السيدة رايدر تعلم بمقتل ثورنتون لاين
لم يتكلَّم أيٌّ منهما لبعض الوقت. تقدَّم تارلينج نحوَها على مهل، وسحب كرسيًّا إلى جانب السرير وجلس، ولم يرفع عينَيه قطُّ عن الفتاة.
أوديت رايدر! المرأة التي كانت شرطةُ إنجلترا تبحث عنها، والتي صدر أمرٌ بالقبض عليها بتهمة القتل العمد — وهنا في مستشفًى ريفيٍّ صغير. للحظة ولحظة فقط كان تارلينج في شك. لو أنه كان خارج القضية ويُراقبها كمُشاهدٍ غيرِ مهتم، أو أن هذه الفتاة لم تقترب من حياته إلى هذا الحد، مؤثِّرة عليه هذا التأثيرَ الجديد المزعج حتى أفقدته قدرته على الحُكم السليم، لكان قد قال إنها كانت مختبئةً وإنها اختارت هذا المستشفى كملاذٍ آمن. الاسم ذاته الذي سجَّلَت نفسَها به كان اسمًا وهميًّا — وهو ما كان من الملابسات المريبة في حدِّ ذاته.
لم تُفارق عينا الفتاةِ عينَيه. وقرأ في أعماقها الصافيةِ نظرةَ رعب، فسقط قلبُه من بين أضلُعِه. لم يُدرك من قبل أن الحافز الرئيسي له في هذه القضية لم يكن اكتشافَ قاتل ثورنتون لاين، وإنما كان إثبات براءة الفتاة.
قالت بصوت مخنوق: «السيد تارلينج. أنا … أنا لم أتوقَّع رؤيتك.»
لقد كانت عبارةً ضعيفة، وبدَت أضعفَ بالنسبة إليها لأنها تدرَّبَت بعناية شديدة على البيان الذي كانت تنوي الإدلاءَ به. لأنَّ لحظاتِ يقظتها، منذ وقوع الحادث، امتلأت بالأفكار حول هذا الرجل الجامد الملامح، وما الذي سيُفكر فيه، وماذا سيقول، وماذا، في بعض الاحتمالات، كان سيفعل.
قال تارلينج بلطف: «أفترضُ ذلك.» ثم أضافَ: «يؤسفني سماع أنكِ قد أُصِبتِ بارتجاجٍ يا آنسة رايدر.»
أومأت برأسها، وانفرَجَت شفتاها عن ابتسامة واهنة.
قالت: «لم يكن شيئًا خطيرًا.» ثم استطردت: «بالطبع، كان الأمرُ شديد الإزعاج في البداية و… ماذا تريد؟»
انطلقت الكلمات الأخيرة من فمها كالرَّصاص. لم تستطِع تحمُّلَ مهزلةِ المحادثة المهذَّبة.
سادَ الصمتُ دقيقةً ثم تحدَّث تارلينج.
قالَ على مهل: «أردتُ أن أجِدَك.» ومرةً أخرى قرأ الخوفَ في عينَيها.
قالت: «حسنًا.» تردَّدَت ثم قالت بيأسٍ وبقليل من التحدي: «هَا قد وجدتَني!»
أومأ تارلينج برأسه.
تابعَت حديثها بسرعة: «والآن بعد أن وجدتَني، ماذا تريد؟»
كانت مستلقيةً على مرفقها، ووجهُها المجهد ملتفتٌ نحوَه، وقد ضاقت عيناها قليلًا وهي تُراقبه بنظرة متجهمة وشَتْ بانفعالها.
قال تارلينج: «أريد أن أطرح عليك بعض الأسئلة.» وأخرجَ دفتر ملاحظات صغيرًا من جيبه، ووازنه على ركبته.
هزَّت الفتاةُ رأسَها، مما أحبطه.
قالت بهدوء أكثر: «لا أعرف إذا كنت مستعدَّةً للإجابة عن أسئلتك، ولكن لا مانع من أن تطرحها.»
كان هذا موقفًا غيرَ متوقَّع على الإطلاق. كان يستطيع أن يتفهَّم أن تكون أوديت رايدر مفزوعة. إذا كانت قد انفجرَت في نوبة بكاء، لو أنها فقدَت السيطرة على نفسها ورِباطة جأشها في خِضمِّ رعبها، لو أنها شعرت بالسخط أو بالخزي — كان من الممكن أن يتلاءم أيٌّ من هذه المشاعر مع الفكرة التي لديه عن براءتها أو تخوُّفِها من جُرمها.
سأل بصراحة: «بدايةً، لماذا أنتِ هنا تحت اسمِ الآنسة ستيفنز؟»
فكَّرَت لحظة، ثم هزَّت رأسها.
قالت بهدوء: «هذا سؤالٌ لستُ مستعدَّةً للإجابة عنه.»
قال تارلينج: «لن أضغطَ عليكِ للحظة؛ لأنني أُدرك أنه مرتبط ببعض التصرُّفات الغريبة الأخرى التي قمتِ بها يا آنسة رايدر.»
تخضَّب وجهُ الفتاة وغضَّت بصرها، وتابع تارلينج:
«لماذا غادرتِ لندن سِرًّا، دون إعطاء أصدقائك أو والدتِك أيَّ فكرة عن خُططك؟»
رفعَت نظرها إليه بحِدَّة.
«هل رأيتَ أمي؟» سألَت بهدوء، ومرةً أخرى بدا الاضطرابُ في عينيها.
قال تارلينج: «لقد رأيتُ والدتَك.» ثم أضافَ: «ورأيتُ أيضًا البرقية التي أرسلتِها إليها. هيا يا آنسة رايدر، ألن تدَعيني أُساعدك؟ صدِّقيني، هناك الكثيرُ يعتمد على إجاباتك أكثرُ من إرضاء فُضولي. يجب أن تُدركي مدى خطورة موقفك.»
