رواية ميلبرج
قال السيد ميلبرج بأسلوبه الغامض الذي يبرع فيه: «لا أنوي أن أصف كلَّ الأحداث التي سبقت وفاة الراحل ثورنتون لاين. ولن أبذلَ قُصارى جهدي في وصف شخصيته المعروفة، بل وربما السيئة السُّمعة. لم يكن صاحبَ عملٍ جيدًا؛ كان متشككًا، وظالمًا، ووضيعًا من نواحٍ كثيرة. أعترف أن السيد لاين كان يشكُّ فيَّ. كان لديه انطباعٌ بأنني سرَقت من الشركة مبالغَ مالية كبيرة — وهو شكٌّ كنتُ أشتبهُ بدوري في وجوده منذ فترة طويلة، وتأكدت منه من خلال محادثة قصيرة سمعتها في اليوم الأول الذي سُرِرت فيه برؤيتك يا سيد تارلينج.»
تذكَّر تارلينج ذلك اليوم القاتل عندما جاء ميلبرج إلى المكتب في اللحظة التي كان فيها لاين يُعبِّر عن رأيه بحرية شديدة بشأن مرءوسه.
قال ميلبرج: «بالطبع، أيها السيدان، لا أعترفُ للحظةٍ واحدة بأنني سرقت الشركة، أو أنني مذنب في ارتكاب أيِّ أعمال إجرامية. أعترف بوجود بعض المخالفات، بعض الإهمال، الذي كنتُ مسئولًا عنه أخلاقيًّا؛ ولكن لا أعترف بأكثر من ذلك. إذا كنتَ تُدوِّن ما أقول …» والتفت إلى وايتسايد، الذي كان يدوِّن الأقوالَ بإيجاز، ثم أردف: «أرجو منك أن توضح إنكاري.» كرَّر بعناية: «مخالفات وإهمال، لست مستعدًّا للاعتراف بأكثرَ من هذا.»
«بعبارة أخرى، أنت لا تعترف بأي شيء؟»
وافق السيد ميلبرج بقوة شديدة: «أنا لا أعترف بأي شيء.» ثم أردفَ: «يكفي أنَّ السيد لاين كان يشتبهُ فيَّ وأنه كان مستعدًّا لتعيين محقِّق من أجل تتبُّع اختلاساتي، كما وصَفَها. صحيحٌ أنني عشتُ بترَف، وأنني أملك منزلَيْن؛ واحدًا في كامدن تاون، وواحدًا في هيرتفورد، ولكنني ضاربتُ في بورصة الأوراق المالية وضاربتُ بحِكمة شديدة.
لكنني رجل حسَّاس، أيها السيدان، ومعرفة أنني كنتُ مسئولًا عن بعض المخالفات شغلت ذهني كثيرًا. دعنا نَقُل، على سبيل المثال، إنني كنت أعرف أنَّ شخصًا ما كان يسرق الشركة، لكنني لم أتمكَّن من اكتشاف ذلك الشخص. أليست حقيقةُ أنني كنت مسئولًا أخلاقيًّا عن الشئون المالية لمتاجر لاين كفيلةً بأن تُسبِّب لي التعاسة الشديدة؟»
قال وايتسايد: «أنت تتحدَّث مثل كتاب، وأنا شخصيًّا لا أُصدق أيَّ كلمة مما تقوله. أعتقد أنك كنتَ لصًّا يا ميلبرج؛ لكن تابِعْ روايتك الحلوة.»
قال السيد ميلبرج ساخرًا: «أشكرك.» ثم واصلَ كلامه: «حسنًا، أيها السيدان، آلَتِ الأمور إلى أزمة. شعرتُ بمسئوليتي. كنت أعلم أن شخصًا ما كان يسرق الشركة، وكانت لديَّ فكرة أنه من المحتمل أن أدخل في دائرة الشك، وأن أولئك الذين كانوا أعزاءَ لديَّ …» اهتز صوته للحظةٍ وصار أجشَّ، ثم كرَّر: «أولئك الذين كانوا أعزاءَ لدي، سيتضرَّرون من خطايا سهوي.
تم فصلُ الآنسة أوديت رايدر من شركة متاجر لاين نتيجةَ رفضها للمبادرات غير المرغوبة للراحل السيد لاين. وحوَّل السيد لاين جامَ غضبه ضد هذه الفتاة، وهذا أعطاني فكرة.
