المرأة في القضية
سألَ تارلينج: «هل يُمكنني الاحتفاظُ بهذه البرقية؟»
أومأت المرأةُ برأسها. ورأى أنها كانت متوترةً ومنزعجة وقلقة.
قالت: «لا أستطيع أن أفهم أبدًا السببَ في عدم حضور أوديت.» ثم سألته: «هل مِن سبب معيَّن؟»
قال تارلينج: «ليس لديَّ ما يُمكنني قوله.» ثم أردفَ: «ولكن مِن فضلِكِ لا تدَعي هذا يُقلقك يا سيدة رايدر. ربما غيَّرَت رأيها في اللحظة الأخيرة وسوف تبقى مع أصدقائها في المدينة.»
سألت السيدة رايدر بقلق: «إذن أنت لم ترَها؟»
«لم أرَها منذ عدة أيام.»
«هل هناك خَطْبٌ ما؟» اهتزَّ صوتها لثانيةٍ لكنها تمالكَت نفسها. وحاولت أن تبتسمَ. ثم قالت: «كما ترى، لقد كنتُ في المنزل منذ يومَين أو ثلاثة أيام، ولم أرَ لا أوديت ولا …» ثم أردفت بسرعة: «ولا أيَّ شخص آخر.»
تساءَل تارلينج، مَنْ كانت تتوقع أن ترى، ولماذا كبَحَت نفسَها؟ هل من الممكن أنها لم تسمع بالقتل؟ أصرَّ على أن يختبرَها.
قال لها وهو يُراقبها عن كثب: «ابنتُكِ على الأرجح محتجَزةٌ في المدينة بسبب مصرع السيد لاين.»
جفلَت وتغيَّر لونُها.
تلعثمت وهي تقول: «مصرع السيد لاين؟» ثم سألته: «هل مات؟ ذلك الشاب اليافع؟»
قال تارلينج: «لقد قُتِلَ في هايد بارك صباح أمس.» ترنَّحَت إلى الوراء وانهارت على كرسي.
همست: «قُتِل! قُتِل!» ثم قالت: «يا إلهي! ليس هذا، ليس هذا!»
كان وجهها أبيضَ شاحبًا، وكانت كلُّ أطرافها ترتعد، تلك المرأة المتَّزنة النبيلة التي دخلَت بهدوءٍ وسَكينة إلى غرفة الصالون منذ بضعِ دقائق.
غطَّت وجهها بيدَيها وراحت تبكي بهدوء وانتظر تارلينج.
سألها بعد فترة: «هل كنتِ تعرفين السيد لاين؟»
هزَّت رأسها.
«هل سمعتِ أيَّ قصص عن السيد لاين؟»
رفعَت بصرها.
ثم قالت بفتور: «لا شيء، باستثناء أنه لم يكن رجلًا لطيفًا للغاية.»
تردَّد قبل أن يسألها: «سامحيني عندما أسألك، لكن هل أنت مهتمَّة جدًّا …» فرفعت رأسها.
لم يكن يعرف كيف يصوغ هذا السؤالَ في كلمات. حيَّره أن تعمل ابنةُ هذه المرأة التي من الواضح أنها كانت ميسورةَ الحال في وظيفة متواضعة إلى حدٍّ ما في متجر لاين. أراد أن يعرف ما إذا كانت تعلم أن الفتاة قد فُصِلت من العمل، وما إذا كان ذلك قد أحدث فرقًا كبيرًا لها. ثم مرةً أخرى، حديثه مع أوديت رايدر لم يَقُدْه إلى استنتاجِ أنها تستطيع تحمُّل تركِ عملِها. تحدَّثت عن العثور على وظيفةٍ أخرى، وهذا لم يدلَّ على أن والدتها كانت ميسورةَ الحال.
سألَ بصراحة: «هل هناك ضرورةٌ لعمل ابنتك لكسب لقمة العيش؟» فخفَضَت عينَيها.
قالت بصوتٍ منخفض: «إنها رغبتُها.» ثم أضافت على عجل: «إنها لا تنسجمُ مع الناس هنا.»
سادَ صمتٌ قصير ثم نهضَ واقفًا ومَدَّ يده.
قال: «آمُل ألا أكون قد أقلقتُكِ بأسئلتي، وأعتقد أنكِ تتساءلين لماذا أتيتُ. سأُخبركِ بصراحة إنني أشارك في التحقيق في جريمة القتل هذه، وكنتُ أتمنى أن تُعطيَني ابنتُكِ، مثلها مثل باقي الأشخاص الآخرين الذين كانوا على اتصالٍ بالسيد لاين، أيَّ خيطٍ لدليل من شأنه أن يُؤدِّيَ إلى أشياءَ أكثر أهمية.»