رآها تزمُّ شفتَيها بإحكام وهزَّت رأسها.
قالت وهي تلتقط أنفاسها: «ليس لديَّ ما أقوله.» ثم أردفَت: «إذا … إذا كنت تعتقد أني …»
وتوقفَت عن الكلام.
قال تارلينج بصرامة: «أتِمي عبارتَكِ.» ثم أتمَّها هو قائلًا: «إذا كنتُ أعتقد أنكِ قد ارتكبتِ هذه الجريمة؟»
أومأت برأسها.
وضعَ دفتر ملاحظاته جانبًا قبل أن يتكلم مرة أخرى، وانحنى فوق السرير، وأخذ يدَها.
وقال بجدِّية: «آنسة رايدر، أريد مساعدتَكِ، ويُمكنني مساعدتُك على أفضلِ وجه إذا تحدَّثتِ إليَّ بصراحة. أقول لكِ إني لا أُصدق أنكِ قد ارتكبتِ هذه الفَعْلة. أقول لكِ الآن على الرغم من أن كل الملابسات تُشير إلى أنكِ مذنبة، فإن لديَّ ثقةً مطلقة بأنكِ تستطيعينَ الردَّ على الاتهام.»
اغرورقت عيناها بالدموع للحظة، لكنها عضَّت شفتَيها وابتسمت بشجاعةٍ في وجهه.
«هذا كرمٌ ولطف منك يا سيد تارلينج، وأنا أُقدِّر لك طيبتك. لكن لا يُمكنني إخبارُك بأي شيء … لا أستطيع، لا أستطيع!» أمسكَت مِعصمَه بقوة واعتقد أنها ستنهار، ولكن مرةً أخرى، بجهد غير عادي من الإرادة التي أثارت الإعجابَ في قرارة نفسه، سيطرَت على نفسها.
قالت: «سوف تُسيء الظنَّ بي، وأنا أكره هذه الفكرة يا سيد تارلينج … أنت لا تعرف كم أكرهُ ذلك. أريدك أن تعرف أنني بريئة، لكنني لن أبذل أيَّ جهد لإثبات أنني لست مذنبة.»
قاطعها بصرامة: «أنتِ مجنونة. إنكِ تَهْذين! يجب أن تفعلي شيئًا، هل تسمعين؟ يجب أن تفعلي شيئًا.»
هزَّت رأسها، وأغلقت يدها الصغيرةَ التي استقرَّت على يده برفق على اثنَين من أصابعه.
قالت ببساطة: «لا أستطيع. فقط لا أستطيع.»
دفعَ تارلينج الكرسيَّ بعيدًا عن السرير. كاد يئنُّ تحت وطأة اليأس من قضية الفتاة. لو أنها فقط أعطَتْه خيطًا واحدًا من شأنه أن يقودَه إلى دليلٍ آخر، لو أنها فقط احتجَّت على براءتها! غرق قلبه يأسًا، ولم يملك سوى أن يهزَّ رأسه بلا حولٍ ولا قوة.
قال بصوتٍ أجشَّ: «فلنفترِض أنكِ متهَمة بهذه الجريمة. هل تقصدين أن تُخبريني أنكِ لن تُقدِّمي دليلًا يمكن أن يُثبت براءتَكِ، ولن تقومي بأي محاولة للدفاع عن نفسك؟»
أومأت برأسها.
قالت: «أقصدُ ذلك.»
صاحَ مصعوقًا: «يا إلهي! أنتِ لا تعرفين ما تقولينَه. أنتِ مجنونة يا أوديت، مجنونة تمامًا!»
ابتسمَت لجزءٍ من الثانية فقط، وذلك لاستخدامه غيرِ الواعي لاسمها الأول.
قالت: «أنا لستُ مجنونةً على الإطلاق.» ثم أردفت: «أنا عاقلة جدًّا.»
نظرَت إليه بتمعُّن، ثم فجأةً بدَت وكأنها تنكمش إلى الخلف، وبهت لونها وهمسَت: «أنت … أنت لديك أمرٌ بالقبض عليَّ!»
أومأ برأسه.
«وهل ستعتقلني؟»
هزَّ رأسه.
قال بإيجاز: «لا.» ثم تابعَ: «سأترك ذلك لشخصٍ آخر. لقد سئمتُ من القضية، وسأخرج منها.»
قالت ببُطء: «هو أرسلك إلى هنا.»
«هو؟»
«نعم … أتذكر. كنتَ تعمل معه، أو أرادك أن تعمل معه.»
سأل تارلينج بسرعة: «عمَّنْ تتحدَّثين؟»
قالت الفتاة: «ثورنتون لاين.»
قفز تارلينج على قدَمَيه وحدَّق فيها.
كرَّر: «ثورنتون لاين؟» ثم سألها: «ألا تعرفين؟»
سألت الفتاة بعبوس: «أعرفُ ماذا؟»
قال تارلينج: «أنَّ ثورنتون لاين مات، وأنه صدر أمرٌ بالقبض عليكِ بتهمة قتله؟»
نظرَت إليه للحظةٍ وقد اتسعَت حدَقَتاها.
قالت لاهثة: «مات!» ثم أردفَت: «مات! ثورنتون لاين مات! أنت لا تعني ذلك، أنت لا تعني ذلك؟» تمسَّكَت بذراع تارلينج. «أخبرني أن هذا ليس صحيحًا! لم يفعلها، لم يجرُؤ على فِعلها!»
ترنحت إلى الأمام، وجثى تارلينج على ركبتيه بجانب السرير ليُمسِك بها بين ذراعَيه بينما أُغمي عليها.