الليلة التي أعقبَت المقابلة — أو ربما كانت في الليلة نفسها — أنا أقصد المقابلة التي أجراها السيد تارلينج مع الراحل ثورنتون لاين — كنتُ أعمل في وقتٍ متأخر في المكتب. كنت، في الواقع، أُرتِّب مكتب السيد لاين. لسببٍ ما غادرت المكتب، وعند عودتي وجدت المكان مظلمًا. أعدتُ تشغيل الضوء، ثم اكتشفت على المكتب مسدسًا ذا مظهر قاتل.»
والتفتَ إلى تارلينج وتابع: «في الأقوال التي أدليتُ بها لك يا سيدي، قلتُ إنني لم أعثر على هذا المسدس؛ وبالفعل، لقد أقررتُ بجهلي العميق بوجوده. يؤسفني أن أعترف لك بأنني كنتُ أخبرك بكذبة. لقد وجدت المسدس بالفعل؛ ووضعته في جيبي وأخذته إلى المنزل. ومن المحتمل أنه جرى إطلاقُ الرصاص القاتل على السيد لاين من هذا المسدس.»
أومأ تارلينج.
«لم يكن لديَّ أدنى شك في ذلك يا ميلبرج. كان لديك أيضًا مسدسٌ آليٌّ آخَر، جرى شراؤه بعد جريمة القتل من جون وادهام من سيرك هولبورن.»
أحنى السيد ميلبرج رأسه.
وقال: «هذا صحيح تمامًا يا سيدي.» ثم تابعَ: «لديَّ هذا السلاح. أنا أعيش حياة وحيدة جدًّا، و…»
قال تارلينج: «لا تحتاج إلى شرح. أنا فقط أقول لك إنني أعرف مِن أين حصلتَ على المسدس الذي أطلقتَ النارَ عليَّ به في الليلة التي أحضرت فيها أوديت رايدر من آشفورد.»
أغمضَ السيد ميلبرج عينيه وبدا على وجهه الاستسلام — استسلام رجل أُسيءَ استغلالُه واتُّهِمَ زورًا.
قال: «أعتقد أنه سيكون من الأفضل عدمُ مناقشة الموضوعات المثيرة للجدل.» ثم أضافَ: «إذا سمحت لي، سألتزم بالحقائق.»
كان من الممكن أن يضحك تارلينج على الوقاحة الفائقة للرجل، لولا أنه كان يزداد انزعاجًا من الضغط المزدوج الذي يُفرَض عليه. كان من المحتمَل أن هذا الرجل لو لم يتهم أوديت رايدر بجريمة القتل، لكان سيتركه ليعترف لوايتسايد، ويذهبَ بمفرده في بحثه اليائس عن سيارة الأجرة التي يقودها سام ستاي.
تابعَ السيد ميلبرج: «استئنافًا لما كنتُ أقوله، أخذتُ المسدس إلى المنزل. ستفهم بالتأكيد أنني كنت في حالةٍ ذهنية تكاد تصل إلى الانهيار العصبي. كنت أشعر بمسئولياتي بشدة، وأشعر أن السيد لاين لو لم يقبل تأكيدي على البراءة، فلن يبقى أمامي شيءٌ سوى أن أترك هذا العالم.»
قال وايتسايد: «بعبارة أخرى، هل فكَّرت في الانتحار؟»
قال ميلبرج بتأمُّل: «لقد شخَّصتُ الوضع بدقة.» ثم أردفَ: «فُصِلَت الآنسة رايدر، وأنا كنتُ على وشك الانهيار. كانت والدتها ستتورط في المشكلة — تلك كانت الأفكار التي راودتني وأنا جالس في غرفة الطعام المتواضعة في كامدن تاون. ثم واتتني الفكرة. تساءلتُ عما إذا كانت أوديت رايدر تُحب أمها بما يكفي لتقديم التضحية العظيمة، أن تتحملَ المسئولية كاملة عن المخالفات التي حدَثَت في قسم الحسابات في متاجر لاين، وتُغادر إلى أوروبا حتى ينتهي الأمر. كنت أنوي رؤيتها في اليوم التالي، لكنني كنت لا أزال أشكُّ فيما إذا كانت ستنزل على رأيي.» ثم استدركَ بأسلوبٍ وعظي: «فالشباب هذه الأيامَ أنانيون على نحوٍ رهيب.»
«بالمصادفة البحتة، لحقتُ بها على آخر لحظة وهي تُغادر إلى هيرتفورد، ووضعتُ الموقف بأكمله أمامها. صُدِمت الفتاة المسكينة بطبيعة الحال، ولكنها سرعان ما وافقَت على اقتراحي ووقَّعَت على الاعتراف الذي حرقتَه أنت يا سيد تارلينج بعد تفكير.»
