بصمة الإبهام
كانت الساعة العاشرة صباحًا، وكان وايتسايد وتارلينج جالسَين على أريكةٍ يرتدي كلٌّ منهما قميصًا قصيرَ الأكمام، ويحتسيان القهوة. كان تارلينج مرهقًا ومجهدًا، على عكس مفتش الشرطة الأنيق. على الرغم من أن الأخير قد أُوقِظ من سريره في الساعات الأولى من الصباح، فهو على الأقل قد تمتَّع بنوم هانئ طوال الليل.
جلسَا في الغرفة التي قُتِلَت فيها السيدة رايدر وكانت البقع البنية على الأرض حيث وجدَها تارلينج تحكي المأساة ببلاغة.
جلسا يحتسيان قهوتَهما، ولم يتحدث أيٌّ منهما، واستمرا في هذا الصمت لعدةِ دقائق، كلٌّ منهما يتبع حبلَ أفكاره. لم يكشف تارلينج لأسبابٍ خاصة به عن مغامرته ولم يُخبر الآخرَ بشيء عن الشخص الغامض (الذي خمَّن هُويتَه جيدًا) الذي طارده عبر حديقة المنزل.
ثم أشعلَ وايتسايد سيجارةً وألقى عود الثقاب في شبكة المدفأة، ونهضَ تارلينج من تأمُّلِه على حين غِرة.
سألَ: «ما رأيك في ذلك؟»
هزَّ وايتسايد رأسه.
«لو جرى الاستيلاء على ممتلكات، لكان التفسيرُ بسيطًا. ولكن لم يُفقَد أي شيء. فتاة مسكينة!»
أومأ تارلينج.
وقال: «شيء فظيع! اضطُرَّ الطبيب إلى أن يُخدِّرها قبل أن يتمكَّن من أخذها.»
سألَ وايتسايد: «أين هي؟»
قال تارلينج بعد لحظة: «أرسلتُها في سيارة إسعاف إلى دار رعايةٍ في لندن.» وأضافَ: «هذا فظيع يا وايتسايد.»
قال المفتش وهو يحكُّ ذقنه: «إنه أمر سيِّئ للغاية.» ثم سألَه: «ألم تستطِع الشابةُ تقديم أي معلومات؟»
«لا شيء، لا شيء على الإطلاق. لقد صعدَت لرؤية والدتها وتركَت الباب مواربًا؛ إذ كانت تنوي العودةَ بنفس الطريقة بعد أن تُقابل السيدة رايدر. في الواقع، خرجت من الباب الأمامي. وكان شخصٌ ما يُراقبها، ومن الواضح أنه ظنَّ أنها ستخرج بنفس الطريقة التي دخلت بها، وانتظر بعض الوقت، ثم لمَّا لم تظهر مجددًا، تبعها إلى داخل المبنى.»
قال وايتسايد: «وهذا الشخص كان ميلبرج؟»
لم يُحِر تارلينج جوابًا. كانت لديه وجهاتُ نظره الخاصةُ ولم يكن في تلك اللحظة مستعدًّا للنقاش.
قال وايتسايد: «من الواضح أنه كان ميلبرج. يأتي إليك في الليل — نعلم أنه في هيرتفورد. نحن نعلم أيضًا أنه حاول اغتيالَك لأنه اعتقد أن الفتاة قد خانته وأنك كشفتَ سِرَّه. لا بد أنه قتل زوجته التي ربما تعرف أكثرَ من ابنتها عن جريمة القتل.»
نظرَ تارلينج إلى ساعته.
وقال: «لينج تشو على وشك المجيء الآن.»
قال وايتسايد متفاجئًا: «أوه، لقد أرسلت في طلب لينج تشو إذن.» وأردفَ: «ظننتُ أنك ستتخلَّى عن هذه الفكرة.»
قال تارلينج: «لقد اتصلتُ مرةً أخرى قبل ساعتين.»
قال وايتسايد: «مم!» ثم سألَه: «هل تعتقد أنه يعرف أي شيء عن هذا؟»
هزَّ تارلينج رأسه.
«أنا أُصدق القصة التي قالها لي. بالطبع، عندما قدَّمت التقرير إلى سكوتلاند يارد لم أكن أتوقَّع أن تُصدقوه مثلي، لكني أعرف الرجل. لم يكذب عليَّ قط.»
قال وايتسايد: «القتل مسألةٌ خطيرة للغاية.» ثم تابعَ حديثه: «إذا لم يكذب الرجل لإنقاذ رقبته، فمن أجلِ ماذا عساه أن يكذب على الإطلاق.»
كان هناك صوتُ محرِّك في الأسفل، وسار تارلينج إلى النافذة.
قال: «ها هو لينج تشو.» وبعد بضع دقائق جاء الصيني بصمت إلى الغرفة.
