الرجل الذي أحبَّ لاين
بعد يومين جلسَ ثورنتون لاين في سيارته الليموزين الكبيرة التي وقفَت على أطراف واندسوورث كومون، في مواجهة بوابات السجن.
كان شاعرًا ومتكلفًا، أغربُ تركيبة يُمكن أن تجدَها في رجلٍ على الإطلاق.
كان ثورنتون لاين صاحبَ متجر، وحاصلًا على ليسانس في الآداب، وفاز بجائزة مانجيت العِلمية، ومؤلفَ كتابٍ صغير الحجم. لم تكن جودةُ الشعر الذي يحويه الكتابُ عظيمةً للغاية، لكنه كان بلا شكٍّ كتابًا صغيرًا مطبوعًا بأحرفٍ مزخرفة غريبة وهوامشَ عريضة. لقد كان صاحبَ متجر لأنَّ امتلاك المتجر أمَدَّه بالكافيار والخوخ، وبسيارة ليموزين صغيرة رائعة بمقعدَين وستِّ أسطوانات للمناسبات الرسمية، وببيتٍ ريفي وشقة في المدينة، ذات ديكورات صُنِعت بمبلغ ضخم كان من الممكن أن يشتريَ العديدَ من المتاجر المتواضعة الأقلِّ حجمًا من مركز لاين التجاري «سيرف فيرست إمبوريم».
بالنسبة إلى لاين الأكبر، جوزيف إيمانويل تلك العائلة، كان ازدهارُ «سيرف فيرست إمبوريم» مستحَقًّا. لقد ابتكرَ نظامَ بيع يضمنُ خدمة كلِّ عميل في اللحظة التي يدخل فيها أحدَ الأقسام العديدة التي تَكوَّن منها هذا المركزُ التِّجاري الرائع. لقد كان نظامًا قائمًا على المبدأ القديم الذي ينصُّ على الاحتفاظ باحتياطيات فعَّالة في المتناوَل.
تولَّى ثورنتون لاين العملَ في الوقت الذي وضعه فيه كتابُه الصغيرُ في فئة الغامضين الفَذَّة. فلأن هؤلاء النقَّاد الذين علَّقوا على كتابه كتبوا عن «شعره» مُستخدِمين علامتَي التنصيص للإعلان عن ازدِرائهم، ولأنه لا أحدَ اشترى الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، أصبح لاين معبودَ الرجال والنساء الذين يكتبون أيضًا ما لا يقرؤه أحد.
لأنه لا شيء في العالم الواسع كان أكثرَ يقينًا بالنسبة إلى الغامضين الأفذاذ من هذا: اختبار التميُّز هو الازدراء. ربما كان ثورنتون لاين في ظروفٍ مختلفة سينجرفُ إلى الأعلى نحو مجموعات ربما أكثر غموضًا — نعم، ربما إلى مجموعةٍ تفوق الزواجَ والصابون والقمصان النظيفة والهواء النقيَّ — إلا أن والده مات بالتُّخمة، وأصبح ثورنتون هو صاحبَ متاجر «سيرف فيرست».
كانت رغبته في البداية هي بيعَ الممتلكات، والانسحاب إلى فيلا في فلورنسا أو كابري. ثم راودته فكرةٌ عبثية، ودعابة ثريَّة. راقَ له أن يجلس، وهو المثقَّف، النبيل، الشاعر الغامض، في مكتبٍ بمتجر. علَّق أحدُهم على مَسْمعٍ منه بأن الفكرة كانت «ثرية». رأى نفسه في «شخصية» وراقَ له الدَّور. ولدهشةِ الجميع، تولَّى عمل والده، مما يعني أنه وقَّع الشيكات وجمَع الأرباح وترك الإدارةَ لقُدامى الموظفين المخضرمين الذين اعتمَد عليهم والده في تأسيس إمبراطوريته.
كتب ثورنتون خطابًا إلى موظفيه البالغِ عددهم ٣٠٠٠ موظف — وكان الخطاب مطبوعًا على ورقٍ عتيقٍ مميَّزٍ بأحرفٍ مزخرَفة غريبة، وهوامشَ عريضة. واقتبس فيه من سينيكا وأرسطو وماركوس أوريليوس والإلياذة. حصل «الخطاب» على تقييماتٍ أفضلَ في الصحف وأكثرَ إسهابًا من كتابه.
لقد وجَدَ الحياةَ تَجرِبةً ممتعة — وربما أيضًا حرِّيفة بسببِ دهشةِ عددٍ لا يُحصى من أصدقائه المنتشين الذين ضرَبوا كفًّا على كف وهم يتساءلون: «كيف يُمكن لرجل بمِزاجك …!»
