زائر الليل
لم يكن تارلينج في مُعضلةٍ بقدرِ ما كان في حالة من عدم اليقين نتجَت عن عدم امتلاكه خُططًا محدَّدة بطريقة أو بأخرى. لم يكن ثمة ضرورةٌ مُلحَّة لعودته إلى المدينة وكان انزعاجه من أنه وجدَ آخر قطار قد رحلَ ناجمًا عن رغبته الطبيعية في النوم في فراشه أكثرَ من أي سبب آخر. كان بإمكانه أن يحصل على سيارةٍ من مَرأب محلي، وينتقل إلى لندن، إذا كانت لديه أيُّ ضرورة معينة، لكنه قال لنفسه إنه قد يقضي الليلةَ في هيرتفورد كما في شارع بوند.
إذا كانت لديه أيُّ ميول للبقاء في هيرتفورد، فذلك لأنه كان حريصًا على فحص محتويات المحفظة بحرِّيته. ولو كانت لديه رغبةٌ في العودة إلى المدينة فربما يكون ذلك لقلقِه على ما حدث لأوديت رايدر؛ سواءٌ كانت قد عادت إلى فندقها أو كانت لا تزال في عداد «المفقودين» من قِبَل الشرطة. يُمكنه، على أي حال، التواصلُ مع سكوتلاند يارد وطمأنةُ عقلِه في هذه النقطة. عاد من المحطة بحثًا عن مكانٍ لمَبيته. وسرعان ما وجد أن الحصول على غرفةٍ لم يكن بهذه السهولة كما كان يتخيَّل. كان أفضل فندق في المكان مزدحمًا نتيجةً لعقدِ اتفاقيةٍ زراعية في المدينة. ومن ثمَّ، جرى إرساله إلى فندقٍ آخر، فقط ليجد أن به الوضعَ نفسَه من الازدحام، وأخيرًا بعد بحثٍ لمدة نصف الساعة وجد سكنًا في فندقٍ تجاري صغير كان خاليًا على نحوٍ غيرِ متوقَّع.
كانت خطوته الأولى هي التواصلَ مع لندن، وقد تمَّ ذلك دون تأخير. لم يُسمَع أيُّ شيء عن أوديت رايدر، وكان الخبر الوحيد المهم هو أن المُدان السابق، سام ستاي، كان قد هربَ من مصحة المرضى العقليِّين التي جرى ترحيلُه إليها بالمقاطعة.
صعدَ تارلينج إلى غرفة الجلوس الواسعة. كان مهتمًّا إلى حَدٍّ ما بأخبار ستاي؛ لأن الرجل كان مخيبًا للآمال. هذا المجرم، الذي كان حبُّه لثورنتون لاين، كما ظنَّ تارلينج وكان محقًّا في ظنه، مسئولًا عن انهياره العقلي، كان من الممكن أن يُوفِّر قدرًا هائلًا من المعلومات المتعلقة بالأحداث التي أدَّت إلى يوم القتل، وقد أدى انهياره الدراماتيكي إلى إزالة شاهِد كان من الممكن أن يُقدم مساعدةً ملموسة للشرطة.
أغلقَ تارلينج بابَ غرفة جلوسه خلفه، وسحب المحفظة من جيبه ووضعها على المنضدة. حاول أولًا بمفاتيحه أن يفتح الأقفال، لكنها عاكسَتْه. أدهشَه ثِقلُ المحفظة وحيَّره، ولكنه كان على وشك أن يجد سريعًا تفسيرًا لثقلها غيرِ العادي. فتح سكين جيبه وبدأ يقطع الجلد حول الأقفال، وندَّت منه صيحةُ تعجُّب.
إذن فهذا هو سبب ثقل المحفظة — كانت فقط مغطَّاة بالجلد! وتحت هذا الغطاء كانت هناك محفظةٌ من الفولاذ الفاخر. كانت المحفظة في الحقيقة عبارةً عن حقيبة من السلاسل الفولاذية، وقد لُحِمَت الأقفال بالسلاسل وأصبح من المستحيل إزالتُها. ألقى المحفظة مرة أخرى على المنضدة ضاحكًا. يجب أن يكبح فضوله حتى يعود إلى سكوتلاند يارد، حيث يستطيع الخبراءُ ببساطة فتْحَ أفضلِ الأقفال التي جرى اختراعها على الإطلاق. بينما كان يجلس محدقًا في هذا الشيء الجاثمِ على المنضدة ويُقلِّب في ذهنه إمكانيات محتوياته، سمع وقْعَ خطوات تمرُّ أمام بابه وتصعد السُّلَّم المقابلَ لمكان غرفة جلوسه. وفكَّر أنهم نزلاءُ في نفس المحنة التي يعيشها هو.
بطريقةٍ ما، لكونه في غرفة غريبة وسط محيطٍ غير مألوف، أعطى القضيةَ وجهةً جديدة. لقد كانت وجهة عدم الواقعية. كانت كلُّ شخصيات هذه الدراما الغريبة غيرَ واقعية بالمرة.