نظرَ وايتسايد إلى تارلينج.
وقال بقليلٍ من اللوم: «لم أكن أعرف شيئًا عن هذا.»
قال تارلينج: «استمر.» وأضافَ: «سأشرح ذلك فيما بعد.»
«كنتُ قد أرسلت برقيةً إلى والدة الفتاة سابقًا لأخبرها أنها لن تعودَ إلى المنزل في تلك الليلة. كما أرسلتُ برقيةً إلى السيد لاين، لكي أطلبَ منه أن يُقابلني في شقة الآنسة رايدر. ومنحتُ نفسي حريةَ وضعِ اسم الآنسة رايدر على الدعوة، معتقدًا أن ذلك سيُشجعه على الحضور.»
قال تارلينج: «لقد حماك ذلك أيضًا، وأبقى اسمَك خارج الموضوع بالكامل.»
قال السيد ميلبرج وكأنَّ الفكرة لم تخطر بباله من قبل: «نعم، نعم، لقد فعَل ذلك. أبعدتُ الآنسة رايدر على عجَل. وتوسلتُ إليها ألا تقترب من الشقة، ووعدتها أن أذهب بنفسي هناك، وأجمع الأشياء الضرورية للرحلة وأوصلها بسيارة أجرة إلى تشيرينج كروس.»
قال تارلينج: «فهمت، إذن أنت مَن عبَّأ الحقيبة؟»
صحَّح السيد ميلبرج: «عبَّأ نصفها.» ثم قال: «كما ترى، لقد ارتكبتُ خطأً في الوقت الذي يُغادر فيه القطار. لم أكتشف إلا وأنا أُعبِّئ الحقيبة أن مِن المستحيل بالنسبة إليَّ أن أصل إلى المحطة في الوقت المناسب. وقد رتبتُ مع الآنسة رايدر أنني إذا لم أحضر سأتصل بها هاتفيًّا قبل ربع الساعة من مغادرة القطار. كان عليها أن تنتظرني في ردهة فندقٍ قريب. كنت آمُل الوصولَ إليها قبل ساعة على الأقل من مغادرة القطار؛ لأنني لم أرغب في جذب الانتباه إلى نفسي، أو إلى الآنسة رايدر. عندما نظرتُ إلى ساعتي، وأدركتُ أنَّ من المستحيل الوصولَ، تركتُ الحقيبة كما كانت، نصفَ معبأة، وخرجتُ إلى محطة المترو واتصلتُ بها.»
سألَ تارلينج: «كيف دخلت وخرجت؟» ثم قال موضِّحًا: «حارس العقار المناوب على الباب قال إنه لم يرَ أحدًا.»
شرحَ السيد ميلبرج: «خرجتُ من الخلف.» ثم قال: «إنه حقًّا أبسطُ شيء في العالم أن تصل إلى شقة الآنسة رايدر في القبو عن طريق الإسطبل في الخلف. كل المستأجرين لديهم مفاتيح الباب الخلفي ليتمكَّنوا من إدخال مركباتهم وإخراجها، أو إدخال الفحم الخاص بهم.»
قال تارلينج: «أنا أعلم ذلك.» ثم استحثه قائلًا: «استمر.»
قال ميلبرج: «أنا أسبق القصة الفعلية بقليل.» ثم استطرد: «أخذَتْ مسألةُ تعبئة الحقيبة روايتي أبعدَ قليلًا مما كنتُ أنوي أن أذهب إليه. بعد أن ودَّعتُ الآنسة رايدر، قضيتُ بقية المساء في إحكام خططي …» ثم استدركَ وهو يلوِّح بيده: «لن يكون من المجدي أن أقولَ لكما الحجج التي كنت أنوي طرحها عليه.»
قال تارلينج: «إذا لم تشمل خيانة الآنسة رايدر، فأنا لا أفهمُ شيئًا. أنا أعرف جيدًا الحجج التي كنت تنوي استخدامها.»
قال ميلبرج: «إذن يا سيد تارلينج اسمح لي أن أُهنِّئك على كونك قارئَ أفكار؛ لأنني لم أفصح عن أفكاري السرية لأي إنسان. ومع ذلك، هذا خارجٌ عن الموضوع. اعتزمتُ الترافع أمام السيد لاين. كنت أنوي أن أُقدِّم إليه سِجلَّ سنوات من الخدمة المخلصة لوالده الراحل؛ وإذا لم يقبل الاعترافَ، وإذا أصرَّ على تنفيذ خطته الانتقامية، عندئذٍ يا سيد تارلينج، كنت أنوي إطلاق النار على نفسي أمام عينَيه.»
