نظرية لينج تشو
أثناء هذا المشهد جاء لينج تشو، جامدًا، بلا تعبير، يَغْشاه جوٌّ من الغموض.
قال تارلينج: «حسنًا، ما الذي اكتشفتَه؟» وحتى وايتسايد هدَّأ من حماسه ليستمع.
قال لينج تشو: «صعدَ شخصان الدرَج الليلة الماضية، بالإضافة إلى سيدي.» ونظر إلى تارلينج، وأومأ الأخير برأسه. فواصلَ لينج تشو: «قدَماك واضِحتان، وأيضًا قدما المرأة الصغيرة؛ وأيضًا القدمان العاريتان.»
قال تارلينج: «القدمان العاريتان؟» وأومأ لينج تشو إيجابًا.
سألَ وايتسايد: «ماذا كانت القدمان العاريتان — لرجلٍ أم لامرأة؟»
أجابَ الصيني: «ربما كان رجلًا أو امرأة، لكنَّ القدمَيْن كانتا مجروحتَين وتنزفان. هناك آثارُ دمٍ على الحصى بالخارج.»
قال وايتسايد بحِدَّة: «هراء!»
حذَّر تارلينج: «دَعْه يستمر.»
تابعَ لينج تشو: «دخلَت امرأةٌ وخرجت …»
قال تارلينج: «هذه كانت الآنسة رايدر.»
«ثم جاءت امرأةٌ ورجل، ثم جاءَ حافي القدمين؛ لأن الدمَ كان فوق آثار أقدام المرأة الأولى.»
سألَ وايتسايد، وقد غلَبه الفضولُ رغمًا عنه: «كيف تعرف أيُّها كانت المرأة الأولى وأيُّها كانت الثانية؟»
قال لينج تشو: «كانت قدمُ المرأة الأولى مبتلَّة.»
فقال المفتش منتصرًا: «لكن لم يكن هناك مطر.»
قال لينج تشو: «كانت تقف على العشب.» وأومأ تارلينج برأسه، متذكرًا أن الفتاة قد وقفَت على العشب في ظل الشجيرات، مراقبةً مغامرته مع ميلبرج.
قال لينج تشو: «لكنْ هناك شيءٌ واحد لا أفهمه يا سيدي.» وتابعَ قائلًا: «هناك أثرُ قدم امرأةٍ أخرى لا أجدها على الدرج في الصالة. مشَت هذه المرأة حول المنزل بالكامل؛ أظن أنها تجوَّلَت حوله مرتَيْن ثم دخلت الحديقةَ عَبْر الأشجار.»
حدَّق تارلينج في وجهه.
وقال: «الآنسة رايدر جاءت مباشرةً من المنزل إلى الطريق، ثم إلى هيرتفورد ورائي.»
أصرَّ لينج تشو قائلًا: «هناك أثرٌ لامرأةٍ دارت حول المنزل، وبالتالي أعتقد أنها كانت امرأةً عارية القدمَيْن.»
«هل هناك آثارٌ لرجلٍ بالإضافة إلى ثلاثتنا؟»
قال لينج تشو: «كنتُ سأذكر ذلك.» ثم أردفَ: «هناك أثر ضعيف جدًّا لرجلٍ أتى مبكرًا؛ لأن آثار الأقدام المبتلَّة فوق آثاره؛ كما أنه غادر، لكن لا توجد أيُّ آثار له على الحصى، فقط أثر مسار عجلة.»
قال تارلينج: «كان هذا ميلبرج.»
وأوضحَ لينج تشو: «إذا لم تلمس القدمُ الأرض، فسوف تترك القليلَ من الأثر. هذا هو السبب في أن قدم المرأة في أرجاء المنزل صعبة عليَّ جدًّا؛ لأنني لا أستطيع أن أجدها على الدرج. ومع ذلك فأنا أعلم أنها جاءت من المنزل لأني أستطيعُ رؤيتها تقود من الباب. تعالَ يا سيدي، سأريك.»
قاد الطريقَ عبر الدرج إلى الحديقة، ثم لأول مرة لاحظَ وايتسايد أنَّ الصينيَّ كان حافيَ القدمَيْن.
سألَ مازحًا: «ألم تخلط بين آثار أقدامك وأقدامِ شخصٍ آخر؟»
هزَّ لينج تشو رأسه.
وقال بهدوء، وهو يُدخِل قدمَيه في حذائه الصغير: «تركتُ حذائي خارج الباب لأن هذا يُسهل عليَّ العمل أكثر.»
قاد الطريقَ إلى جانب المنزل، وهناك أشار إلى آثار الأقدام. لقد كانت أنثويةً على نحوٍ لا التباس فيه. حيث كان الكعب، كانت حفرةٌ عميقة على شكل هلال، وقد تكرَّرت على مسافاتٍ في جميع أنحاء المنزل. من الغريب أنه عُثِرَ عليها أمام كلِّ النوافذ تقريبًا، كأنَّ الزائر الغامضَ قد سار في الحديقة بالكامل ساعيًا لإيجاد مدخل.
