جريمة قتل
استلقى جاك تارلينج على سريره الصُّلب، وقد وضع مبسمًا طويلًا بين أسنانه، وأسند كتابًا عن الميتافيزيقا الصِّينية على صدره في توازن، في سلام مع العالَم. كانت الساعة الثامنة وكان هذا هو اليوم الذي أُطلق فيه سراحُ سام ستاي من السجن.
لقد كان يومًا حافلًا بالنسبة إلى تارلينج؛ لأنه كان مشاركًا في قضيةِ احتيالٍ مَصرِفي كانت ستَشغَل كلَّ وقته لو لم تكن لديه مسألةٌ خاصة بسيطة ليهتمَّ بها. كانت هذه المسألة الخاصة غيرَ مربحة على الإطلاق، لكنها أثارت فضوله.
وضع الكتاب مسطحًا على صدره عندما أعلن النقرُ الخفيف لفتح الباب قدومَ مساعدِه. دخل لينج تشو الصامتُ بلا ضوضاء، حاملًا صينيةً وضعها على منضدة منخفضة بجانبِ سريرِ سيده. وكان الصينيُّ يرتدي بيجامة من الحرير الأزرق، وهي حقيقةٌ انتبه إليها تارلينج.
«أنت لن تخرج الليلة إذن يا لينج تشو؟»
قال الرجل: «نعم يا صياد الرجال.»
تحدَّث كلاهما بلهجةِ شانتونج الناعمة ذات الصفير.
«هل ذهبتَ إلى الرجل ذي الوجه الماكر؟»
وردًّا على ذلك، أخذ الآخرُ مظروفًا من جيبه الداخلي ووضعه في يد الآخر. نظر تارلينج إلى العنوان.
«إذن هذا هو المكان الذي تعيش فيه السيدة الشابة، أليس كذلك؟ الآنسة أوديت رايدر، ٢٧ مباني كاريمور، طريق إدجوير.»
قال لينج تشو: «إنه منزلُ عشيرة يعيش فيه الكثيرُ من الناس.» ثم أضافَ: «ذهبتُ بنفسي بِناءً على طلبك الكريم، ورأيتُ الناس يدخلون ويخرجون بلا توقُّف، ولم أرَ الأشخاصَ أنفُسَهم مرتين.»
قال تارلينج بابتسامةٍ صغيرة: «إنه ما يُسمونه «عمارة سكنية» يا لينج.» ثم سأله: «ماذا قال الرجل ذو الوجهِ الماكر عن خطابي؟»
«سيدي، لم يقل شيئًا. لقد قرأ فقط وقرأ، ثم رسم وجهًا مثل هذا.» قلَّد لينج ابتسامة السيد ميلبرج. ثم استأنف كلامه قائلًا: «ثم بعد ذلك كتب ما تراه.»
أومأ تارلينج برأسه وحدَّق للحظةٍ في الفراغ، ثم مدَّ كوعه ورفع كوب الشاي الذي أحضره له خادمُه.
سأل بالعاميَّة: «ماذا عن الرجل ذي الوجه الأبيض والضعيف يا لينج.» ثم قال: «ألم ترَه؟»
قال الصيني بجدِّية: «رأيتُه يا سيدي.» ثم أضافَ: «إنه رجل بلا جنَّة.»
مرةً أخرى أومأ تارلينج برأسه. يستخدم الصينيُّون كلمة «الجنَّة» بدلًا من «رب»، وشعر أن لينج قد قيَّم انعدامَ الصفات الروحية لدى السيد ثورنتون لاين بدقة كبيرة.
أنهى الشاي، وأرجحَ ساقَيه على حافة السرير.
قال: «لينج، هذا المكان مملٌّ وكئيبٌ للغاية. لا أعتقد أنني سأعيش هنا.»
سأل الآخر دون إبداء أيِّ انفعال: «هل سيعود سيدي إلى شنغهاي؟»
أومأ تارلينج: «أعتقد ذلك.» ثم تابعَ: «على أي حال، هذا المكان مملٌّ جدًّا. كلُّ ما فيه قضايا بائسة صغيرة للحصول على المال بسهولة، وقضايا الزوجة-الزوج-العشيق، وروحي سقيمة.»
قال لينج متفلسفًا: «هذه أمور صغيرة.» ثم استدركَ متحدثًا هذه المرة عن المُعلِّم الأكبر كونفوشيوس: «لكن المُعلِّم قال إن كلَّ العظمة تأتي من الأشياء الصغيرة، وربما يقطع رجلٌ ضئيلُ البِنْية رأسَ رجل ضخم البِنية، ثم بعد ذلك سوف يتصلون بك لكي تجدَ القاتِلَ.»
