إسماعيل الشيخ
حقًّا علمت ما لم يكن لي به علم.
وقد أثار إسماعيل الشيخ اهتمامي من أوَّل لقاء ببنيانه القوي، وقسماته الكبيرة الواضحة. لم أرَ عليه سوى بدلةٍ واحدة يرتديها صيفًا وشتاء، يخلع جاكتتها صيفًا ويُعيدها شتاءً بالإضافة إلى بلوفر. ورغم فقره الظاهر حظي بالاحترام، وقد نالَ أخيرًا الليسانس رغم اعتقالاته المتقطعة.
– إني ابن بيئةٍ فقيرةٍ جدًّا، هل سمعت عن حارة دعبس بالحسينية؟ أبي عاملٌ في مطعم كبدة، أمي بيَّاعة سريحة، وهي تبيع أيضًا الخوص والريحان في مواسم القرافة، إخوتي الكبار صبي جزار وسواق كارو وإسكافي، مسكننا مكوَّن من حجرةٍ وحيدةٍ في فناء ربع، الربع كأنه أسرةٌ كبيرة يجاوز أفرادها الخمسين عدًّا، وليس به حمام ولا ماء، وبه مرحاض واحد في ركن الفناء تُحمل إليه المياه بالصفائح، وفي الفناء يجتمع النِّساء، والنِّساء والرجال أحيانًا، يتبادلون الأحاديث والنكات ورُبَّما الشتائم واللكمات ويأكلون ويصلون.
وينظر إليَّ بتجهُّم ويقول: لم يتغيَّر شيءٌ جوهري في حارة دعبس حتى اليوم.
ولكنه يستدرك: غير أنَّ المدارس فتحت أبوابها، تلك نعمةٌ لا يمكن إنكارها، دخلتُ مع الدَّاخلين، ولعلَّ أبي كان يتمنَّى لي الفشل حتى يتخلَّص مني بإلحاقي بحرفةٍ مثل إخوتي، ولكني خيَّبت ظنه، وواصلت النَّجاح حتى نلت الثانوية العامَّة، وأمكنني الالتحاق بكلية الحقوق، وعند ذاك غيَّر الرَّجل رأيه وداخَلَه زهوٌ وعجب، أيُمكن حقًّا أن يصير ابنه وكيل نيابة؟ وثَمَّة وظيفتان معروفتان جيدًا في حارتنا: الشرطي ووكيل النيابة. وأهل حارتنا يتعاملون معهم كثيرًا كما تعلم، وصمَّمت أمي على أن أستمر «ولو بعت عيني» .. والله وحده يعلم كم كلَّفها أن تبتاع لي بذلة تليق بطالبٍ في الجامعة، ولكنها اعتبرَتْها كعقارٍ يجب المُحافظة عليه، ويجوز إصلاحه أو ترميمه أو حتى تجديده، ولكن لا يجوز الاستغناء عنه.
ثم بحدة: الحارة اليوم مُكْتظة بالتلاميذ والتلميذات، ولكن مُستقبلهم مشكلة متداولة بين الأمم!
وقد قامت الثورة وهو ابن ثلاثة أعوام؛ فهو ابنٌ من أبناء الثورة بكل معنى الكلمة … ولذلك لم أُخْفِ عنه دهشتي لِمَا حَلَّ به من آلامٍ وقلت له: لقد ظنَّك البعض شيوعيًّا أو من الإخوان.
فقال بيقين: لا هذا ولا ذاك، وانتمائي الوحيد كان إلى ثورة يوليو، أمَّا الآن … وجعل يهزُّ رأسه صامتًا كأنما لا يدري ما يقول، ثم قال: وقد عشتُ دهرًا وأنا أظن أنَّ تاريخ مصر يبدأ بالثالث والعشرين من يوليو، ولم أتَّجه للبحث عمَّا وراء ذلك إلا بعد النكسة.
واعترف لي بأنه آمَن بالاشتراكية المصرية، وأنَّ إيمانه بالدين لذلك لم يتزعزع فسألته: خبِّرني عن إيمانك بها الآن؟
فقطب قائلًا: كثيرون يصبُّون غضبهم عليها باعتبارها سببًا من أسباب الهزيمة، ولكن الحقيقة التي يجب أن تعرف هي أنَّه لم تكن توجد في حياتنا اشتراكية حقيقية؛ لذلك فإنني لم أتخلَّ عنها، وإن تمنَّيتُ أن أقطع الأيدي التي تطبقها، وذلك ما فطن إليه من بادئ الأمر حلمي حمادة الله يرحمه.
– لماذا؟
– كان شيوعيًّا!
– إذن كان يوجد بينكم غرباء؟
– أجل، ولكن ما ذنبنا نحن؟
وحَدَّثني عن زينب طويلًا: عرفت زينب في الحارة منذ الطفولة، هي تُقيم في نفس الربع أيضًا، وكانت لنا ألعابٌ مُشتركة تعرَّضنا بسببها للضرب بالعصا، ولَمَّا استوَتْ صبية تجلَّت ملامحها، كانت تسير فتجذب الأنظار وتُحرِّك الأشواق، فأتصدَّى أنا للدفاع عنها مُستمِدًّا الشجاعة من ذكريات الفتونة في حارتنا، وفي المرحلة الثانوية حال بيننا الرقباء والتقاليد ولكن حبنا كان قويًّا، يُلهب المَشَاعر ويفرض ذاته على الجميع، وأخيرًا وجدنا حريتنا في الجامعة وأعلنا خطوبتنا وانتظرنا الزَّواج باعتباره ملاذنا الأخير، وها هي الأحلام تتبدَّد ويموت كل شيء.
