من أين أتت الأزهار
أين كانت أوديت رايدر؟ كانت تلك مشكلةً يجب حلُّها. لقد اختفَت كما لو أن الأرض قد انشقَّت وابتلعَتها. جرى تحذيرُ كلِّ مركز شرطة في البلاد؛ جميع السفن المغادِرة كانت تحت المراقبة؛ أُجريت تحقيقاتٌ دقيقة في كل اتجاه حيث من المحتمل العثورُ عليها؛ وكان المنزل في هيرتفورد تحت المراقبة ليلَ نهار.
تمكَّن تارلينج من تأجيل التحقيق؛ فمهما كانت مشاعره تجاه أوديت رايدر، يبدو أنه كان أكثرَ قلقًا لأداء واجبه تجاه الدولة، وكان من الضروريِّ للغاية ألا يبحث طبيبٌ شرعي فُضولي بعمق في السبب والملابسات التي أدَّت إلى وفاة ثورنتون لاين، خشيةَ أن يُحذِّر المجرمَ المشتبَه به.
وبرفقة المفتش وايتسايد، أعاد فحص الشقة التي كانت السجادةُ الملطَّخة بالدماء تُشير على نحوٍ لا التباسَ فيه إلى أنها مسرحُ جريمة القتل. رُفِعَت بصمة الإبهام الدامية على الخِزانة وكانت في انتظار مقارنتها ببصمات الفتاة لحظةَ القبض عليها.
كان كاريمور مانشنز، حيث كانت تعيش أوديت رايدر، كما وصفنا من قبل، عبارةً عن مجمع من الشقق الراقية، وقد خُصِّص الطابق الأرضي للمحلات التِّجارية. وكان المدخل المؤدِّي إلى الشقق بين مَحَلَّين من هذه المحلات، وثَمة دَرج يُؤدي إلى البدروم. وكانت هناك ستُّ شقق لها نوافذُ تُطل على المساحات الضيقة الموازية للشوارع الجانبية في كلا جانبَي المجمع.
يتألف مركز البدروم من مخزن خرساني كبير ينقسم إلى مقصورات صغيرة أو أقبِيَة يخزن فيها المستأجرون ما لا يحتاجون إليه من أمتعة وأثاث … إلخ، واكتشف أنه من الممكن المرورُ من ممرِّ البدروم، إلى داخل المخزن، ثم الخروجُ من خلال بابٍ في الجزء الخلفي من المبنى يؤدِّي إلى فِناءٍ صغير. كان من الممكن الوصولُ إلى الشارع من خلالِ بابٍ كبير نوعًا ما، وُضِعَ هناك لراحة المستأجِرين الذين يرغبون في الحصول على الفَحْم والبضائع الثقيلة الخاصَّة بهم. كان يوجد في الشارع خلف مجمع الشقق إسطبل، يتكوَّن من حوالي اثنَي عشَر مكانًا مغلقًا، وجميعها مستأجَرة من قِبَل شركة سيارات أجرة، وتُستخدَم الآن مَرْأبًا.
إذا كانت جريمة القتل قد ارتُكِبت في الشقة، فبهذه الطريقة نُقِلت الجثَّة إلى الإسطبل، وهنا أيضًا، تجذب السيارةُ القليل من الاهتمام. أثمرَت التحقيقاتُ التي أُجريَت مع موظَّفي شركة سيارات الأجرة، الذين يسكن البعضُ منهم غرفًا صغيرة فوق مرائبهم، عن معلومة مهمة وهي أن السيارة شُوهِدَت في الإسطبل في ليلةِ جريمة القتل، وهي حقيقة، على ما يبدو، غُضَّ الطرْفُ عنها في تحقيقات الشرطة الأولية.
كانت السيارة من طِراز دايملر ذات مقعدَين بجسمٍ أصفر وغِطاء متحرك. لقد كان هذا وصفًا دقيقًا لسيارة ثورنتون لاين التي عُثِر عليها بالقرب من مكانِ اكتشاف جثَّتِه. كان غِطاءُ السيارة مرفوعًا عندما شُوهِدَت في الإسطبل وكان الوقتُ على ما يبدو بين العاشرةِ والحاديةَ عشرة ليلةَ وقوع جريمة القتل. ولكن على الرغم من أنه أجرى تحقيقاتٍ في غاية الدقة، فقد فشل تارلينج في اكتشاف أيِّ إنسان تعرَّف على لاين أو شاهد السيارةَ لحظة وصولِها أو مغادرتها.