استقبله تارلينج بإيماءةِ تحية، ومن دون أيِّ تمهيد أخبره قصة الجريمة. تحدَّث بالإنجليزية — لم يستخدم اللغة الصينية منذ أن اكتشفَ أنَّ لينج تشو يفهم اللغةَ الإنجليزية تمامًا مثلما يفهم اللغة الصينية الكنتونية، وكان وايتسايد قادرًا من وقتٍ لآخر على إقحامِ كلمة أو تصحيح زلَّة لسان بسيطة من جانب تارلينج. استمع الصينيُّ دون تعليق، وعندما انتهى تارلينج انحنى إحدى انحناءاته الغريبة المتشنِّجة وخرج من الغرفة.
قال وايتسايد بعد رحيل الرجل: «ها هي الرسائل.»
كان على مكتب السيدة رايدر كَوْمتان مُرتَّبتان من الرسائل الأنيقة، وسحَب تارلينج كرسيًّا.
وقال: «هذه كل الرسائل؟»
قال وايتسايد: «نعم.» وأردفَ: «كنت أبحث في المنزل منذ الساعة الثامنة ولم أجد رسائلَ أخرى. تلك التي على اليمين كلُّها من ميلبرج. ستجد أنها موقَّعة ببساطة بالحرف الأول من اسمه — سِمةٌ من سماته — ولكنها تحمل عُنوان بلدته.»
سألَ تارلينج: «هل قرأتها؟»
أجابَ الآخر: «قرأتُها جميعًا.» ثم قال: «لا يوجد شيءٌ على الإطلاق يُدين في أيٍّ منها. إنها ما أُسميه رسائلَ أكلِ العيش، تتناول استثماراتٍ صغيرةً يقوم بها ميلبرج باسم زوجته — أو بالأحرى باسم السيدة رايدر. من السهل أن ترى من هذه الرسائل مدى عمقِ تورُّط تلك المرأة المسكينة دون أن تعلم أنها كانت تُورِّط نفسها في مؤامرة كبيرة.»
وافقَ تارلينج. أخذَ الرسائل واحدةً تلو الأخرى من مظاريفها، وقرأها وأعادها إلى مكانها. كان في منتصف الكومة عندما توقَّف وحملَ رسالة إلى النافذة.
سامحيني على لطخة الحبر، ولكنني في عجَلةٍ من أمري، وقد اتسخَت أصابعي من جراء قلب زجاجة حبر.
قال وايتسايد بابتسامة: «لا شيء مذهلًا في ذلك.»
صدَّقَ تارلينج على ذلك قائلًا: «لا شيء على الإطلاق.» ثم استطرد: «ولكن تصادف أنَّ صديقنا تركَ لنا بصمةَ إبهامٍ جيدة ومفيدة للغاية. على الأقل، تبدو كبيرة جدًّا بالنسبة إلى بصمة إصبع.»
قال وايتسايد وهو يقفز من مكانه: «دعني أرَها.»
ذهبَ إلى الجانب الآخَر ونظرَ من فوق كتفه إلى الرسالة في يده وصَفَّر. كان وجهُه منيرًا حينما أداره نحو تارلينج وأمسكَ رئيسه من كتفَيه.
وقال بحماس: «لقد أوقَعْنا به. لقد أوقَعْنا به كالفأر في المصيدة!»
سألَ تارلينج: «ماذا تقصد بذلك؟»
أجابَ وايتسايد: «أُقسم على بصمة الإبهام هذه.» وأردفَ: «إنها متطابقة مع البصمة الدامية التي تُرِكت على خِزانة الآنسة رايدر ليلة القتل!»
«هل أنت واثق؟»
قال وايتسايد وهو يتحدَّث بسرعة: «بالتأكيد.» ثم تابعَ قائلًا: «هل ترى تلك الدائرة؟ انظر إلى تلك الخطوط! إنها متطابقة. لديَّ الصورة الأصلية في جيبي في مكانٍ ما.» وفتَّشَ في دفتر جيبه وجلبَ صورة لبصمة الإبهام مُكبَّرةً للغاية.
صاحَ وايتسايد في انتصار: «قارِن بينهما!» ثم أضافَ: «خطًّا خطًّا ونتوءًا نتوءًا وثَلْمًا ثَلْمًا، إنها بصمةُ إبهام ميلبرج، وميلبرج هو رجلي!»
التقطَ مِعطفه وارتداه.
«إلى أين تذهب؟»
قال وايتسايد بإصرار: «سأعودُ إلى لندن، لتأمين أمر القبض على جورج ميلبرج، الرجل الذي قتَل ثورنتون لاين، الرجل الذي قتل زوجتَه؛ الشرير الأكثر سوادًا في العالم اليوم!»