سألت: «محقق؟» وكاد يُقسم أنه كان هناك رعبٌ في عينيها.
ضحكَ وهو يقول: «نوعًا ما، لكن لست بمحققٍ عملاق، كما آمُل، يا سيدة رايدر.»
أوصلته حتى الباب، وشاهدته حتى اختفى عن ناظريها؛ ثم عادت ببُطءٍ إلى الغرفة ووقفت أمام المدفأة الرخامية، ووضعت رأسها على ذراعَيها، وراحت تبكي بهدوء.
غادر جاك تارلينج هيرتفورد مرتبكًا أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. كان قد أصدر تعليماتِه إلى سائق السيارة الأجرة كي ينتظرَه عند البوابتَيْن، وبما أنه كان سيدفع مبلغًا يستحق، شغَّل السائقُ السيارة.
كانت السيدة رايدر تعيش في هيرتفورد منذ أربع سنوات، وكانت تحظى هناك باحترامٍ هائل. هل كان سائق السيارة يعرف الابنة؟ أوه نعم، لقد رأى الشابةَ مرةً أو مرتين، لكنه أوضحَ «إنها لا تأتي كثيرًا. فهي بكل المقاييس، ليست على وِفاق مع والدها.»
قال تارلينج متفاجئًا: «والدها؟ لم أكن أعرف أنَّ لديها أبًا.»
نعم، كان أبوها موجودًا. كان زائرًا نادرًا، وعادةً ما كان يأتي من لندن بالقطار المتأخر ويحضر إلى المنزل في عرَبته الخفيفة التي تجرُّها الخيول. لم يَرَه — في الواقع، لم يرَه سوى عددٍ قليل جدًّا من الناس — ولكن الجميع يقولون إنه رجلٌ لطيف للغاية، وله اتصالاتٌ جيدة بالمدينة.
كان تارلينج قد أرسَل برقيةً إلى المساعِد الذي عيَّنَته له سكوتلاند يارد، وكان المفتش وايتسايد في انتظاره في المحطة.
سألَ تارلينج: «هل من جديد؟»
قال وايتسايد: «نعم يا سيدي، هناك دليلٌ مهم ظهر إلى النور. معي السيارة هنا، يا سيدي، ويُمكننا أن نُناقش الأمر في طريق العودة إلى سكوتلاند يارد.»
سألَ تارلينج: «ماذا هناك؟»
قال المفتش: «لقد حصلنا عليه من خادم السيد لاين.» ثم أردفَ: «يبدو أن كبير الخدم كان يُفتش في أغراض السيد لاين، بِناءً على تعليماتٍ من الإدارة العامة، واكتشف في ركنٍ من مكتبه برقية. سأُريك إياها عندما أصِلُ إلى سكوتلاند يارد. سيكون لها تأثيرٌ مهم للغاية في القضية، وأعتقد أنها قد تقودنا إلى القاتِل.»
عند سماع كلمة «برقية» تحسَّس تارلينج تلقائيًّا في جيوبه البرقيةَ التي أعطته إياها السيدة رايدر من ابنتها. الآن أخرجَها وقرأها مرة أخرى. لقد جرى تسليمُها في مكتب البريد العام في تمام الساعة التاسعة.
قال المفتش وايتسايد، الذي كان يجلس بجواره، وشاهد البرقية: «هذا غريبٌ جدًّا يا سيدي.»
سألَ تارلينج باندهاش: «ما هو الغريب؟»
قال رجل سكوتلاند يارد: «تصادف أن رأيتُ التوقيعَ على تلك البرقية … «أوديت»، أليس كذلك؟»
أومأ تارلينج وهو يقول: «بلى.» ثم سأله مستوضحًا: «لماذا؟ وما الغريبُ في ذلك؟»
قال وايتسايد: «حسنًا، سيدي.» ثم واصلَ حديثه قائلًا: «من قبيل المصادفة أن البرقية التي جرى العثورُ عليها في مكتب السيد لاين، لتحديدِ موعدٍ معه في شقة معينة في طريق إدجوير، كانت أيضًا تحت توقيع «أوديت»، كما أنها …» وانحنى إلى الأمام ممعنًا النظرَ في البرقية التي ما زالت في يد تارلينج المذهول، ثم قال في نبرةِ انتصار: «كما أنها جرى تسليمُها في الوقت نفسِه تمامًا!»
