المحفظة الثقيلة
كلُّ ما تبقى من مقرِّ شركة «ميسرز داشوود آند سولومون» الذي كان في يومٍ من الأيام فخمًا، وإن كان محدودَ المساحة، كان عبارةً عن جدارٍ أمامي هزيل سوَّده الحريق. قابَلَ تارلينج رئيسَ كتيبة الإطفاء.
قال ذلك المحترم: «سوف تمر أيام قبل أن نتمكَّن من الدخول، وأنا أشكُّ كثيرًا إذا كان أيُّ شيء قد بقي سليمًا. لقد احترق المبنى برُمَّته — يمكنك أن ترى بنفسك أن السقف قد سقط — وهناك فرصة ضئيلة للغاية لاسترداد أي شيء قابل للاشتعال ما لم يكن في خزنة.»
لمحَ تارلينج السير فيليكس سولومون الجاف، يُحدِّق في أطلال مكتبه، دون أن يبدوَ عليه أيُّ أثرٍ لضيقٍ أو محنة.
قال السير فيليكس متفلسفًا: «التأمينُ يُغطينا، وليس هناك شيءٌ ذو أهمية كبيرة، باستثناء تلك الوثائق بالطبع والدفاتر من متجر لاين.»
سألَ تارلينج: «ألم تكن في قبوٍ مقاومٍ للحريق؟» وهزَّ السير فيليكس رأسه.
وقال: «نعم، كانت في خزنة؛ ومن الغريب أن الحريق قد نشأ في تلك الخزنة بالذات. لم تكن الخزنة نفسُها مُقاوِمة للحريق، وحتى لو كانت كذلك، لما كانت الفائدة ستكون كبيرة؛ لأن الحريق اندلع من الداخل. أول خبر تلقَّيناه كان عندما نزل أحد الموظفين إلى القبو، ورأى ألسنة اللهب تتصاعد بين القضبان الفولاذية التي تُشكِّل باب القبو رقم ٤.»
أومأ تارلينج برأسه.
وقال: «لستُ بحاجةٍ إلى أن أسألك ما إذا كانت الدفاتر التي جلبها السيد ميلبرج هذا الصباح قد وُضِعَت في تلك الخزنة يا سير فيليكس.» وبدا الفارس مندهشًا.
قال: «بالطبع لا.» ثم أضافَ: «لقد وُضِعَت هناك بينما كنتُ في المكتب. لماذا تسأل؟»
«لأن هذه الدفاتر في رأيي لم تكن دفاترَ على الإطلاق بالمعنى المفهوم للكلمة. ما لم أكن مخطئًا، الطرد يحتوي على ثلاثة دفاتر أستاذ كبيرة ملصَقة معًا، وقد صُنِعَ تجويفٌ في محتوياتها ومُلِئَت بالثرمايت، ومفجِّر بمُؤقِّت، أو بالجهاز الإلكتروني الضروري لبدء شرارة في لحظة معينة.»
حدَّق فيه المحاسب.
قال: «أنت تمزح.» لكن تارلينج هزَّ رأسه.
«لم أكن أكثرَ جدِّيةً في حياتي.»
«ولكن مَنْ سيرتكب مثل هذا الفعل الجَهنمي؟ عجبًا، أحد الموظفين كاد أن يحترق حتى الموت!»
كرَّر تارلينج ببطء: «الرجل الذي سيرتكب مثل هذا الفعل الجهنمي هو الرجل الذي لديه كلُّ الأسباب التي تجعله يرغب في تجنب فحص حسابات لاين.»
«أنت لا تعني …؟»
قال تارلينج: «لن أذكر أيَّ أسماء في الوقت الحالي، وإذا حدث عن غير قصد أني نقلتُ هُوية الرجل الذي تحدثتُ عنه، آمُل أن تكون كريمًا بما يكفي لاعتبار هذه المعلومة سرية.» وعاد إلى مرءوسه المغموم.
قال بمرارة: «لا عجبَ أن ميلبرج كان راضيًا عن الفحص القادم.» ثم تابعَ موضحًا: «لقد زرعَ الشيطانُ هذه العبوة، وضبطَ وقت انفجارها بالدقيقة. حسنًا، ليس هناك ما يمكننا أن نفعله أكثر من هذا الليلة مع ميلبرج.»
ثم نظرَ إلى ساعته.
