طلقتان في جوف الليل
كانت رحلة العودة إلى لندن واحدةً من الرحلات التي سُجِّلَت تفاصيلها بواقعيةٍ فوتوغرافية في عقل تارلينج لِمَا بقي من حياته. تحدَّثَت الفتاة قليلًا، وكان هو نفسُه راضيًا بالتأمُّل وتقليب الملابسات المحيِّرة التي أحاطت برحلة أوديت رايدر في ذهنه.
في فترات الصمت ذاتِها التي تخللَت حديثَهما كان ثَمة صداقةٌ وتفاهمٌ وُديٌّ كان من الصعب على الرجل والفتاة تحديدُ كُنْهِه. هل كان يُحبها؟ لقد صُدِمَ من احتمال وقوع مثل هذه الكارثة. إنَّ الحب لم يدخل حياته قط. لقد كان حالةً افتراضية لم يضَعْها يومًا في اعتباره. كان يعرف أن الرجال يقَعون في الحب، تمامًا كما يعرف أن الرجال يُعانون من الملاريا أو الحُمَّى الصفراء، دون أن يُفكر في أن التجرِبة نفسها قد تمر به وتسيطر عليه. كان وجود رجل خجول متحفِّظ، وراء هذا القِناع القاسي أمرًا لم يتوقَّعْه أقربُ أصدقائه.
حتى إنَّ احتمال أن يكون واقعًا في حب أوديت رايدر أربكَ عقله؛ لأنه يفتقدُ إلى الخيال الكافي للاعتقاد بأن مثل هذه العاطفة يُمكن أن توجد في حياته. لم يكن يتصوَّر أن أيَّ امرأة يُمكن أن تُحبه. والآن مجرد حضورها، قربها العَطِر، يُهدئه ويُقلقه في الوقت نفسِه. ها هو محقق مسئول فعليًّا عن امرأة يُشتبَه في ارتكابها جريمةَ قتل — وكان خائفًا منها! كان يعرف أن أمر القبض عليها الموجودَ في جيبه لن يُنفَّذ على الإطلاق، وأن سكوتلاند يارد لن تمضيَ قدمًا في الادِّعاء؛ لأنه على الرغم من أن سكوتلاند يارد ترتكب بعض الأخطاء الفادحة، فهي لا تُحب أن تُعلن عن أخطائها.
كانت الرحلة قصيرةً للغاية، ولم يَعُد إلى موضوع القتل إلا حين كان القطار يتهادى ببطءٍ عبر الضباب الرقيق الذي غلَّف لندن، وبمجهود ضخم كذلك.
قال: «سوف أصحَبُكِ إلى فندقٍ لقضاء الليلة، وفي الصباح سأطلب منكِ الحضورَ معي إلى سكوتلاند يارد للتحدُّث إلى الرئيس.»
ابتسمت وقالت: «إذن أنا لستُ قيدَ الاعتقال؟»
ابتسمَ متجاوبًا معها وقال: «لا، لا أعتقدُ أنكِ قيد الاعتقال.» ثم استدركَ: «لكن أخشى أنكِ سيُطرَح عليكِ عددٌ من الأسئلة قد تُضايقك. كما ترَين يا آنسة رايدر كانت أفعالُكِ مثيرةً للرِّيبة للغاية. كنتِ ستسافرين إلى أوروبا تحت اسم مستعار، ومما لا شك فيه أن جريمة القتل ارتُكِبت في شقتك.»
ارتجفَت.
قالت بصوتٍ منخفض: «من فضلك، من فضلك لا تتحدَّث عن ذلك.»
شعر بالوحشية، لكنه كان يعلم أنَّ عليها الخضوعَ لتحقيقٍ على أيدي رجال كانوا أقلَّ احترامًا لمشاعرها.
قال متوسِّلًا: «أتمنى أن تكوني صريحةً معي.» ثم أردفَ: «أنا متأكد أنني أستطيع إخراجَكِ من كل مشاكلكِ دون أي صعوبة.»