كان حارس المبنى، عند إجراء التحقيق معه شديدَ التأكيد على أن أحدًا لم يدخل إلى المبنى من المدخل الرئيسي بين الساعة العاشرة والعاشرة والنصف. واعترف أنه مِن الممكن أن يكونوا قد دخلوا ما بين الساعة العاشرة والنصف والحادية عشرة إلا الربع لأنه ذهب إلى «مكتبه»، الذي ثبت أنه مكانٌ صغير خانق تحت السلالم، لتغييرِ زيِّه الرسمي إلى ملابسه الخاصة قبل العودةِ إلى بيته. كان معتادًا على إغلاق الباب الأمامي عند الساعة الحاديةَ عشرة. كان لدى المستأجرين مفاتيحُ للباب الرئيسي ولم يكن يعرف أيَّ شيء عما حدث بعد الحادية عشرة. اعترف أنه ربما غادر قبل الحادية عشرة بقليل في تلك الليلة، لكنه لم يكن على استعداد لأن يُقسِم حتى على هذا.
قال وايتسايد بعد ذلك: «في الواقع، لن تُسفِر شهادتُه عن شيء. ففي الوقت بالضبط الذي ربما يكون شخصٌ قد أتى إلى الشقة — أي بين العاشرة والنصف والحادية عشرة إلا الربع — اعترفَ أنه لم يكن في الخدمة.»
أومأ تارلينج. لقد أجرى فحصًا دقيقًا لأرضيةِ ممرِّ البدروم عبر المخزن إلى الفِناء، لكنه لم يَجِد أيَّ آثارٍ لدماء. ولم يتوقَّع العثور على أيِّ آثار؛ إذ كان من الواضح أنه إذا كانت جريمةُ القتل قد ارتُكِبَت في الشقة وثوبُ النوم الذي أُغلق به جُرحُ القتيل كان مِلكًا لأوديت رايدر، فلن يكون هناك نزيف.
قال: «أنا مقتنع بشيء واحد. إذا كانت أوديت رايدر هي مَنِ ارتكب جريمة القتل، فقد كان لها شريك. فمن المستحيل أن تكون قد حملَت هذا الرجلَ إلى العَراء أو جرَّتْه ووضعَته في السيارة، ثم حملته مرة أخرى من السيارة ووضعَته على العشب.»
قال وايتسايد: «أزهار النرجس تُحيِّرني.» ثم تساءل: «تُرى ما سر أزهار النرجس التي وجدناها على صدره؟ ولماذا، إذا كان قد قُتِل هنا، تُرهِق نفسَها لتُظهر احترامها؟»
هزَّ تارلينج رأسه. كان أقربَ إلى حلِّ اللغز الأخير مما يعرفه أيٌّ منهما.
انتهى بحثُه في الشقة، وذهبَ إلى هايد بارك، وأرشده وايتسايد إلى البقعة التي عُثِرَ فيها على الجثة. كانت على رصيفٍ مرصوف بالحصى، أقربَ إلى العُشب منها إلى الطريق، ووصفَ وايتسايد وضْعَ الجسد. نظر تارلينج حوله، وفجأةً تعجَّب.
قال مشيرًا إلى حوض زهور: «عجبًا!»
حدَّق وايتسايد، ثم ضحك.
قال: «هذا غريب.» ثم عقَّبَ قائلًا: «يبدو أننا لا نرى شيئًا سوى أزهارِ النرجس في هذه الجريمة!»
كان الحوض الكبير الذي توجَّه نحوه تارلينج مليئًا بأزهار الأجراس الريشية التي كانت ترقصُ وتتمايل في نسيم الربيع العليل.
قال تارلينج: «اممممم.» ثم سألَ: «هل تعرف أيَّ شيء عن أزهار النرجس يا وايتسايد؟»
هزَّ وايتسايد رأسَه ضاحكًا.