وقال: «سأعود إلى شقتي، وبعد ذلك سأذهب إلى هيرتفورد.»
لم يكن قد وضع أيَّ خطة محددة فيما يتعلق بالخط الذي سيسلكه بعد أن يصل إلى هيرتفورد. كانت لديه فكرة غامضة أن تحقيقه في هذا الجوار ربما يُقرِّبه، في حال توجيهه على النحو السليم، إلى قلب اللغز. هذه المرأة الجميلة الشاحبة التي تعيش في مثل هذا المستوى، والتي نادرًا ما كان زوجها يظهر، قد تمنحه مفتاحًا. كان ذلك المفتاح موجودًا في مكانٍ ما، ويمكنه من خلاله فكُّ شفرة جريمة قتل أزهار النرجس المعقدة، وربما يكون في هيرتفورد في متناول اليد.
كان الظلام قد حلَّ عندما وصل إلى منزل السيدة رايدر؛ لأنه هذه المرةَ استغنى عن ركوب سيارة أجرة، ومشى المسافة الطويلة بين المحطة والمنزل، راغبًا في تجنُّبِ لفتِ الانتباه إليه. كان البيت على الطريق الرئيسي. وكانت له واجهةٌ جدارية عالية تبلغ حوالي ثلاثمائة وخمسين قَدمًا. استمر الجدار من ناحية إلى جانب ممر، ومن الناحية الأخرى كان يُمثل حدود حقل كبير.
كان المدخل عند الأراضي من خلال بوابة قوية من الحديد المشغول، يُذكِّره تصميمُها بشيءٍ كان قد رآه من قبل. في زيارته السابقة كانت البوابة مفتوحة، ولم يُواجه صعوبةً في الوصول إلى المنزل. أما الآن، فهي مغلقة.
سلَّطَ مصباحه على البوابة والأعمدة الداعمة، واكتشف جرسًا، ومن الواضح أنه كان جديدًا تمامًا، وجرى تركيبه مؤخرًا. لم يحاول أن يضغط على الزر الأبيض الصغير، لكنه استمر في الاستطلاع. على بُعد حوالي ستِّ ياردات داخل البوابة كان يوجد كوخ صغير، ظهر منه ضوء، ويبدو أن الجرس كان يرن في هذا الكوخ. وبينما كان ينتظر سمعَ صافرةً وخُطًى متسارعة قادمة من الطريق، فانسحبَ إلى داخل الظل. جاء شخصٌ ما إلى البوابة؛ وسمع رنين جرس خافتًا وفُتِحَ باب.
كان الوافدُ الجديد صبيَّ الجرائد، الذي دفعَ حُزمة من الجرائد المسائية من خلال القضبان الحديدية وابتعد مرة أخرى. انتظر تارلينج حتى سمع باب الكوخ يُغلَق. بعد ذلك دار حول المنزل، على أمل العثور على مدخل آخر. من الواضح أنه كان هناك مدخلٌ للخدم في الخلف، يؤدي من الممر، لكن هذا أيضًا كان مغلقًا. ألقى ضوء المصباح لأعلى، ورأى أنه لا يوجد زجاج مكسور فوق الجدار، كما كان موجودًا في الجزء الأمامي من المنزل، فقفز لأعلى، وأمسك الجدار من أعلى ثم سحب نفسه لأعلى.
سقط في الظلام في الناحية الأخرى دون أن يؤذيَ نفسه، وشقَّ طريقه الحَذِرَ نحو المنزل. كانت الكلاب هي موطنَ الخطورة، ولكن يبدو أن السيدة رايدر لم تحتفظ بكلاب، وتقدَّم دون أيِّ تعطيل.
لم يرَ أيَّ ضوء سواءٌ في النوافذ العلوية أو السفلية حتى وصل إلى الباحة الخلفية. كانت هناك شُرفة ذات أعمدة، بُنِيَ فوقها ما يبدو أنه غرفة زجاجية مشمسة. وتحت الشُّرفة كان هناك باب ونافذة ذات قضبان، ولكن كان ثمة ضوء خافت ينبعث من الغرفة الزجاجية العلوية. نظر حوله بحثًا عن سُلَّم دون جدوى. لكن الشرفة لم تُمثل له أيَّ صعوبات أكثر مما مثَّله الجدار. من خلال الصعود على عتبة النافذة وتثبيت نفسِه على أحد الأعمدة، استطاع أن يصل إلى دعامة حديدية، مِن الواضح أنها وُضِعَت لدعم إطار البِنْية الفوقية. من هنا إلى حاجز الغرفة الزجاجية نفسِه كان الأمرُ لا يتطلب منه سِوى التأرجُح. كانت هذه الغرفة الزجاجية بنوافذَ بابيَّةٍ، وكانت إحداها مفتوحة، واتَّكأ على مِرفقَيْه وأدخلَ رأسه بحذر.