قالت: «السيد لاين كان يكرهُني.» ثم أوضحت: «أعتقد أنني لمستُ نقطة ضعفه — هذا الرجل المسكين — ألا وهي كبرياؤه. أنت نفسك تعرف كيف أرسلَ ذلك المجرمَ إلى شقتي من أجل زرع أدلة ضدي.»
أومأ برأسه.
وسألها: «هل قابلتِ ستاي من قبل؟»
هزَّت رأسها.
قالت: «أعتقد أنني سمعتُ عنه.» ثم تابعت: «كنتُ أعرف أن السيد لاين كان مهتمًّا بمجرم، وأن هذا المجرم يعبده. ذات مرة أحضره السيد لاين إلى المتاجر وأراد أن يمنحَه وظيفة، لكن الرجل رفض. وأخبرني السيد لاين ذات مرة أن سام ستاي يمكن أن يفعلَ أي شيء في العالم من أجله.»
قال تارلينج بصراحة: «ستاي يظن أنكِ ارتكبتِ جريمة القتل.» ثم تابعَ قائلًا: «من الواضح أن لاين أخبره قصصًا عنكِ وعن كراهيتكِ له، وأنا أعتقد حقًّا أن ستاي سيكون أكثرَ خطورةً عليكِ من الشرطة، لكن لحسن الحظ فقط هذا المحتالُ الصغير قد فقدَ عقله.»
نظرَت إليه بدهشة.
سألت: «هل جُنَّ؟» ثم قالت: «المسكين! هل دفعه هذا الشيء الفظيع إلى …»
أومأ تارلينج برأسه.
«لقد نُقِل إلى مِصحَّة المقاطعة هذا الصباح. لقد عانى نوبةً أثناء وجوده في مكتبي، وعندما أفاقَ بدا أنه فقدَ عقله تمامًا. والآن يا آنسة رايدر ستكونين صريحة معي، أليس كذلك؟»
نظرت إليه مرة أخرى وابتسمت في أسًى.
«أخشى ألا أكونَ أكثر صراحةً مما كنتُ عليه يا سيد تارلينج. إذا كنتَ تريدني أن أخبرك لماذا اتخذتُ اسم ستيفنز، أو لماذا هرَبت من لندن، فلن أستطيعَ أن أُخبرك. كان لديَّ سببٌ وجيه …» توقفَت قليلًا، ثم تابعت: «وقد يكون لديَّ حتى الآن سببٌ أوجَهُ للهرب …»
كادت أن تقول «مرة أخرى» لكنها أحجمت عن الكلمة.
وضعَ يده على يدها.
وقال بجدية: «عندما أخبرتُكِ عن جريمة القتل هذه، عرَفتُ من دهشتكِ وغضبكِ أنكِ بريئة. ثم تمكَّن الطبيب لاحقًا من إثبات حُجَّة غياب لا يُمكن زعزعتُها. ولكن يا آنسة رايدر عندما فاجأتُكِ، تحدثتِ كما لو كنتِ تعرفين مَن ارتكب الجريمة. لقد تحدثتِ عن رجل، وما أريده هو اسم ذلك الرجل.»
هزَّت رأسها.
وقالت ببساطة: «ذلك ما لا أستطيع أن أخبرك به أبدًا.»
حثَّها قائلًا: «لكن ألا تُدركين أنكِ قد تُتهَمين بكونكِ أحدَ الشركاء قبل الفِعل أو بعده؟» ثم أردفَ: «ألا ترين ما يعنيه هذا لكِ ولوالدتكِ؟»
أغمَضَت عينيها عند ذِكر اسم والدتها كأنها تحجب رؤيةَ أحد الاحتمالات غير السارة.
تمتمَت: «لا تتحدَّث عن ذلك، لا تتحدَّث عنه! أرجوك يا سيد تارلينج! افعل ما يحلو لك. دَعِ الشرطة تعتقلني أو تُحاكمني أو تشنقني … لكن لا تطلب مني أن أقول المزيد؛ لأنني لن أفعل، لن أفعل!»
غاصَ تارلينج للخلف بين الوسائد، متحيرًا ومذهولًا، ولم ينبس ببنت شَفة.