كان من الممكن أن تستمرَّ الحياة في كونها ممتعةً إذا سمح له كلُّ رجلٍ وامرأةٍ قابلهم بأن يفعل ما يحلو له. إلا أن هناك على الأقل شخصَيْن لم تكن ملايينُ ثورنتون لاين تعني لهما شيئًا.
كان الجوُّ دافئًا في سيارته الليموزين المكيَّفة. ولكن في الخارج، في صباحِ ذلك اليوم النموذجيِّ من أبريل، كان الجو شديدَ البرودة وكانت ثَمة جماعةٌ من النساء اللواتي وقَفْن على مسافةٍ محترمة من بوابات السجن يرتجفن، بينما يَشْدُدن شالاتهن بإحكام على أجسادهن، فيما كانت تتناثرُ في الهواء رقائقُ الجليد. كانت المنطقة مغطَّاة بالمسحوق الأبيض، وبدَت الأزهار المبكرة بائسةً للغاية في أجواء الشتاء.
دقَّت ساعةُ السجن الثامنةَ، وفُتِحَت بوابةٌ صغيرة. خرج رجلٌ من البوابة، وقد أغلَق سُترتَه حتى رقبتِه، وسحَب قبعته فوق عينَيه. بمجرد رؤيته، أسقط لاين الجريدة التي كان يقرؤها، وفتح باب السيارة وخرج منها مسرعًا، ماشيًا نحو السجين المُفرَج عنه.
قال بحنانٍ: «حسنًا يا سام، لم تتوقَّعْني؟»
توقَّفَ الرجل وكأنه قد أُصيبَ برصاصة، ووقف يُحدق في الشخص الذي يرتدي معطفًا من الفرو. ثم قال بانكسار:
«أوه، السيد لاين.» وأردفَ قائلًا: «أوه أيها القائد!» اختنق صوته وانهمرت الدموع على وجهه، وأمسك باليد الممدودة بكِلتا يدَيه، عاجزًا عن الكلام.
قال السيد لاين وقد استنار وجهُه بإحساسه بأفضليته: «لم تظنَّ أنني سأتخلى عنك يا سام، ها؟»
قال سام ستاي بصوتٍ أجش: «اعتقدتُ أنك ستتخلى عني يا سيدي.» ثم تابعَ: «أنت رجل نبيل حقًّا يا سيدي، ويجب أن أخجل من نفسي!»
«هُراء، هراء يا سام! اقفز إلى السيارة يا صديقي. هيا. سيظن الناس أنك مليونير.»
ابتسمَ الرجل بخجل، وفتح البابَ ودخل، وغاص متنهدًا تنهيدةَ راحةٍ في الأعماق الوثيرة للوسائد البُنية الكبيرة.
«يا إلهي! هل يوجد في العالم رجالٌ مثلك يا سيدي! حقًّا أنا أُومن بالملائكة!»
«هُراء يا سام. الآن تعالَ إلى شقتي، وسأعطيك إفطارًا جيدًا وبدايةً جديدة عادلة.»
«سأحاول أن ألزمَ الطريق المستقيم يا سيدي، فهَلَّا ساعدتَني!»
ربما يُمكننا القول في الحقيقة إنَّ السيد لاين لم يهتمَّ كثيرًا بما إذا كان سام سيَلْزم الطريق المستقيم أم لا، بل ربما كان سيشعر بخيبةِ أملٍ كبيرةٍ إذا حافظ سام على الطريق المستقيم والضَّيِّق. لقد «احتفظ» بسام كما يحتفظ الرجالُ بالدجاج والأبقار الفائزة، و«جمع» سام كما يجمع رجالٌ آخرون الطوابعَ والخزَف. كان سام هو رفاهيته ووضعيَّته. في ناديه كان يتباهى بمعرفته بممثِّل الطبقات الإجرامية هذا — إذ كان سام لصًّا خبيرًا ولم يكن يعرف أيَّ عمل آخر — وعِشقُ سام له كان واحدًا من أكثرِ تجارِبه إثارة.
وكان هذا العشق حقيقيًّا. كان سام من الممكن أن يُضحِّي بحياته من أجل هذا الرجلِ الشاحبِ الوجه. كان من الممكن أن يتكبَّد عناءَ أن تتمزق أطرافه إذا كان عذابه سيجلب الراحةَ أو التقدُّم إلى الرجل الذي كان بالنسبة إليه في مصافِّ الآلهة.