قال وايتسايد، فاحصًا أحدَ هذه الآثار: «إنها تُشبه الشباشب أكثرَ من الأحذية بالنسبة إليَّ. إنها بلا شك نسائية. ما رأيك يا تارلينج؟»
أومأ تارلينج وقاد طريق العودة إلى الغرفة.
سأل: «ما هي نظريتُك يا لينج تشو؟»
قال الصيني: «دخل شخصٌ ما إلى المنزل، متسللًا من الباب السفليِّ ثم صعد الدرج. في البداية قام هذا الشخص بالقتل، ثم ذهب ليُفتش المنزل، ولكنه لم يستطِع الخروج من الباب.»
قال وايتسايد: «هذا صحيح.» وأردفَ: «تقصد الباب الذي يُغلق هذا الجناح الصغيرَ من بقية المنزل. كان ذلك مقفلًا، أليس كذلك يا تارلينج، عندما اكتشفت الأمر؟»
قال تارلينج: «بلى، كان مقفلًا.»
تابعَ لينج تشو: «عندما اكتشفوا أنهم لا يستطيعون دخول المنزل، حاولوا التسللَ عبر إحدى النوافذ.»
قال تارلينج وقد نَفِد صبرُه: «هم؟ مَنْ هم؟» ثم سألَه: «هل تقصد المرأة؟»
كانت النظرية الجديدة مربِكة. لقد اخترقَ الممثلُ الثاني في المأساة — ذكَّره حرقُ حمض الكبريتيك البُني على ظهر يده بوجوده — ولكن مَنْ كان الثالث؟
أجابَ لينج تشو بهدوء: «أعني المرأة.»
سألَ وايتسايد بانفعال: «ولكن مَنْ أراد بحقِّ السماء أن يدخل المنزل بعد أن قتَل السيدة رايدر؟» ثم عقَّب قائلًا: «نظريتك تُخالف المنطق يا لينج تشو. عندما يرتكب شخصٌ جريمةَ قتل يريد أن يبعد قدرَ الإمكان عن مسرح الجريمة في أقصر فترة زمنية ممكنة.»
لم يردَّ لينج تشو.
قال تارلينج: «كم عدد الأشخاص المعنيِّين بهذا القتل؟» وتابعَ قائلًا: «دخلَ رجلٌ أو امرأة حافية القدمَيْن وقتَل السيدة رايدر، ثم دارَ شخصٌ ثانٍ حول المنزل، محاولًا الدخولَ من خلال إحدى النوافذ …»
أجابَ لينج تشو: «سواءٌ كان شخصًا واحدًا أو شخصَين لا أستطيع معرفة ذلك.»
أجرى تارلينج فحصًا إضافيًّا للجناح الصغير. كان، مثلما قال لينج تشو وكما أوضح هو للصيني، منفصلًا عن بقية المنزل، وكان من الواضح أنه أُعِدَّ ليُعطيَ السيد ميلبرج الخصوصيةَ اللازمة في زياراته لهيرتفورد. كان الجَناحُ مكوَّنًا من ثلاث غرف؛ غرفة نوم تؤدي إلى غرفة الجلوس، ومن الواضح أنها تُستخدَم من قِبَل السيدة رايدر، حيث كانت ملابسها معلَّقةً في الدولاب؛ وغرفة الجلوس التي ارتُكِبَت فيها جريمة القتل، والغرفة الاحتياطية التي مرَّ عبرها مع أوديت إلى القاعة التي تعلو الصالة.
جرى تأمين الدخول إلى المنزل عبر الباب الموجود في هذه الغرفة.
قال تارلينج عند الانتهاء من الفحص: «ليس هناك ما يُمكن فعله سوى ترك الشرطة المحلية تتولَّى المسئولية والرجوع إلى لندن.»
واقترحَ وايتسايد: «واعتقال ميلبرج.» ثم سألَه: «هل تقبل نظرية لينج تشو؟»
هزَّ تارلينج رأسه.
قال: «أنا أكره رفضها؛ لأنه أكثرُ متعقِّبي الأثرِ ذكاءً ومهارة، لدرجة مذهلة. يستطيع تعقُّب آثار الأقدام غير المرئية تمامًا للعين، ولديه غريزةُ الأدغال التي قادتنا في الأيام الخوالي في الصين إلى بعض النتائج الاستثنائية.»