«كل أزهار النرجس نرجسٌ بالنسبة إليَّ. هل هناك فرقٌ بينها؟ لا بد أن هناك فرقًا.»
أومأ تارلينج برأسه.
قال: «هذه يُطلَق عليها الرماح الذهبية، وهو نوع شائع جدًّا في إنجلترا. أما أزهار النرجس التي كانت في شقة الآنسة رايدر فهي من نوعٍ آخر يُعرَف باسم أزهار الإمبراطور.»
قال وايتسايد: «حسنًا؟»
قال الآخر ببطء: «حسنًا، أزهار النرجس التي رأيتُها هذا الصباحَ والتي عُثِر عليها على صدر لاين كانت من نوع الرِّماح الذهبية.»
وركعَ بجوار حوض الأزهار وبدأ يُزيح السويقات، متفحصًا الأرضَ بحرص.
قال: «ها هو ذا.»
وأشار إلى عدد من السويقات المقطعة.
«من هنا قُطِفَت أزهارُ النرجس، يمكنني أن أُقسِم على ذلك. انظر، لقد قُطِفَت كلُّها بيدٍ واحدة. أحدُهم انحنى وقطف حَفْنة منها.»
بدا وايتسايد متشككًا.
«الأولاد الأشقياء يفعلون هذه الأشياءَ أحيانًا.»
قال تارلينج: «فقط في سيقانٍ مفرَدة، ولصوص الأزهار العاديُّون يحرصون على السرقة من أجزاء مختلفة من الحوض حتى لا يَكتشف بستانيُّ المتنزه الأمرَ ويُبلغ عنه.»
«إذن فأنت تقترح …»
«أقترح أنَّ مَن قتل ثورنتون لاين وجد أنَّ من المناسب، لسببٍ ما لا يعرفه إلا هو أو هي، أن يُزيِّن الجثة كما عُثِرَ عليها، وأنَّ الزهور جُلِبَت من هنا.»
«ليس من شقة الفتاة على الإطلاق؟»
أجابَ تارلينج على نحوٍ قاطع: «أنا متأكد من ذلك.» ثم أردفَ: «في الواقع لقد عرَفتُ ذلك هذا الصباحَ عندما رأيتُ أزهار النرجس التي أخذتَها إلى سكوتلاند يارد.»
حكَّ وايتسايد أنفَه في حيرة.
وقال: «كلما تقدمَتْ هذه القضية، شعرتُ بمزيد من الحيرة. فهَا هو رجل، رجلٌ ثري، ليس له أعداءٌ ألِدَّةٌ على ما يبدو، يُعثَر عليه مقتولًا في هايد بارك، مع ثوب نوم حريري نسائي ملفوف حول صدره، ويلبَس شبشبًا من اللباد في قدمَيه، وفي جيبه نقشٌ صيني، والأدهى من ذلك إمعانًا في تحيير الشرطة، مجموعة من أزهار النرجس على صدره. كانت هذه فِعْلةَ امرأةٍ يا سيد تارلينج.» قال ذلك فجأة.
فوجئ تارلينج. وسألَ: «ماذا تعني؟»
قال وايتسايد بهدوء: «كان وضعُ الأزهار على الرجل فِعلةَ امرأة.» ثم أردفَ موضِّحًا: «هذه الأزهار تَشي بالشفقة والرحمة، وربما بالندم.»
لاحت ابتسامةٌ متثاقلة على وجه تارلينج.
وقال: «عزيزي وايتسايد، أنت تُفكر بعاطفية!» ثم أضافَ وهو يرفع عينيه: «وها هو سيدٌ نبيل منجذب إلى هذه البقعة، يبدو أنني لا ألبثُ ألتقي به … إنه السيد ميلبرج على ما أعتقد.»
توقَّفَ ميلبرج عند رؤية المحقِّق وبدا كما لو كان يتمنَّى أن يتلاشى دون أن يُلاحظه أحد. لكن تارلينج رآه، وتقدَّم ميلبرج نحوهما بمِشيته الغريبة الصغيرة، وعلى وجهه ابتسامةٌ ثابتة، وفي عينيه النظرةُ القلقة نفسُها التي رآها تارلينج مرةً من قبل.