وجدا في الجامعة حريةً لم يحلما بها من قبل، فوَقْت الطلبة لا يُمكن أن يخضع لسيطرة حارة دعبس وتزمُّتها، وكل غيبةٍ ستجد لها عذرًا أو مُبررًا؛ لذلك أمضيا ساعاتٍ طويلةً معًا، وتعرَّفَت بأصحابه، وأصبحت من أهل الكرنك، واعتُقِلت معه، ونضجت شخصيتها فوق ما كان يتصوَّر.
وضحك عاليًا وقال: طحنَتْنا أزمة الجنس، وتخبَّطنا حيارى طويلًا، وأحاطَت بنا مُغريات تجارب حرة تجري من حولنا، وقلت لها يومًا «لا شَكَّ في حبنا أو إخلاصنا، وسوف نُصبح زوجَيْن، فما رأيك؟» وكنتُ أحتويها بين ذراعي في عناقٍ حار، ولكنها قالت لي: «لقد أقسمت لوالدي.» فقلت لها: «هذا سخيف ولا معنى له، ألا تسمعين ما يُقال؟» فقالَت في ارتياب: «لست واثقة … ولا أنت!» وكنت أعاني آلامًا عنيفةً وكانت أيضًا تُعاني.
وساءلتُ نفسي إلى أي درجةٍ تعتبر هذا الثوري ثوريًّا؟ إنه ثوريٌّ من نوعٍ خاصٍّ وهو لا يُخفي إيمانه بالدين. وددت أن أسأله عن موقفه من الحرية الجنسية، ولكنني خشيتُ أن يظن بي رغبة في التسلُّل إلى أسرار زينب، فأبيتُ أن أستدرجه إلى البوح بما لا يُريد البوح به.
– ومع ذلك فالحب الحقيقي يهب مناعة بخلاف ما يتصور كثيرون.
ولكنني ما زلتُ أذكر قوله أيضًا: في السجن اجتاحنا الضياع، فاهتزَّ بناؤنا المتين من أساسه.
وتذكرتُ أنَّ الهزات العنيفة في حياة البشر تعقبها استغاثات جنسية تُشارِفُ حَدَّ الجنون، فماذا يعني يا ترى؟ ولكنه عاف — فيما بدا — الرجوع إلى الموضوع … وسألته: وحلمي حمادة؟
فهتف: كان يتخطَّى التقاليد بكل عنف.
– أكان من نفس البيئة؟
– كلا، كان أبوه مدرس لغة إنجليزية، أمَّا جده فكان عاملًا بالسكك الحديدية.
– أكان يُحب قرنفلة حقًّا؟
– أجل، لا يُداخلني شَكٌّ في ذلك، لقد عرفنا المقهى مُصَادفة، ولكنه أصَرَّ على العودة قائلًا: «لنعد إلى مقهى المرأة.» فعجبتُ لذلك ولكنه قال: «إنها جذابةٌ ألم تلاحظ ذلك؟» وكنا راغبين في العودة كذلك، وقد أحببناها أيضًا كأصدقاء.
ولم تكن جاذبية قرنفلة موضع شَكٍّ عندي؛ فقد وقعتُ أنا نفسي في إسارها، ولكن هل يكفي ذلك لأعدل عن ظني القوي فيما يتعلَّق بحب حلمي حمادة لزينب؟ … ألا يجوز أنه صرَّح بما صرَّح به مداراةً لعاطفته الحقيقية؟!
– كان يُحب قرنفلة، لعله لم يكن سويًّا في عواطفه، لعله كان يروم عاطفةً كالحُب، ولكنها ليست الحب نفسه، ولكنه على أي حال عاملها مُعاملة أمينة صادقة، لم يستجب قط لإغراء استغلالها رَغْم تيسره له، وهو لا يخلو من مثالية في سلوكه، ومن ناحية أخرى كانت أحواله المادية حَسَنة، وحسبك أن تعلم أننا ندين في ثقافتنا العامة للكتب المُعارة من مكتبته.
– لعله عطف على تاريخها المجيد.
فضحك وقال: كان يُصغي إليها مُتظاهرًا بالتصديق، ولكنه لم يؤمن بكلمةٍ واحدة، وكان يحبها كما هي، ولكنه طالما سَخِر من مزاعم التجديد في الفنِّ والتفرُّد بالسلوك المثالي.
فقلت له كشاهدٍ محايد: لقد كانت مثالًا طيبًا في الفن والأخلاق!
فقال بحزن: فاتَت فرصة إقناعه!