كان وايتسايد في انتظار القطار، وكان معه رجلان يحملان علامة «سكوتلاند يارد» على نحوٍ لا التباسَ فيه. سحبه تارلينج جانبًا وشرح الوضعَ في بضع كلمات.
قال: «في ظل هذه الظروف، لن أنفذ أمر القبض عليها.»
ووافقَ وايتسايد.
وقال: «من المستحيل تمامًا أن تكون قد ارتكبَت جريمة القتل.» ثم سأل مؤكِّدًا: «أعتقد أن دليل الطبيب لا يُمكن زعزعته؟»
قال تارلينج: «بالتأكيد.» ثم تابعَ: «وقد أكَّده رئيس المحطة في آشفورد، الذي سجَّل وقتَ وقوع الحادث في يومياته، وهو نفسُه ساعد في حمل الفتاة من القطار.»
سألَ وايتسايد: «لماذا أطلقَت على نفسها اسم الآنسة ستيفنز؟» وأضافَ: «وما الذي دفعها إلى مغادرة لندن على عجلٍ بهذه الطريقة؟»
أبدى تارلينج بادرةَ يأس.
قال: «هذا أحد الأشياء التي أودُّ أن أعرفها، والشيء نفسُه الذي ترفض الآنسة رايدر أن تُعلِمَني به. سأصحبها إلى فندق، وغدًا سوف أُحضرها إلى سكوتلاند يارد، لكن أشكُّ إذا كان بإمكان الرئيس أن يقول أيَّ شيء يحثُّها على الكلام.»
سأل وايتسايد: «هل فوجِئَت عندما أخبرتَها بجريمة القتل؟ هل ذكرَت اسم أي شخص؟»
تردَّد تارلينج، ثم في واحدة من المرات القليلة في حياته، كذب.
قال: «لا، كانت مستاءةً فقط … لم تذكر أحدًا.»
اصطحب الفتاةَ بسيارة أجرة إلى الفندق الصغير الهادئ الذي اختاره — ولم تخلُ الرحلة من الإثارة، فقد أصبح الضباب كثيفًا الآن — ورآها ثابتةً على نحوٍ مريح.
قالت عندما كانت تتأهَّب لمفارقته: «لا يسَعُني التعبير عن مبلغ امتناني على لُطفك يا سيد تارلينج، وإذا كان بإمكاني جعلُ مهمتك أسهل … لكنتُ فعلت.»
رأى وجهها يتقلَّص ألمًا.
قالت وكأنها تُحدث نفسها: «أنا لا أفهم الأمر حتى الآن؛ يبدو وكأنه كابوس.» ثم أضافت: «بطريقةٍ أو بأخرى لا أريد أن أفهمه … أريد أن أنسى، أريد أن أنسى!»
سألَ تارلينج: «ماذا تريدين أن تنسَي؟»
هزَّت رأسها وقالت:
«لا تسألني.» ثم أردفت متوسلة: «أرجوك، أرجوك لا تسألني!»
نزلَ على الدَّرج الكبير وهو في غاية القلق. لقد تركَ سيارة الأجرة عند الباب. ولدهشته وجدَها قد ذهبت فاستدار إلى البواب.
قال: «ماذا حدث لسيارة الأجرة التي كانت تنتظرني؟» ثم تابعَ: «أنا لم أحاسب السائق.»
قال البواب: «سيارة الأجرة يا سيدي؟» ثم أردفَ: «لم أرَها وهي تُغادر. سأسأل أحد الغلمان.»
روى مساعد البواب الذي كان في الشارع قصةً مدهشة. خرجَ سيدٌ محترم من الظلمة، وسدَّد للسيارة الأجرة، ومِن ثَمَّ اختفت السيارة. الشاهِد على هذا الحدث لم يرَ وجه الرجل. كلُّ ما كان يعرفه هو أن هذا المتبرع الغامض قد سار في اتجاهٍ معاكس للاتجاه الذي سارت فيه السيارة، واختفى في الظلام.
تجهَّمَ تارلينج.
عقَّب قائلًا: «هذا غريب.» ثم قال: «فلتُحضر لي سيارة أجرة أخرى.»