قال رافعًا قبعته: «صباح الخير، أيها السادة.» ثم سألَ مستوضحًا: «أتصوَّر يا سيد تارلينج أنه لم يُكتشَف أيُّ شيءٍ بعد؟»
ابتسم تارلينج وقال: «على أي حال، لم أكن أتوقعُ أن أكتشفَك أنت هنا هذا الصباح!» ثم استطردَ: «كنت أعتقد أنك مشغولٌ في المتاجر.»
تحرَّك ميلبرج باضطراب.
وقال بصوتٍ أجش: «إنني مفتون بهذا المكان. لا أستطيع الابتعادَ عنه.»
نظرَ إلى الأرض هربًا من تحديق تارلينج فيه وكرَّر السؤال.
«هل من أخبارٍ جديدة؟»
قال تارلينج بهدوء: «يجبُ أن أسألك أنا هذا السؤال.»
رفع الآخَرُ عينَيه إليه.
وسألَ: «تقصد الآنسة رايدر؟» ثم أردفَ: «لا يا سيدي، لم يتمَّ العثورُ على شيء يُدينها ولا أستطيع تتبُّعَ عُنوانها الحالي، على الرغم من أنني أجريتُ تحقيقاتٍ مجتهدةً للغاية. إنه أمر مزعج للغاية.»
كانت هناك نبرةٌ جديدة في صوته. تذكَّر تارلينج أن لاين عندما تحدَّث إلى ميلبرج من قبل، وأشار إلى أن الفتاة كانت مذنِبة في ارتكابِ جريمة اختلاسٍ ما، سارع ميلبرج إلى إنكار الاحتمال. أما الآن فأسلوبُه يشي بالعداء تجاهَ الفتاة — ربما بدرجة بسيطة، ولكنها كانت كافيةً ليُلاحظها تارلينج.
سأل المحقِّق: «هل تعتقد أن الآنسة رايدر لديها أيُّ سبب للهروب؟»
هزَّ ميلبرج كتفَيه.
قال بلا حَراك: «في هذا العالم، يُخدَع المرء باستمرار من أناسٍ وضع ثقته فيهم.»
«بعبارة أخرى، هل تشكُّ في أن الآنسة رايدر سرقت الشركة؟»
رفعَ السيد ميلبرج يدَيه الممتلئتَين.
وقال: «لم أكن لأقولَ ذلك.» ثم أوضحَ: «لم أكن لأتهمَ امرأةً شابة بمثل هذه الخيانة لأصحاب العمل، وأرفضُ تمامًا أن أوجِّه أيَّ اتهاماتٍ إلى أن يُكمل مراجعو الحسابات عملَهم.» ثم أضافَ بحرص: «ما من شك في أن الآنسة رايدر كانت تتعامل بمبالغَ ماليةٍ ضخمة، وهي من بينِ جميع الأشخاص في العمل — ولا سيَّما في قسم الحسابات — كان بإمكانها سرقةُ الشركة بدون علمي أو علمِ السيد لاين المسكين. هذا بالطبع سري.» ووضعَ إحدى يدَيه على ذراع تارلينج، وأومأ الأخيرُ برأسه.
«هل لديك أيُّ فكرة أين يمكن أن تكون؟»
مرةً أخرى هزَّ ميلبرج رأسه.
ثم قال مترددًا وهو ينظر في عينَي تارلينج: «كلُّ ما هنالك …»
سأله المحقق بنفاد صبر: «ماذا؟»
«هناك احتمال، بالطبع، أنها ربما تكون قد سافرَت إلى الخارج. أنا لا أؤيد هذا الاحتمال، ولكنني فقط أعرفُ أنها كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة وأنها قد سافرت من قبلُ إلى أوروبا.»
حكَّ تارلينج ذقنه متأملًا.
ثم قال بهدوء: «إلى أوروبا، ها؟» ثم تابعَ: «حسنًا في هذه الحالة سأبحث في أوروبا؛ لأنني مصرٌّ على شيء واحد، وهو أن أعثر على أوديت رايدر.» ثم وجَّه انتباهه إلى رفيقه ونكَص على عقِبَيه وترك السيد ميلبرج المتزلِّف يُحدِّق إليه.