ولكن لماذا قُضي على إسماعيل الشيخ بالاعتقال؟ خفت أن يُجيبَ على سؤالي — كما في الماضي — بالصمت، غير أنَّه قال مُسْتأنسًا بتغيُّر الظروف والأحوال: كانت ليلة، وكعادتي في فصلَي الربيع والصيف كنتُ أنام على أريكةٍ في الفناء تاركًا حجرتنا الوحيدة لوالدي، وكنتُ مُستغرقًا في النوم، عندما شعرت بنهارٍ ينهمر على روحي كحلم، واستيقظت على هزةٍ شديدة، فتحتُ عيني فضاع بصري في ضوءٍ باهرٍ يتدفَّق في عيني، جلست فزعًا فإذا صوت يسأل: أين مسكن الشيخ؟
فقلت: هنا، ماذا تريد؟ أنا ابنه إسماعيل.
فقال بارتياح: عظيم.
وأطفأ الكشاف فساد الظلام، وبعد حين تبينت أشباحًا: قم معنا.
– من أنتم؟
– لا تخف … نحن من رجال الأمن.
– ماذا تريدون؟
– ستجيب على بعض أسئلةٍ ثم تعود قبل طلوع النهار.
– دعوني أخبر والدي وأرتدي بدلتي.
– لا داعي لذلك ألبتة.
وقبضَت يدٌ على منكبي فاستسلمت، وسرتُ بينهم حافيًا بجلباب النَّوم، ثم دفعوا بي داخل سيارة فجلست مُحاصرًا باثنين، ومع أنَّ الظُّلمة كانت كثيفة إلا أنَّهم عصبوا عيني وأوثقوا يدي، فسابت ركبتاي وتساءلت: لماذا تعاملونني هذه المعاملة وأنا بريء؟
– اصمت.
– خذوني إلى مسئولٍ وسترَوْن!
– إنك في الطريق إليه.
ركبني رعبٌ مُميت، مُميت بكل معنى الكلمة، ورُحت أتساءل عن التهمة المأخوذ بها، لستُ شيوعيًّا ولا من الإخوان ولا إقطاعيًّا، ولم يلفظ لساني بكلمةٍ تنال هيبة العهد الذي أعُدُّه عهدي مذ وعيت ما حولي.
توقَّفت السيارة في مكانٍ ما، أُخرِجْت منها، ثم سرت معصوب العينَيْن بين اثنَيْن يَقْبِضَان على ذراعي، حتى دُفع بي إلى مكان، انفكَّت القبضتان عن ذراعي. سمعتُ وَقْع الأقدام وهي تبتعد وصرير الباب وهو يُغلق. كانت يداي قد تحرَّرتا كما رُفِعَت العصابة عن عيني، ولكنني لم أرَ شيئًا كأنما قد فقدتُ البصر. تنحنحت فلم يُجبني أحد. توقَّعت أن تخف الظلمة باعتياد النَّظر فيها، ولكنها لم تخف، ولم يند عن المكان صوت، ترى أي نوع من المكان هو؟! مَددتُ ذراعي أتحسَّس المجال، تحركتُ بحذرٍ شديد، سرَتْ برودة الأرض في قدمي، لم أعثر بشيءٍ إلا الجدران، لا يوجد في الحجرة شيء، لا كرسي ولا حصيرة ولا أي قائم، الظلام والفراغ والحيرة والرُّعب، والزَّمان في الظلام والصمت يتوقف تمامًا، وبخاصة وأنني لم أعرف متى أُلقيَ القبض عليَّ، ولا فكرة لي عن متى تنقشع الظلمة أو متى تُبعث الحياة في تلك الجثة الشاملة. ولكن أُحب أن أخبرك أنَّ الإنسان يتحايل على المُعاناة إذا تخطَّتْ حدودها، وأنَّه في أعماق العذاب يتوثَّب لطرح همه باستهتارٍ يستوي أن تعدَّه قوةً أو يأسًا، فاستسلمت للمقادير وقلتُ ليأتِ الشيطان إن كان مقدورًا له أن يأتي، وليأتِ الموت أيضًا. وكففت عن طرح الأسئلة التي لا جواب لها، ولكن طاب لي أن أذكر سلوك فيروس الإنفلونزا الذي يواجه مضادات الحيوية بخَلْق جيلٍ جديدٍ ذي مناعةٍ ضد المضادات.
وسألته: لبثت واقفًا؟
– عندما أنهكني الإرهاق قرفصتُ، ثم تَرَبَّعْتُ على الأسفلت، وبقدرة قادر نمتُ، هل تتصوَّر ذلك؟ ولمَّا استيقظتُ، وتذكرتُ، أدركتُ أنني فقدت موقعي من الزمن، أي وقت نمت؟ في أي لحظةٍ أنا من ليلٍ أو نهار، وتحسست ذقني، وقلتُ ستكون هي ساعتي الكسيحة.
– تُركت طويلًا؟
– نعم.
– والطعام؟
– كان البابُ يُفتح ويُدفع إليَّ بطبقٍ به جبن أو مادة مملحة ورغيف.
– والضرورة؟
– في ساعَةٍ مُحدَّدةٍ يُفتح الباب أيضًا، فيدعوني عملاقٌ كمصارعي السيرك، ويقودُني إلى مرحاضٍ في نهاية طرقة، فأتبعه مغمض العينَيْن تقريبًا تفاديًا من ألم الضوء، وما إن يُغلق الباب ورائي حتى يصيح بصوتٍ كالرعد «أسرِع يا بن الكلب … هل تبقى النهار بطوله يا بن العاهرة؟» ولك أن تتصوَّر حالي في الداخل.
