في غرفة السيدة رايدر
سادَ صمتٌ عميق. كان تارلينج يستطيع الشعورَ بقلبه يكاد يدقُّ بصخب.
قالت: «بعد أن غادرتُ متجر لاين، قررتُ أن أذهب إلى أمي لقضاء يومَين أو ثلاثة أيام معها قبل أن أبدأ في البحث عن عمل. لم يكن السيد ميلبرج يذهب إلى هيرتفورد إلا في عطلات نهاية الأسبوع، ولم أكن أستطيعُ البقاء معه في نفس المنزل، بعد أن عرَفتُ كلَّ ما عرفتُه.
غادرتُ شقتي في حوالي الساعة السادسة والنصف مساءَ ذلك اليوم، لكنني لستُ متيقنة من الوقت بالضبط. لا بد أنه كان قريبًا من هذا التوقيت؛ لأنني كنت أعتزم اللَّحاق بقطار الساعة السابعة إلى هيرتفورد. وصلتُ إلى المحطة وأخذتُ تذكرتي، وكنتُ أنحني لآخذ حقيبتي، عندما شعرتُ بيدٍ على ذراعي، واستدرتُ، ورأيتُ السيد ميلبرج. كان في حالةٍ من الانفعال والتوتر الشديد، وطلب مني ركوب القطار التالي ومرافقتَه إلى مطعم فلورنتين، حيث حجز مكانًا خاصًّا. أخبرني أنَّ لديه أخبارًا سيئة للغاية وأنني يجب أن أعرفها.
وضعتُ حقيبتي في غرفة المعاطف وخرجتُ معه، وعلى العشاء — في الواقع لم أتناول سوى كوبٍ من الشاي — أخبرني أنه كان على وشك الانهيار. قال إنَّ السيد لاين قد أرسل في طلب محقِّق (الذي كان أنت)، وكان ينوي فضْحَه، لولا أن غضب السيد لاين مني، كان عظيمًا لدرجة أنه في الوقت الحاليِّ قد انحرفَ عن هدفه.
قال ميلبرج: «أنتِ فقط تستطيعين إنقاذي.»
قلتُ بدهشة: «أنا؟ وكيف أستطيع إنقاذَك؟»
قال: «تتحمَّلين مسئولية السرقة على عاتقك.» ثم أردفَ: «أمُّك متورطة في هذا الأمر بشدة.»
«هل تعلم أمي؟»
أومأ برأسه. واكتشفتُ بعد ذلك أنه كان يكذب عليَّ وكان يستغلُّ حبِّي لأمي.»
قالت الفتاة: «لقد أُصبتُ بالدُّوار والرعب من فكرة أن أمي العزيزةَ المسكينة يُمكن أن تكون متورطة في هذه الفضيحة المروعة، وعندما اقترح أن أكتب اعترافًا بإملائه وأُغادر في أول قطار إلى أوروبا حتى تهدأَ الأمور، سقطتُ في الشَّرَك دون احتجاج. وهذا كل شيء.»
سألَ تارلينج: «لماذا أتيتِ إلى هيرتفورد الليلة؟»
ابتسمَت مرة أخرى.
قالت ببساطة: «للحصول على الاعتراف، كنتُ أعرف أن ميلبرج سيحتفظ به في الخزنة. رأيتُه عندما غادرت الفندق. اتصل بي وحدَّد الموعد في المتجر الذي تسللتُ فيه من المحققين، وهناك قال لي …» توقفَت عن الحديث فجأةً واحمرَّ وجهها.
قال تارلينج بهدوء: «أَخبرَكِ أنني مُغرَم بكِ.» وأومأت برأسها.
«لقد هدَّد باستغلال هذه الحقيقة، وأراد أن يُريَك الاعتراف.»
قال تارلينج: «فَهِمتُ.» وتنفَّس الصُّعَداء. قال بحرارة: «شكرًا لله!»
سألت وهي تنظر إليه بدهشة: «على ماذا؟»
«على أنَّ كل شيء اتضح. غدًا سأقبض على قاتِل ثورنتون لاين!»
قالت: «لا، لا، ليس ذلك.» ووضعَت يدها على كتفه، ونظرت إليه بوجهها الحزين واستطردت: «بالتأكيد ليس ذلك. السيد ميلبرج لم يكن ليستطيع القيامَ بذلك، لا يمكن أن يكون وغدًا كبيرًا إلى هذه الدرجة.»
«مَنْ أرسل البرقية إلى والدتك قائلًا إنك لن تذهَبي؟»
ردَّت الفتاة: «ميلبرج.»
قال تارلينج: «هل أرسل برقيَّتَين، هل تتذكرين؟»
تردَّدت.
ثم قالت: «نعم، لقد فعل ذلك، لا أعرف إلى مَنْ أرسل البرقية الأخرى.»
قال: «كانت بالخطِّ نفسِه على أي حال.»
«لكن …»
قال: «عزيزتي، لا داعي للقلق بعد الآن. هناك وقتٌ عصيب في انتظارك، ولكن يجب أن تتحلَّي بالشجاعة، من أجلكِ ومن أجل والدتكِ، ومن أجلي أيضًا.»
وعلى الرغم من تعاستها، ابتسمَت بوَهْن.