ضحكَ تارلينج.
وقال: «أنت متفائل يا لينج.» ثم أوضحَ: «لا، لا أعتقد أنهم سيتصلون بي في جريمة قتل. إنهم لا يستدعون محقِّقين خصوصيين في هذا البلد.»
هزَّ لينج رأسه.
«لكن يجبُ أن يعثر سيدي على قَتَلة، وإلا فلن يُصبحَ صيادَ الرجال.»
قال تارلينج، هذه المرة بالإنجليزية التي لا يفهمها لينج بوضوح، رغم الجهود المتواصلة لمدارسَ تبشيريَّةٍ بارزة: «أنت روحٌ متعطِّشة للدماء يا لينج.» ثم أردف وقد اتخذ قرارًا مفاجئًا: «والآن سأخرج، سوف أذهب لزيارة المرأة الضئيلة الجسم التي يشتهيها ذو الوجه الأبيض.»
سأل لينج: «هل لي أن آتيَ معك؟»
تردَّد تارلينج.
ثم قال: «نعم، يُمكنك أن تأتي، ولكن يجب أن تتبعني.»
كاريمور مانشنز عبارةٌ عن مجمعِ مبانٍ كبيرٍ محصورٍ بين مجمعَين أرستقراطيَّين من الشقق الأكثرِ فخامة في طريق إدجوير. الطابق السفلي مخصَّص للمتاجر التي ربما رخَّصَت المبنى، ولكنه ما زال سكنًا حصريًّا لمستأجرين، كما خمَّن تارلينج، أعلى من إمكانياتِ عامِلةٍ في متجر، إلا إذا كانت تعيش مع أسرتها. وكان التفسير، الذي كان على وشك أن يكتشفَه، يكمن في أن هناك بعضَ الشقق الحقيرة في البدروم كانت تُؤجَّر بأسعار زهيدة.
وجد نفسَه واقفًا خارج أحد هذه الأبواب الماهوجني اللامعة لإحدى تلك الشقق، متسائلًا ما هو بالضبط العذرُ الذي سيُعطيه للفتاة لزيارتها في هذا الوقت المتأخِّر من الليل. وكان واضحًا من الشك الصريح الذي بدا على وجهها عندما فتحَت له الباب أنها كانت تحتاج إلى تفسيرٍ ما.
قالت: «نعم، أنا الآنسة رايدر.»
«هل لي أن أتحدث إليك لبضعِ دقائق؟»
فقالت وهي تهزُّ رأسها: «أنا آسفة، لكنني وحدي في الشقة ولا أستطيع أن أدعوَك للدخول.»
كانت هذه بدايةً سيئة.
فسألها بقلق: «ألا تستطيعين أنتِ الخروجَ؟» ابتسمت رغمًا عنها.
قالت، وقد بدا في عينيها شيءٌ من الاندهاش: «أخشى أنه من المستحيل أن أخرجَ مع شخصٍ لم أُقابله قطُّ من قبل.»
ضحك تارلينج وقال: «أُدرك صعوبة الأمر.» ثم قال: «هذه إحدى بطاقاتي. أخشى أنني لستُ مشهورًا جدًّا في هذا البلد، ولذا فإنك لن تعرفي اسمي.»
أخذَتِ البطاقة وقرأتها.
قالت بصوت منزعج: «محقِّق خاص؟» ثم راحت تسأله: «مَنْ أرسلك؟ ليس السيد …»
فقال: «ليس السيد لاين.»
تردَّدَت للحظة، ثم فتحت الباب على مِصراعَيه.
«تفضَّل بالدخول. يُمكننا التحدث هنا في الصالة. هل أفهم أن السيد لاين لم يُرسلْك؟»
قال: «كان السيد لاين حريصًا جدًّا على أن آتي.» ثم أردفَ: «أنا أخونُ ثقتَه، لكنني لا أعتقد أنَّ مِن حقه أن يَحظى بوَلائي. لا أعرفُ لِمَ أزعجتُكِ بحضوري، لكن كل ما هنالك أنني شعرتُ أنكِ يجب أن تأخذي حذرَكِ.»
سألت: «مِن ماذا؟»
«من مؤامرات رجلٍ أمعَنتِ في …» وتردَّد باحثًا عن كلمة.
أكملَت له الجملة: «إهانته.»