في الأصل، عثر ثورنتون لاين على سام بينما كان ذلك الفنان منشغلًا بالسَّطو على منزل المُحسِن المستقبَلي إليه. لقد كانت نزوةً من لاين إعطاءُ المجرمِ فطورًا جيدًا وإبداءُ الاهتمام بمستقبله. دخل سام السجن مرتَين لمدة قصيرة، ومرة واحدة لفترة طويلة، وفي كل مرة كان ثورنتون لاين يذهب بموكبه لاستقبال المتجوِّل العائد، وإعادته إلى المنزل، وتقديم الإفطار له مع الكثير من النصائح الدُّنيوية وغير الضرورية، وإطلاقه مرةً أخرى في العالم بعشرة جنيهات — مبلغ يكفي بالكاد لشراء سام مجموعةً جديدة من أدوات السرقة.
لم يحدث من قبلُ أن أبدى سام مثلَ هذا الامتنان؛ ولم يحدث من قبلُ أن كان ثورنتون لاين أكثرَ اهتمامًا بمُجاملاته. كان هناك حمَّامٌ ساخن، كان من الممكن أن يستغنيَ عنه سام ستاي، لولا أنه كان مضطرًّا إلى قَبوله تأدبًا، ووجبة فطور دافئة وفاخرة، وبدلة جديدة، في جيبها أربعةُ أوراق من فئة الخمسة جنيهات وليس ورقتَين فقط.
بعد الإفطار، تحدَّث لاين.
قال اللصُّ وهو يهز رأسه: «ما من فائدةٍ يا سيدي.» ثم أوضحَ: «لقد جرَّبتُ كل شيء للحصول على عيشةٍ شريفة، ولكن بطريقةٍ ما لا يُمكنني الاستمرارُ في الحياة المستقيمة. قُدت سيارةَ أجرة لمدة ثلاثة أشهر بعد خروجي حتى ظهر لي أحدُ المحققين النشطاء ليقولَ إنني ليست لديَّ رُخصة، وأدانني بموجب قانون مكافحة الجرائم. لا فائدة من أن أطلب منك أن تُعطيَني وظيفةً في متجرك يا سيدي؛ لأنني لن أستطيع الاحتفاظَ بها، لن أستطيع حقًّا! أنا معتادٌ على الحياة في الهواء الطلق. أنا أحب أن أكون سيدَ نفسي. أنا واحد من هؤلاء الرجال الذين قرأت عنهم … تبدأ الكلمة بحرف الميم.»
قال لاين بضحكة صغيرة: «المغامرون؟» ثم أردفَ: «نعم أعتقد أنك كذلك يا سام، وسوف أُعطيك مغامرةً قريبة إلى قلبك.»
ثم بدأ يروي قصة جحود — لفتاةٍ ساعدها، وأنقذَها بالفعل من التضوُّر جوعًا، ولكنها خانته مِرارًا وتَكرارًا. كان ثورنتون لاين شاعرًا. ولكنه كان أيضًا كاذبًا ماهرًا. كانت الكذبة تخرج بسهولة مثل الحقيقة، وأسهل، حيث كانت هناك قسوةٌ ما في الحقيقة أثارت روحه الفنية. وبينما كانت حكايةُ خيانة أوديت رايدر تتكشَّف، كانت عينا سام تزدادان ضيقًا. كانت مثلُ هذه المخلوقة تستحقُّ كل ما هو سيِّئ، ولا تستحقُّ أيَّ تعاطف.
وفجأةً توقَّف ثورنتون لاين عن الكلام، وثبَّت عينَيه على سام ليُلاحظ تأثيرَ روايته.
قال سام بصوتٍ مرتجف: «أرِني.» ثم تابعَ قائلًا: «أرِني كيف أنتقمُ لك منها يا سيدي وسأخوض كلَّ الصِّعاب لأفعلَ ذلك!»
قال لاين: «هذا هو ما أحب سماعه.» وراح يصبُّ بعضًا من الزجاجة الطويلة التي كانت موضوعةً على صينية القهوة، والتي كانت عبارة عن مشروب البراندي القويِّ المفضَّل لدى سام. ثم قال: «والآن سأُعطيك فكرتي.»
جلسَ الرجلان لبقية الصباح تقريبًا وجهًا لوجه يتآمران على الفتاة التي كان إثمُها الوحيد هو أنها أهانت كرامةَ ثورنتون لاين، والتي أثارت فضيلتُها كراهيةَ ذلك الرجل الشرير.