هَلَّا تُقابلني في شقتي الليلة في الساعة الحادية عشرة؟
هوى قلبُ تارلينج بين ضلوعه. كانت هذه الأخبار المذهلة صادمةً. قال لنفسه مِرارًا وتَكْرارًا إن مِن المستحيل تمامًا أن تكون هذه الفتاةُ هي مَنْ قتلَت لاين. ولنفترض أنها فعلت؟ فأين التقيا؟ هل ركبا السيارةَ معًا، وهل أطلقَت النارَ عليه في المتنزَّه؟ ولكن لماذا كان يلبَس هذا الشبشب؟ لماذا لا يرتدي معطفه، ولماذا يلتفُّ ثوب النوم حول جسده؟
لقد فكَّر في الأمر، ولكن كلما فكَّر في الأمر، ازدادت حيرته. وكان مكتئبًا للغاية حين قابل مسئولًا تلك الليلةَ وحصل منه على مذكرة تفتيش.
مسلحًا بهذه المذكرة وبرفقة وايتسايد، شقَّ طريقه إلى الشقة في طريق إدجوير، وعندما كشَف عن سلطته، حصَل على مِفتاح من حارس العقار. تذكَّر تارلينج آخرَ مرة ذهب فيها إلى الشقة، وأدار المفتاح في القفل وهو يشعر بالشفقة الشديدة على الفتاة، ودخل إلى الصالة الصغيرة، مادًّا يده في الوقتِ نفسِه ليُشغل مفتاح الإضاءة.
لم يكن هناك شيءٌ في الصالة يوحي بأي شيء غير عادي. كانت هناك فقط تلك الرائحةُ البغيضة التي تتَّسمُ بها جميع الشقق المغلقة، حتى ولو لبضعةِ أيام.
لكن كان هناك شيءٌ آخر.
استنشقَ تارلينج واستنشقَ وايتسايد. كان ثَمة رائحةُ «احتراق»، رائحةٌ نفَّاذة «محترقة»، وقد تعرَّف عليها بأنها رائحةُ انفجار الكوردايت (المادة الدافعة المستخدَمة في الأسلحة النارية). ذهبَ إلى غرفة الطعام الصغيرة. كان كلُّ شيء أنيقًا، لا شيء في غير موضعه.
قال وايتسايد مشيرًا إلى البوفيه: «هذا غريب.» ورأى تارلينج مِزهريَّة زجاجية عميقة نِصفها مليءٌ بالنرجس. زهرتان أو ثلاث أزهار إمَّا سقطت أو سُحبَت من المزهرية، ووقعت على السطح المصقول للبوفيه، وقد ذَبُلت وماتت.
قال تارلينج: «امممممم.» ثم أردفَ: «أنا لا أحب هذا كثيرًا.»
استدار وعاد إلى الصالة وفتح بابًا آخرَ كان مواربًا. ومرة أخرى أشعل الضوء. كان في غرفة نوم الفتاة. وقف مصدومًا، وفحص الغرفة ببطء. باستثناءِ المظهرِ غيرِ المرتَّب للخِزانة ذات الأدراج، لم يكن هناك شيءٌ غير عادي في مظهر الغرفة. على أبواب الدولاب المفتوحة كومة صغيرة من الملابس النسائية الملقاة على الأرض. كل هذا كان نتيجةَ التصرف المتسرِّع. كان هناك أيضًا حقيبةُ سفرٍ صغيرة، نصف ممتلئة، على السرير، تُرِكت أيضًا في عجَلة.
دخلَ تارلينج إلى الغرفة، ولو كان نصفَ أعمى لم يكن ليستطيعَ أن يُغفِل الدليل الأخير والأكثرَ إدانة. كانت السجادة باللون البني الفاتح وتُغطي الغرفةَ حتى الجدار. وأمام المدفأة، كان ثَمة بقعةٌ كبيرة غيرُ منتظمة ذات لونٍ أحمرَ قانٍ.
توتَّر وجه تارلينج.
وقال: «هذا هو المكان حيث أُطلِقَ النار على لاين.»
قال وايتسايد بحماس، مشيرًا إلى خِزانة الأدراج: «وانظر هناك!»
خطا تارلينج بسرعة عبر الغرفة وسحب الثوبَ الذي كان معلقًا على حافَة الدرج. كان ثوبَ نوم … ثوبَ نومٍ حريريًّا مطرَّزًا على الأكمام بغصنَين صغيرين من زهور «لا تنسَني». كان رفيقَ الثوب الذي عثَروا عليه حول جسد لاين. وكان هناك شيءٌ آخر. عند نزعِ الثوب من الدرج، كشفَ عن علامة على المينا البيضاء للخِزانة. كانت بصمةَ إبهام دامية!
التفتَ المحقق إلى مساعده وقد وضعَ على وجهه أجمدَ الأقنعة.
قال بهدوءٍ: «وايتسايد، استخرِجْ أمرًا بالقبض على أوديت رايدر بتهمة القتل العمد. وأرسِلْ برقياتٍ إلى جميع أقسام الشرطة بالقبض على هذه الفتاة وأخبِرْني بالنتيجة.»
دون كلمة أخرى، غادر الغرفةَ وعاد إلى منزله.