ضحكَ قائلًا: «لا أعرف مدى الإهانة التي ألحقتِها به، ولكنني فهمتُ أنكِ أثرتِ حَنَقَ السيد لاين لسببٍ أو لآخَر، وأنه ينوي إزعاجَك. لا أطلبُ ثقتَكِ في هذا الشأن؛ لأنني أتفهَّم أنك قد لا ترغبين في إخباري. ولكن ما أريد أن أقولَه لكِ هو أن السيد لاين على الأحرى يُلفِّق لكِ تهمة … بمعنى أنه يُدبِّر لكِ اتهامًا بالسرقة.»
صاحت باندهاشٍ بالغ: «سرقة؟» ثم أضافت: «ضدِّي أنا؟ اتهام بالسرقة ضدي أنا؟ مِن المستحيل أن يكون بهذا الشر!»
قال تارلينج بوجهٍ خالٍ من التعبير وعينين ضاحكتين: «ليس من المستحيل أن يكون أيُّ شخص بهذا الشر.» ثم أضافَ: «كل ما أعرفه هو أنه دفع السيد ميلبرج ليقول إنه قدَّم من قبلُ شكاوى بخصوص سرقة أموال من قِسْمكِ.»
صاحت مؤكِّدة: «هذا مستحيل تمامًا.» ثم تابعت: «السيد ميلبرج لن يقولَ مثل هذا الشيء أبدًا. مستحيل تمامًا!»
قال تارلينج ببطء: «السيد ميلبرج لم يرغب في أن يقولَ هذا الشيء.» ثم لخَّص لها النقاشَ الذي دار حاذفًا كلَّ إشارة، مباشرة أو غير مباشرة، إلى الشكوك التي تُحيط بميلبرج.
ثم اختتم كلامه قائلًا: «وهكذا، كما ترَين، يجب أن تأخُذي حذرَكِ. وأنصحكِ بأن تذهبي إلى مُحامٍ وتضَعي القضية بين يدَيه. لستِ بحاجةٍ إلى أن ترفعي قضية ضد السيد لاين، ولكن سيدعم موقفَكِ جدًّا أن تَذكُري تفاصيلَ هذه المؤامرة لشخصٍ في موضعِ سُلطة.»
قالت بصوتٍ دافئ وهي تنظر إلى وجههِ بابتسامةٍ عذبةٍ للغاية، ومشفقة للغاية، وقليلة الحيلة للغاية جعلَت قلب تارلينج يذوب فيها: «شكرًا جزيلًا لك يا سيد تارلينج.»
فقال: «وإذا كنتِ لا تُريدين محاميًا، فيُمكنكِ الاعتمادُ عليَّ. وسوف أُساعدكِ إذا أُثيرَت أيُّ مشاكل.»
«أنت لا تعرف كم أنا ممتنَّة لك يا سيد تارلينج، ولم أستقبِلْك حتى بكرمٍ شديد!»
قال: «اسمحي لي أن أقول إنه كان سيكون حُمقًا منكِ لو استقبلتِني بأي طريقة أخرى.»
مدَّت إليه يدَيها، فأخذهما بين يدَيه، وكانت عيناها مغرورقةً بالدموع. تمالكت نفسَها بسرعة وقادته إلى غرفة الصالون الصغيرة.
ضحكت وهي تقول: «لقد فقدتُ وظيفتي بالطبع، ولكنْ لديَّ عدةُ عروض سأقبلُ أحدَها. وسوف آخذ بقيةَ الأسبوع إجازةً للترفيه عن نفسي.»
أوقفها تارلينج بإشارة؛ إذ كانت أذناه حساستَين حساسية خارقة.
وقال بصوتٍ منخفض: «هل تتوقَّعين زُوارًا؟»
قالت الفتاة باندهاش: «لا.»
«هل تُشاركين هذه الشقة مع أحد؟»
قالت: «هناك امرأةٌ تنام هنا.» ثم أكَّدت: «وهي بالخارج هذا المساء.»
«هل لديها مفتاح؟»
هزَّت الفتاة رأسها.
وقفَ الرجل، وعَجِبَت الفتاة كيف يستطيع رجلٌ بهذا الطول أن يتحرَّك بهذه السرعة ودون أيِّ صوت على الإطلاق، عابرًا الصالةَ غيرَ المفروشة بالسجاد. وصل إلى الباب وأدار المقبضَ وفتحه فجأة. كان ثَمة رجل يقف على السجادة الصغيرة أمام الباب وقفز للخلف عند الظهور المفاجئ لتارلينج. كان الغريبُ رجلًا ذا مظهرٍ شرس يرتدي بِذلةً جديدة من الواضح أنها جاهزة، ولكن وجهه كان لا يزال يحمل الصِّبغة الصفراء الغريبة التي يُميَّز بها مَنْ جرى الإفراجُ عنهم حديثًا.