عادوا إلى المدينة بالسيارة، لينج تشو يركب بجانب السائق، مدخنًا سلسلةً لا نهاية لها من السجائر. تحدَّث تارلينج قليلًا جدًّا خلال الرحلة، كان عقلُه مشغولًا بالكامل بأحدث تطوُّرٍ للُّغز، الذي لا يزال حَلُّه عَصيًّا عليه.
حمله الطريق عبر لندن إلى سكوتلاند يارد عبر كافنديش بليس، الذي كانت تقع فيه دارُ الرعاية التي ذهبت إليها أوديت رايدر. أوقف السيارةَ للاستفسار ووجد أن الفتاة قد تعافَت من نوبة الحزن التي دخلَت فيها جرَّاءَ الاكتشاف الرهيب الذي اكتشفته هذا الصباح، وسقطَت في نوم هادئ.
قال وهو ينضم مجددًا إلى رفيقه: «هذه أخبار جيدة على أي حال. كدتُ أموت قلقًا عليها.»
سألَ وايتسايد بجفاف: «أنت تهتمُّ بالآنسة رايدر اهتمامًا هائلًا، أليس كذلك؟»
تغيَّر لون تارلينج، ثم ضحك.
أقرَّ: «أوه، بلى، أنا مهتم بها، ولكن هذا طبيعي للغاية.»
سألَ وايتسايد: «لماذا طبيعي؟»
أجابَ تارلينج عمدًا: «لأن الآنسة رايدر ستكون زوجتي.»
قال وايتسايد في ذهولٍ بالغ: «أوه!» ولم يكن لديه شيءٌ آخر ليقوله.
كانت مذكرة القبض على ميلبرج في انتظارهما، ووُضِعَت في يد وايتسايد للتنفيذ.
قال الضابط: «لن نمهله وقتًا.» ثم تابعَ: «أخشى أنه حظي بمُهلة كبيرة، وسنكون محظوظين جدًّا إذا وجدناه في المنزل.»
كما ظنَّ، كان المنزل في كامدن تاون خاليًا، وكانت المرأة التي تأتي يوميًّا لتنظيف المنزل تنتظر بصبرٍ بجوار البوابة الحديدية. أخبرتهم أن السيد ميلبرج عادةً ما يسمح لها بالدخول في الثامنة والنصف. وحتى لو كان «في البلد» كان يعود إلى المنزل قبل وصولها.
أدخلَ وايتسايد مفتاحًا هيكليًّا في قفل البوابة، وفتحَه (في ظل احتجاج الخادمة لصالح صاحب عملها) وعبر المسار الحجري. كان بابُ المنزل مهمةً أكثرَ صعوبة؛ إذ كان مزوَّدًا بقفل عالي الجودة. لم يقف تارلينج متفرجًا، ولكنه حطَّم إحدى النوافذ، وابتسمَ ابتسامةً عريضة وهو يفعل ذلك.
«استمع إلى ذلك؟»
وصلَ رنينُ الجرس الحادُّ إلى آذانهم.
قال تارلينج بإيجاز: «إنذار ضدَّ السرقة.» ودفعَ المزلاج إلى الوراء، وفتحَ النافذة، وخطا داخلَ الغرفة الصغيرة التي قابل فيها السيد ميلبرج.
كان المنزلُ خاليًا. تجوَّلا من غرفة لأخرى، مفتشين الخزانات والدواليب. وفي إحداها عثَر تارلينج على اكتشاف. لم يكن أكثرَ من عدد قليل من الحبيبات المتلألئة التي مسحها من أحد الأرفف إلى راحة يده.
قال: «إذا لم يكن ذلك ثرمايت، فأنا هولندي.» وأردفَ: «على أي حال، سنتمكَّن من إدانة السيد ميلبرج بالحرق المُتعمَّد إذا لم نتمكَّن من إدانته بالقتل. سنُرسل هذا إلى المحلِّل الحكومي على الفور يا وايتسايد. إذا كان ميلبرج لم يقتل ثورنتون لاين، فهو بالتأكيد قد أحرق مقرَّ داشوود آند سولومون لتدمير دليل سرقته.»
كان وايتسايد هو مَنْ قام بالاكتشاف الثاني. ينام السيد ميلبرج على سرير خشبي ضخم بأربعة أعمدة.
قال وايتسايد: «إنه شيطانٌ مترَف.» ثم أشارَ قائلًا: «انظر إلى سُمْك هذه المَرتبة.» ونقرَ على جانب هذه القطعة من الأثاث وتفحَّصها بتعبيرٍ مندهش.
سألَ وهو يُواصل فحصه، ممزقًا مفرش السرير: «أليست صُلبةً بعض الشيء لمَرتبة سرير؟»
وعلى الفور تمت مكافأته بإيجاد ثَقْب صغير في جانب المَرتبة. أخرج سكينه وفتح أداةَ تنظيف الأنابيب وأدرج النصلَ الرفيع في الفتحة وضغط عليه. سمع صوت نقرة وانفتح بابان، كالأبواب التي تُخمد صوت موسيقى الجرامافون.