كان المكان خاليًا. وكان الضوء ينبعث من غرفة داخلية تنفتح على الشرفة المحميَّة بالزجاج. سرعان ما تسلل من خلال النوافذ وانكمش في ظلِّ شجرة دفلى كبيرة. كان جوُّ الغرفة الزجاجية خانقًا وكانت الرائحة ترابية. لقد حكَم من مواسير الماء الساخن التي شعرت بها يداه المتلمِّستان أنها كانت حديقةً شتائية صغيرة أقامتها صاحبةُ المنزل للتمتُّع بها في الأيام المظلمة الباردة. كان ثَمة نوافذُ فرنسية تؤدي إلى الغرفة الداخلية، واختلس تارلينج النظرَ من خلال الستائر التي تُغطي النوافذ البابية، فرأى السيدة رايدر. كانت تجلس إلى مكتبٍ وفي يدها قلمٌ وقد وضعَت أناملها على ذقنها. لم تكن تكتب، بل كانت تُحدِّق في الحائط بنظرة فارغة كما لو كانت في حيرةٍ من أمرها ولا تدري ماذا تقول.
كان الضوء صادرًا من مِشكاةٍ كبيرة من المرمر معلَّقة أسفل مستوى السقف بقدَم، وأعطت المحققَ فرصةً لإجراء فحص سريع للغرفة. كان أثاث الغرفة بسيطًا وإن كان ذا ذوقٍ راقٍ، وكانت تبدو كغرفة مكتب. بجانب مكتبها كانت توجد خزنة خضراء، نِصفُها في الحائط ونصفُها مكشوف. كان هناك عددٌ قليل من المطبوعات معلَّق على الجدران، وكرسيٌّ أو اثنان، وأريكةٌ نصف مخفية عن زاوية رؤية المحقق، وهذا كل شيء. كان يتوقع أن يرى أوديت رايدر مع والدتها وشعر بخيبةِ أمل. لم تكن السيدة رايدر وحدَها فحسب، بل أعطته أيضًا الانطباع بأنها كانت وحيدةً في المنزل.
جثا تارلينج وهو يُراقبها لمدة عشر دقائق حتى سمعَ صوتًا في الخارج. تسلَّلَ إلى الوراء بهدوء ونظرَ إلى حافة الشرفة في الوقت المناسب ليرى شخصًا يتحرك بسرعة على طول المسار. كان يركب دراجة لا تحمل ضوءًا. وعلى الرغم من أنه أجهد عينيه، إلا أنه لم يستطِع تحديد ما إذا كان الراكبُ رجلًا أو امرأة. اختفى تحت الشرفة وسمعَ صريرَ الدراجة بينما كانت تركن إلى أحد الأعمدة، ثم سمعَ صوت مفتاح في القفل وصوتَ باب يُفتَح. بعد ذلك تسلَّلَ مرة أخرى إلى موقع المراقبة الخاصِّ به الذي يُطل على المكتب.
من الواضح أنَّ السيدة رايدر لم تسمع صوتَ فتح الباب في الأسفل، وكانت لا تزال تجلس ساكنةً بلا حركة تُحدِّق في الحائط أمامها. وفجأةً جفلت ونظرَت نحو الباب. ولاحظَ تارلينج الباب — كما لاحظ أيضًا المفتاحَ الكهربائي من زاوية رؤيته. ثم فُتِحَ الباب ببطء. ورأى وجه السيدة رايدر يُضيء بالسعادة، ثم سألَ أحدَهم سؤالًا بصوتٍ هامس، وأجابت — أمكنه فقط سماع كلماتها:
«لا يا حبيبي، لا أحد.»