– ولا تدري كم يومًا لبثت؟
– الله وحده يعلم فلحيتي عند كثافةٍ مُعينة لم تعد تسعفنی.
– ولكنهم حقَّقوا معك ولا شك؟
فقال مُتجهمًا: أجل … وجدتني يومًا أمام خالد صفوان!
وسكت مُضيِّقًا عينَيْه في تأثُّرٍ حتى شدَّني إلى مجال انفعاله.
– مثلت أمام مكتبه حافيًا رَثَّ الجلباب مهدم الأعصاب، ورائي شخصٌ أو أكثر، وغير مسموحٍ لي بالتلفُّت يَمْنة أو يَسْرة، فضلًا عن النظر فيما ورائي، فلم أرَ من المكان شيئًا، وتركَّز بصري الكليل في شخصه، وتحلَّلت البقية الباقية من آدميتي في رهبةٍ شاملة.
وارتسم الامتعاض في قسماته مليًّا ثم واصل: ورغم كل شيءٍ انطبع منظره في أعماقي بقامته الربعة، ووجهه الضخم المستطيل، وحاجبَيْه الغزيرَيْن الناميَيْن إلى أعلى، وعينَيْه الواسعتَيْن الغائرتَيْن، وجبهته العريضة البارزة، وفكَّيْه القويَّيْن وسحنته الخالية من أي تعبير، ورغم كل شيءٍ أيضًا خلقت بقوة اليأس أسطورة أمل في ذاته فقلت: أحمد الله على أنني أجد نفسي أخيرًا أمام الرجل المسئول.
فأسكتَتْني لكمةٌ جاءتني من وراء، فتأوهت عاليًا، أمَّا هو فقال: لا تتكلَّم إلا إذا طُولِبْتَ بجواب.
وسألني عن اسمي وسِنِّي وعَمَلِي فأجبتُ وعند ذاك سأل: متى انضممت إلى الإخوان؟
فذهلت لغرابة السؤال، وأدركتُ لأول مرة نوعية التهمة الموجهة لي وقلتُ بصدق: ما انضممت إلى الإخوان في يومٍ من الأيام.
– ما معنى هذه اللحية إذن؟
– لقد نبتت في السجن.
– أيعني هذا أنك عُومِلْت معاملةً غير طيبة؟
فأجبته في شبه استغاثة: كانت مُعاملة مُرعبة يا سيدي وبلا أدنى مبرر.
– ما شاء الله!
أدركتُ أنني أخطأتُ ولكن بعد فوات الفرصة أمَّا الرجل فرجع يسأل: متى انضممت إلى الإخوان؟
فشرعت في الإجابة قائلًا: ما انضممت …
ولكن الكلام انقطع. غُصْت في الأرض بطريقةٍ مذهلةٍ ثم ارتفعت الأرض متحدية ضعفي بما يشبه السحر، وسرعان ما ذاب خالد صفوان في الظلام. أخبرني حلمي حمادة فيما بعد أن ماردًا يقف ورائي صفعني بقوة فأغمي عليَّ، إذن قد أغمي علي، ثم وجدتني في الظلام الذي أُخِذْت منه على الأسفلت.
قلت برثاء: يا له من عذاب!
– وقد انتهى فجأة وعلى غير انتظار، في حجرة خالد صفوان أيضًا، ساقوني إليه فبادرني قائلًا: ثبت أن اسمك دُوِّن في السجل لأنك تبرعت بقرشٍ لبناء جامع ودون أن تكون لك صلةٌ بهم.
فقلتُ بانفعالٍ وتهدُّج: ألم أقل ذلك يا سيدي؟
– الخطأ له عُذر أمَّا التهاون فلا عذر له.
ثم بقوة: نحن نحمي الدولة التي تُحرِّركم من كافة أنواع العبودية.
– وإني من أبنائها المؤمنين.
– اعتبر الأيام التي أمضيتها هنا ضيافة، وتذكر دائمًا أنَّك عُوملتَ مُعاملة طيبة، أرجو أن تتذكَّر ذلك دائمًا، وأنَّ عشرات الرِّجال سهروا الليالي في جهدٍ مُتواصلٍ حتى ثبتت لهم براءتك.
– الشكر لله ولكم يا سيدي.
وضحك إسماعيل الشيخ بمرارةٍ عند تلك الذكرى فسألته: وهل قُبض على الآخرين لنفس السبب؟
– كان يُوجد بيننا اثنان من الإخوان، أمَّا زينب فقد حققوا معها لعلاقتها بي وسرعان ما أفرج عنها، وبسببي أيضًا قُبض على حلمي حمادة، فلمَّا ثبتت براءتي ثبتت بالتالي براءته.
كانت التَّجْربة قاسية جدًّا، وبسببها كفر بجهازٍ من أجهزة الدَّولة هو المخابرات أمَّا إيمانه بالدولة نفسها، بالثورة، فلم يتطرق إليه الشك أو الفساد وتصوَّر أنها — المخابرات — تمارس أساليبها في خفاءٍ من المسئولين.