هزَّ بواب الفندق رأسه وقال: «أخشى أنك ستجد ذلك صعبًا يا سيدي.» ثم أوضحَ: «أنت ترى مدى كثافة الضباب — إنه دائمًا ما يكون كثيفًا هنا — الوقت متأخر في العام على هذا الضباب …»
قاطعَ تارلينج محاضرته عن الأرصاد الجوية، وزرَّر معطفه، وخرجَ من الفندق في اتجاه أقرب محطة مترو أنفاق.
كان الفندق الذي اصطحبَ إليه الفتاة يقع في شارعٍ سكَني هادئ، وفي هذه الساعة من الليل كان الشارع خاليًا تمامًا، وأضاف الضباب شيئًا إلى وحدته الطبيعية.
لم يكن تارلينج على دراية جيدة بلندن تحديدًا، ولكن كانت لديه فكرةٌ تقريبية عن الاتجاه. كان الضبابُ كثيفًا، لكنه استطاع رؤية الإضاءة المشوَّشة لمصباح الشارع، وكان في منتصف الطريق بين اثنين من هذه المصابيح عندما سمع خطواتٍ هادئةً وراءَه.
كان صوتًا ضعيفًا جدًّا، واستدار بسرعة. وعلى نحوٍ غريزي، ألقى يدَيه وتنحَّى جانبًا.
سمعَ صوتَ أزيز شيء ما يمر أمام رأسه ويصطدم بالرصيف بصوت مكتوم.
قال في عقله: «كيس رمل»، وقفز على مُهاجِمه.
وبالسرعةِ نفسِها قفز مُهاجِمُه المجهول إلى الخلف. كان هناك صوتٌ يصمُّ الآذان. تم حرق قدمَيه بالكوردايت المحترق، وللحظةٍ حرَّر رقبة عدوِّه التي كانت في قبضته.
شعرَ بالمسدس مرفوعًا مرة أخرى، ولم يرَه، فسقط على الأرض بسرعة البرق كما تعلَّم في الأيام الخوالي من مدرب ياباني للجو-جيتسو. كان مقلوبًا على رأسه عندما انطلق المسدس للمرة الثانية. لقد كانت خدعة ذكية، مصمَّمة لتحقيق أقصى قوةٍ من قدمه على ركبة خَصمه. لكن الغريب الغامض كان سريعًا جدًّا بالمقارنة به، وعندما قفز تارلينج على قدمَيه كان وحده.
لكنه رأى الوجه … كان كبيرًا وأبيضَ ويبدو عليه ملامحُ الانتقام. كانت مجردَ لمحة وتخمين، لكنه اقتنع بأنه يعرف عدوَّه.
ركضَ في الاتجاه الذي اعتقد أن القاتل المحتمَل قد سلكه، لكن الضباب كان كثيفًا وأساءَ التقدير. سمع صوت خطوات متسارعة وجرى نحوها، ليجد أنه رجلُ شرطة جذبه صوتُ الطلقات.
لم يقابل الضابطُ أحدًا.
قال تارلينج: «لا بد أنه ذهب في الاتجاه الآخر.» وأسرع يُطارده، ومع ذلك، لم يستطِع القبضَ على مُهاجِمه.
رجع ببطءٍ إلى حيث ترك الشرطيَّ يبحث على الرصيف عن دليلٍ من شأنه التعرُّفُ على معتدي الليل.
كان الشرطي يستخدم مصباحًا كهربائيًّا صغيرًا كان قد أخرجه من جيبه.
قال: «لا شيء هنا يا سيدي.» ثم أردفَ: «فقط هذه القطعة من الورق الأحمر.»
أخذَ تارلينج الورقة المربعة الصغيرة من يد الرجل وفحصها تحت ضوء المصباح — مربع أحمر كُتِبَت عليه أربع كلمات باللغة الصينية: «لقد جلب هذه المشكلةَ على نفسِه.»
كان النقشَ نفسَه الذي عُثِرَ عليه مطويًّا بعناية في جيب صدرة ثورنتون لاين في ذلك الصباح الذي وُجِد فيه مقتولًا.