تلعثمَ الرجل وهو يقول: «أستميحك عذرًا، ولكن هل هذه الشقة رقم ٨٧؟»
مدَّ تارلينج إحدى يدَيه بسرعة، وقبضَ على سُترة الرجل وسحب الرجل البائسَ ناحيته.
«مَرْحى، ماذا تحاول أن تفعل؟ وماذا لديك هنا؟»
انتزعَ شيئًا من يد الرجل. لم يكن مِفتاحًا، وإنما أداة مسنَّنة ذاتُ تركيب غريب.
قال تارلينج، وهو يجرُّ أسيره إلى داخل الصالة: «ادخل.»
قلبَ سُترة أسيرِه بسرعة، فكتَّفَه ومنعَه من الحركة، ثم شرع في تفتيشه بسرعة وهدوء. أخرج من جيبَين نحوَ عشَرةِ خواتمَ بها فصوص، وتحمل جميعُها علامةَ متجر لاين الصغيرة.
قال تارلينج بسخرية: «مَرحى! هل هذه هدايا موجَّهة من السيد لاين للآنسة رايدر تعبيرًا عن حبِّه؟»
لم يستطِع الرجل أن ينبس ببنتِ شفة وقد أخرسَه الغضب. وإذا كان للنظرات أن تقتل، فربما كان تارلينج سيُرْدَى قتيلًا في هذه اللحظة.
قال تارلينج، وهو يهزُّ رأسه في أسًى: «مَكيدة حمقاء.» ثم استطرد قائلًا: «الآن عُدْ إلى رئيسك، السيد ثورنتون لاين، وأخبره أنني أقول إنَّ من العار أن يتبنَّى رجلٌ ذكي هذا الأسلوبَ البُدائي.» وصرَف سام ستاي بركلة ليلفَّه الظلامُ في الخارج.
التفتت الفتاة، التي راعها المشهد، إلى المحقق بالتماس شديد.
وسألت الفتاة: «ماذا يعني هذا؟» ثم أضافت: «أشعر بخوف شديد. ماذا كان يريد ذلك الرجل؟»
قال تارلينج بسرعة: «لستِ مضطرَّةً إلى أن تخافي من ذلك الرجل، أو من غيره.» ثم عقَّبَ قائلًا: «أنا آسفٌ أنكِ خفتِ.»
نجح في تهدئة رَوعها قبل أن تعود خادمتُها، ثم غادر.
قال مؤكدًا: «تذكَّري، لقد أعطيتُكِ رقم هاتفي وسوف تتصلين بي في حالةِ وقوع أيِّ مشكلة.» ثم أضافَ: «ولا سيما غدًا.»
لكن لم تقع مشكلةٌ في اليوم التالي، ومع ذلك فقد اتصلَت به في الثالثة عصرًا.
قالت: «سأسافر للمكوث في الريف.» ثم أوضحت: «لقد شعرتُ بالخوف ليلة أمس.»
قال تارلينج، الذي وجد صعوبةً في أن يصرف الفتاةَ من ذهنه: «تعالي لزيارتي عندما تعودين. سأذهب لرؤية لاين غدًا. بالمناسبة، الشخص الذي زارك الليلة الفائتة هو رجل يتعهَّدُه السيد ثورنتون لاين برعايته، وهو مخلصٌ له جسدًا وروحًا، وهذا هو الشخص الذي يجب أن نبحثَ عنه. يا إلهي! كم يُشعرني هذا الأمر بالإثارة!»
سمع صوتَ ضحكة خافتة من الفتاة.
قالت ساخرةً: «أيجب أن أُذبَح حتى يستمتع المحقِّق بإجازته؟» وابتسم هو بتعاطف.
قال: «على أي حال، سوف أرى لاين غدًا.»
لم يكن من المُقَدَّر لتلك المقابلة التي تَحدَّث عنها جاك تارلينج أن تَحدُث على الإطلاق.
في صباح اليوم التالي، عثر أحد العمَّال المبكرين، الذي كان يسلك طريقًا مختصرًا عبر هايد بارك، على جثة رجل مُلقاة بجوار طريق العرَبات. كان الرجل يرتدي ثيابَه كاملة باستثناء المعطف والصدرة وقد التفَّ حول جسده ثوبُ نومٍ حريميٌّ من الحرير ملطَّخٌ بالدماء. كانت يداه معقودتَين فوق صدره وفوقهما أُلقِيَت بضعُ أزهار النرجس.
في الحادية عشرة في ذلك الصباح، كشفت صحفُ المساء أنه قد جرى التعرُّف على الجسد واتضح أنه لثورنتون لاين، وأنه قد أُصيبَ بطلقٍ ناري في القلب.