وضعَ وايتسايد يدَه وأخرج شيئًا.
قال بخيبةِ أمل: «كتب.» ثم أشرَقَ وجهُه وقال: «إنها مذكرات؛ أتساءل عمَّا إذا كان ذلك المتسوِّل يحتفظ بمذكراته؟»
كدَّس المجلداتِ الصغيرةَ على السرير وأخذ تارلينج واحدًا وتصفَّح الأوراق.
وقال: «مذكرات ثورنتون لاين.» ثم علَّق قائلًا: «هذه قد تكون مفيدة.»
كان أحد المجلدات مقفولًا. وكان أحدثَها، ومن الواضح أنه جرَت محاولةٌ لفتح القفل؛ لأن المشبك كان مضرورًا بشدة. في الواقع، قام السيد ميلبرج بهذه المحاولة، ولكن بما أنه كان منخرطًا في دراسةٍ منهجية للمذكرات منذ البداية؛ نحَّى المجلد الأخير جانبًا بعد محاولةٍ فاشلة لكسر القفل.
سألَ تارلينج: «ألا يوجد شيءٌ آخر؟»
قال المفتش المُحبَط وهو ينظر إلى الداخل: «لا شيء.» وأضافَ: «قد تكون هناك خِزاناتٌ صغيرة أخرى من هذا النوع.» لكن كشفَ البحثُ الطويل عدم وجود المزيد من أماكن الإخفاء.
قال تارلينج: «لا يوجد شيء آخر يمكن القيام به هنا.» ثم استطرد: «أبقِ أحد رجالك في المنزل لعل ميلبرج يظهر. أنا شخصيًّا أشكُّ كثيرًا فيما إذا كان سيظهر مرة أخرى.»
«هل تعتقد أن الفتاة أخافته؟»
قال تارلينج: «أعتقد أنه من المحتمل جدًّا.» وأردفَ: «سأُجري تفتيشًا في المتاجر، لكنني لا أعتقد أنه سيكون هناك أيضًا.»
ثبَتَ أن هذا التخمين صحيح. لم يرَ أحدٌ في متجر لاين المديرَ أو تلقَّى كلمةً عن مكان وجوده. اختفى ميلبرج كما لو كانت الأرض قد انشقَّت وابتلعته.
لم تُضيِّع سكوتلاند يارد وقتًا في تقديم تفاصيل الرجل المطلوبِ القبضُ عليه إلى كل مركزِ شرطة في إنجلترا. وفي خلال أربع وعشرين ساعة كان وصفُه وصورته في أيدي كلِّ مأمور قسم شرطة؛ وإذا لم يكن قد نجح في مغادرة البلاد — وهو ما كان مستبعَدًا — خلال المدَّة ما بين إصدار الأمر ومغادرته غرفةَ تارلينج في هيرتفورد، لكان القبض عليه حتميًّا.
في الساعة الخامسة بعد ظهر ذلك اليوم جاء دليلٌ جديد. زوجان من الأحذية النسائية، ملطَّخان بالطين ومهترئان، اكتُشِفَا في حفرة في طريق هيرتفورد، على بُعد أربعة أميال من المنزل الذي وقعَت فيه آخرُ جريمة قتل. جاء هذا الخبر عبر الهاتف من مأمور قسم هيرتفورد، مع معلومة إضافية تُفيد بأن الحذاء جرى إرساله إلى سكوتلاند يارد بواسطة مرسال خاص.
كانت الساعة السابعة والنصف عندما أُودِعَ الطردُ الصغير على طاولة تارلينج. أزال الورق عن الطرد وفتح غطاءَ الصندوق المصنوع من الورق المقوَّى، وأخرج شبشبًا مهترئَ المظهر أكلَ عليه الدهرُ وشَرِب.
قال: «إنه نسائيٌّ بلا شك.» ثم سألَه: «هل لاحظتَ الكعب الذي يتخذ شكل هلال؟»
قال وايتسايد: «انظر!» مشيرًا إلى بعض البُقع على الجزء الداخلي الأبيض البُني. «هذا يدعم نظرية لينج تشو. قدَما الشخص الذي لبِس هذا الشبشب كانتا تنزفان.»
فحَص تارلينج الشبشب وأومأ. رفعَ اللسان بحثًا عن اسم الصانع وسقط الحذاء من يده.
سألَ وايتسايد وهو يلتقطُه: «ما الأمر بحقِّ السماء؟»
نظرَ وضحكَ بلا حولٍ ولا قوة؛ ذلك أنَّ داخل اللسان كان يوجد ملصقٌ صغير يحمل اسمَ صانع أحذية في لندن، وتحته مكتوب بالحبر «الآنسة أوه رايدر.»