– فكرت عقب الإفراج عني في أنْ أَرْفَع شكوى للمسئولين، ولكن حلمي حمادة منعني بقوة.
– واضح أنَّه لم يكن يؤمن بالدولة نفسها؟
– بلى.
وفي أعقاب النَّكسة اتجه إسماعيل لأوَّل مرة لدراسة تاريخ مصر الحديث: لا أخفي عنك أني أعجبت بقوة المُعارضة وحريتها، وبالدور الذي لعبه القضاء المصري، لم يكن العهد شرًّا خالصًا، وكان به عناصر فكرية جديرة بالاستمرار والنمو والازدهار، وكان التنكُّر لها من أسباب نكستنا.
•••
وحدثني بعد ذلك عن اعتقاله الثاني: كنت في زيارةٍ لحلمي حمادة في منزله، غادرته عند منتصف الليل، أُلقي القبضُ عليَّ فور خروجي من البيت، هكذا رجعت إلى حجرة الظلام والفراغ. وتساءل في حيرةٍ عن التهمة التي ستوجه إليه، وطال انتظاره لذلك، وهو يُعاني عذابات الجحيم حتى مثل مَرَّة أُخرى أمام خالد صفوان.
– وقفت صامتًا مُستفيدًا من تجربتي السابقة، متوقِّعًا الشر — رغم ذلك — من جميع الجهات الأصلية، وتفرس خالد في وجهي وقال: يا لك من داهية، حسبناك يومًا من الإخوان.
فقلت بنبرةٍ ذات مغزًى: وظهرت براءتي!
– ولكن ما خفي كان أعظم.
فقلت بإخلاص: إني مؤمن بالثورة، هذه هي الحقيقة الوحيدة.
فقال بسُخرية: الجميع مؤمنون بالثَّورة، في هذه الحجرة يجهر الإقطاعيون والوفديون والشيوعيون بإيمانهم بالثورة!
وحدجني بنظرةٍ قاسيةٍ ثم سأل: متى انضممت إلى الشيوعيين؟
ووثب الرَّفض إلى حلقي، ولكنني كتمته وارتفع منكباي بحركةٍ عكسية، كأنَّما ليخفيا قفاي، ولم أنبس.
عاد يسأل: متى انضممت إلى الشيوعيين؟
وشعرت بالتَّأزُّم يلتف حول عنقي، ولم أدرِ ماذا أقول فواصلت الصمت.
– ألا تريد أن تعترف؟
استسلمت للصمت كما تعودت أن أستسلم للبلاء في الحجرة المظلمة فتمتم: طيب!
وندَّت عنه إشارة من يده. سمعتُ وَقْع أقدامٍ تقترب فاقشعرَّ بدني. وإذا بشخصٍ يقفُ إلى جانبي، بطرف عيني أدركت أنه أنثى، التفتُّ نحوها في دهشةٍ وبدافعٍ من شعور قهر خوفي، ورغمًا عني هتفت: «زينب!»
– ها أنت تعرفها ويهمك أمرها فيما يبدو.
ونقل عينَيْه الغائرتَيْن بيننا ثم تساءل: ألا يهمك أمرها؟
تمزَّقت روحي دقيقة كاملة.
– أنت مثقف ولك خيال، فهل تتصوَّر ما يمكن أن يحلَّ بهذه الفتاة البريئة فيما لو أصررت على الصمت؟
سألته بنبرة رثاء موجهة للدنيا جميعًا: ماذا تريد يا سيدي؟
– إني أسأل متى انضممت إلى الشيوعيين؟
فقلت دافنًا آخر شعاعٍ من أمل: لا أتذكر تاريخًا مُعينًا، ولكنني أعترف بأنني شیوعي.
وسجلت اعترافي على ورقةٍ ثم غادرت الحجرة بين حراسي.
أعيد إلى زنزانته فلم يلقَ تعذيبًا إضافيًّا كما توقع بادئ الأمر، ولكنه أيقن من الضياع.
ومضى عليه زمنٌ لا يدريه حتى مضى به حارس يومًا إلى باب مغلق وقال: لعلك اشتقت إلى رؤية صديقك حلمي حمادة!
وأزاح غطاء عن عين سحرية وأمره أن ينظر.
– نظرت فرأيت مشهدًا غريبًا تعذر عليَّ احتواؤه لأوَّل وهلة، كمن يرى صورة سريالية، ثُمَّ تبيَّن لي أن حلمي حمادة مُعلقٌ من قدمَيْه، وهو صامتٌ ساكن، مُغمى عليه أو ميت فتراجعت فزعًا أترنح وغمغمت: هذا غير …
وانحبس صوتي لدى التقائي بنظرته المصبوبة عليَّ، وتساءل: غير ماذا؟
شعرت بغثيان فعاد يسأل: هذا غير … غير ماذا؟
دفعني أمامه بعنفٍ وهو يقول: غير إنساني أليس كذلك؟! والأحلام الدموية التي تحلمون بها أهي إنسانية؟
ومضى زمنٌ أصيب في أثنائه بإنفلونزا حادة عقب نزلة برد في ذلك الشتاء. واستُدْعِي للقاء خالد صفوان، وهو في دور النقاهة، وكانت أقصى أمنياته في ذلك الوقت أن ينقل إلى أي سجن أو مُعتقل خارجي، ولكن الرجل بادره قائلًا ببرود: إنك سعيد الحظ يا إسماعيل.