قال هذا بتأثيرٍ درامي نادر؛ لكن تارلينج لم يتأثر البتَّة، ورفع وايتسايد عينَيه للأعلى بعد أن كانت مثبَّتة على ملاحظاته، وأومَضَت عيناه.
قال: «يبدو أن هوايتك هي أن تستعدَّ للانتحار وتُغيِّر رأيك.»
قال ميلبرج: «يؤسفني سَماعُك تتحدَّث باستخفافٍ حول موضوعٍ جَلَل.» ثم أردفَ: «كما قلت، لقد انتظرت وقتًا طويلًا، لكنني كنت متلهفًا لأن يُسدِل الظلامُ أستاره السوداء قبل أن أشق طريقي إلى الشقة. وهذا ما فعلتُه بسهولة لأن أوديت أعطتني مفتاحها. لقد وجدتُ حقيبتها دون صعوبة — كانت في غرفة الطعام على أحد الرفوف، ووضعتُ الحقيبة على سريرها، وتابعت، بأفضلِ ما أستطيع؛ لأنني لستُ خبيرًا بأدوات التجميل النسائية، تجميعَ الأشياء التي أعلم أنها ستحتاج إليها في الرحلة.
وهكذا كنتُ مشغولًا عندما خطر لي أنني أخطأتُ في وقت القطار، ونظرتُ إلى ساعتي، ورأيتُ لخوفي أنني لن أكون قادرًا على الوصول إلى المحطة في الوقت المناسب. لحسن الحظ، كنت قد رتَّبت للاتصال بها، كما أخبرتُك من قبل.»
قال تارلينج: «لحظة واحدة.» ثم سألَه: «ماذا كنتَ ترتدي؟»
«ماذا كنتُ أرتدي؟ دعني أفكر. كنت أرتدي معطفًا ثقيلًا، أعرف ذلك لأن الليلة كانت باردة وضبابية بعض الشيء، إذا كنتَ تذكر.»
«أين كان المسدس؟»
أجابَ ميلبرج على الفور: «في جيب المعطف.»
«هل كنت ترتدي معطفك؟»
فكَّر ميلبرج للحظة.
«لا، لم أفعل. لقد علَّقتُه على مشجب عند نهاية السرير، بالقرب من التجويف الذي أعتقد أن الآنسة رايدر استخدمَته كخِزانة ملابس.»
«وعندما خرجتَ إلى الهاتف، هل كنتَ ترتدي معطفك؟»
قال ميلبرج على الفور: «لا، أنا متأكد تمامًا من ذلك.» ثم أردفَ: «أتذكر أنني فكرت فيما بعدُ كم كان من الحماقة إحضارُ معطف وعدم استخدامه.»
قال تارلينج: «استمر.»
«حسنًا، لقد وصلتُ إلى المحطة، واتصلتُ بالفندق، ولدهشتي وانزعاجي لم تُجِب الآنسة رايدر. سألتُ الموظَّف الذي أجاب على الهاتف عما إذا كان قد رأى سيدةً شابة ترتدي كذا وكذا منتظرةً في بهو الفندق، فأجاب: «لا.» لذلك …» قال السيد ميلبرج على نحوٍ قاطع: «ستوافق على أنه من الممكن أن الآنسة رايدر لم تكن موجودة سواءٌ في المحطة أو في الفندق، وهناك احتمال مميز أن تكون قد تراجعَت.»
قاطعه وايتسايد قائلًا: «نريد الحقائق.» ثم أردفَ: «لدينا نظريات كافية. أخبِرْنا بما حدث. وبعد ذلك سوف نستخلص استنتاجاتنا الخاصة.»
