة والإرهاب؛ فالسلطة هي قدرةٌ جماعية تنبع من إرادة الجماعة على العيش معًا في ظل قوانينَ مدنية، وتظل موجودةً طالما بقيَت الجماعة، وتسقط كلما تفتَّتَت الجماعة وانحلَّت إلى طوائفَ متناحرة. حين تنهزم القدرة الجماعية على الوجود معًا، ينتصر العنف وتسقط السلطة. أما الإرهاب فتُعرِّفه آرندت كما يلي: «الإرهاب ليس هو العنف، إنه بالأحرى شكل الحكومة التي تحلُّ في السلطة حين يكون العنف، بعد أن دمر كل سلطة، قد رفَض التنازل عن مكانه. إن فعالية الإرهاب ترتبط كليًّا بدرجة التفتُّت الاجتماعي» (٤٩).
من أجل تجميع نتائج هذه الأطروحة نكتفي بالإشارات التالية:
-
إن هذا التحليل الذي قدَّمَته حنا آرندت في اشتغالها على ظاهرة العنف إنما يندرج تحديدًا ضمن الأنطولوجيا السياسية، التي قامت على نقد للدولة التوتاليتارية بما هي دولةٌ بوليسية قائمة على إرهاب مواطنيها (ما قام به ستالين نموذجًا).
-
حنا آرندت تميِّز بشكلٍ مثير بين الطغيان القائم على العنف والدولة التوتاليتارية القائمة على الإرهاب؛ تقول: «إن الفارق الحاسم بين الهيمنة التوتاليتارية القائمة على الإرهاب والطغيان والدكتاتورية القائمة على العنف، يكمُن في أن الأولى لا تقف فقط ضد أعدائها، بل كذلك ضد أصدقائها ومناصريها؛ حيث إنها تكون على رعبٍ من كل سلطة، بما في ذلك سلطة أصدقائها أنفسهم، والحال أن ذروة الإرهاب تكون حين تبدأ الدولة البوليسية بالتهام أبنائها، فيصبح جلَّاد الأمس ضحية اليوم، وتكون تلك هي أيضًا اللحظة التي تختفي فيها السلطة كليًّا.»
-
كل انحطاطٍ يصيب السلطة هو دعوةٌ مفتوحة للعنف، وكل عنفٍ من قِبل الحاكم أو من قِبل المحكومين قد يؤدي إلى إحلال الإرهاب أو الفوضى محل المجتمع المدني.
(٣) هُويَّاتٌ قاتلة
في كتابه الهوية والعنف يذهب المفكِّر الهندي مارتيا سين إلى اقتراح مقاربةٍ طريفة عن مسألة العنف في علاقتها بالهوية. وهو في ذلك يسترشد بالسؤال التالي: كيف يمكن للهوية ألا تكون مصدرًا للعنف؟ هذا الكاتب يفكِّر في مسألة العنف بعد أحداث ١١سبتمبر ٢٠٠١م؛ أي بعد أن انحدر العالم فيما سمَّاه هنتنغتون صدام الهمجيات. إن الأمر يتعلق بالحركات الإسلاموية المتطرفة التي صارت تسمَّى حركاتٍ إرهابية، والتي حوَّلَت الإسلام إلى مصدرٍ للعنف وللإرهاب ضد مللٍ أخرى. يتساءل مارتيا سين: لماذا تصبح هويةٌ ما مصدرًا للإرهاب؟ هل أن الإرهاب هو في جوهر كل هوية؟ مارتيا سين ينقد أطروحة صدام الهمجيات، ويسعى إلى فهم ظاهرة الإرهاب الهووية تحت راية عنف الهوية الواحدة المنغلقة على ثوابتها والرافضة لهوياتٍ أخرى. يتعلق الأمر بضرورة العمل على فك الرابط بين الهوية والعنف من خلال أطروحة «الهوية المتعددة».
إنَّ ما يقصده مارتيا سين من هذه المقاربة هو ما يلي:
- أولًا: علينا أن نضع في أذهاننا أنه ليس قدَرًا محتومًا على أيٍّ منا ولا على شعبٍ بعينه أن يكون أسيرَ هُويةٍ واحدة، وأنه ليس من حق أية جهةٍ سياسيةٍ أن تسطوَ على مصير شعبٍ ما وأن تختزله في هُويةٍ واحدة.
- ثانيًا: كلٌّ منا في حياته اليومية منخرط بطبيعته في جماعاتٍ متنوعة؛ فيمكنني أن أكون مواطنًا تونسيًّا من أصولٍ رومانية أو تركية أو أندلسية أو بربرية، وأن أكون أيضًا مسلمًا، وأن أكون ليبيراليًّا أو يساريًّا، وأن أكون امرأةً أو رجلًا، وأن أمارس الرياضة، وأن أكون نقابيًّا أو محبًّا للبيئة؛ يقول مارتيا سين: «إننا نمتلك انتماءاتٍ متمايزةً كثيرة، وإن بإمكاننا أن نتفاعل بعضنا مع بعض بطرقٍ مختلفةٍ كثيرة، بغَض النظر عما يقوله لنا المحرِّضون والهجَّاءون» (ص٢٣).