بدا ثورنتون لاين خياليًّا، وكانت نهايته خيالية بالفعل. ميلبرج، بابتسامته الدائمة، وانحنائه البسيط، ووجهه الضخم السمين ورأسه نصف الأصلع؛ والسيدة رايدر، شبحٌ شاحبٌ لامرأة دخلت القصة وخرجَت من القصة، أو بالأحرى تحوم حولها، دون أن يبدوَ أنها تتدخل فيها على الإطلاق، ومع ذلك لم تنفصل عن سيرتها التراجيدية بالكامل مطلقًا؛ لينج تشو، الذي لا يتزعزع، والذي يجلب معه أجواءَ أرض المؤامرات والغموض والدافع، الصين. كانت أوديت رايدر وحدها هي الحقيقية. كانت مُفعمةً بالحياة والدفء والنبضِ والجمال.
عبَسَ تارلينج ونهض بعصبيةٍ من كرسيِّه. احتقرَ نفسه قليلًا على هذا الضعف. أوديت رايدر! امرأة لا تزال في دائرة الاشتباه لارتكابِ جريمة قتل، امرأة كان من واجبه، إذا كانت مذنبة، أن يوصلها إلى حبل المشنقة، وكان مجرد التفكير فيها يُشعره بالحر والبرد في آنٍ واحد!
مرَّ إلى غرفة نومه الملحقة بغرفة الجلوس، ووضع المحفظة على منضدة بجوار سريره، وأوصدَ باب غرفة النوم، وفتح النوافذ وجهَّز نفسه، بأفضلِ ما يُمكنه، لليلة.
كان هناك قطار يُغادر هيرتفورد في الخامسة صباحًا وقد رتَّب أن يجريَ الاتصالُ به في الوقت المناسب للَّحاق به. خلع حذاءه، ومعطفه، وصدرته، وقميصه وربطة عنقه، وفكَّ حزامه — كان أحد هؤلاء غريبي الأطوار الذين كانت دعائم الحضارة بالنسبة إليهم لعنةً — واستلقى على السرير من الخارج، ساحبًا الغطاء فوقه. لم يأتِه النوم بسهولة. كان يتقلب على جنبيه، ويفكر ويفكر ويفكر.
لنفترض أنه كان هناك خطأٌ ما في وقت وقوع الحادث في آشفورد، لنفترض أن الأطباء كانوا مخطئين وأن ثورنتون لاين قُتِل في ساعة سابقة، لنفترض أن أوديت رايدر كانت في الحقيقة … بدمٍ بارد. طرد الفكرة بعيدًا.
سمع ساعة الكنيسة تدق الثانية وانتظر بفارغ الصبر أن تدق عند ربع الساعة — كان يستمع إلى كل ربع ساعة منذ أن رقد في السرير. لكنه لم يسمع ذلك الربع. لا بد أنه قد وقع في نومٍ مضطرب؛ لأنه بدأ يحلم. حلم أنه كان في الصين مرةً أخرى ووقع في أيدي تلك العصابة البغيضة؛ «القلوب المبهجة». كان في معبد، ممددًا على لوحٍ أسودَ كبيرٍ من الحجر، وقد قُيِّدَت يداه وقدماه، ورأى فوقه زعيم العصابة، وفي يده سكين، وهو يُحدِّق في وجهه بابتسامةٍ خبيثة — وكان وجه أوديت رايدر! رأى السكين مرفوعة واستيقظ وهو يتصبَّب عرقًا.
كانت ساعة الكنيسة تعلن أنها الثالثة وكان صمتٌ عميق يُخيِّم على العالم. لكن كان هناك شخصٌ ما في غرفته. عرَف ذلك وظلَّ بلا حَراك، يُحدِّق بعيونٍ نصف مفتوحة من زاوية إلى أخرى. لم يكن هناك أحدٌ ليراه، ولا شيءٌ ليسمَعَه، ولكن حاسته السادسة أخبرته أنَّ هناك شخصًا ما موجودًا. مدَّ يده بحرصٍ وبصمت إلى المنضدة وبحث عن المحفظة. كانت قد اختفت!
ثم سمعَ صرير لوحٍ وجاء من اتجاه الباب المؤدي إلى غرفة الجلوس. بقفزة واحدة نهض من السرير في الوقت المناسب ليرى الباب يُفتَح والشخص يتسلَّل عبره. وتبعه في لحظة. كان من الممكن أن يهرب السارقُ، لكنه سمع صوتَ اصطدام وصرخة غير متوقَّعَين. لقد سقط على كرسيٍّ وقبل أن يتمكَّن من النهوض، كان تارلينج فوقه وأعاده مرة أخرى. قفز تارلينج إلى الباب، وكان مفتوحًا. فخبطه بقوة وأغلقه، ثم أدار المفتاح.
قال تارلينج بتجهُّم: «الآن، دعنا نُلقِ نظرةً عليك.» ثم أضاء النور.
سقطَ على الباب فاغرًا فاه في دهشة؛ إذ كان الدخيل هو أوديت رايدر، وكانت تحملُ في يدها المحفظة المسروقة.