سألت: «أنت تفترض شيئًا كأمرٍ مُسلَّمٍ به، أليس كذلك؟»
قال متفاجئًا: «هل أفعل ذلك؟»
ازدادت وجنتاها احمرارًا وهي تقول: «تقصد أنني أهتمُّ بك لدرجةِ أن أبذل جهدًا من أجلك؟»
قال تارلينج ببطء: «أفترضُ أنني أفعل ذلك، إنه غرور، على ما أعتقد.»
قالت: «ربما كان حَدْسًا» وضغطَت على ذراعه.
قال: «يجب أن أوصلكِ إلى منزل والدتكِ.»
كان الطريق من المنزل إلى المحطة طويلًا وشاقًّا. أما طريق العودة فكان قصيرًا على نحوٍ مدهش، على الرغم من أنهما سارا ببطء الحلزون. لم يكن هناك قطُّ مغازلةٌ مثلُ مغازلة تارلينج، وبدا الأمرُ غيرَ واقعَيٍّ كما لو كان حُلمًا. كان لدى الفتاة مفتاح البوابة الخارجية ومرَّا من خلالها معًا.
سأل تارلينج فجأة: «هل تعرف والدتُكِ أنكِ في هيرتفورد؟»
أجابت الفتاة: «نعم. رأيتُها قبل أن آتيَ وراءك.»
«هل تعلم …»
لم يهتمَّ بإنهاء الجملة.
قالت الفتاة: «لا، إنها لا تعلم. تلك المرأة المسكينة، هذا الخبر سيكسر قلبها. إنها مغرمة بميلبرج. أحيانًا يكون غاية اللطف مع أمي. وهي تُحبُّه لدرجةِ أنها قبلت جيئاته وروحاته الغامضةَ وكلَّ التفسيرات التي قدَّمها لها، دون أيِّ شك.»
كانا قد وصلا إلى المكان الذي التقطَ منه المحفظة وغُمِّي فوقه الجزء المظلم من الشرفة التي يعلوها البيت الزجاجي. كان المنزل مغلفًا بالظلام، ولم يكن ثمة شعاعُ ضوءٍ في أي مكان.
«سآخذكَ من خلال الباب الموجود أسفل الشرفة. هذا هو الطريق الذي يسلكُه السيد ميلبرج دائمًا. هل لديك مصباح؟»
كان لديه مصباحه الكهربائي في جيبه ووجَّهَ شعاعًا على ثقب المفتاح. أدخلت المفتاح وندَّت عنها صيحةُ تعجب؛ إذ طاوعَها الباب تحت ضغطها وانفتح.
قالت: «إنه مفتوح.» ثم أردفت: «أنا متأكدة من أنني أغلقتُه.»
وجَّه تارلينج مصباحه إلى القفل وعبَس وجهُه قليلًا. كانت السقاطة قد جرى تثبيتُها مرة أخرى في القفل حتى لا تنبثق مرة أخرى.
سألَ بسرعة: «كم مكثتِ في المنزل؟»
قالت الفتاة: «بضع دقائق فقط.» ثم أضافت: «دخلتُ فقط لأخبر أمي، وخرجتُ على الفور.»
«هل أغلقتِ الباب خلفكِ عندما دخلتِ؟»
فكَّرت الفتاة لحظة.
قالت: «ربما لم أفعل.» ثم استدركت: «لا، بالطبع لا، لم أعد من هذا الطريق؛ أخرجَتني أمي من الباب الأمامي.»
وجَّه تارلينج الضوء في القاعة ورأى السلالم المغطاة بالسجاد على بُعد ستِّ أقدام. خمَّن ما حدث. رأى شخصٌ ما البابَ مواربًا، وخمَّن مِن ترْكِه مواربًا أنها ستعود على الفور، ومِن ثَمَّ حشر قطعةَ الخشب — التي بدَت كما لو كانت عودَ ثقاب، وكانت كذلك بالفعل — بين سقاطة القفل وغِمْدِه.
سألت الفتاة بصوتٍ مضطرب: «ماذا حدث؟»
قال تارلينج بهدوء: «لا شيء.» ثم أردفَ: «في الغالب فعل ذلك زوجُ أمِّك السيئُ السمعة. ربما فقدَ مفتاحه.»
قالت الفتاةُ بقلق: «كان من الممكن أن يدخل من الباب الأمامي.»
قالَ تارلينج بمرح، كان بعيدًا كل البُعد عمَّا يعتلج بصدره: «حسنًا، سأذهب أولًا.»
صعدَ إلى الطابق العلوي، وفي إحدى يديه مصباحُه، وفي اليد الأخرى مسدس آلي. انتهى الدرَج ببسطةٍ لها درابزين يُفتَح منه بابان.
قالت الفتاة مشيرةً إلى أقربهما: «هذه غرفة أمي.»
جعلَها الشعورُ بالمتاعب الوشيكة ترتجف. وضعَ تارلينج ذراعيه حولها مشجِّعًا. مشَى إلى باب الغرفة، وأدارَ المقبض وفتحَه. كان هناك شيءٌ خلف الباب يُغلقه، وبذلَ كلَّ قوَّته لدفع الباب وفتحَه بما يكفي لأن يسمح بمروره خلاله.
على المكتب كان ثَمة مصباحُ طاولة مضيء، وكان نوره مَخفيًّا من الخارج بالستائر الثقيلة التي تُغطي النوافذ، ولكنه لم يكن ينظر إلى النافذة أو إلى المكتب.
استلقَت السيدة رايدر خلف الباب، وابتسامةٌ صغيرةٌ على وجهها، وقد برز خِنجرٌ من تحت قلبها بوضوح مرعب.