فرفعت إليه عيني بذهولٍ فقال: ثبتَت براءتك أيضًا هذه المرة!
خارت قواي وشعرت برغبة عميقة في النوم.
– وكانت زيارتك لحلمي حمادة بريئة، أليس كذلك؟
فقلت بصوت لا يكاد يسمع: بلى يا سيدي.
– إنه شیوعي مُتحمس، أليس كذلك؟
لم أدر ماذا أقول وعاودني الخوف.
– لقد اعترف، ومن حُسْن حَظِّه أيضًا أنه قد ثبت أنه لا ينتمي لتنظيم أو حزب، ونحن نصید اليوم العاملين لا الهواة!
فاستعدت الأمل في النجاة فقال: واضح أنك تلتزم بالصمت احترامًا لعهد الصداقة!
وسكت لحظةً ثم استطرد: وذاك الإيمان بالصداقة يجعلنا نطمع في صداقتك!
تُرى متى يأمر بالانصراف؟
– كن صديقًا لنا، قلتَ إنك تنتمي للثورة وأنا أصدِّقك، فلتكن صديقًا لنا، ألا يُرضيك ذلك؟
– إنه ليسعدني يا سيدي.
– كلنا أبناء ثورةٍ واحدةٍ وواجب علينا أن نصونها بقوة، أليس كذلك؟
– طبعًا.
– ولكن لا بد من موقف إيجابي، نُريد صداقة إيجابية!
– إني أعتبر نفسي صديقًا منذ البَدْء.
– أيُرضيك أن تعلم بأنَّ شرًّا يتهدَّد الثورة وتسكت عنه؟
– كلا!
– هذا ما نُطالبك به، وستذهب إلى زميلٍ ليهديَك سواء السبيل، ولكنني أُحب أن أذكرك بأننا قوة تملك كل شيء، ولا تخفى عنها خافية، تكافئ الصديق وتنكل بالخائن!
وعند تلك الذكرى اسودَّ وجهه واشتد أساه فتساءلت لأخفِّف عنه: أكان بوسعك أن ترفض؟
فقال بحزنٍ: ستجد دائمًا عذرًا ما، ولكن ذلك لا يجدي!
هكذا رجع من مُعتقله مرشدًا ذا مرتب ثابت وضمير مُعذب، وحاول أن يسوغ عمله بانتمائه الثوري، ولكن القلق لم يفارقه أبدًا.
– لأوَّل مرةٍ أجتمع بزينب وأنا غريبٌ لدرجة، لي حياتي السرية الخاصة المجهولة لها والتي يجب أن تظل مجهولة.
– أخفيت عنها الأمر؟
– نفذت الأوامر والإرشادات.
– لتلك الدرجة آمنت بقوة تسلُّطهم؟
– أجل، وهو إيمان حقيقي، يُضاف إليه الخوف الذي استهلك روحي … وشعوري بالسقوط، ولم أفلح في إقناع نفسي بالشرف، فكان عليَّ أن أستهتر بكل شيء، ولم يكن ذلك باليسير عليَّ نظرًا لتركيبي الأخلاقي واستقامتي الروحية فوقعت في التخبط والعذاب … والأدهى من ذلك أنني وجدت زينب في صورة جديدة تغشاها كآبة عميقة، ولا أثر فيها للشعور بالنَّجاة فزدت إحساسًا بالغربة.
– ولكنها صورة متوقعة كما أنها قابلة للتغير.
– ولكني لم أعثر على زينب الأصلية أبدًا، وكانت ذات روح مرحة وَثَّابة، وكان يُخيَّل إليَّ أنَّ روحها لا يمكن أن تُقْهر، ولكنها انتهت، وحاولت تشجيعها، ولكنها فاجأتني مرة بقولها: ما أحوجك أنت إلى من يُشجعك!
وحدث أمرٌ خارق في الأسبوع الأول عقب الإفراج عنه. كانا يسيران معًا بعد الانصراف من الكلية فسألته: أين تذهب؟
– إلى الكرنك ساعة ثم إلى البيت.
فقالت وكأنما تخاطب نفسها: أود أن أخلو إليك بعض الوقت.
خُيِّل إليه أنَّ ثمة سرًّا يُريد أن ينجلي فقال: نذهب إلى حديقة.
– أُريد مكانًا آمنًا!
وحلَّ حلمي حمادة المُشكلة بأن دعاهما إلى شقة قرنفلة — وهي شقته أيضًا — وتركهما مُنفردَيْن، وقال إسماعيل بقلقٍ بريء: ستظن قرنفلة بنا الظنون.
فقالت باستهانة: لتقُل ما تشاء!
وعبث به الشك، وأخذ يدها بين يدَيْه فقبضت على يده ورفعتها إلى عنقها، وتلاقيا في قبلة طويلة، وجدها بعدها مُستسلمةً بين يدَيْه. قال: كان الأمر مُفاجأة، غمرَتْني سعادة ولكن شابها قلق، وانعقدت فوق رأسي تساؤلات مبهمة، وكدت أسألها عن سرِّ استسلامها ولكنني لم أفعل.