- ثالثًا: «يمكن لهويةٍ ما أن تقتل، وأن يكون قتلها ذريعًا»، لكن «لا ينبغي للهُوية أن تُعامَل كأنها شرٌّ مطلق» (ص٣٥). من أجل ذلك ينبغي التحرُّر من الهوية الواحدة والقول بالهوية المتعددة؛ فليس ثمَّة أية هُوية يمكنها أن تتحول إلى قدَرٍ لشعبٍ أو لشخصٍ ما؛ لذلك يدحض مارتيا سين التصور الجماعاتي الذي لا يفعل وفق عبارةٍ جميلة له غير «توزيع الناس إلى أقفاصٍ صغيرة من الحضارات المختلفة» (ص٣٦).
-
رابعًا: إن اختزال الشعوب والأفراد في هويةٍ
واحدة قد أدى إلى الكثير من المجازر
الدموية من قبيل تلك التي حدثَت في الهند
وفي صربيا وفي فلسطين وفي أفغانستان
وفي السودان، وما حدث في بورما وفي
الشيشان وما يحدث اليوم في سوريا وفي
الكثير من ديار الإسلام؛ كُل هذه الجرائم
الفظيعة وقعَت تحت راية التماهي الطائفي
مع هويةٍ واحدة؛ الهوية المسلمة أو
اليهودية أو الشيعية أو الكردية، جرائم
فظيعة وصدامات دموية ارتدَّت بالإنسانية
إلى «أكَلَة لحوم البشر» أو إلى مجتمع
الذئاب.
يقول مارتيا سين: «يعمل قادة التعذيب والمذابح بمهارة في نشر الوهم بوجود هويةٍ واحدة ثم يسمحون لهذا الوهم بالتجذر والنمو. وليس أمرًا لافتًا أن يبدو توليد وهم الهوية المفردة هذا القابل للاستغلال من أجل الصراع، مغريًا للذين يشتغلون بمهنة غرس العنف ورعايته» (ص٢٦٥).
- خامسًا: لكي نفهم هذه الأطروحة القائمة على محاربة وَهْم الهوية الواحدة، بما هي مصدرٌ للعنف والإرهاب، علينا أن نشير إلى أن هذا المفكِّر الهندي إنما يأتينا من عمق المجازر التي وقعَت بين الهندوس والمسلمين في أربعينيات القرن الماضي، والتي اقترنَت بتقسيم الهنود إلى مسلمين عنيفين وهندوس قساة. والنتيجة هلاك مئات الآلاف من البشر في حالةٍ هستيرية من آكلي لحوم البشر، هؤلاء الذين تحوَّلوا تحت فعل وَهْم الهوية الواحدة إلى ذئابٍ مفترسة.
- سادسًا: يُحذر مارتيا سين من الجماعات التي تنضوي تحت راية «الجهاد» قائلًا: «يمكن أن يستغل مؤجِّجو الجهاد العُنفي النظرة الاختزالية للفهم الانعزالي للناس، بمعايير مقصورة على الهوية الدينية العدائية، بشكلٍ مهلك لإغلاق الطرق الأخرى كلها التي يمكن أن يسلكها المسلمون بشكلٍ سهل، وذلك بالتماشي مع تقاليدهم التاريخية العميقة» (ص٢٧٠).
خاتمة
لو واصل ربيعنا العربي احتفاله السادي المازوشي بالدماء لتحوَّل عالمنا الإسلامي إلى مكانٍ صالح للاحتراق. وفي انتظار اللامتوقَّع علينا أن نضع في أذهاننا ما يلي: أنه مهما كان حجم الأزمة أو الكارثة التي نمُر بها في هذا الزمان الانتقالي، فإن الشعوب بوسعها دومًا أن تُبدع أشكالًا من الذكاء اليومي كي تواصل الحياة بما أمكن من هشاشة الكينونة ومن فقر الوجود. أما بالنسبة إلى الثورات العربية كيف آلت إلى ركح للعبث بأحلام شعوبها، فذاك أمرٌ لا يحتاج منَّا إلى بكاء ودراميات، إنما يحتاج إلى مواقفَ ثورية وبرامجَ واستراتيجيات. وإن كانت هذه الثورات قد سُرقَت وتم تحويلها إلى صوامعَ انتخابية فإن الثوار يملكون «الصيرورة الثورية التي — وفق عبارات دولوز — لا تشكل شيئًا واحدًا مع مستقبل الثورة، ولا تمُر بالضرورة عَبْر المناضلين.»
مراجع
-
(١)
أمارتيا سين، الهوية والعنف، وَهْم القدر، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، بيروت، جداول، ٢٠١٢م.
-
(٢)
حنا آرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، بيروت، دار الساقي، ١٩٩٦م.
-
(٣)
حنا آرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠٠٨م.
-
(٤)
روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة عمار الجلاصي وعلي الأجنف، تونس، دار المعرفة، ٢٠٠٤م.
-
(٥)
كانط، الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، بيروت، دار جداول، ٢٠١٢م.
-
(٦)
جيل دولز – كلير باني، حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان – أحمد العلمي، المغرب، أفريقيا للشرق، ١٩٩٩م.