أجابَ ميلبرج بلطف: «حسنٌ جدًّا يا سيدي.» ثم قال: «بحلول الوقت الذي اتصلتُ فيه هاتفيًّا كانت الساعة التاسعة والنصف. سوف تتذكر أنني أرسلتُ برقية إلى السيد لاين لمقابلتي في الشقة في الحادية عشرة. من الواضح أنه لم يكن ثَمة سببٌ يجعلني أعود إلى الشقة حتى بضع دقائق قبل ميعاد السيد لاين، لكي أسمح له بالدخول. لقد سألتَني الآن، يا سيدي …» والتفت إلى تارلينج ثم تابع: «ما إذا كنتُ أرتدي معطفي، ويُمكنني أن أؤكد على نحوٍ قاطع أنني لم أكن أرتديه. كنتُ عائدًا إلى الشقة بنية إحضار معطفي، عندما رأيتُ عددًا من الأشخاص يتجولون في الإسطبل خلف مجمع الشقق. لم تكن لديَّ رغبةٌ في جذب الانتباه، كما أخبرتُك من قبل؛ لذلك وقفتُ منتظرًا حتى تفرَّق هؤلاء الأشخاص الذين كانوا موظَّفي شركة سيارات كان لها مَرأبٌ خلف الشقة.
الآن، الانتظار في زاوية إسطبل في ليلة ربيعية باردة عملٌ بارد، ولما رأيتُ أن الأمر سيستغرق بعض الوقت قبل أن يُصبح الإسطبل خاليًا، عدتُ إلى الشارع الرئيسي ومشيتُ على طول الشارع حتى وصلتُ إلى دار سينما. وأنا مهتم بالعروض السينمائية.» أوضح السيد ميلبرج، ثم تابع: «وعلى الرغم من أنني لم أكن في مزاجٍ للترفيه، فقد اعتقدت أن العروض ستوفر جاذبية ممتعة. نسيتُ اسم الفيلم …»
قال تارلينج: «ليس من الضروري أن تُخبرنا في الوقت الحالي.» ثم أضافَ: «هل يُمكنك من فضلك اختصارُ روايتك قدرَ الإمكان؟»
صمت ميلبرج للحظة.
قال: «أنا آتٍ الآن إلى الحقيقة الأكثر غرابة على الإطلاق، وأُريدكما أن تتذكرا كلَّ التفاصيل التي أُقدمها إليكما. من مصلحتي أن يَمثُل مرتكب هذه الجريمة الفظيعة أمام العدالة …»
أوقفَت بادرةُ نفادِ صبرِ تارلينج العباراتِ المبتذَلةَ المحفوظة في حلقه، لكن السيد ميلبرج لم يتحرَّج بأي شكل من الأشكال.
«عندما عدتُ إلى الإسطبل وجدتُه خاليًا تمامًا. وكانت تقف خارج الباب المؤدي إلى المخازن والأقبية سيارةٌ ذات مقعدَين. لم يكن بداخلها أو أمامها أحد ونظرتُ إليها بفضول، غيرَ مدرك في تلك اللحظة أنها مِلكُ السيد ثورنتون لاين. ما كان يُهمني هو حقيقة أن البوابة الخلفية، التي ترَكتُها مغلقة، كانت مفتوحة. وكذلك كان الباب المؤدي إلى ما يُمكن أن أُسميه الغرفةَ تحت الأرض — كانت أفضلَ قليلًا — التي كان على المرء أن يمر من خلالها للوصول إلى شقة أوديت من الطريق الخلفي.»
قال السيد ميلبرج على نحوٍ مثير للإعجاب: «فتحتُ باب الشقة، ودخلت. كنتُ قد أطفأتُ مفتاح الإنارة عندما ذهبتُ، ولكن لدهشتي رأيتُ عبر رافدة غرفة نوم أوديت أنَّ هناك نورًا مُضاءً بالداخل. أدَرتُ المقبض، وحتى قبل أن أرى الغرفة، اقتحمَت أنفي رائحةُ مسحوقٍ مشتعِل.
أول ما رأيته كان رجلًا مُلقًى على الأرض. كان على وجهه، لكنني قلبته، ولذعري الشديد كان السيد ثورنتون لاين. وكان فاقدًا للوعي وينزف من جرحٍ في صدره، وفي هذه اللحظة اعتقدتُ أنه ميت. أن أقول إنني صُدِمت سيكون وصفًا ملطَّفًا لشعوري الرهيب.
كانت فكرتي الأولى — وأفكاري الأولى تكون سليمةً في بعض الأحيان — أنَّ أوديت رايدر، التي عادت لسببٍ ما، قد أطلقَت عليه الرصاص. ومع ذلك، كانت الغرفة فارغة، وكان ثَمة مُلابَسات غريبة سأُخبرك بشأنها، وهي أن النافذة المؤدية إلى منطقة الشقة كانت مفتوحةً على مِصراعَيها.»