حبسَ تارلينج أنفاسه وانتظر. ثم، فجأة، انطفأ نور الغرفة. أيًّا كان مَنْ دخل فقد أطفأ النور. سمعَ صوت أقدام خفيفة قادمة نحو النافذة ونظرَ في الغرفة الزجاجية ثم سمعَ صوت الستائر وهي تُسدَل. ثم أُضيءَ النورُ مرة أخرى، لكنه لم يستطِع أن يرى شيئًا أو يسمع شيئًا.
مَنْ كان الزائرُ الغامض للسيدة رايدر؟ كانت هناك طريقة واحدة فقط ليكتشف، لكنه انتظر لفترةٍ أطول قليلًا — انتظر، في الواقع، حتى سمع صوتَ إغلاق باب الخزنة بهدوء — قبل أن يتسلل مرة أخرى من خلال النافذة وينزل على الأرض.
كانت الدراجة، كما توقَّع، مركونةً إلى أحد الأعمدة. لم يستطِع رؤية أي شيء، ولم يجرؤ على إضاءة مصباحه، لكن أنامله الحسَّاسة سارت فوق خطوطها، وبالكاد ندَّت منه صيحةُ تعجُّب. كانت دراجة نسائية!
انتظرَ قليلًا، ثم انسحبَ إلى شجيراتٍ مقابل الباب على الجانب الآخر من المسار الذي أتى منه راكبُ الدراجة. لم يُضطَر إلى الانتظار طويلًا قبل أن يُفتَح الباب تحت الشرفة مرة أخرى ويُغلَق. قفزَ شخصٌ ما إلى الدراجة بينما قفزَ تارلينج من موضع اختبائه. وضغطَ على مفتاح مصباحه الكهربائي، لكن لسببٍ ما لم يعمل. شعر برعشة مفاجئة من الشخص الذي كان يركب الدراجة.
قال تارلينج: «أريدك.» ومدَّ يديه.
أخطأَ الراكبُ بجزءٍ من البوصة، لكنه رأى الدراجة تنحرف وسمع صوتَ اصطدام شيء بالأرض. بعد ثانية واحدة اختفت الدراجة والراكب في الظلام الدامس.
أعادَ تشغيل مصباحه. كان يعرف أنَّ المطاردة عديمة الفائدة من دون المصباح، وبينما كان يلعنُ صانعه، وضعَ بطاريةً أخرى، وسلَّطَ الضوءَ على الأرض ليرى الشيء الذي أسقطَه الهارب. ظنَّ أنه سمعَ شهقةَ تعجُّبٍ مخنوقةً من ورائه واستدار. ولكن لم يظهر أحدٌ داخل نطاق إضاءة مصباحه. اعتقد أنه لا بدَّ قد فقد أعصابه، ثم واصل فحصه للمحفظة.
كانت محفظةً جلدية طويلة، طولها حوالي عشر بوصات وعمقها خمس بوصات، وكانت ثقيلة على نحوٍ غريب. التقطها وتحسَّس الإبزيم، وعثر بدلًا منه على قفلين صغيرين. قام بفحصٍ آخرَ على ضوء مصباحه، وهو فحصٌ قاطعه اعتراضٌ من فوق.
«مَنْ أنت؟»
كان صوتَ السيدة رايدر، وكان من غير المناسب بالنسبة إليه في هذا التوقيت بالذات أن يكشف عن نفسه. ودون أن يُحيرَ جوابًا، أطفأ نور المصباح وتسلل إلى الشجيرات، ومستعينًا بغريزته أكثرَ من حُسن تقديره استطاع أن يصل إلى السور، تقريبًا عند البقعة نفسها التي عبَر من فوقها.
كان الطريقُ خاليًا ولم يكن هناك أيُّ أثر لراكب الدراجة. كان هناك شيء واحد فقط للقيام به، وهو العودة إلى المدينة في أسرع وقت ممكن، وفحصُ محتويات المحفظة بحريته. كانت ثقيلةً للغاية بالنسبة إلى حجمها، ذكَّره بهذه الحقيقة جيبُه المتدلِّي.
بدا الطريق إلى هيرتفورد لا نهاية له والساعات كانت تدقُّ الحادية عشرة إلا الربع عندما دخل ساحة المحطة.
قال موظف السكة الحديد: «أتريد القطار المتجه إلى لندن يا سيدي؟» ثم أردفَ: «لقد فاتك آخرُ قطار إلى لندن بخمس دقائق!»