وتبادلنا النظر حتى قال: لعلها الأحداث قد هزَّتْها!
– لعلها …
– وساورني ندمٌ، واتهمت نفسي بأنني انتهزت فرصة ضعفٍ وانهيار.
– هل تكرَّر ذلك؟
– كلا.
– بلا مُحاولةٍ من جانبك أو جانبها؟
– بلا أي مُحاولة، وظلَّت روابطنا الخارجية وثيقة ولكن روحينا انفصلتا.
– موقف غريب.
– إنَّه الموت البطيء، وهو من ناحيتي له ما يفسِّره أمَّا من ناحيتها فلغز من الألغاز.
– لاحظت تغيرًا ما في علاقتكما في الكرنك ولكنني حسبته عارضًا.
– سألتها عمَّا عانت في السجن في المدة القصيرة التي قضَتْها فيه، ولكنها أكدت لي أنَّ مُعاناتها كانت قصيرة وتافهة .. وقد شاب إيماننا الثوري امتعاض راسخ، أصبحنا أكثر استعدادًا للإصغاء للنقد، انطفأ الحماس، تضاءلت الشعلة، أجل إن الإيمان الأساسي لم يُقتلع، ولكننا قُلنا إنَّ الأسلوب يجب أن يتغير وإن الفساد يجب أن يُستأصل، وإن الأعوان الساديين يجب أن يذهبوا، الثورة المجيدة أصبحت مُحَاصرة.
وذات مساء عادا إلى مُناقشة الموضوع مع حلمي حمادة في مسكنه، وقال حلمي حمادة: إني أعجبُ كيف أنَّكما ما زلتما تؤمنان بالثورة!
فقال له إسماعيل: إنَّ وجود الأمعاء بالجسم البشري لا يقلِّل من جلال العقل.
فقال حلمي ساخرًا: إننا نلجأ عند العجز إلى التشبيه والاستعارة.
ثم قال لهما: علينا أن نعمل.
وأطلعهما على منشورٍ سِرِّي سيقوم بتوزيعه مع بعض الرِّفاق، قال لي إسماعيل: فوجئت بتصريحه، فزعتُ فزعًا شديدًا، تمنيتُ أنني لم أسمعه، وتذكرتُ عملي السري الذي يُطالبني بالإبلاغ عنه فورًا، تذكرته فتزلزل کیاني كله، وتراءت لعيني أعماق الهاوية التي سأتردى فيها.
ومضت ساعةٌ بعد ذلك، حلمي يتكلَّم ونحن نُصْغِي أو نُعَلِّق بكلماتٍ مُقتضبة، عقلي شارد تمامًا وحزني ثقيل، وقلت له: اعدل عن النَّشاط ومزِّق المنشور.
فضحك هازئًا وقال: يا لك من ماجن حقًّا!
ثم مُستدركًا: إنه ليس الأول ولا الأخير!
وغادرنا بيته حوالي العاشرة، سرنا صامتَيْن، أصبحت أشق الأوقات علينا تلك التي نخلو فيها إلى أنفسنا. وافترقنا، هي بحجة العودة إلى الرَّبع، وأنا بحجة الذهاب إلى الكرنك، وضربت في الشوارع على غير هدى، عجزت عن اتخاذ قرار، وطيلة الوقت عذَّبني الخوف على نفسي، على زينب، لم أتخذ قرارًا. رجعتُ إلى الرَّبع حوالي منتصف الليل، استلقيت فوق الأريكة بملابسي، قلت لنفسي: «لأتخذن قرارًا أو أجن.» ولكنني لم أتخذ القرار، قرَّرتُ تأجيل ذلك إلى الصباح ولكنني لم أنم، وكنتُ ما أزال مُسهدًا حين اقتحموا عليَّ خلوتي.
– تعني رجال الأمن؟
– أجل.
– في نفس الليلة؟
– في نفس الليلة.
– ولكنه أمرٌ مُذهلٌ وغير مفهوم.
– إنه السِّحر، ولا تَفسير له إلا أنهم كانوا يراقبوننا معًا ويتصنتون علينا من بعيد.
فقلت له مواسيًا: على أي حال فإنَّك رَفَضْتَ أنْ تُبلغ عن صديقك.
– حتى ذلك لا أستطيعُ أن أدَّعيه بصدقٍ لأنني لم أتخذ قرارًا.
هكذا وقع الاعتقال الثالث. ومثل أمام خالد صفوان قبيل الفجر فاستقبله بوجهه البارد وقال: خنت الأمانة وسقطت في أول امتحان.
فلم أنبس. فقال: حسن، نحن لا نقسر أحدًا على صداقتنا.
وجُلد مائة جلدة ثم ألقي به في الزنزانة، في الظلام الأبدي.
وحدَّثني عن مصرع حلمي حمادة، فقال: إنه مات في حجرة التحقيق، كانت به عصبية وجرأة، استفزتهم إجاباته، تلقَّى صفعات فهاج غضبه، وحاول أن يردَّ الاعتداء بمثله؛ فانهال عليه حارسٌ باللكمات حتى أُغْميَ عليه؛ ثم تبين أنَّه فارق الحياة.
– وعشتُ في الظلام زمنًا لا أدريه حتى ذبت في الظلام.