قال تارلينج: «لقد كانت مَحميَّة بقضبان ثقيلة؛ ولذا لا يُمكن لأحد أن يهرب بهذه الطريقة.»
تابع ميلبرج وهو يومئ برأسه موافقًا على وصف تارلينج: «فحَصتُ الجرح، وعرَفتُ أنه جرحٌ قاتل. ومع ذلك، لا أعتقد أن السيد ثورنتون لاين كان قد مات في هذا الوقت. فكرتي التالية كانت هي إيقافَ نزيف الجرح، وفتحتُ الدُّرج وأخرجتُ أولَ ما وصلَت إليه يدي، وهو ثوب النوم. كان عليَّ أن أجد ضمادة واستخدمتُ اثنتين من مناديل أوديت لهذا الغرض. أولًا جرَّدته من معطفه وسُترته، وهي مهمة صعبة بعضَ الشيء، ثم أجلستُه بأفضلِ ما أستطيع. كنتُ أعلم أن حالته كانت ميئوسًا منها، وفي الواقع أعتقد …» واستدرك بجدية: «أعتقد أنه مات حتى قبل اكتمال التضميد.
بينما كنتُ أفعل شيئًا، وجدتُ أنَّ من الممكن أن أنسى الموقف الرهيب الذي سأجد نفسي فيه إذا جاء شخصٌ ما إلى الغرفة. ولكن في اللحظة التي رأيتُ فيها الحالة ميئوسًا منها، وفكَّرتُ للحظةٍ، تملَّكَني ذُعرٌ أعمى. انتزعتُ معطفي من المشجب وجرَيتُ خارجًا من الغرفة؛ عبر الطريق الخلفي إلى الإسطبل، ووصلتُ إلى كامدن تاون في تلك الليلة، محطمًا ذهنيًّا وجسديًّا.»
سأل تارلينج: «هل تركتَ الأنوار مضاءة؟»
فكَّر السيد ميلبرج للحظة.
وقال: «نعم، تركتُ الأنوار مضاءة.»
«وتركتَ الجثة في الشقة؟»
أجاب ميلبرج: «أُقسم على ذلك.»
«والمسدس — عندما عُدتَ إلى المنزل هل كان في جيبك؟»
هزَّ السيد ميلبرج رأسه.
«لماذا لم تُخطر الشرطة؟»
اعترف السيد ميلبرج بقوله: «لأنني كنت خائفًا.» ثم قال: «كنتُ خائفًا حتى الموت. إنه اعتراف رهيب، لكنني جبان حقًّا.»
أصرَّ تارلينج: «لم يكن هناك أحدٌ في الغرفة؟»
«لا أحد حسبما استطعت أن أراه. أقول لك إن النافذة كانت مفتوحة. أنت تقول إن عليها قضبانًا — هذا صحيح، لكن الشخص النحيف جدًّا يمكن أن ينزلق بين تلك القضبان. امرأة …»
قال تارلينج بسرعة: «مستحيل.» كانت القضبانُ مَقيسة بعناية شديدة، ولا يمكن لأيِّ شيء أكبر من الأرنب المرورُ عبرها. وأنت ليست لديك فكرةٌ عمَّن حمل الجثة؟»
أجابَ ميلبرج بحزم: «لا، على الإطلاق.»
فتحَ تارلينج فمه ليقول شيئًا ما عندما رنَّ جرس الهاتف، والتقطَ الهاتفَ من الطاولة التي كان عليها.
كان صوتًا غريبًا حيَّاه بصوتٍ أجشَّ وعالٍ، كما لو كان غيرَ معتاد على الحديث في الهاتف.
صاحَ الصوت بسرعة: «اسمُك تارلينج؟»
قال تارلينج: «هذا هو اسمي.»
سأل الصوت: «إنها صديقتك، أليس كذلك؟»
كانت هناك ضحكةٌ مكتومة. سرَت رجفةٌ باردة في أوصال تارلينج؛ لأنه، على الرغم من أنه لم يقابل الرجلَ قط، فقد أخبره حَدْسه أنه كان يتحدث إلى سام ستاي.
صرخَ الصوت: «ستجدها غدًا، ما تبقَّى منها. المرأة التي استدرجَته … ما تبقى منها …»
سمع صوتَ نقرة، وأُنهِيَت المكالمة من الطرف الآخر.
كان تارلينج يضغط على زر الهاتف مثل المجنون.
سألَ: «من أين جاءت هذه المكالمة؟» وبعد لحظة وفَّر له العامِل معلومة أنها من هامبستيد.