واستُدعي ذات يوم فظن أنَّه ماضٍ لمُقابلة خالد صفوان، ولكنه رأى وجهًا جديدًا، فأبلغه بنبأ الإفراج عنه.
– وقبل أن أُغادر المَبْنى علمت بكل شيء.
ولاذ بالصمت مليًّا ثم استطرد: بقصة الطوفان من أولها إلى آخرها.
– تعني الحرب؟
– أجل، مايو، يونيو، حتى خبر القبض على خالد صفوان نفسه!
– يا لها من ساعة!
– تخيَّل حالي إن استطعت!
– أجل … أستطيع ذلك.
– وكانت الدُّنيا قد عبرت ذروة النكسة، وأفاقت من الذهول الأول، فوجدت الميدان مكتظًّا بالأشباح والأحاديث والحكايات والشائعات والنِّكات … وانعقد الإجماع على أننا كنا نعيشُ أكبر أكذوبةٍ في حياتنا.
– وهل شاركت في ذلك الإجماع؟
– بكل قوة العذاب الذي كان يفتِّت مفاصلي، تبخَّر إيماني وفقدت كل شيء.
– أظُنُّك اليوم جاوزت ذلك الموقف؟
– درجات ولا شك، على الأقل فإنني حريصٌ على تراث الثورة.
– وكيف كان موقف زينب؟
– مثلي تمامًا، ولكنَّها تكلمت قليلًا ثم صمتَت إلى الأبد، أذكر أول لقاء لنا عقب الإفراج عني، تعانقنا بميكانيكية، قلتُ لها بمرارة: لنتعارف من جديدٍ فنحن بإزاء دنيا جديدة. فقالت لي: إذن دعني أقدِّم لك نفسي، أنا شخص بلا اسم ولا هوية. فقلتُ لها: إني أعرفُ الآن تمامًا معنى قبض الرِّيح. فقالت لي: الأفضل أن نعترف بحماقتنا وأن نحترمها فهي كل ما بقي لنا. فأخبرتها عن مصرع حلمي حمادة فانخطف لونها وشردت طويلًا، ثم قالت: نحن الذين قتلناه كما قتلنا الألوف غيره. فقلت — غير مؤمن بما أقول — ولكننا ضحايا ألَا يُمكن اعتبار الحمقى ضحايا. فقالت بامتعاضٍ وسخريةٍ: إنَّ ذلك يتوقف على درجة حماقتهم. ثم وقعنا جميعًا في الدَّوامة كما تعلم، ومضت تتقاذفنا خطط الحرب، ومشاريع السلام، ولا يلوح لنا شاطئ. وثمة بارقة أمل وحيدة حيث يوجد الفدائيون.
– إذن فأنت تؤمن بالفدائيين؟
– وعلى اتصالٍ بهم وأفكِّر جادًّا في الانضمام إليهم، ولا ترجع أهميتهم إلى أعمالهم الخارقة، ولكن إلى مزاياهم الفريدة التي تمخضت عنها الأحداث، إنهم يقولون لنا إنَّ الإنسان العربي ليس كما يعتقد الكثيرون ولا كما يعتقد هو في نفسه، ولكنه يستطيع أن يكون معجزةً في الشجاعة إذا شاء.
– ولكن هل توافقك زينب على ذلك؟
فسكت طويلًا ثم تساءل: ألم تدرِ بأنه لم يعُد بيني وبين زينب إلا ذكريات زمالة قديمة؟!
ودهشت لاعترافه بالرَّغم من أنني توقعته، وأنَّه جاء مؤيدًا لمُلاحظاتي واستنتاجاتي، وسألته: هل حدث ذلك فجأة؟
– كَلَّا، ولكن ليس من اليسير اختفاء رائحة جثةٍ إلا بدفنها، في وقتٍ ما وبخاصَّة عقب تخرجنا شعرنا بأنه آن لنا أن نشرع في الزَّواج، وتحدثتُ معها في ذلك رغم مشاعري الأليمة الدَّفينة، فلم تعترض ولكنها لم تُوافق، أو قل إنها لم تتحمس، وتحيرتُ في معرفة السِّر، ولكنني ارتحت إلى الموقف بصفةٍ عامَّة، ثم لم نعُد نطرق الموضوع إلا في فتراتٍ مُتباعدة، ولم نواظب على اللقاء كما كنا نفعل، وفي الكرنك كنا نتجالس كزميلَيْن لا كحبيبَيْن، ولم أنسَ أنَّ بوادر تلك الحال بدأت في أعقاب الاعتقال الثاني، ولكنها استفحلت بعد الاعتقال الثالث، ومضَت العلاقة الخاصة تهن وتتفتَّت حتى ماتَت تمامًا.
– ماتَ الحُب إذن؟
– لا أظن.
– حقًّا؟
– نحن مرضى، أنا مريضٌ على الأقل، وأعرف أسباب مرضي، وهي مريضةٌ أيضًا، وقد ينتعش الحب يومًا وقد يستسلم لموتٍ أبدي، ونحن على أي حالٍ ننتظر ولا يؤرِّقنا الانتظار.
إنهما ينتظران، ومَنْ ذَا الذي لا ينتظر؟